ميلاد نقولا في “تراثنا” و”حكاية ضيعة”… التراث الشعبي العكاري في قلب ملبورن/ د. مصطفى الحلوة


مشاركًا، عبر الأثير، بإحياء التراث العكاري

مداخلتنا في ندوة حول ديوانَي الشاعر ميلاد نقولا في Melbourne “تراثنا” و”حكاية ضيعة” (16تموز 2023)


 أتشرّف بأن أكون أحد المشاركين، في هذه التظاهرة الأدبيّة، التي تُعيدُ الاعتبار إلى التراث اللبناني، على يد أديب شاعر مبدع، سبق أن دعوتُه مارون عبّود العكّاري، في ندوة نظّمها “مركز عكار للدراسات والتنمية المستدامة”، في أوّل تشرين أول من العام الماضي، في بلدة الشبخطايا-عكار، حول كتابَيه، موضوع ندوتنا اليوم.

في هذه العشيّة، في مالبورن، نستعيد بعض ما قلناه، في تلك الندوة، وما قدّمنا لكتابه “تُراثنا”. بل نتعدّى إلى مؤلّفاته الأربعة، التي تُشكّل بحقّ موسوعة تراثية، ترصد الكثير من العادات والتقاليد، التي عاينها أديبنا، منذ نعومة أظافره،  في منطقة الجومة (عكار)، لا سيما في مسقطه ضهر الليسينة، وفي بلدة بينو، حيث أمضى طفولته وحداثته وردحًا من شبابه، إلى أن ابتلعته الهجرة، مطلع سبعينيات القرن الماضي.

لقد أفردتْ هذه الموسوعة حيّزًا واسعًا لكوكبة من “الشخصيات”، هم أبطال مسرحها، ينتمون إلى الفئات المجتمعية الدنيا: من الدكنجي، إلى اللحّام، إلى الحدّاد، إلى البسطاطي، إلى القندقجي، إلى الندّاف، إلى المبيّض، إلى الدومري، إلى البويجي، إلى الحلّاق، قالع الأسنان بالكلبة، إلى الجلالاتي، إلى البيطار، إلى الساعاتي، إلى المصوّر الأرمني، إلى الناطور، إلى السكرجي، إلى الراعي، إلى صاحب التنّور، إلى المعلّم والمعلّمة، إلى الراهبة والخوري. الخ.

وكما ترون هم بشرٌ حقيقيون أسوياء، من لحم ودم، إستطاعوا، عبر حِرَفهم وكاراتهم، أن يصنعوا مجد تلك المرحلة، من تاريخ الريف العكّاري.

لقد كان لهذه الموسوعة أن تحفل بعناوين متعدّدة، مما جعلها “كشكولية” الطابع، فيها “من كلّ وادٍ عصا”، كما يُقال!

لقد نقل إلينا أديبنا  مشهديّات من حركة الناس اليوميّة، ولم يترك مظهرًا من مظاهر السعي وراء الرزق إلّا ورصده، بكل تفاصيله: من انشغال أهل القرى بجني المواسم، وأبرزها موسم الحصاد، في حقول بينو وضهر الليسينة. فهذا الموسم يوفّر مؤونة “إستراتيجيّة” لأهل القرى، من الطحين والبرغل “مسامير الرِكب”، كذلك الكشك. ناهيك عن الشعير للدواب… فإلى موسم فرط الزيتون، بداية الخريف، تحضيرًا لمؤونة العائلة، من الزيتون والزيت والمكدوس…فإلى انشغال نساء القرية بتحضير المربّيات، على أنواعها. ولا ينسى أديبنا التعريج على موسم استخراج العَرَق البلدي، وتقطير ماء الزهر وماء الورد، حيث كان للكركة دورها، ولا يخلو بيتٌ منها. كما لا يغفل عن تحضير النساء دبس الرمّان ورِبّ البندورة في دُسُوت. وكان مولعًا بمراقبة هذه العملية، فوصفها لنا بدقّة متناهية!

ومما يُسجّل لأديبنا نقله مشهديات من الحياة الاجتماعية البسيطة والهانئة في الريف العكّاري. فعن أوقات الراحة صيفًا، كان القرويّون يُمضون أمسياتهم على ضوء القمر، وخُذْ على العتابا والميجانا، تصدح بها الأصوات الرنّانة الجميلة! أما شتاءً، وهو أشدّ الفصول قساوة وحميميّة، فقد كان شباب القرية يجتمعون، دوريًّا، في بيت أحدهم، فيتسامرون ويلعبون بالورق”الشدّة”، ويتضايفون ما لذّ وطاب من فواكه مجفّفة ( التين والمشمش والجقّاد والزبيب والجوز واللوز..)، وهم يتحلّقون حول الموقد ( البابور، بلغتهم).

ومن المشهديات، العالقة في الذاكرة، صيد الطيور في مواسمها، إذْ لكلّ طير أو عصفور موسمه المعروف. وقد كان الأطفال والشباب ينتشرون في الحقول والوديان، بعضهم ينصبون  قضبان “الدبق”، وبعضهم يحملون بواريد “الدّك” و”أم حبّة”، والكبار يحملون “الجفت”، بعين واحدة أو باثنتين!

…لا نريد أن نستفيض، ففي جعبتنا الكثير، ونختم بهذه النقاط، ونحن نثمّن ما أتحفنا به الأديب والشاعر ميلاد نقولا:

أوّلًا: لقد جاءت المشهديات، التي استعرضها أديبنا، على درجة كبيرة، من الدقّة والموثوقيّة، إذْ استطاع أن يرصدها، بعَينَي صقر، وببصيرة عالم نفساني وقريحة شاعر، معتمدًا أسلوبًا روائيًّا جذّابًا، يشدّ القارىء، فلا يكاد يُمسك بأحد كتبه حتى يُنهي قراءته عن آخره، في جلسة قد تمتدّ لساعات مديدة!


ثانيًا: لقد أسفر الشاعر ميلاد نقولا عن أديب ذي كعب عالٍ، في مجال الأدب الشعبي، إذْ يُحيي تراث منطقة، واسطةُ عقدها بلدة بينو، وما كان احدٌ ليتعرّف على ماضيها الجميل لولا ذلك التوثيق الأمين والمشوّق لبعض رجالاتها ونسائها، غالبيتهم من الناس البسطاء العاديين، الذين أسهموا في دورتها الاقتصاديّة وبعث الحياة فيها.

ثالثًا: لقد أبدع أديبنا في المزاوجة بين النثر والشعر، بالمحكيّة العكارية. فهو يستعرض الحدث أو الطُرفة بلغة النثر، ثم يروح إلى نظمها شعرًا. وهذه ميزة يتفرّد بهاعن سواه، من أدباء التراث اللبناني!

…ختامًا، ميلاد نقولا قامةٌ أدبيّة عكارية كبرى، لها فضلٌ عميم، في حفظ جانب هام من التراث الشعبي العكاري. صحيحٌ أنّ كتاباته اقتُصرت على بينو-قبولا وعلى قريته ضهر الليسينة وبعض قرى وبلدات الجومة، ولكنّها تجسيدٌ لسائر مناطق عكار، كما للريف اللبناني بعامة.

..ميلاد نقولا، بل مارون عبود العكاري، بل أنيس فريحة آخر، الذي يأسى لقرية تنحو إلى اُفول، أو صارت من الماضي، حملنا، نحن القرّاء، إلى مسرحه النابض بالحياة، وفجّر فينا كوامن الحنين إلى زمن هنيّ لن يُستعاد، إلى زمن لا زال يعتمل في كلّ خلية من خلاياه، بعد نيّف وخمسين عامًا من غربته القسريّة المُرّة!

..إلى الصديق ميلاد نقولا، نتوجّه بالقول: كُتُبُكَ، دواوينُك رائعةٌ رائعة! تُقرأ من الجِلدة إلى الجِلدة..تُقرأ على مدار الساعة وفي كلّ الفصول، فأنت أتيتَ إلينا بعكار إلى مالبورن، إلى كل الدنيا، بأجمل حكاياتها والفصول! مغفورةٌ خطاياك، إذْ كتبتَ

َ وأبدعتَ، فالكتابةُ طقسٌ من طقوس العبادة والتقرُّب إلى الله!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق