تعرَّفْتُ على الإعلاميّةِ اللّبنانيّةِ البديعةِ كابي لطيف صوتيّاً، مِنْ خلالِ إذاعةِ مونتِ كارلو الدّوليّة، جذبَني صوتُها المعبِّرُ وطريقةُ تقديمِ برامجِها، منذُ أوَّلِ مرَّةٍ اسمتعْتُ إليها وأنا في باكورةِ عمري. تمتلكُ صوتاً إذاعيّاً مُدهِشاً في تقديمِ نشراتِ الأخبارِ، وتقديمِ الضُّيوفِ ومحاورتِهم العميقةِ. لديها ملكةُ الأداءِ الرَّصينِ والقراءَةِ المتفرّدةِ. نحنُ أمامَ مبدعةٍ مِنَ السُّمُوِّ الرَّفيعِ في فضاءِ الإعلامِ. يراودُني أنّها لو اطَّلعَتْ على السِّيرةِ الذَّاتيّةِ لمبدعٍ ما وكانَ الضَّيفُ متعدِّدَ الاهتماماتِ، أنَّهُ بإمكانِها أنْ تحاورَهُ على مدى ساعاتٍ بطريقةٍ مشوِّقةٍ، تغطِّي مساراتِ إبداعِهِ مِنْ جميعِ الجوانبِ، فهي تستولدُ مِنَ الجوابِ سؤالاً دقيقاً، وتستوحي مِنْ تجاربِهِ مئاتِ الأسئلةِ، فهي مبدعةٌ مميّزةٌ في استنباطِ السُّؤالِ والتَّعقيبِ على الإجاباتِ. لا تسألُ سؤالاً فضفاضاً عابراً، دائماً تساؤلاتُها محكمةٌ ورصينةٌ ومركّزةٌ ومكثّفةٌ، وكأنَّها متخصِّصةٌ على مدى سنواتٍ في بناءِ السُّؤالِ وصياغتِهِ صياغةً عميقةً، فهي تعطي لكلِّ ضيفٍ مِنْ ضيوفِها حقَّهُ إلى درجةِ أنَّ الضَّيفَ نفسَهُ لو وضعَ الأسئلةَ، لَمَا تمكَّنَ مِنْ وضْعِ الأسئلةِ الموجَّهةِ إليهِ في سياقِ إيقاعِها العميقِ، وسؤالي المفتوحُ: هَلْ يتفوَّقُ أحياناً الإعلاميُّ/ الإعلاميَّةُ على ضيفِهِ في معرفةِ عوالمِ الضَّيفِ بكلِّ تشعُّباتِهِ، خاصّةً فيما يتعلَّقُ بوضعِ السُّؤالِ لاستبصارِ عوالمِ الضَّيفِ والغوصِ في أعماقِ عوالمِهِ لاستجلاءِ ما يخزِّنُ الضَّيفُ في منابعِ رؤاهُ؟! أجل، يمكنُ أنْ يتفوَّقَ الإعلاميُّ على ضيفِهِ، عندما يكونُ لديهِ رؤيةٌ استبصاريّةُ، كما هو الأمرُ في حالةِ كابي لطيف. لِمَ لا، إنّها صاحبةُ البصمةِ الاستثنائيّةِ في العملِ التّلفزيونيِّ والإذاعيِّ، هي مِنْ ذلكَ الزَّمنِ الجميلِ، المفعمِ بالعطاءِ مِنْ أعماقِ القلبِ، وقدْ اشتغلَتْ على بناءِ عالمِها الإعلاميِّ منذُ بداياتِها حتّى الوقتِ الرَّاهنِ، وتشكِّلُ اليومَ "مدرسةً" قائمةً بذاتِها في تجلِّياتِ أدبِ الحوارِ. [ويدهشُني إلى أبعدِ مفارقاتِ الدَّهشةِ وأنا أسألُ نفسي وأسألُ مبدعي لبنان وكلَّ إنسانٍ لبناني، كيفَ كابي لطيف مِنْ لبنانَ، وفيروز مِنْ لبنانَ، ووديع الصافي مِنْ لبنانَ، ومَعَ هذا أرى لبنانَ بهذا الشَّكلِ المخلخلِ؟! هَلْ يُعقلُ أنْ نرى كلَّ هؤلاءِ المبدعينَ والمبدعاتِ والكثيرَ غيرَهم مِنْ ربوعِ لبنانَ، ونرى لبنانَ عمّا هو عليهِ الآنَ، هَلْ هذهِ معادلةٌ طبيعيّةٌ؟! لا أراها معادلةً طبيعيَّةً على الإطلاقِ، بَلْ أراها معادلةً مخرومةً للغايةِ، إنَّهُ تطوُّراتُ جنونِ آخرِ زمنٍ!].
قرأْتُ منذُ قليلٍ مقالاً قصيراً للإعلاميّةِ اللُّبنانيّةِ المتميّزةِ كابي لطيف في صفحتِها الخاصَّةِ على الفيس بوك، نقلاً عَنْ جريدةِ النَّهارِ اللّبنانيّةِ بعنوانِ: "في لبنان ... حولَ غرفتي"، وعلّقتُ على مقالِها تعقيباً قصيراً، جاءَ فيهِ ما يلي: "كنْتُ أريدُ أنْ أقرأَ وأقرأَ وأقرأَ وقائعَ وذكرياتِ ما كانَ يحصلُ في غرفتِكِ خلالَ الزَّمنِ المتربِّعِ في الذّاكرةِ. هذا النَّوعُ مِنَ الكتابةِ، يتدفَّقُ الكاتبُ في فضاءَاتِهِ بشكلٍ مُدهشٍ ولا يشبعُ مِنْ تدفُّقاتِهِ وكأنَّهُ يعيشُ اللّحظاتِ الهاربةَ مِنْ خاصرةِ الزَّمنِ".
كَمْ كنْتُ أرغبُ أنْ أقرأَ تفاصيلَ التَّفاصيلِ حولَ هذهِ الذّكرياتِ، خاصَّةً أنَّ لديكِ ذكرياتٍ ومحطَّاتٍ ومنعطفاتٍ وتجلِّياتٍ وتجربةً متفرِّدةً في عوالمِكِ الرَّحبةِ، ويمكنُكِ أنْ تحلِّقي في هذهِ العوالمِ عالياً، لِمَا لديكِ مِنْ طاقةٍ خلَّاقةٍ في فضاءِ الاسترسالِ، وشعرْتُ وأنا أقرأُ هذا المقالَ، أنَّهُ مناسبٌ أنْ يكونَ بذرةً صالحةً لاستهلالِ عملٍ قصصيٍّ، أو عملٍ روائيٍّ، لِمَا فيهِ مِنْ طاقاتٍ سرديّةٍ شاهقةٍ في تدفُّقاتِ بهجةِ السَّردِ. لماذا يا أستاذة كابي لَمْ تدخلي في مقالِكِ هذا في تفاصيلِ بعضِ الذِّكرياتِ؟ لماذا كنْتِ "بخيلةً" علينا في تدفُّقاتِ هذهِ الفضاءَاتِ المتراقصةِ في مهجةِ الذَّاكرةِ عبرَ محطّاتِ رحلتِكِ الفسيحةِ في الحياةِ، أنتِ المعروفةُ في وهجِ انبعاثِ التَّجلِّي في فضاءِ اللُّغةِ وجموحاتِها؟ لو تعلمينَ كَمْ قرأْتُ ما انتابَكِ مِنْ هواجسَ وتأمُّلاتٍ، قرأْتُ ما لا يخطرُ على بالٍ، فأنا أقرأُ ما بينَ السُّطورِ وما فوقَ السُّطورِ وما تحتَ السُّطورِ، وما يتاخمُ مرامي السُّطورِ مِنْ أيَّةِ جهةٍ مِنَ الجهاتِ. أقرأُ حتَّى هواجسَ السُّطورِ، ونأْمَاتِ السُّطورِ، لأنِّي أتوغَّلُ خلالَ قراءَتي في دندناتِ وهجِ الحنينِ الَّذي كانَ يصاحِبُكِ في لحظاتِ انبعاثِ الحرفِ، وأقرأُ تلكَ الدَّندناتِ برهافةٍ عاليةٍ، فتقفزُ فيروزُ في رحابِ الذَّاكرةِ على مساحاتٍ رحبةٍ مِنْ انسيابيّةِ البوحِ في آفاقِ براري الخيالِ، وتنفرشُ جبالُ لبنانَ فوقَ أجنحةِ الشَّوقِ، وتتراقصُ أمامي طبيعةُ لبنانَ وتوهُّجَاتُ الإبداعِ في ربوعِ لبنانَ، وأنا في أوجِ انبعاثي، ويقفزُ إلى رحابِ المخيَّلةِ ما كانَ يتراءَى مِنْ تدفُّقاتِكِ عبرَ الخيالِ الخلَّاقِ. وجدْتُكِ في أعماقِ بصيرتي تحلِّقينَ عالياً، عيناكِ تنضحانِ شوقاً إلى ذكرياتِ العمرِ، تهزِّينَ رأسَكِ، ولا تصدِّقينَ انجرارَ الإنسانِ إلى رماحِ القبحِ خلالَ رحلةِ الحياةِ في متاهاتِ لهيبِ العمرِ. تقفينَ أمامَ مرآةِ الذَّاتِ وتتساءَلينَ: هَلْ أنا أنا، كابي لطيف أيَّام زمان، أمْ أنَّني شهقةُ سؤالٍ مفتوحٍ على رحابِ الدُّنيا، أينَ أنا مِنَ الغدِ الآتي، ولماذا يفرُّ غدي بعيداً عمَّا يقتضي أنْ يأتي؟! ولِمَ لا أكتبُ آهاتي الموشومةَ بمذاقِ الاشتعالِ، لِمَ لا أنسجُ حرفي الملظّى بأشهى خيوطِ الحنينِ، كَمْ مرّةٍ اكتويتُ بلهيبِ الغربةِ ولا أدري؟ أو أدري بكلِّ رهافةٍ ولكنّي مكبّلةُ اليدَينِ، معصوبةُ العينَينِ، مسكونةٌ برهافةِ انسيابِ الحوارِ، حواري مَعَ مبدعينَ، ومبدعاتٍ، حواري مَعَ ضراوةِ الكونِ! أنا قصيدةُ عِشقٍ مسكونةٌ بانبلاجِ شهوةِ الحرفِ، رحلةُ عاشقةٍ محبوكةٍ بإشراقةِ الشَّمسِ، غداً سأكتبُ آهاتي المتربِّعةَ فوقَ جفونِ اللَّيلِ، وبعدَ غدٍ سأحلِّقَ عالياً فوقَ اخضرارِ الغاباتِ، حياتي لغزٌ مشحونٌ بأملٍ بعيدٍ عَنْ مرأى العيونِ، نحنُ ضحايا عصرٍ مجنّحٍ نحوَ شفيرِ الغبارِ. تساؤلاتٌ لا تُحصى تنبعثُ مِنْ خلاصةِ ما جنيناهُ مِنْ رحلةِ العبورِ في لُجينِ الحياةِ. تمتلكينَ يا كابي مخيَّلةً شاهقةً في جموحِها، لكنَّ انشغالاتِكِ المتعدِّدَةَ في الحياةِ، جعلتْكِ مراراً تَحِدِّين مِنْ شهقةِ انبلاجِ المخيّلةِ، وتكبحينَها أو تقفزينَ على تدفُّقاتِ ما يموجُ في رحابِ الخيالِ وأحلامِ اليقظةِ وطموحاتِ بوحِ الحرفِ، فآتي بكلِّ رهافةٍ، ألملمُ هذهِ الانبعاثاتِ المتناثرةَ وأقرَؤها بطريقةٍ وكأنَّني كابي لطيف، وهنا يراوِدُني بَل راوَدَني مراراً، هَلْ يتمكَّنُ المرءُ مِنْ أنْ يغوصَ في فضاءِ الأحبَّةِ إلى درجةِ الانغماسِ في فيافي الرُّوحِ – روحِ الآخرِ، بكلِّ رَحَابتِها؟! أجيبُ عمَّا راوَدَني مراراً، أجلْ يتمكَّنُ المرءُ مِنْ أنْ يغوصَ عميقاً في هذهِ الفضاءَاتِ المجنَّحةِ لدى آفاقِ الأحبّةِ عندما تكونُ تقاطعاتُ الأرواحِ صافيةً صفاءَ الحرفِ المندّى بإشراقةِ شمسِ الصَّباحِ وتهاطلِ زخَّاتِ المطرِ النَّاعمِ على أرضٍ عطشى لهِلالاتِ حنينِ الرُّوحِ، لأنَّ الأرواحَ تتعانقُ وتحنُّ إلى بعضِها بعضاً وكأنَّها جزءٌ واحدٌ مفتوحٌ على فضاءِ الكونِ!
مَنْ قالَ لكِ أنَّ إجازتَكِ انتَهتْ في لبنانَ وعدْتِ أدراجَكِ إلى مقرِّ عملِكِ في باريسَ؟! لا، لَمْ تنتهِ إجازتُكِ بَلْ امتدَّتْ على مدى رحابةِ انبعاثِ الخيالِ وبوحِ الحنينِ، وعلى مساحةِ بحبوحةِ الذِّكرياتِ! عدْتِ إلى باريسَ كياناً فيزيائيَّاً، لكنَّكِ ظللْتِ في ربوعِ بيروتَ كياناً روحيَّاً مجنَّحاً في مكانٍ مجذَّرٍ في كينونةِ ذكرياتِكِ المرفرِفةِ فوقَ هضابِ الكونِ. تمتلكُ الرُّوحُ طاقةً انبعاثيّةً ممتدَّةً على مساحاتِ جموحِ الخيالِ، لأنَّ الرُّوحَ قادرةٌ أنْ تكونَ في أكثرِ مِنْ مكانٍ في الآنِ نفسِهِ، في بيروتَ وباريسَ وفوقَ جبالِ الأنديزِ بنفسِ الوقتِ، لأنَّ الرُّوحَ تتتجاوزُ فيزائيّةَ الجسدِ وتمتدُّ إلى أبهى آفاقِ الخيالِ، لهذا أراكِ باقيةً في ربوعِ بيروتَ، تحلِّقينَ هناكَ في عرينِ الذِّكرياتِ ومحطَّاتِ الماضي المنقوشِ في ظلالِ الذّاكرةِ وسفوحِ القلبِ وهلالاتِ الحلمِ المفتوحِ على مساحةِ ضياءِ شموعِ الرُّوحِ. ولمْ يكُنِ المقالُ الذَّي كتبتِهِ، المعنونُ: "في لبنانَ ... حولَ غرفتي"، لَمْ يكُنْ هذا المقالُ حولَ غرفِتكِ، بَلْ كانَ حولَ تهاطلاتِ حنينِ الرُّوحِ، فجاءَ موجزاً مكثَّفاً، يحملُ مدلولاتٍ لا يمكنُ أنْ يلتقطَها القلمُ بهذهِ العجالةِ، لهذا تناثرَتْ جموحاتُكِ بين السُّطورِ، فلمْ أقرأْ نصَّكِ حرفيّاً، لأنَّ حرفَكَ كانَ إشراقاً، بحراً فسيحاً على مساحاتِ الحلمِ، ممتدَّاً على جمرِ الحنينِ، ووضعْتُ يدي على لهيبِ الجمرِ، مُنتعِشاً مِنْ توهُّجاتِ هذا الانبعاثِ، وإذْ بي أراكِ عبرَ بسمةِ الرُّوحِ تفرشينَ حكاياتِ عقودٍ مِنَ الزَّمنِ فوقَ نصاعةِ الورقِ، لَمْ أندهشْ ممَّا تراءَى لي عبرَ جموحِ الخيالِ، المستوحى مِنْ رفرفاتِ أجنحةِ الانبعاثِ، المستوطنِ في رحابِ بوحِ الرُّوحِ. هَلْ سألْتِ روحَكِ يوماً إلى أينَ تحلِّقينَ في إغفاءَتِكِ، في صباحٍ باريسيٍّ مندّى بأسرارِ بسمةِ اللَّيلِ المعبِّقِ بأسرارِ الرّوحِ الممهورةِ في هِلالاتِ العمرِ؟ هَلْ توافقينَني الرَّأيَ يا كابي أنَّ رحلةَ العمرِ هي حالةُ شوقٍ إلى منارةِ حرفٍ مجدولٍ مِنْ أصفى ما في شهقةِ الأحلامِ، والرُّوحُ تهدهدُ أحلامَنا وتفرشُها فوقَ أجنحةِ الكونِ كي تبقى مرفرِفةً على مساحاتِ انبلاجِ الخيالِ؟! أنتِ حرفٌ مشتبِكٌ باخضرارِ لبنانَ، كينونَتُكِ مخضّبةٌ بأشجارِ الأرزِ، مجذّرةٌ بجبالِ لبنان، متعانقةٌ مَعَ أسرارِ نهرِ السِّينِ، مَعَ ذكرياتٍ موشومةٍ على شموخِ برجِ ايفل، منقوشةٌ على افتتاحيَّاتِ حواراتِكِ في مونتِ كارلو الدَّوليّةِ بموسيقاها الَّتي توقظُ صراعاتِ الإنسانِ مَعَ أخيهِ الإنسانِ، وانزلاقِهِ نحوَ شفيرِ الانحدارِ. هَلْ توافقينَني الرَّأيَ أنَّ هناكَ جموداً كونيَّا يغلِّفُ خاصرةَ العالمِ، مِنْ خلالِ تشظّياتِ جنونِ الصَّولجانِ؟! كَمْ يستهويني لو أجريتِ معي لقاءً مفتوحاً يتضمّنُ ألفَ سؤالٍ وسؤالاً، حولَ كلِّ ما يخطرُ على بالِكِ مِنْ رؤيةٍ فكريّةٍ أدبيّةٍ فلسفيّةٍ فنيّةٍ سياسيّةٍ محتبكةٍ بصراعاتِ الإنسانِ مَعَ ذاتِهِ مَعَ أخيهِ الإنسانِ، ومَعَ الوجودِ، وتيهِهِ الّذي لم نعُدْ نفهمُ إلى أينَ ينتهي بنا هذا التِّيهُ؟! كما يستهويني بنفسِ الوقتِ يا أستاذة كابي أنْ أجريَ مَعَكِ أنا الآخرُ، حواراً موسوعيَّاً مفتوحاً على شهقةِ الشَّفقِ حتّى آخرِ وميضِ الغسقِ، حولَ أحلامِكِ وآفاقِ رؤاكِ المجنّحةِ نحوَ مرامي الوجودِ. الحوارُ يا صديقةَ الحرفِ وأصفى ما في وهجِ الإبداعِ، منقذُنا الوحيدُ مِنَ التّيهِ الّذي قادَنا إلى أعماقِ السَّرابِ، نحنُ نعيشُ في حالةٍ سرابيّةٍ مريرةٍ، في ضلالٍ مُرعبٍ رغمَ كلِّ تقنياتِ وتكنولوجياتِ هذا الزَّمانِ. وسؤالي اللَّارجعةَ فيهِ، ما فائدةُ كلَّ هذا التَّقدُّمِ الكوني في مجالِ العلومِ والتّقنياتِ بمختلفِ مجالاتِ الحياةِ، ما لَمْ يخدمْ هذا التَّقدُّمُ رفاهيّةَ وسعادةَ الإنسانِ بقدرِ ما يخدمُ فئةً صغيرةً وقليلةً، بَلْ قليلةً جدّاً؟ أليسَ مِنَ الأجدى أنْ يخدمَ التَّقدُّمُ الإنسانيُّ الإنسانَ في جميعِ بقاعِ الدُّنيا، وإلَّا فلا أرى جدوى مِنْ هذا التَّقدمِ بقدرِ ما أراهُ وَبالاً على البشريّةِ مِنْ بعضِ الوجوهِ؟!
أراكِ، وأرى الكثيرينَ مِنْ مبدعي ومبدعاتِ الشَّرقِ والغربِ ومعظمِ بلدانِ العالمِ، يغوصونَ في تجلّياتِ الحرفِ ومنارةِ الإبداعِ، ينشغلونَ ليلَ نهارٍ في انبعاثِ حبقِ الحرفِ، كي يقدِّموهُ إلى قرّاءَ وقارئاتٍ فوقَ عرينِ الأرضِ، فينسونَ أنفَسَهم بينَ شغافِ بوحِ الخيالِ، ويبتعدونَ عَنْ ملذّاتِ الحياةِ مِنْ دونِ قصدٍ، وجلُّ تركيزِهم ينصبُّ على بهجةِ إشراقِ الحرفِ، إلى أنْ يصبحَ الحرفُ ديدنَهم الأشهى في مرامي الحياةِ، وملاذَهم الأوَّلَ والأخيرَ، وشغفَهم الأزهى في مسيرةِ الحياةِ، فينسى المبدعُ ذاتَهُ وتنسى المبدعةُ ذاتَها، وينجرفانِ في مهبِّ الإبداعِ إلى درجةِ التّوهانِ عَنْ أبسطِ ملذَّاتِ وبهجةِ الحياةِ، لانشغالِهِما في مذاقِ الحرفِ ومختلفِ صنوفِ الإبداعِ، وأتساءَلُ بحرقةٍ حارقةٍ، هَلْ يعطي المبدعُ/ المبدعةُ حقَّ الذَّاتِ في رحلةِ عبورِهِا في رحابِ الكتابةِ والفنونِ والفكرِ ومختلفِ آفاقِ العلومِ أَمْ يتوهانِ في خضمِّ انشغالاتِهِما في مرامي الإبداعِ، إلى أنْ يفوتَهما أجملُ سِنينِ العمرِ، ويطحنَهما الزَّمنُ دونَ رحمةٍ تحتَ عجلاتِ العطاءَاتِ الخلَّاقةِ، ويصبحُ قسمٌ لا يُستهانُ مِنَ المبدعينَ والمبدعاتِ ضحايا عطاءَاتِهم في رحلةِ العبورِ في آفاقِ تجلّياتِ الإبداعِ؟ ويبقى السُّؤال ساطعاً في آفاقِ رؤانا، مَنْ سيكافِؤنا عمَّا فاتَنا مِنْ رحلةِ الحياةِ ونحنُ منشغلونَ في أجملِ محطّاتِ العمرِ، ألسْنا مِنْ أكبرِ الظَّالمينَ في حقِّ الذَّاتِ، أمْ أنَّ ذواتِنا مرهونةٌ في شموخِها على مدى تجلِّياتِ مهجةِ الحرفِ في منارةِ الإبداعِ؟
الكتابةُ، الفنُّ، الفكرُ، العلومُ بمختلفِ تخصُّصاتِها، الإبداعُ على جميعِ المستوياتِ، حاجةٌ حياتيّةٌ لا يمكنُ الاستغناءُ عنها، إنَّهُ محرِّكُ مشاعرِ البشرِ على امتدادِ كلِّ الأزمنةِ، محفَّزٌ على العطاءِ، لِمَا فيهِ مِنْ توقٍ إلى أشهى تجلِّياتِ بوحِ الحرفِ، وإشراقةِ هلالاتِ اللَّونِ، وحبورِ الأنغامِ وأرقى الألحانِ، وانبلاجِ الفكرِ على مدى شموخِ الرٌّؤى الخلَّاقةِ، ويبقى السُّؤالُ: إلى أيِّ مدىً يؤثِّرُ المبدعونَ والمبدعاتُ على رفعِ شعارِ الوئامِ الإنسانيِّ بينَ البشرِ ورفعِ رايةِ السَّلامِ وقيمِ الخيرِ والعدالةِ والمساواةِ بينَ البشرِ؟ ألَا تلاحظينَ مِنْ خلالِ إطِّلاعِكِ على ثقافةِ العصرِ في جميعِ أصقاعِ العالمِ، أنَّ هناكَ تراجُعاً في قيمِ العدالةِ والخيرِ وأخلاقيَّاتِ الإنسانِ، وبصفتِكِ إعلاميّةً بارزةً، ما هي أهمِّ المناحي الَّتي يفتقرُها إعلامُ الشَّرقِ والغربِ والعالمِ كي يرفعَ مِنْ مستوى أخلاقيّاتِ البشرِ؟ هَلْ توافقينني الرَّأي أنَّ إنسانَ هذا الزَّمانِ يتراجعُ تراجعاً مخيفاً في سلِّمِ الحضارةِ والأخلاقِ، ويتصاعدُ إلى قِمّةِ القِممِ في اختراعِ تقنياتٍ عاليةٍ إلى درجةٍ خرافيّةٍ، على جميعِ المستوياتِ، ولكنْ للأسفِ الشَّديدِ أغلبُ تقنياتِ ما وصلَ إليهِ الإنسانُ نادراً ما تخدمُ البشريّةَ بقدرِ ما تهدِّدُ البشريةَ بطريقةٍ أو بأخرى، فنرى سياسيَّاً مِنْ هنا وآخرَ مِنْ هناكَ يصرِّحُ أنَّهُ بكبسةِ زرِّ سيقتلعُ الدَّولةَ الفلانيّةَ مِنَ الوجودِ، وآخرُ يهدَّدُ بكبسةٍ زرِّ سيقتلعُ قارَّةً عَنْ بكرةِ أبيها، فما فائدةُ كلُّ هذهِ التَّقنياتِ والأسلحةِ الفتَّاكةِ وهي تهدِّدُ الوجودَ الإنسانيَّ على الأرضِ، وبهذا المنظورِ يصبحُ الإنسانُ أخطرَ مخلوقٍ على وجهِ الدُّنيا يهدِّدُ بني جنسِهِ!
ستوكهولم: 10. 9. 2023
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق