مِن قُـرانَـا/ محمود شباط

 


كما في بداية كل خريف في قرية عين الصقر، تشْرعُ سماؤها بخلع بعضاً من صفائها الأزرق الجميل، وارتداء كُـتَـلَ غُيومٍ عائمة بسكينة عابر سبيل حزين نحو الشمال، بينما تبدأ طيور أيلول بعبور سمائها صوب الجنوب.  

جارة القمر هو اللقب الأشهر المُحَبَّب لتلك القرية المميزة بارتفاع منسوبها عن سطح البحر، وبطيب مناخها وجودة معدن أهلها، وصحة أبدانهم وجهورية أصواتهم.

كما كل القرى العالية الباردة، يلجأ الأهالي إلى احتطاب جذوع الشجرمن الأحراج المجاورة كي يتقوا لسعَ موجات صقيع الشتاء.

 ذات بعد ظهر يوم بارد، كانت الريح تصهل بجموح، يُمنى تشرين تعبث بأغصان الشجر و أماليد الورد، بينما يسراه تبعثر الورق الأصفرعلى الطرقات وزوايا الزواريب وقواعد عواميد الكهرباء، كان أبو مرهج ينقل حملا من الحطب على دابّـته من الحرج إلى منزله. رآه زيدان فهُرِعَ من فوره لإبلاغ المآمير بأن أبا مرهج اقتطع حطبا من الأحراج. تظاهر الأخير بأنه لم يدرك وجود زيدان في الجوار، ولكنه أدرك بحدسه الفطري بأنه سيشي به كما هو معروف عنه.

ما إن وصل أبو مرهج إلى بيته حتى طلب من زوجته أن تسرع بمساعدته لإدخال جذوع الحطب الثخينة المحظور قطعها وترك بعضاً من الشعافير اليابسة المسموح باحتطابها خارجاً لتضليل المآمير. سَـألَـتْـهُ والشكوك تراودها عن سبب طلبه، وفيما إذا رآه أحد الوشاة، ومن هو ذلك الواشي الخسيس "المَحروق الملعون أبو لحية بيُّو". ولكن أبا مرهج بقي معتصماً بالصمت. كَرَّرَت الزوجة استفسارها فكان يُكرّر صمته بدافع من نقاء معدنه ونفوره من الشر والأذى.

لم تَطُلْ حيرة الزوجة حيث تحقَّق نصف هاجسها حين جاء مأموران وسألا أبا مرهج: هل جلبت حطباً من الحرج؟

- إي نعم! جـبـتْ هَالـشّْـوَيّْ ( وأشار بيده إلى الشعافير).

غادر المأموران دون اتخاذ إيّ إجراء بحق إبي مرهج، ولكن ذكاء الزوجة الأمِّـيّـة ظلَّ يُـلِحُّ عليها لمعرفةِ نصف الهاجسِ الآخر: من هو الواشي ؟ وفي بالها زيدان "ما غيرو" .

وما هي إلا دقائق حتى جاء جارهما فقررت الاستعانة به لِـفَـكِّ لَغْـزِ هُويّةِ الوَاشي فطلبت منه هَمساً أن يقولَ لأبي مرهج بصوتٍ عال:

- يلعن لحية زيدان الواطي على "هالعَمْلِه الواطيه" .

نقز أبو مرهج وأبعد "مصاصة قرعة المتة" عن فمه، ثم ابتسمت عيناه قبل شفتيه بطيب فابتسمت "المُحَقِّـقَـةُ" الذكية بدهاءٍ، وارتاحت لكشفها الحقيقة دونما حاجة للقراءة والكتابة ، ولا لإجازة الحقوق.

هناك 3 تعليقات:

  1. قصة خيالها واقع جميل
    تذكرنا بايام الخير نتمنا ان تعود .
    رغم الحداثة تبقى بالنسبة لنا هي الاجمل
    دام عطائك خيي محمود

    ردحذف
  2. كل محبتي وتقديري أخي شربل

    ردحذف