ما زالت الاحتجاجات الشعبية ضد حكومة بنيامين نتنياهو مستمرة؛ وعلى الرغم من أنها قد تبدو، للمراقبين من بعيد، كحركة ثابتة النبض والتأثير، إلّا أنها في الحقيقة ليست كذلك. فإن عدنا إلى بدايات تلك الاحتجاجات وقارناها مع ما نشاهده في هذه الأيام، سنجد الفوارق كثيرة وأهمّها ما بدأت تتناقله فضاءات تلك الاحتجاجات ازاء مفهوم الديمقراطية، والتفات قطاعات واسعة من القوى المشاركة فيها الى أبعاد جديدة لحقيقة التغيير المنشود في السياق الاسرائيلي الحالي، واكتشافهم بأن الالتصاق بقشرة شعار الديمقراطية وحده لن يحررهم من أهوال نظام الحكم الذي خرجوا للشوارع ضده. ولكي يسقطوا هذه الحكومة ويعيدوا بناء اسرائيل الديمقراطية لا بدّ لهم من تطوير وسائل نضالية مبتكرة، وسكب مضامين جديدة في عروق مواجهتهم للحكومة وأحزابها.
لا أقول هذا من باب التمني وحسب بل من قراءتي ومشاهدتي لتداعيات المشهد السياسي الاسرائيلي وما طرأ عليه من تصعيد متبادل بين المعسكرين في الأسابيع الأخيرة. فمن جهة نرى مثابرة مئات آلاف المواطنين اليهود على الاحتجاج واصرارهم على اسقاط "طغم الفساد والعنصريين والفاشيين والمدانين الجنائيين" ومن جهة اخرى نرى تحشيد الشرطة لعناصرها ولفرق حرس الحدود وكتائب أخرى من أجل قمع المتظاهرين والاعتداء عليهم بعنف أدى إلى إصابة واعتقال العشرات منهم. ما نراه اليوم في شوارع المدن الاسرائيلية وعلى مفارق الطرق الرئيسية لم نره من قبل، وصور المواجهات وارتفاع منسوب الكراهية بين المعسكرات تنبئ بالآتي، وتمدد المظاهرات لعدة مواقع جديدة وانضمام شرائح وازنة لها، خاصة من سلاح الطيران والقطاع الصحي وغيرهم، ولغة المتظاهرين وشهاداتهم حيال قمع الشرطة لهم وحقدها عليهم، تعيد البعض، بشكل عفوي وطبيعي، لأصول هذا العنف الاسرائيلي ومنابته، وهي الاحتلال والسياسة العنصرية. لم يكن هذا الربط ، مع بداية الاحتجاجات، واضحًا ومفهومًا بشكل ضمني عند أكثرية المحتجّين، بيد أنه تعرّى بالتدريج أمام بعضهم مع اشتداد المواجهة وسقوط جميع اقنعة الاضطهاد والعنصرية وتكشف انياب الفاشية التي لا تقبل حليفًا حتى باليهودي الصهيوني، ما دام لا يتوافق مع مخططها ولا يطيع أوامر وعقائد أربابها.
تمتلئ الصحف العبرية ومنصات التواصل بمقالات الرأي وبالشهادات حول مخاطر حكومة اليمين الحالية، وتزخر بالاخبار التي تنقل الأحداث على حقيقتها. ورغم كثرة هذه المواد ساشرك القراء بخبر ظهر بعنوان بارز لفت انتباهي في جريدة "هآرتس" العبرية يوم الاربعاء الفائت؛ اذ تطرق الخبر لمظاهرة جرت على مفرق "كركور" - وهي مدينة صغيرة تقع بين مدينتي حيفا والخضيره - خلال احداث ما أسمته قيادات الاحتجاج بيوم "الغضب والتشويشات ".
نقلت الجريدة بالبنط العريض تفاصيل حادثة، قمعت فيها عناصر الشرطة والامن بالعنف مظاهرة شارك فيها ألفا مواطن يهودي. اختارت الجريدة عنوانًا لافتًا للخبر أفاد، كما وصفت احدى المشاركات في المظاهرة، أن الشرطة "جاءت كي تسيطر على "قصبة" كركور ، فاعتقلوا ستة عشر متظاهرًا وجرحوا سبعة". سيمر معظم القراء على هذا النبأ دون أن يعيروه اهتمامًا خاصا، وكنت أنا سأفعل مثلهم لولا خصوصية هذه الأيام وكيف تجري عملية تشكل مواقف المواطنين في اسرائيل وماذا يؤثر عليهم. لقد استعارت هذه الناشطة من قاموس الاحتلال، سواء عن وعي او بدافع من عقلها الباطني، تشبيه "القصبة" وأسقطته على بلدتها بكل ما يعكسه ذلك عن حالة تكوين جديده يمر بها عقلها، ستجعلها تقف في المستقبل القريب على ضفة الصراع الصحيحة والى جانب عالم القيم السليمة. انها تعرف كيف كان "اخوتها في السلاح" يتصرفون ضد المواطنين الفلسطينيين الساكنين في قصبات المدن الفلسطينية، وهي الاحياء القديمة المكتظة بالفقر وبالفلسطينيين، التي يقتحمها الجيش الاسرائيلي بوحشية ويعيث فيها الدمار والدم. وهي تعرف ان تشبيهها لهجوم الشرطة على المتظاهرين اليهود هو غير دقيق وغير صحيح، فشتان بين الثمن المدفوع من قبل الضحايا في الحالتين، لكنها بلجوئها لهذا الكلام أرادت أن تؤكد، لنفسها أولا ولمن يقف معها في نفس الخندق، ان الشر منبته واحد، وان العنف أبوه واحد وأن قصّابًا في نابلس لن يكون بائع ورد في الخضيره او في صندلة أو في كركور. قد يرغب البعض بتقزيم النبأ، وقد لا يولوا الاستعارة، كما وردت على لسان ناشطة بلغة غير مألوفة من قبل، أي رعاية واهتمام، لكنني مقتنع انها حالة لافتة، رغم صغرها؛ فالأمور الكبيرة قد تبدأ بأفعال صغيرة، خاصة اذا كانت المسألة تتعلق بعملية تغيير شيفرات مسمّة زرعت في ذهون قوم وكانت المسؤولة عن هندسة الاحتلال وحمايته وتزيينه بكل الذرائع والمسوغات. هذه الناشطة ليست وحيدة، فالحديث عن الاحتلال كمستنقع تنمو عليه جميع شرور اسرائيل صار مباحًا ومسموعًا في العديد من المنصات والمنابر ولن يضيرنا لو تابعنا مناحيه، وانتبهنا ان بعض من كانوا اعداءنا تحوّلوا وصاروا قربنا وسط سيل غاشم. تريد الشرطة من خلال لجوئها الى القمع والعنف أن تردع هؤلاء المتظاهرين وأن تهزمهم ، وتتمنى أن تأد هذه الولادات وهي في مهودها وقبل أن تتعاظم. وهم، المتظاهرين، هكذا جاء على ألسنتهم في الخبر المذكور، لن يرتدعوا ولن يضعفوا؛ بل على العكس تماما ، فكلما زادت الشرطة من عنفها ازدادوا صلابة واصرارا؛ أو كما صرّحت تلك الناشطة لجريدة هآرتس بأنها "غير معتادة على العنف" ثم أضافت، وكأنها تكشف لنا من أين سيأتي الوجع والخوف: "ولكن أن ترى كيف بلحظة تتغير عينا الشرطي الجيّدتان ويصبح الشرطي ظالما فهذا أمر مخيف. لقد وجه الشرطي، سائق سيارة رش الماء، خراطيم سيارته نحو الشيوخ والنساء والاطفال عندما كانوا يقفون على الرصيف. كان دفق الماء قويًا وكافيًا للتسبب بجروح لا تشفى الا بعد شهور . قلبي ينزف، لانك في مثل هذا الحادث تستوعب ماذا سيكون هنا غدا، في الصباح". تخاف هذه المرأة اليهودية الصهيونية من الغد لأنها تعرف أنه اذا تمكنت عناصر هذه الحكومة وجيوشها من هزيمة معارضيها، ستتخلى عن خراطيم الماء التي لن تطفيء نهمها. هي تخاف من الغد وتحارب كيلا يأتي هذا الغد، ومثلها يفعل الكثيرون من جميع قطاعات وشرائح المجتمع الاسرائيلي؛ فأين نحن، المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، مما يحصل، ونحن سنكون أوائل ضحاياه المؤكدين؟
لا أعرف إذا كانت أية جهة بيننا تملك الجواب، أو اذا كانت قادرة ومعنية بايجاد الجواب؛ فمعظم من تطرقوا الى ما يجري في اسرائيل ومخاطره المباشرة علينا، فعلوا ذلك من باب تشخيص الحالة ومسبباتها ونتائجها، وانتهوا باجماع على ضرورة مواجهة هذه الحالة، لكنهم لم يقترحوا كيف.
لقد قرأت حول هذه المسألة مؤخرًا مقالين لافتين لاثنين من أكاديميينا المميزين؛ وبالرغم من أهمية ما خلصا اليه وما كتباه حيال عناصر المشهد الاسرائيلي وعلاقة ذلك بنا، نحن المواطنين الفلسطينيين، لم يزودانا بالتفاصيل، وتوقفا عند أول الطريق.
في الثلاثين من يونيو الفائت نشر الدكتور رائف زريق مقالًا على صفحته بعنوان "احتلال كولونيالي للقانون" ،وفيه يقدم تحليلا وافيا وعميقًا عمّا يجري، وقراءة في طبيعة الحدث الاسرائيلي المتمثل في مسعى نتنياهو لتغيير طابع الدولة. وبعد ان يأتي على ذكر وجود موقفين ازاء المظاهرات التي تجتاح المدن الاسرائيلية، بين معارضين لها ومؤيدين بشروط ، يتساءل بدوره فيما اذا يوجد طريق آخر؟ ويجيب على ذلك بالإيجاب فيقول:
".. واذا كان اليمين الفاشي يسعى لمصادرة ما تبقى من الحد الادنى من الحريات والضمانات القانونية، واذا كان المركز يسعى للحفاظ على الوضع الراهن بما يضمن الاحتلال والاستيطان والفوقية اليهودية، فان دور الفلسطينيين في اسرائيل هو طرح بديل ثالث يسعى لتغيير الوضع الراهن نحو اليسار او نحو مشروع ديمقراطي يربط الشكل بالمضمون ويربط سؤال الديموقراطية بسؤال الاحتلال وسؤال الداخل بسؤال الخارج .. فعلى الفلسطينيين أن يتحولوا الى القطب الديمقراطي الحقيقي في المعادلة." كلام مهم ولكنه غير كاف؛ فكيف عليهم أن يفعلوا وذلك؟ ومن سيأخذهم نحو ذلك الطريق الثالث ؟ وفي أية ظروف وشروط ؟وتحت أي مظلة ؟ وما سيكون زادهم وما وجهة دعائهم ؟ العناوين والخطوط العريضة والمبدئية هامة، لكنها لن تصبح قوارب نجاة، اذا لم ترفق بالتفاصيل فكم مرة قتلتنا التفاصيل!
أما كاتب المقال الثاني فهو الدكتور سعيد زيداني الذي نشر على صفحته في السابع من هذا الشهر مقالة بعنوان "فيك الخصام، وأنت الخصم، لا الحكم" ، واستعرض فيها باسلوبه المميز تفاصيل الحالة الاسرائيلية ووضعنا كمواطنين نعاني في اسرائيل من سياسة الاضطهاد وتفاقم حالات العنف والقتل، حتى وصل الى خلاصتها فيقول: "يعرف العارفون أن طريق نضالنا من اجل المساواة التام في الحقوق طويل وشاق ومتعرج.. ويتطلب قيادة حكيمة وقادرة على بناء تحالف داخلي، واسع وحاوٍ ، وعلى تجنيد الحلفاء/الشركاء بدون تحفظ، وكذلك على تحديد او اعادة تحديد الاهداف والاولويات وطرق ووسائل النضال.. ان الرد المنشود يتطلب بناء هذا التحالف الداخلي تماما كما يتطلب تصعيد النضال الشعبي وباسناد من الحلفاء الشركاء المعنيين من الطرف الآخر من اجل الدولة المحايدة، دولة جميع مواطنيها الدولة الملتزمة بمحاربة الجريمه ". كلام هام وجميل لكنه يبقينا أيضا على تخوم التيه ومن دون خارطة طريق.
انا على اعتقاد ، وفق معطيات الحاضر ، ان طريقنا الثالث يمر في "قصبة" كركور ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق