رفضت المحكمة العليا الاسرائيلية، يوم الأربعاء الفائت، الالتماس الذي قدمة الحزب الشيوعي الاسرائيلي، في أعقاب رفض شرطة إسرائيل إصدار تصريحين للتظاهر في مدينتي أم الفحم وسخنين، ضد العدوان الاسرائيلي على غزة؛ وكتب القضاة الثلاثة قرارًا مؤلفًا من ثلاث عشرة صفحة بأسلوب ملتوٍ صيغ بكثير من الفذلكة القانونية الهشة والتغني الزائف بأهمية المحافظة على أسس الديمقراطية، وبمراوغة مستفزة جنّدوها لتبرير "اضطرارهم" دعم موقف الشرطة القاضي بمنع المواطنين العرب، في هذه الايام، من التعبير السلمي عن معارضتهم لسياسة الحكومة الاسرائيلية وعدوانها الشرس على المدنيين الأبرياء في مدن قطاع غزة.
وكان "عدالة - المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في اسرائيل" قد قدّم الالتماس يوم الإثنين الماضي باسم الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، اضافة لسكرتيري الحزب في مدينتي أم الفحم وسخنين، ومركز عدالة نفسه، الذي انضم كملتمس أمام المحكمة. وأتى الالتماس، كما ادّعى مركز عدالة، بعد أن رفضت الشرطة ترخيص المظاهرتين بمقتضى التعليمات المبدئية الشاملة، التي أصدرها مفتش الشرطة العام، القاضية بعدم اصدار تراخيص للوقفات الاحتجاجية والمظاهرات ضد الحرب على غزة. وجاء في الالتماس أن عدم السماح باقامة المظاهرات، في هذه الأيام، وقرار منعها في هذه الظروف، يمس عمليًا بحقوق المواطنين الأساسية وفي مقدمتها حرية التظاهر والتعبير. كما وتعتبر هذه السياسة الجديدة بمثابة وضع رقابة بوليسية لأسباب ايديولوجية سيكون المتضررين منها بالاساس هم المواطنون العرب.
لقد استعرض القضاة في قرارهم ما جاء في الالتماس والحجج التي سيقت ضده في رد الشرطة، لخّصها القاضي يتسحاك عميت، رئيس هيئة القضاة وكاتب متن القرار ، بسببين رئيسين: الأول، هو "وجود تخوف، يصل الى حالة اليقين، بأن المظاهرتين ستمسان بشكل خطير وجدّي "بالنظام العام". مع التأكيد على عدم وجود صلة بين منظمي المظاهرتين وسبب ذلك التخوف الموجود على خلفية التطورات الجارية وامكانية تأثرها من التداعيات الممكن حصولها خلال المسيرات او الاجتماعات الشعبية او المظاهرات الاحتجاجية. أما الحجة الثانية فكانت "القيود والضوابط على قدرات شرطة لواءي الشمال والشاطىء، وعدم استطاعتها توفير القوى البشرية الملائمة واتاحتها لمرافقة هذه النشاطات في المدينتين". لن أثقل على القراء بالتفاصيل القانونية كما وردت في أوراق المحكمة، ولكني أؤكد اننا بصدد قرار مؤسف وخطير، سيتحول سريعا الى الشاهد على قبر ما تبقى من حريات كانت متاحة للفلسطينيين مواطني الدولة اليهودية. اقول هذا بالرغم من تشديد القضاة على عدم وجود صلاحية لمفوض الشرطة العام بمنع المظاهرات السياسية بشكل مبدئي وشامل، كما تخوف "مركز عدالة" وتأكيدهم على أن حق التظاهر "لم يزل حقًا اساسيًا ولا يمكن الغاؤه الا في حالات استثنائية قصوى" ، كما كتبت القاضية روت رونين، أو كما كتبت زميلتها القاضية ياعيل فلنر: "هكذا لأسفنا هو واقع حالنا. فدولة اسرائيل تعيش احد اوقاتها الصعبة. فهي في حالة حرب موجعة. حالة تهزنا وتصيب، بصورة خطيرة، الجبهة الداخلية والجبهة الاخرى. وعليه، بالرغم من مكانة حق التظاهر المرموقة، فاننا نعيش واقعا معقدا من شأنه أن يؤثر على شكل التوازنات المطلوب احتسابها في هذه الحالة". كلمات من شأنها أن تشي من دون شك بما سيحدث قريبا؛ فعلى الرغم من تشديد المحكمة على ضرورة المحافظة على حق المواطنين بالتظاهر والاحتجاج، نراهم يؤكدون ان العبرة ستبقى معلقة في فهم موجبات ما أسموه قواعد "التوازنات" المطلوب اتباعها اذا تضارب عامل "الخوف من المس بالنظام العام" مع أي حرية أساسية للمواطنين، وهذا ليس مقصورا بالطبع على حق التظاهر اذا اعلنت الحكومة وشرطتها وجود حالة طواريء استثنائية، كالتي تعيشها البلاد اليوم.
لم أراهن، منذ البداية، على نزاهة ومهنية القضاة الثلاثة في هذه القضية. وقد يكون غيري قد فعل، لان القاضي عميت حُسب منذ بداية تعيينه في المحكمة العليا عام 2009، على المعسكر الليبرالي، ومثله عُدّت القاضية روت رونين، التي عينت في المحكمة العليا عام 2022 ، بعد معارضة شديدة اطلقتها محافل القوى والمجموعات اليمينية. ولم أتوقع ان يتحلى قضاتها، في أجواء التحريض السائدة في الدولة، بالشجاعة المطلوبة لافساح المجال لمواطني الدولة الفلسطينيين، ان يعبروا عن احتجاجهم على سياسة الحكومة، وتمكينهم من ان يصرخوا من اجل ايقاف هذا العدوان الدموي على غزة وضد ازهاق ارواح آلاف الضحايا البريئة. فمن يقرأ قرار المحكمة يشعر ان القضاة كانوا متنبهين لتداعيات قرارهم المحتملة وامكانيات تطبيقه في المستقبل على الجميع، لا على العرب وحسب، خاصة بوجود القاضية فلنر المحسوبة على معسكر "القضاة المحافظين"؛ فهم، لا يريدون من جهة، ان يقطعوا الطريق على المتظاهرين اليهود، يمينيين كانوا او لا، ويمنعوهم من ممارسة حقهم بالتظاهر في كل الظروف تقريبا، ولا يريدون، من الجهة الاخرى، ان يحتفظ المواطنون العرب في الدولة بهذا الحق في كل الظروف ؛ فالدولة، هكذا يشعر القضاة، كانت ديمقراطية ويهودية قبل تشريع "قانون القومية " وصارت بعده دولة "ديمقراطية" نبراسها الشريعة اليهودية. لقد وجد القاضي عميت، الذي ينتظر من حكومة نتنياهو ووزير عدله يريف ليفين تعيينه رئيسًا للمحكمة العليا، طريق "الفرار" الآمن من المعضلة التي واجهها وزميلتاه، فأسند قرارهم الرافض للالتماس على حجة الشرطة الثانية وهي قصورها في تأمين اعداد كافية من عناصرها لحماية المظاهرتين، فهذه الحجة تقنية وعارضة ويمكن تبريرها هذه المرة، بوجود حالة الحرب "واضطرار" الشرطة ابقاء عناصرها في الشوارع، من اجل حماية المواطنين ؛ ولكن لا يمكن الدفع بها كحجة مقبولة دومًا.
سوف تنتهي الحرب على غزة؛ وآمل ان يكون هذا سريعا؛ بيد ان اسرائيل لن تعود الى ما كانت عليه قبل السابع من اكتوبر. وقد يجبر نتنياهو على ترك منصبه أو قد يتنحّى، ولكن المجتمع الاسرائيلي لن يعود الى محاور النقاشات التي قسمته في الاشهر الثمانية الماضية، عموديا وافقيا ؛ فالخوف الذي تغلغل الى نفوس الاسرائيلين في السابع من اكتوبر سيبقى لسنوات قادمات هاجس اليهودي الاول والثاني، وسيكون تأثيره على اختياراتهم الحياتية أقوى من حاجتهم للتفكير في شؤون الديمقراطية ومساواة المواطنين العرب، كما كنا نتمنى. استفزني قرار المحكمة ونحن ما زلنا نمارس طقوس "خوفنا العاري وصمتنا المثالي" ونراجع دروس الحكمة في رحيل الرمل والمواعظ في القبور.
اخافني قرار ما يؤمن به العالم انها "محكمة العدل العليا"، أنا المدمن على الخسارة في سراديبها وأمام قضاتها ومنهم القاضي عميت وصحبه؛ فأنا أعرفهم جيدا وأعرف حدود عدلهم الذي يقف على همزة الأمن، لكنني، كالتائه في صحراء، كنت أحلم بعد سقوط كل قلاعه وخيامه، بخيط من ندى، وان يترك لنا من يعتبرون قضاة ليبراليين، ومنهم يتسحاق عميت وروت رونين، هامشا، ولو ضيقا، كي يتسع "لشهقاتنا" كلما امتلأت صدورنا عجزًا ويأسا، كما هي عليه في هذه الأيام. فهما يعرفان أن أصحاب الانقلاب القضائي، لولا الحرب على غزة، كانوا يعدون لهما ولزملائهما افظع "الولائم" وأوجع الهزائم.
لقد اغضبني قرارهم، واحسسته كآخر الطلقات التي صوبت نحو السراب الذي كنا نحمله في اكفنا ونبتعد معه، قبل سقوط جميع الاقنعة، عن فوهة الهاوية.
سوف تنتهي الحرب لا محالة؛ بيد أن اسرائيل لن تستعيد ثقتها إلا إذا هزمت في كل يوم عدو لها من جديد وتجشأت في الصباحات نصرها عليه؛ لن ينام الاسرائيليون بعد السابع من اكتوبر الا في خوذات جنودهم وتحت فوهات مدافعهم وستكون البنادق وسائدهم، ولن يأمنوا عتبات جيرانهم العرب بعد غزة، ولن يفتشوا عن سلامتهم إلا في تعاليم طروادة وفي غريزة العقرب.
سوف تنتهي الحرب على غزة، وسنعود، نحن الفلسطينيين في اسرائيل، الى حضن مواطنة جديدة سائلة مثل لعاب التائهين، وكسيحة كموجة اصطدمت بصخرة عالية. لقد اصيبت اسرائيل في السابع من اكتوبر بالصمم وبالعمى وبشهوة قاتلة لا يطفئها الا النار تنصب على نار. اننا نعيش في اسرائيل الاخرى، فهي ليست كتلك التي عرف اباؤنا حكمها العسكري، ولا هي التي عرفنا نحن ديمقراطيتها العرجاء. انها كيان مهزوز ويخاف من عنة قلم في يد طفل ومن تنفس زهرة في صباح كله فرح بعيد، من كبسة "لايك" ساهمة او قهقهة "تويترية" شاردة او سخافة" تيكتوكية"، أو من بقعة سوداء تتراقص على قميص معلق على خاصرة الريح.
انها ليست الدولة التي كانت تقاوم، قبل شهور، ارهاصات انقلاب يميني كاد ان يودي بروحها؛ فمن فيها بحاجة ، بعد كل هذا البارود، الى انقلاب، واكتوبر الماضي كان شهرا ولد به القضاء والقدر في حضنها، وصار الكلام فيها لغة تجيدها الدبابات وحسب، وترسمه الطائرات اعمدة من برق وعصافير من رصاص وغبار.
كم كنت اتمنى لو فهم قضاة المحكمة العليا اننا كنا نتوجه اليهم وما زلنا لاننا نريد ان نكون أسرابًا من مواطنين مسالمين تريد ان تسكن اعشاشها بأمن وبسلام، أو ربما، حسب فقه المجتمع الاسرائيلي الجديد، " قطعانًا بشرية" في وطنهم. كنا بحاجة الى محكمتهم لا بسبب عدلها معنا ، فهذا لم يكن أصلا، بل لنمارس مواطنتنا ونطالب بحقوقنا، وصرنا اليوم بحاجة اكبر اليها. اننا قوم أبناء أمسنا ونعرف الفرق بين لسعة السيف وحرقة الصيف، ونجيد التمتمة حتى من دون راع نهتدي بعصاه وبقوسه، ونخشى النوم كي لا نحلم بالخوف، ولا نسمح لأطفالنا أن يرسموا اشكال السفن والطائرات لاننا نكره الهجرة والمنفى.
ستنتهي الحرب على غزة قريبا؛ واخشى ان تعلنها علينا اسرائيل المجنونة قريبا أو "سرايا داهودها وكتائب هنيبعل". سنعيش في كيان ليس فيه أي كوابح ولا قيود فعلينا قبل الصبح ان نجترح الوسائل لمواجهة الآتي بحكمة، وأن نفتش على صحيح البدائل، كيلا يصيبنا ما أصاب الأوائل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق