أثار تقرير نشرته وكالة الأنباء الأمريكية «أسوشيتد برس» الأربعاء 5 يوليو/تموز 2023 موسوما بـ «بكين تحاصر عمّان بالديون» ضجة إعلامية كبيرة حول الخلافات القانونية بين الأردن والصين، بسبب عقد الشراكة بين البلدين لـ «محطة العطارات لتوليد الكهرباء» من الصخر الزيتي.
تصوير الإتفاقية على أنّها استعمار صيني
التقرير انتشر نسخا ولصقا كالنار في الهشيم، فقد صوّر الأردن مُستعمرة مُستقبلية للصين وأسهب بشرح تفاصيل الخلاف منذ توقيع الاتفاقية حتى وصولها إلى النزاع القانوني، وقدّم المحطة على أنّها مثال لما كانت وما أصبحت عليه مبادرة «الحزام والطريق»، التي أطلقها الرئيس الصيني «شي جين بينغ» خارج الصين، تزامنا مع تعاظم نفوذ «بكين» بإعتبار سياستها نموذجا يعتمد على إثقال كاهل العديد من الدول الآسيوية والإفريقية بالديون (...) والأردن حالة مثيرة للاهتمام، ليس لنجاح الإدارة الإقتصادية الصينية في المنطقة، ولكن لكيفية انخراطها في هذه البلدان، حسب وصف «جيسي ماركس» من مركز «ستيمسون للأبحاث» في واشنطن الذي شطّ تقريره في التسييس، فقد اعتبر عمّان مدينة للصين؛ وفي إشارة أيضا إلى مُخطّطها لتشييد بنية تحتية عالمية وتعزيز نفوذها السياسي عالميّا، فضلا عن تحول «العطارات» من مشروع يُبشّر بمُستقبل مُزهر للأردن إلى شيء لا حاجة له، لا بل عالة تُكلّف الدولة المليارات بسبب اتفاقيات أخرى أبرمتها الأردن منذ إنشاء المشروع بأسعار تنافسية، حسب التقرير.
لم يقتصر الإستثمار الأردني الصيني على تحليل صحيفة يعتريه صراع القوى الإقتصادية العالمية، بل أثار حفيظة الولايات المُتحدة، حيث صرّح «ديفيد شينكر»، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط: «انتابنا بالفعل بعض القلق بشأن الديمقراطية والشفافية والفساد، لكن الدول الاستبدادية، تتوافق مع الصين وتُقرّبها منها».
بداية الخلاف
حقيقة الأزمة التي بدأت إبّان حكومة رئيس الوزراء الأردني الأسبق عمر الرزّاز وبين الصين تكمُن بموجب الصفقة المُبرمة بين الأردن وشركة العطارات للطاقة بإئتلافها الإستوني، الماليزي والصيني، والتي تُلزم الجانب الأردني بشراء الطّاقة عالية الثمن لمدة 30 عاما، ما يُسبّب خسارة أردنية بنحو 280 مليون دولارا سنويا، ويرفع كتبعة بديهية أسعار الكهرباء للمستهلكين بنسبة ١٧٪، حسب خبراء.
يعود توجيه الأنظار نحو الصين إلى مُلكية شركة «غوانغدونغ إنيرجي غروب» الصينية الحكومية للطاقة 40% من الشركة الإئتلافية، لذلك الخلاف هو ليس مع الصين بعينها كما يُقدّم إعلاميا، إنّما مع الإئتلاف، ومثل هذه الخلافات واردة، بينما ما يُروّج له من ضغوطات على الطرفين من تسييس للخلاف وتصنيفه محاولات صينية لفرض نفوذها على المنطقة سياسيا واقتصاديا من خلال الأردن، يهدف بمنهجية لإستمرار العمل باتفاقية استيراد الغاز الطبيعي من الاحتلال، وهيمنة الأخير على مقدّرات المنطقة ومواردها، فضلا عن تراجع استيراد الغاز الإسرائيلي بنسبة تصل إلى 25% بسبب إنتاج محطة العطارات، إضافة إلى توظيف الخلاف ضد الصين في إطار الصراعات الاقتصادية؛ الشيء الذي أكّدته تصريحات الإدارة الأمريكية بتصويرها عقد الشراكة الأردنية الصينية على أنّه «دبلوماسية فخ الديون».
أمّا محطة العطارات التي صُمّمت منذ نحو 15 عاما بحدّ ذاتها فكرة رائدة لتحقيق طموحات الأردن نحو الاستقلال في مجال الطّاقة؛ عكس ما يُسوّق لها رغم كُلفتها، وقد قالت وزير الطاقة والثروة المعدنية الأسبق هالة زواتي آنذاك بكُلّ فخر واستبشار في حكومتي بشر الخصاونة وعمر الرزّاز: «إنّ الجهود الأردنية تكلّلت بقصّة نجاح لأوّل مشروع لإنتاج الكهرباء من الحرق المباشر للصخر الزيتي، بسعة 460 ميغاواط، والتي تُشكّل 15% من الطّاقة الكهربائية المستهلكة بالمملكة عام 2020».
الصفقة قوبلت بالموافقة والغبطة حكوميا، ما أفضى إلى توقيع الإتفاقية عام 2014، ولكن ومع تأخُّر العمل بالمشروع أبرمت الحكومة الأردنية، مُمثّلة بوزير الطاقة الأسبق محمد حامد بنهاية العام ذاته اتفاقية مع الإحتلال بقيمة 15 مليار دولار لإستيراد كميات هائلة من الغاز الطبيعي بأسعار تنافسية، ما أدّى إلى تضاؤل الإهتمام بمحطة العطارات.
أول القصّة
بدأ اتجاه الحكومة إلى تسويق الإستثمار التجاري في قطاع الصخر الزيتي منذ عام 2006، ودُعي إثر ذلك مستثمرون وشركات عالمية مختصة وأهمها الأستونية، وبعد عامين من بدء العمل طلبت الحكومة الأردنية من الأستونيين إنشاء محطة لإنتاج الكهرباء بالحرق المباشر للصخر الزيتي، بقدرة تصل إلى 540 ميغاواط سنويا، بما يشكل نسبة 22% من الاستهلاك حينذاك.
وقرّر الأستونيون رصد ملياري دولار للاستثمار لم تدفع منها الحكومة دينارا واحدا، وبدأ العمل الذي استغرقت دراساته الجيولوجية خمس سنوات؛ وخلال الأعوام الثلاث الأولى تقريبا اتفق الجانبان على جميع تفاصيل المحطة، بإستثناء تعرفة الشّراء؛ عُلقت لحين تحديد الكُلف، بين بناء وتعدين وتمويل حتى نهاية 2013، فقدّمت شركة الأردن للصخر الزيتي؛ مُمثّلة برئيسها «أندريس انجاليج» عرضها بقيمة 8 قروش لكُلّ كيلوواط، بينما طالبتها الحكومة بتخفيض العرض مضافا إليه رسوم التعدين.
وصل الجانبان إلى طريق مسدود أفضى إلى إلغاء قانون التصديق على اتفاقية الصخر الزيتي بين الحكومة وشركة الأردن للصخر الزيتي لسنة 2009.
مماطلة الحكومة وخلافاتها مع المستثمرين تودي بالاستثمارات الضخمة بنهاية المطاف لمغادرتها.
بعض الإنجازات لا تُقدّر بثمن
للحكومة الحقّ بالحصول على أفضل سعر ممكن، ولكن ما الذي يجعلها تقبل بسعر 12 قرشا لكُلّ كيلوواط من الطّاقة الشمسية؟ فيما كانت تسعى مع الشركة الأخيرة للحصول على سعر 10 قروش، رغم أنّ السعر الذي قدّمه الأستونيون أقل بنسبة كبيرة مقارنة بالمصادر الأخرى.
بعض الإنجازات لا يُمكن تقديرها بثمن، فالمفاوضات التي تفتقد الموضوعية لا يتمخّض عنها سوى هروب المستثمر، وهو في أغلب الأحيان مصدر التمويل الوحيد، فضلا عن حداثة الفكرة ومخاطرها، إذ أنّها لم تكن موجودة إلّا في أستونيا، إضافة إلى النفع الذي لا يتوقف عند تخفيض طفيف على السعر، بل بتوفير احتياجات البلد من الطّاقة ومن مصادرها المحلّية، وهو الذي تفتقده الأردن، وعوضا عن ذلك تدفع الحكومة قرابة 5 ملايين دولار مع كل طالع شمس، حسب تصريح للزواتي في ذلك الوقت.
التعنّت ووضع غير أهل الإختصاص بغير مكانهم يحول دون تطور قطاع الطّاقة في البلاد.
الحقيقة أنّ توقيع الإستثمار الإئتلافي بحصة الأسد الصينية في الأردن أزعج الإدارة الأميركية، فضغطت واشنطن على الحكومة الأردنية لتوقيع اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل كصفعة لبكين، غير أن الأردن هو الذي «لمع خدّ»" منها وليست الصين.
قضيّة التحكيم
تأجُّج الأزمة بين الأردن والصين بعد قيام حكومة الرزّاز بالطعن في بنود الصفقة والدخول في معركة قانونية تحكيمية بغرفة التجارة الدولية في باريس، استنادا في الدعوى إلى ادعاء «الغُبن الفاحش» باتفاقية شراء الطّاقة من العطارات، ولغايات إصدار حكم بوجود «الغبن» في التعرفة الكهربائية وتحديد مقداره، وتقرير حق شركة الكهرباء الوطنية بفسخ العقد، ما لم تتم إزالة الغبن، فضلا عن المطالبة بعدم تغريم عمّان في حالة عدم التزامه ببنود العقد، جرّاء الخسائر الجسيمة غير المدروسة، إذ سيتعين على الأردن سداد 8.4 مليارات دولار لبكين خلال 30 عاما، مقابل شراء كهرباء المحطة، في حال استمرار الاتفاقية الموقّعة للمشروع.
تقف الآن الحكومة؛ مُمثّلة بشركة الكهرباء الوطنية أمام جُملة من الشروط الصعبة في بنود الإتفاقية، أبرزها خسائر سنوية على الخزينة تُقدّر بـ 200 مليون دينار، إضافة إلى كميات كبيرة من الطّاقة الكهربائية الفائضة عن حاجة المملكة.
كان من المُقرّر لهذا المشروع الرائد، الذي بدأت أعمال الإنشاء والبناء فيه منذ آذار/مارس عام 2017؛ بكلفة 2.2 مليار دولار حسب التقريب لتنفيذه، وقيل أنّه سيوظّف ما يقارب 3500 من الكفاءات الوطنية في مختلف التخصّصات، كان من المُمكن أن يكون المصدر الرئيسي للطاقة في البلاد، والذي وُصف أردنيّا في السابق بالتاريخي.
لم تكن قضية التحكيم والمواجهة الحكومية السبب الوحيد وراء إيقاف المشروع الذي تجمّد العمل به مطلع أبريل/نيسان من عام 2020، إنّما استمرار العمل باتفاقية الغاز الطبيعي مع الاحتلال.
الإلتزام بالقضيّة الفلسطينية
الفكرة ليست بنود الإتفاقية الأردنية الصينية، إنّما بعجز الحكومة الأردنية وعدم رغبتها بتحقيق أي إنجاز يكفل لها الإستقرار كدولة على المدى البعيد، وعوضا عن ذلك آثرت «تسليم رقبتها» للعدو وسيطرته على الأردن لمُدّة 15 عاما، وإلّا فإن النزاع يمضي بإجراءات قانونية ستُفضي في النهاية إلى تسوية منصفة للطرفين، وعليه فإنّ تسييس الصفقة واستخدامها كمادّة إعلامية موجّهة ضد الصين في إطار الصراعات الاقتصادية بين الدول الكبرى، ولخدمة مشروع هيمنة الاحتلال على مُقدّرات المنطقة ومواردها غير منطقي ولا يُستصاغ ولا يقبله الشارع الأردني؛ فمن الجانب الأول استقلالية الدولة بمُقدّراتها ومن الآخر عملا بالدين والعروبة وتضامنا مع أهلنا في فلسطين المُحتلّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق