* رئيس الاتحاد الفلسفي العربي
مدخل : في الصداقة والوفاء / بهيّة أبو حمد أُنموذجًا !
بين الصداقة الحقَّة والصداقة "العابرة" أو المزيّفة بونٌ شاسع . فالصداقة الحقَّة ، لُحمتُها الاحترام وسَداها الوفاء . بل لا يُمكنُ الصداقة الحقَّة أن تبلغ مبلغَها ما لم تبرأ من دَنَس المصالح الخاصة النفعيّة ، وما لم تتعمَّد بالوفاء ، وترقى إلى مستوى الأخوّة !
هكذا يغدو الصديق الحقيقي بمنزلة الأخ ، مستحضرين ، في هذا المقام ، القول المأثور : " رُبَّ أخٍ لكَ لم تلِدْهُ أُمُّك ! " .
وإذْ يُشكِّل الوفاء قيمة أخلاقية سامية ، فقد استأثرت باهتمام فلاسفة الأخلاق ، والأديان ، من توحيديّة ووضعية .
ولعلَّ أهمية هذا القيمة الأخلاقية تنبعُ من صِلتها الوثيقة بعددٍ من القيم السامية الأخرى . وتدليلاً على ذلك ، يقول الراغب الأصفهاني (954- 1108م)، أحد كبار المشتغلين بفلسفة الأخلاق في العصر العباسي : "الوفاء أخو الصدق والعدل ، والغدرُ أخو الكذِب والجَوْر " . فالوفاء نقيضُ الغدر ، والصدق يُضاد الكذب ، والعدل في مواجهة مع الجَور (أي الظلم) .
وفي القرآن الكريم ، فإنّ الوفاء هو إحدى صفات الله (تعالى) : "ومَنْ أوفى بعهدِهِ من الله " (سورة التوبة : 111 ) .
.. وإذْ نروحُ إلى الصداقة ، التي تتلازم مع الوفاء تلازُمَ السبب مع النتيجة والعكس ، في عملية تفاعل خلاّقة ، نجد أنّ الأديان أعارتها اهتمامًا ، وكذلك الفلسفات : قديمها وحديثها ، فأعلَتْ شأنها ، وفصَّلت فيها القولَ تفصيلاً !
ففي العهد القديم ، نقرأ "ولقد خُلقنا لتكونَ لنا صداقةٌ مع الله ومع بعضنا البعض" (تكوين : 2-3 ) .. هنا نتوقّف عند مفهوم الصداقة ، بشقّيه : الصداقة مع الله ، من موقع الإيمان به ، ومع بعضنا البعض ، من منطلق العلاقات الاجتماعية اليومية في المجتمع البشري .
ولقد جاء في الأمثال : "الصديق يُحبُّ في كل حين ، والأخُ يولدُ ليكون عونًا في الضيق " (أمثال 17 : 17 ) ، ونقرأ كذلك : " من يُكثر الأصحاب يُخْرِب نفسَهُ ، ورُبَّ صديق ألزقُ من الأخ " (أمثال 8 : 24 ) .
هكذا عبر هاتين الآيتين : فإنّ الصديق دائمُ المحبة لنظيره ، في حين أنّ الأخ تجمعُهُ بأخيه رابطة الدم ، فيغدو له المعين والسَنَد .. هذا ما تشي به الآية الأولى . وفي الآية الثانية ثمة دعوةٌ إلى الإقلال من الأصحاب (أي الأصدقاء) تجنُّبًا لتعقيدات ومشكلات شتّى . وعن الصديق الحقّ ، فهو قد يكون أكثر التصاقًا بصديقِهِ من أشقائه !
أما القرآن الكريم ، فقد ثمَّن الصُحبة ، مرتقيًا بها إلى مصاف الأخوّة ، ومكرِّسًا هذه الأخوة بين المؤمنين : "إنما المؤمنون أخوة ، فأصلحوا بين أخويكم، واتّقوا الله لعلكم تُرحمون " (سورة الحُجرات : 10 ) .
وكون الصداقة شأنًا يوميًّا ، يُدرج في إطار "المعاملات" ، أي العلاقات المتبادلة بين الناس ، فقد أفردت لها الفلسفة ، لاسيما فلسفة الأخلاق ، حيِّزًا واسعًا، قديمُها وحديثها .
فالفيلسوف سقراط ربط بين الصداقة والحكمة ، معتبرًا أن الصداقة المثالية لا تقوم على روابط الدم ، بل على الحكمة . وأضاف أنّ الصداقة ، في هذه الحالة، تمثّل علاقة تجمع الحكماء إلى بعضهم بعضًا .
وعن أفلاطون ، فقد ميّز بين نوعين من الصداقة ، الصداقة الحقيقية والصداقة المزيّفة . وذهب إلى أن الفضيلة شرط أساسي للصداقة .
وقد توسَّع أرسطو في المسألة ، إذْ عدَّ الصداقة الحقيقية طريقًا ، يُوصل إلى حياة ملؤها الفضيلة والسعادة . وهي، من وجهة نظره ، تدفع الأفراد كي يتمنّوا الخير لبعضِهم البعض ، وتبادل مشاعر الحبّ . ورأى أنّ مثل هذه الصداقة لا تتحقَّق إلاّ بين أشخاص خيِّرين ، يتشاركون نفس قيم الفضيلة . وهؤلاء الأشخاص هم وحدهم من يملكون القدرة على حبّ الآخر ، لشخصِهِ فقط ، من دون النظر إلى مصلحة أو منفعة .
.. وإذْ نتوقّفُ لمامًا عند الفلسفة الحديثة ، فإنّ الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632 – 1677 ) يرى أنّ الصداقة تقوم على مبدأ تمنِّى الخير للآخر. فالإنسان في الأحوال العادية ، يُحِبُّ الخير ويتمنّاهُ لنفسه . ولكنّ ارتباطه بعلاقات صادقة مع الآخرين يوسِّعُ من نطاق تمنّي الخير والمنفعة ، ويُخرجُهُ من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة الممثّلة بالأصدقاء .
أما الفيلسوف دافيد هيوم ( 1711 – 1776 ) ، فهو يربط مفهوم الصداقة بتحقيق السعادة .
وعن الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط ( 1724 – 1804 ) ، فهو يرى أن الصداقة اتحادٌ يجمع بين شخصين ، يتشاركان ويتبادلان الحبّ والاحترام فيما بينهما .
.. وفي الفلسفة الكونفوشية ، فإنّ الصداقة ، تقوم على مبدأ الخير والتزامه، والسعي إلى تحقيقِهِ للأصدقاء .
إذْ نكتفي بهذا القدر حول أطروحة الصداقة الحقيقية ، من حيث طبيعتُها وأبعادُها والتجلّيات ، وهي إحدى القيم المرتكزة على قيم مُتعدِّدة ، فإنّنا لم نذهب إلى عمل استعراضي ، من خارج السياق . بل إن الكتاب ، الذي أتحفتنا به الأديبة د. بهيّة أبو حمد ، والذي نتصدّى له بالمعالجة ، يتمأسس على أطروحة الصداقة القائمة على الوفاء للآخر . فلولا صداقتُها المثالية "الاستثنائية " للمثلث الرحمات سيادة المطران بولس صليبا ، لما كان هذا الكتاب ، الذي يُشكِّل معينًا، لا بُدَّ أن ينهلَ منه كلُّ من يختار سبيل الصداقة الحقيقية . بل إن هذا المؤلَّف الثرّ يضع بين أيدينا خريطة طريق ، تُفضي إلى فضاءات من الصداقة ، لا تحدّها حدود ، ولنجدنا أمام تجربة تدعو إلى تمثُّلِها ومحاكاتها !
ولا شك أن الكاتبة د. بهيّة أبو حمد هي من الصفوة النادرة ، إذْ تذهب بصداقتها للمطران صليبا إلى بحورٍ ، بل محيطات ، لا ضفاف لها ! فقد استبانت لنا رمزًا للوفاء وللإخلاص وللمحبة الغامرة ، ومثالاً لقِيم تُعلي من شأن الصداقة ، ذات البُعد الصوفي / العرفاني ! فالمتصوّفة أحبّوا الله كما لم يُحِب أحدٌ سواهم ، وأخلصوا في عشقهم الإلهي واستنفدوه حتى الثُمالة .
وعلى غرارهم ، فإن د. أبو حمد راحت ، في وفائها ومحبَّتِها للمتروبوليت صليبا ، حتى حالة الفناء فيه !
المطران بولس صليبا بعيون د. بهية أبو حمد وبأقلام آخرين !
إذْ نستعرضُ محتويات الكتاب ، فهو ليس كتابًا "كلاسيكيًّا" ، كونه لم يتضمّن فصولاً ، بل اشتمل على محطات / إطلالات ، غالبيتُّها ذات سمة منبرية خطابية ، ترينُ عليها عاطفةٌ مُتأجِّجة . وهي تندرج تحت فن المناجاة ، مع مساحة لحوار افتراضي بين الكاتبة والمطران صليبا ، المتربّع سعيدًا في الأبديّة !
وفي فاتحة مناجاتها، تذهب إلى أن خبر رحيله وقع عليها ، بشكل أليم وجارح . بل يُدمي القلب . وهي ما زالت في حالة ذهول ، بل إِنكار لرحيله : "لم ولن أُصدِّق ! " . ومما يُسعِّر ألمها ويترك في النفس غصّة ، أنها كانت تنوي الالتقاء به ، بعد أسبوع من رحيله ! وهي ، إذْ تفتقده ، فهي تفتقد فيه إرشاداته وتعاليمه وحكمته وتوجيهاته الثمينة ! لقد أنعمَ عليها بنور الرب يسوع ، عندما كانت تواجه الصعوبات ، فكان يُرشدها في كل حين ، كالأب الحنون ، ينفحها بالأمل، الذي كانت تفتقر إليه .
لقد آلمها رحيله ، في عزّ عطائه ونهضة الأبرشيات التي يرعاها . حتى أنه – والقول لها – لم يبخل بعطائه على رعاياه إِبّان مرضه ، " مُرخصًا عافيتك من أجلنا !" .
من هنا ، فإن ذلك المطران " الاستثنائي " سيبقى في ذاكرتها إلى الأبد . وقد كان لها دومًا الشمعة المنيرة ، والهادي إلى سواء السبيل ، والأب والمرشد والمعلّم . ولأنه على سماتٍ و ميِّزات ، لا تملكها إلاّ قلّة نادرة ، فقد " تعطّلت لغة الكلام لديها ، ولم تجد في قاموسها مصطلحًا ، يوفِّيهِ حقَّهُ ! "
أ- وإذا أردنا أن نتعرّف على شخصية المطران صليبا المثلث الرحمات ، فلدى د. بهيّة الخبرُ اليقين ، فهي أعرفُ عارفيه !
د. بهية أبو حمد لم ترَ إليه أبًا روحيًّا فحسب ، بل أبًا حقيقيًّا ، يُعوِّضُها عن أبيها برابطة الدم ! رأت إليه قدِّيسًا مخلّدًا " لم ولن يموت ! " . بهذه العبارة توّجت كتابها . علمًا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة في أول تموز من العام 2017 ، بعد خدمة، في سبيل الله والإنسان والمجتمع ، طيلة ثمانية عشرة سنة ، مُحدِثًا في أبرشياته الثلاث (استراليا ، نيوزيلندا والفلبين ) نهضة عمرانية وإنمائية ، لم تشهدها من قبل ، ولا بعد رحيله !
وإذْ تُهديه هذا الكتاب ، تُهديه لروحه الطاهرة ، فلأسباب تُجملها في خمسة، هي بعضٌ من قوام شخصيتِهِ : لأنه كان مثال الأب الحقيقي ، والأم، والأخ، والصديق والشمعة المنيرة / لأنها رأت في شخصِهِ النبيل والمتواضع صورة الربّ يسوع ، وعاشت عالمه وتعاليمه وإيمانه من خلاله / لأنه الواقف في هيكل الكنيسة ، صارخًا بوجه الظلم ومُندِّدًا به ، ومدافعًا عن المظلوم ، ومُناصرًا للفقير ، ومُبشِّرًا بتعاليم الربّ / لأنه الداعية إلى الوحدة والتسامح والترفُّع عن الحق والضغينة / ولأنّه شاهرٌ سيفه بوجه كل مغتصب ومعتدٍ أثيم !
واستزادة من هذه الصفات / الميِّزات ، فقد عُرف عنه إعانة الفقراء ، وسائر المستضعفين . وقد كانت الكاتبة شاهدةً على بيضِ أياديه : "وكيف كنت معينًا للفقير / ومُعزِّيًا للحزانى / وناصرًا للمظلوم ، وخادمًا للكنيسة ! " .
وفي إبرازٍ لسماتٍ لديه أيضًا ، حسبما خبرته ، فهو الصادق الراقي في مواعظه ، مما جعلها ترى في شخصه النبيل والمتواضع صورة السيد المسيح .
إشارةٌ إلى أن د. بهية لم تسوِّد هذه الصفحات وسواها ، بشكل عشوائي، ومن موضع التخمين ، بل اليقين ، عندما واكبت قداسته ، خلال سنين عديدة، إذْ كانت، خادمة للكنيسة ، التي أحبّتها ، وكم كانت فخورة به، وتقولها ، بكل فخر : "بأنّك قدِّيسُ الربّ / الذي امتلأ بالروح القُدُس / ونور المسيح ! " .
.. ومن مقلب آخر حول المطران صليبا ، صاحب الفكر الإعماري والتنموي ، فهو : "رئيس الكهنة / الذي عملَ / وكدَّ وجدَّ / دون تعب أو ملل/ فارتفع البناء/ وشُيِّدت الكنائس /والمنازل والمؤسسات / وفاضت الخيرات ! " .
وفي إِخراج أسلوبي تعبيري جديد ، تستعيد الكثير مما سبق ذكرُهُ حول الصفات الحميدة التي يتميّزُ بها ، فتعمد إلى محاورتِهِ ، على طريقة تجاهل العارف ، وهو من الأساليب البلاغية ، التي تزيدُ المعاني ألقًا : " من كان داعيًا إلى الوحدة والتسامح والترفع عن الضغينة / من كان مُدافعًا عن العائلة / مُشدِّدًا بقوة على لمِّ شملها / ومؤكِّدًا على أهمية وجودها / لمحاربة الشيطان/ الذي يسعى دومًا لتفرقتها / من كان يزرع بيمينِهِ / بذور الخير بين المؤمنين/ لتُنبت جيلاً/ يلتزم تعاليم الكنيسة / وتوجيهات السيد المسيح / من كان شاهرًا سيف الحق / بوجه كل مغتصب ومعتدٍ / من كان مُعلنًا ومُبشِّرًا بفرح كبير/ عن المشاريع المستقبلية الجمَّة / التي باشرها أو أعدّها للكنيسة / وكيف لنا أن نكمل / المسيرة دون وجودك ! " .
ب- وفي إضاءة من مواضيع أخرى على فقيد الكنيسة الإنطاكية الأرثوذكسية ، المطران المثلث الرحمات بولس صليبا ، لنا أن ننهل مما قيل فيه، على لسان سيادة المتروبوليت ما ملاطيوبس ملكي ، راعي أبرشية أستراليا ونيوزيلندا للسريان الأرثوذكس ، حيث تعود معرفته بالراحل إلى العام 2003، ومنه نستلّ " " ... كان ذا دراية ومعرفة وخبرة طويلة ، في مجال الإدارة والتعامل خاصةً مع المشاكل الصعبة / .. ولم يكن يومًا ، يتدخّل في شؤون الأبرشيات الأخرى للكنائِس الشقيقة ، ومن ضمنها أبرشية كنيستنا / .. ولم يُعاملني يومًا على أنني أصغر منه ، سنًّا ومعرفةً وخبرةً / .. وقد لاحظتُ أيضًا، في مثلّث الرحمة ، أنه كان دومًا يُقدِّم الاحترام للآخرين ولي ، ويُعاملني كمساوٍ له " . ويضيف المتروبوليت ملكي حول خسارة ذلك الحَبر الكبير : " فقدت كنيسة الروم الأرثوذكس ، بشكل خاص ، وكنيسة المسيح الأرضية ، بشكل عام ، حَبرًا جليلاً ، وراعيًا حكيمًا ، وأبًا روحيًّا ، وأخًا عزيزًا . فقدناه وغابَ عنّا ومن بيننا ، لكنّنا لنا إيمان أنّ له منزلة الراعي والمدبّر والناظر في كنيسة المسيح السماوية ".
.. وفي جنّاز المثلث الرحمات صليبا (يوم الاثنين 10 تموز 2017)، نستقي من كلمة المتروبوليت سلوان (موسي) ، راعي أبرشية الروم الإنطاكيين الأرثوذكس في بوينس آيرس وسائر الأرجنتين : " المطران بولس ، خدم الأبرشية (سيدني) بتفانٍ وبذلٍ ، مُدّة ثماني عشرة سنة / ثلاثة عناصر اجتمعت في شخص فقيدنا الحبيب ، سمحت له بأن يكون ربّانًا حكيمًا لسفينة الكنيسة ، وراعيًا مقتدرًا لأبناء الكرسي الإنطاكي في هذه الديار " . ولنا أن نوجز هذه العناصر وفق الآتي : "خبرتُهُ ككاهن في أبرشيتنا الإنطاكية في أمريكا الشمالية ، في حضارة وثقافة مختلفتين عن تنشئتِهِ في لبنان و دراسته اللاهوتية في اليونان/ روحه البشاريّة ، التي تتجلّى بمحبّته للآخر ، وقدرته على البذل والتضحية ، ورغبته في الامتداد والتواصل مع الآخرين والأبعدين . هكذا خصّ الأرثوذكس من أصول لبنانية وسورية وعراقية وفلسطينية وأردنية ، بالإضافة إلى الأستراليين / إرادتُهُ وعزمه ومثابرته ، كانت الأساس الذي سمح لهذه الروح البشاريّة بأن تحافظ على اندفاعتها المستمرة في الخدمة وبثّ الحماسة والعزم في معاونيه . لقد أحسنَ في بلورة الإمكانيات والمواهب ودفعها إلى الأمام " .
ويُضيف ، بل يخلص المتروبوليت سلوان ، من هذه العوامل الثلاثة إلى النتائج الآتية :
أولاً : التنشئة الإيمانية والإعداد الكهنوتي ، ولتغدو الأبرشية (سيدني) في فتوّة دائمة . وكان للراحل إنشاء مدرسة إعداد لاهوتية ، غدت ذراعه العملانية ، لبثّ معرفة الإيمان في نفوس العلمانيين ، الذين عزموا على التكريس الكهنوتي. ثانيًا ، إيمانُهُ بضرورة تعليم الأطفال واحتضان الشبيبة ، من خلال مدارس الأحد، وإنشاء الفرق الشبابية في الرعايا ، فعمل على توفير المرشدين للأطفال . وقد حقّق إكليل عمره وجهاده ، عبر "القرية الإنطاكية " ، فكانت الصرح اللائق/ احتضان خلوات الفئات العاملة في الكنيسة . ثالثًا، التنظيم والإدارة والتخطيط ، وحشد معاونين كثيرين ، على صعيد مجلس الأبرشية ومجالس الرعايا ، ليحملوا، بالتكافل والتضامن مسؤولية نحوه الرعايا والكنائس ، عبر توفير حياة لائقة للكهنة. ولجهة العلاقة مع رجال الدين ، من جميع الطوائف ، يختم المتروبوليت سلوان بالقوال : " كان مع أترابِهِ ، من رجال الدين المسيحيين والمسلمين ، حريصًا على الاهتمام بكل ما خصّ شؤون الجالية ، في الوطن والمهجر".
.. ومن خارج السلك الكهنوتي ، ثمة شهادة مُعتبرة للدكتور سليم صفير (رئيس مجلس إدارة ومدير عام بنك بيروت / وحاليًا رئيس جمعية المصارف في لبنان ) ، حيث يقول : "المتروبوليت صليبا أمتلك موهبة إزالة الحواجز ، وتقريب المسافات بينه وبين مُحبّيه . كان بدماثةِ خُلُقهِ ، بهدوء نبرته ، برصانة حضوره، وبطُغيان شخصيتِهِ ، إنسانًا مُحبَّبًا / يفرض حضوره على حلقات اللقاء معه، فيُعمِّم شعورًا روحانيًّا ، يشعّ من بياض بشرتِهِ ومن سواد بزّتِهِ ، كما من عميق فكره وغنى معرفتِهِ اللاهوتية ، حتى لتخال أنّك في حضرة سفير من علٍ ، أو مندوبٍ من سماء ! " .
بهية أبو حمد في مطالعة حول الموت ، مُلامِسةً حدود التأمّلات الفلسفية!
من أبرز ما يمكنُ التوقف عنده ، في هذا الكتاب ، تلك المطالعة "الصاخبة"، التي تُقارب د. أبو حمد الموت عبرها . إنها مُطالعة تتّسم بالاحتجاج على رحيل المثلث الرحمات المطران بولس صليبا ، وهو في عزِّ عطائه لكنيسته ورعيته ولمجتمعه . ولأن رحيله المفاجئ مالكٌ عليها عقلها ومشاعرها ، فقد تفجّرت غضبًا ضد الموت ، في إطار محطّةٍ أو فصل ، جاء بعنوان : "نظرتُ إلى السماء مُعاتبةً " !
في هذه المطالعة تتوجَّه الكاتبة إلى خالق الكون والإنسان ، مُتسائلةً حول الحكمة من موت الصالحين والأخيار ، بأمر إلهي ، في حين يُمدُّ بعمر الخاملين الذين لا يُفيدُ منهم مجتمعهم ! هذا التساؤل يأخذ الكاتبة إلى حدِّ التشكيك بالمشيئة الإلهية ، مما كاد يضعها عند حافةِ الكُفر ، ولكن سرعان ما يعودُ إليها رشدُها الإيماني ، ويُعيدُها إلى جادّة الصواب . وفي إطار تساؤلاتها ، لنا أن نقرأ : "لماذا الصمت ؟ / لماذا الموت ؟ / أريدُ جوابًا يُقنعني / سأرفضُ بقوة أيِّ جواب زائف/ يُكرِّر ما قاله الأجداد : / هذه هي سُنّة الحياة ! / يجبُ أن نقبل الواقع / هم السابقون ونحن اللاحقون ". وعن رحيل مثلث الرحمات تُتابع سيل أسئلتها : "هل يجوز الرحيل لكاهنٍ / أفنى شبابه وحياته / في هذه الكنيسة / وكان أبًا حنونًا للجميع / ومُناصرًا للفقير والمظلوم / قلَّ نظيرُه ؟ " وتُضيف، في هذا الصدد : "هل يصحُّ الموتُ لكاهنٍ / عمل بصمت وجدٍّ من دون مِنّة / لينهض بكنيستِهِ من الردم إلى المجد ؟ / وكان عطاءً الربّ له جليًّا ؟ " .. " ولِمَ موتٌ لكاهن / خطّط لمشاريع جبّارة / تستلزم سنين عديدة لإنجازها ؟ " ، "وما العمل الآن ؟ / ومتى نبدأ ؟ /وماذا يُخبِّئ لنا المستقبل/ وهل كانت خسارة الربّ فادحةً / لو كان قد أطال بعُمر الكاهن / حتى يُنجز مشاريعه الجمّة / التي كان قد أعدّها لكنيسة الربّ؟/ وليس للكاهن نفسه ؟ " . وفي تصعيد احتجاجي ضد الموت ، تطرح الأسئِلة المُحقَّة الآتية : " لماذا يختبئ الموتُ / خلف جدران كئيبة / ليخطف منا أحد أنبل / وأعظم الخلق ؟ " .. " لماذا الموت / لا يطالُ الخاملين / والحاقدين/ والشرّيرين / والمنافقين / الذين يعيثون في الأرض فسادًا / وكذبًا ونميمةً / وحقدًا وشرًّا / ونفاقًا / وإيقاعًا / بين الناس لتنفيذ مآربهم ؟ " .
وفي حُمَّى غضبها ، تتوجَّه إلى الله مباشرةً ، حول قراراته المثيرة للدهشة، في إصدارُ حكمه كي يموت فلان دون فلان ! " " في بعض المواقف / أنا لا أفهمك يا خالق الأكوان / يا أبي السماوي / لا أفهم قراراتك الصعبة والمدهشة/ أتساءل لماذا ولماذا ؟ "
بيدَ أنّ كاتبتنا تستدرك ، إذْ تشعر أنها راحت بعيدًا في الاعتراض على المشيئة الإلهية ، فترى إلى الله أنّه " هو المُجيبُ الوحيد/ أنت يا إلهي على كلّ شيء قدير / لك ، يا أبا الكون ، المحبّة والاحترام / لتكن مشيئتك يا ربّ ، كما أردتها " .
هكذا لا تذهبُ إلى آخر الشوط ، في تفهُّمِها حكمة الله ، في مسألة الموت ، فترى بتعبير "ناعم لطيف !" ، بأنها قاسيةٌ ، فتدعوه إلى أن يرحم عباده، الأحياء والأموات : "ربِّي وإلهي / كم هي قاسيةٌ حكمتُك التي وضعتها للحياة / لكن حكمة الموت كانت أكثر قساوة / إرحمنا يا ربّ / ولتكُنْ مشيئتك الآن وإلى أبد الآبدين، آمين / إرحمنا يا ربّ وارحم أمواتنا ، وليكُنْ ذكرُهُم مؤبَّدًا " .
البحث عن السلام الداخلي .. وليس لها غير الصلاة !
ها هو فصلٌ جديد ، يتميَّز ببُعدٍ مسرحي افتراضي ، تأخذنا إليه الكاتبة، وقد قرّرت القيام بزيارة إلى المطران صليبا المتبربّع في الخدور السماوية ، كي تحوز على السلام الداخلي ، الذي يُخرجها من الحالة المتردّية التي تُكابدها : "طرقت الباب / ودخلت المكتب / الجوّ باردٌ والأفق موحش / والكرسي يقبع وراء المكتب/ مُنهكًا وحزينًا " ! .. تُناديه ، وكأنه ما زال في عالم الأحياء : "أين أنت يا سيّدنا / ولِمَ الخمول " .. ليس من مَجيب ، إنّه "صمت القبور" !
بإزاء هذا الصمت المطبق تُخاطبه مجدّدًا : "أين أنت، يا أبي / ناديتُك مرارًا وتكرارًا / لكنك لم تم تُجِبْ / .. الموتُ كان أقوى من الجميع / لقد اختطفك إلى عالمٍ آخر / .. شعورٌ لم ينتبني من قبل / لكنه جعلني أُجهش بالبكاء / وأطلبُ الرحمة/ والراحة الأبديّة لك " .
في هذا الموقف ، كان لا بُدَّ أن تلجأ إلى الصلاة ، وتخيَّلته يُصلّي معها ! لِمَ الصلاة ؟ " الصلاة هي غذاء الروح / الصلاد تطرد الشياطين / وتُنقِّي الجسد ، فيمتلئ بالروح القُدُس / الصلاة تُطهِّر الروح من كل دَنَس / وحقدٍ وضغينة/ فتقرّبها من الخالق ! " .
ومن محطّةٍ أخرى ، حول الصلاة ، ودورها في تحقيق السلام الداخلي للمؤمن ، تُطالعنا الكاتبة بمشهديةٍ إيمانيةٍ ، تُعبِّر فيها عن اقترابها من الخالق : "استيقظتُ اليوم باكرًا / ونظرتُ إلى السماء بعين دامعة / .. أضأتُ الشموع/ وانحنيتُ بخشوع لأصلّي / واقتربت من الخالق / كم هي نبيلةٌ ساعةُ الصلاة / أتوقُ دائمًا إلى سلامها الداخلي / لأمتلئ بالروح القُدُس / وأكملَ المسيرة الصعبة". وفي تعبير تقريري حاسم ، تُشدِّدُ على أن " الصلاة هي الطريق الوحيد / لمخاطبة الرب/ بقلبٍ طاهرٍ ونقيّ " .
وعن مقام مثلّث الرحمات ، فهو مع الملائكة في الجنة ، يُشاركهم الصلاة: " إني على يقين بأن أصوات الملائكة في الجنّة / حيث تُقيم ، يا سيِّدنا بولس/ هي الأجمل والأنقى وبالأخص / عندما تُشاركهم الصلاة ، كما عهدناك / .. كم هي جميلةٌ الجنة / بوجودكَ ، يا أنبلَ الخلق ! " .
في هذا الموقف الإيماني ، تستعيدُ الكاتبة ما كان ينصحُ لها بِهِ : "ها هو صوتُكَ يرنُّ في مسمعي / تذكّري دومًا يا ابنتي / بأن الروح القُدُس / لا تسكن جسدًا تملّكَهُ الحقد / لذا حافظي دومًا / على نقاوة القلب والروح / وتسامي على كل الأحقاد ! " .
ومن مشهدية أخرى تتكامل مع هذه المشهدية ، التي توقفنا عندها ، ها هي تقترب من هيكل الربّ ، لكي تمجّده وتُصلِّي ، فإذا " المذبحُ شامخٌ وسطَ العرش / ينتظرُ بدء الصلاة " . وعندما ارتفعت الصلوات ، وعبق الجوّ بعطر القداسة ونفحات البخور ، راحت تسأل : " أين أنت ، يا سيِّد بولس ؟ لماذا لم تخرج من الهيكل لتبارك المؤمنين ؟ / كما عهدناك ، منذ ثمانية عشر عامًا " .
إلى مثواه الأخير علَّهما يُكمِّلان المسيرة معًا !
"افتقدتك ، يا سيِّدنا بولس ، ولم أجِدْكَ ، فذهبتُ إلى مثواكَ الأخير ! "
بهذا العنوانُ تؤشِّرُ الكاتبة على نفاد صبرها ، وقد بحثت عنه عبثًا ! فإلى حيث هو في اللحد ، قصدته ، وكان لها بداءةً أن تقترب من مذبح كنيسته ، فانحنت خاشعة ، ثم ركعت وصلّت ، وشفعت صلاتها بهذه الأمنية : ".. كم تمنّيتُ، لو كانت هناك وسيلة اتصالٍ / معك ، يا سيِّدنا و أبانا بولس / لإكمال المسيرة/ والعمل الكنسي والخيري / .. فبعدَ رحيلك الجسدي / غادر الربيع حقول الأحلام/.. كم نحنُ بحاجةٍ / إلى حكمتك وبصيرتك / .. كم أنتِ أنانيةٌ أيتُها الدنيا/ يأتيك عِظامُ الناس / بقلبٍ نبيل / وكفٍّ معطاء / فتأخذين منهم كلَّ ما تبغين / من أفكار / وأعمال وإنجازات / .. وعندما تحصلين على كل أمنياتك/ وعندما تنالين مُرادكِ / تبدأين بالتعجرف / .. رافضةً بقوة أن يستمرّ هؤلاء الناس / بالعيش على أرضك فتفرضين الرحيل الأبدي / كم أنتِ قاسيةٌ ، أيتُها الدنيا ! " .
لا شك أن ثمّة تقاطعًا ، بل هو تكاملٌ ، بين هذا الموقف من الدُنيا الظالمة، وبين القدر ، المنضوي إلى المشيئة الإلهية . فالكاتبة ، بقدر نقمتها على القدر، الذي حرمها مطرانها ، فهي ناقمةٌ على هذه الدنيا " الأنانية" ، التي تأخذ ولا تعطي، وليستٌ عادلة ، في موقفها من بني البشر !
.. جاءت قبرهُ ، تبحث عنه ، علّها تحظى منه بنبأ ! " اقتربتُ من القبر وقلبي يقطُرُ دمًا / ناديتُك فلم تُجِبْ/ .. ولم أسمع إلاّ صمت القبور/ أرفضُ أن أصدِّق / هذا اللحدُ ليس لك / .. مكانُكَ داخلَ الكنيسة / لتُرنِّمَ للربّ / مكانُك وراء المذبح / لتُقدِّم العظات الغنية بمضامينها / مكانك في مكتبك /لتتابع وتراقب أعمال الأبرشية / والكنائس التابعة لها / لتناصر المظلوم / لتأوي اللاجئين/ ولتساعدَ الفقير عندما يطرق بابك " ! .. وإذْ تُنهي هذه الزيارة من دون الوصول إلى مرادها ، تتوجَّه إلى الراحل الكبير بالقول " " نَمْ قرير العين ، يا سيِّدنا / ليكن ذكرُك مؤبَّدًا ! "
إشارةٌ إلى أنّ هذه الزيارة إلى قبره ، قامت بها الكاتبة بعد مضي شهرٍ على رحيله ( 31 تموز 2017 ) .
باقيةٌ على خُطاه .. وعدًا وعهدًا !
ونعودُ إلى أطروحة الصداقة المعمّدة بالوفاء ، التي وفَّيناها حقَّها ، تفكيكًا وتحليلاً ! وبالكلام " الدارج " ، "جاء وقتها الآن " أي ، البُعد الوظيفي ، أو التوظيفي بمعنى أنَّ ما استعرضناه تنظيرًا ، ها هي د. بهيَّة تلتزمه ، بشكل عملي، فتذهب بالوفاء لسيِّدها إلى أبعد الحدود ، آخذةً على نفسها عهدًا بأن تبقى سائرةً على الدرب الرسولي / الرسالي / الذي خطَّه فقيدنا الكبير:" عاهدتُهُ بأني سأسير على خُطاك الطاهرة / وأقدِّس كلماتك وتوجُّهاتك الروحية ، في كلّ حين / وأعمل جاهدةً لخدمة الكنيسة / والمظلوم ، كما علّمتني / والسير على ذات الطريق ، الذي أنرتَهُ لي / بشمسِ حكمتِك " !
ولعلّ الثقة التي سادت بين الاثنين ، مثلّث الرحمات و د. بهيّة ، دفعت الأخيرة ، من منطلق " المونة" إلى أن ترفع إليه هذا الطلب : " رجائي الأخير، يا سيِّدنا / أن تنوبَ عنِّي في عناقِ والدي / الذي سبقك إلى السماء / وأن تغمره بحنانِك / ولا تنسَ ابنة شقيقتي / فانيسا / التي أحببتها عن كثب " ! .. فانيسا هذه، ارتحلت عن الدُنيا ، وهي صبيَّةٌ جميلةٌ ، في مقتبل العمر !
ومن تجليات الثقة المشتركة ، تطلبُ إليه العفو والغفران ، إذا كانت قد أساءت إليه ، وأن يتشفّع لها لدى الربّ ، وأن يذكرها وعائلتها في صلواتِهِ !
خاتمة : كتابٌ في أدب المناجاة تسقط فيه الحدود بين النثر والشعر !
في استعراضنا هذا المؤلَّف لاحظنا أنّ الكاتبة عمدت إلى تقطيع العبارات بشكل يُشبه أو يُحاكي قصيدة النثر ، فهل أرادت أن توحي إلينا بأنَّ ما حبَّره قلمها وما خرج من أعماق قلبها المجروح هو أقربُ إلى الشعر منه إلى النثر ؟! وهل أن أدب المناجاة ، الذي ينتمي إليه الكتاب ، يتطلَّب هذا النمط من الكتابة ؟
في إشارتنا إلى اللون الأدبي لهذا المؤلَّف ، لا بُدَّ من جلائه اصطلاحًا ، حيث يُختصُّ بالدعاء والتحدُّث مع الله . بيدَ أنّ هذا اللون الأدبي توسَّع ليشمل الأشخاص والأشياء المجرّدة والجماد ، وكلَّ ما يقع عليه البصر أو يخطر في البال.
وإيضاحًا : "ناجى فلانٌ فلانًا " ، أي سارَّهُ ، بما في قلبه ، أي (أفضى بما في قلبه ) من أسرار ومشاعر وخصَّهُ بالحديث .
انطلاقًا من هذا المعنى ، شديد الوضوح ، نرى أن المناجاة هي السمة الغالبة على الكتاب ، من بدايته وحتى آخر كلمة فيه ، وعَبْرَ مختلف المحطّات / النصوص ، كان للأديبة أبو حمد أن تتوجَّه بالكلام حصرًا إلى مثلّث الرحمات المطران بولس صليبا ، فغدا المحور والمرتكز ، بل الشخصية الأساسية والوحيدة لمطالعتها العابقة بوجدانيةٍ آسرة .
لقد كان لها أن تناجيه في جميع النصوص ، وتلجأ ، بعض حينٍ ، إلى حوارٍ افتراضي معه ، في زيارتها إلى الكنيسة ، حيث مكتبُهُ ، وإلى مثواه الأخير، مُترجِّحةً بين الحلم والحقيقة ! ولقد أبدعت في تنقُّلها ، أسلوبيًّا ، بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي . وهذا التنقُّل بين الأسلوبين ، من منظور علم البلاغة، يُضفي حيويّةً على التعبير ويبثُّهُ حياةً . فقد أكثرتْ من توسُّلها الاستفهام والاستفهام الإنكاري والتعجُّب والدعاء والرجاء .. وهي من الأساليب الإنشائية ، التي تُخرج الأسلوب السردي من نمطيتِه !
تأسيسًا على ما تقدّم ، نجرؤ فنقول إنَّ الكثير من نصوص هذا المؤلَّف ، بل مشهدياته الرائعة ، يترجَّح بين النثر الصِرف والشعر المنثور ، أو ما يُدعى قصيدة النثر !
هذا الأسلوب اختُصَّت به د. أبو حمد ، وتحديدًا في كتابها " بين رحيق الورود " ، الذي صدر مؤخّرًا ، وهو ينتمي إلى أدب الخواطر ، وتغلبُ عليه السِمة الوجدانية . وكذا الأمر في كتابنا هذا ، فهو يطفح وجدانية وحميميةً ، مُظهرًا البُعد الإنساني المرهف لدى أديبتنا .
وما يمنح الكتاب خاصِيَّةً متفرِّدة ،خروجُهُ على المؤلفات النمطية ، التي لا تأتي جديدًا ! فالأديبة أبو حمد وضعت بين أيدينا نصوصًا ، تُشبه إلى حد كبير، ما يتلوه المؤمنون في صلواتهم ! فهي نصوصٌ ملأى بالمحبة (الله محبّة) وسائر القيم الإنسانية السامية . وقد شفّت فيها عن إنسانية "رسالية " التوجُّه بل الالتزام، ملتزمة قيم الحق والخير والوفاء والإخلاص . بل شفّت عن إنسانةٍ مسيحيّة ، تذكّرنا بالمسيحيين الأوائل ، الذين عاشوا قيم المسيحية الحقّة . وقد كان مثالها الأعلى وقدوتها ، في هذا المجال ، ذلك المطران القديس ، الذي تحسبُهُ آتيًا ، من علٍ ، أو أنه مندوبٌ من سماء ، كما وصفه د. سليم صفير !
ولقد وفّق الشاعر المحامي د. مروان كسّاب ، باعتماده عنوانًا لافتًا في تقديمه هذا الكتاب: "مؤلَّفٌ يحملُ بين دفّتيهِ روح الأدب اللاهوتي ! " .
أجل ! استطاعت د. أبو حمد ، عبر هذا الكتاب ، أن تتعمّد ثانيةً ، إذا جاز القول ! .. هذا الكتاب الثرّ سوف تُؤجَرُ عليه ، لأنها شهدت شهادة الحقّ في إنسان إنسان ، قد لا تجود الأيام بمثلِه . بل إنّ هذا المؤلّف ، وقد كان سبيلَها إلى الله ، سيُسجَّل في كتاب حسناتها !
.. وهذا الكتاب لا يُقرأ قراءة عاديةً ومُتعجِّلة ، بل يُقرأ على إيقاع ضربات القلب ، لأنّه خارجٌ من أعماق القلب ! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق