جدلية الحياة والموت في لقطة مشهدية فرًت من شاشة أو واقعة هنا أوهناك.واقتنصها قلم الكاتب "جورج عازار"
عندما تريد أن تأخذ لك هدنة كي تسترجع انفاسك وتصفًي ذهنك من شبح الدًماء والموت والرصاص تعرض على الشاشات كل لحظة، بقراءة قصة الكاتب جورج عازار لتكون فاتحتها "الارغفة الساخنة" الشهية. فثق إنً الدائرة ستنغلق من جديد وتعيدك إلى نقطة الانطلاق دون انفراج ولو مشروط.
_عتبة العنوان : "إنًي اخترتك يا وطني"
إنً المتأمًل في العنوان وقبل أن يغوص في القصة سيقف عند الدال كتركيب اسنادي ليكتشف المدلول المقصود المبرًر للاحداث .
جاء العنوان جملة اسمية خبريًة مؤكًدة بأداة التًأكيد "إنً" ليكون الضمير المتًصل الدًالّ على المتكلم المفرد المتصل بالإرادة اتًصالا مباشرا وثيقا ، والخبر جملة فعلية فعلها منقض تامً في الزمان الماضي "اخترت" والزيادة في الفعل إفادت التلقائية في القيام بالفعل دون إجبار ولا إكراه . اختيار يرتقي إلى القرار الذاتي بدلالة ضمير المتكلم المفرد الواقع فاعلا" ت" والمفعول به سيكون في تركيب بدلي دالً على الكلً لا الجزء . ليرتقي المخاطب بدلالة "الكاف ضمير النصب " والخاصة عادة بمن نبني معه خطابا عاقلا ليكون التأكيد على الشخصنة للتعظيم بجملة النداء المختزلة "يا وطني" بحرف النداء دخلت المنادية في ثنائية القرب والبعد .فوطنها قريب مادامت حية وسيظل قريبا وان "ابتعدت"
والوطن بمفهومه الدلالي المرجعي هو المكان الذي يرتبط به الإنسان كفرد والشعب كمجموعة ارتباطا تاريخيا طويلا وبه تصنًف هوية المجتمع ككتلة تجمع بينها عدة مقومات داخل حيز مكاني معين.. غير أن القرب منه سبكتمل حدً التًملًك ب "ي" المتكلًم .
العنوان حدًد التيمة والقصًة ستكشف دواعي الاختيار ومظاهره وأهدافه.من صاحبة قرار وراو عليم متعجًل لتبرير الخبر وفكً رموزه .
تستهلً القصًة بخبر ابتدائيً منقضية كينونته في الزًمان الماضي بمسند اليه يمثًل الحدً الأدنى لضمان استمرار الحياة "ب الأرغفة الساخنة" مركب نعتي معرًف ، والتعريف للتًثمين والابراز غير أن النعت "الساخنة"لا يتلاءم مع" الراحتين الصغيرتين" .وضعية أشًرت على بداية التًوتًر والشروع في البناء الدرامي الذي ستتداعى عنه أحداث وأفعال تؤثًث التأزم في الخبر الذي دبًت فيه العرقلة جراء التًقابل بين "السًاخنة " و"الرّاحتين الصغيرتين"
والكاتب وان اعتمد السرد الخطي في تصوير مشهدي للقطة بات المتلقي يتمنى رؤيتها في وطن الطفلة "طفلة تحمل الخبز" فإنً تقنية الاستدراك في حالتين متلاحقتين مثلتا حلولا ظرفية لإنجاح مهمة إيصال الارغفة إلى الأفواه الجائعة في البيت "ولكن بلا جدوى" ثمً "لكن البرد" واذا كان التأزم المتلاحق جراء عوامل طبيعية عادية الطفله فيها مسيرة مجبرة رغم أن السارد العليم اعتمد الحواس ونقل ما يجول في الباطن وما يصير في الظاهر فإن الاختيار التلقائي هو الذي سيمثل الحدث القادح الذي سار به الكاتب باعتماد أفعال منقضية مسترسلة "نظرت...همست .نقدت...فمضت ." والكاتب ودون أن يعطل السرد نجده بترتيب مؤثًثات المكان قد صور للمتلقي مسرح الأحداث بكاميرا مركونة في زاوية تشرف على المخبزة والحانوت الذي يقابله الجدار وبينها تدب الطفلة وارغقة الخبز ملفوفة في معطفها لتدخل في صراع حسًي مع البرد الذي ينضمً لمكوًنات التًأذًي المتربًصة بها لكن باختيارها ومحض إرادتها. والجدار عنصر مساعد على كشف ما سبق باعتماد تقنية الاسترجاع "استشهاد الاب "
لتكون الأسبقية التراكميّة لاندلاع الحرب وتحديد الزمان سيكون بدلالة تبريرية لعدم تفاجؤ الطفلة بطلقات الرصاص .. رائحة البارود ...ملامح الموت .سجل في تقابل كلي مع هدوء طفلة صغيرة لا تخاف الموت بسبب حدث تزامن مع قرار ولدته الالفة والتعود "عندما سقط ابوها قتيلا" والدلالة ليست الموت بل بمدلول الجريمة والتعدي ...جريمة لن تكون لها رادعة بل جعلتها تستحسن الوضعية بتصنيف دلالي من القرآن الكريم" أحياء عند ربًهم..." بل إن الحدث الماساويً أخذ بعدا سلوكيا اخلاقيًا مصيريًا هو اقرب إلى الاختيار " لم تر فيها "الموت" بل" الصًمت" وحرف الاستئناف اثبت النفي واستحضر البديل المطمئن مع جناس لفظي غير تام دل على الجزء لأن "الموت" يؤدي إلى "الصمت" لكن" الصمت" لا يؤدي الى" الموت" .إذن فالنتيجة مرجوة مشتهاة كقرار مبعثه قوًة الايمان بما بعد النهاية .
من هذا المنطلق لم تكن الطفلة تهاب الموت بسبب التعود على ضجيج الحرب "أزيز.. رائحة..."حواس تتفاعل مع الإطار التفجعي للمتلقي البعيد عن وطن البطلة .
وامعانا في تشويق القارئ فإن الكاتب يوهم القارئ بهدوء مغشوش تكفلت به أفعال البطلة في سرد خطي مستمر .
ليكون البناء الكاريكاتوري المشهديً " جنود مدجًجون بالسًلاح في حالة هستيرية يطاردون شابا أعزل يترجم عنها ما تلقًطه سمع الطفلة "احذر...انتبه..."اختباء.. انبطاح...ذل .." لتكون نقطة الفصل بين الحياة والموت أزيز الرصاص كل هذا و"فرح" والتي لم يفصح الكاتب عن اسمها الا في هذا المستوى وكأنه وان لم يعكس وضعية الطفلة التي تقع تحت وطأة العنف المسلًط على الحواسً "سخونة الارغفة أزيز الرًصاص...رائحة البارود" فإن الفرح ليس إلا علامة فارقة تبشًر ب" أحياء عند ربًهم يرزقون" وهي تأشيرة الخلود .ليعود الهدوء الكامن في باطن الشخصية بدلالة حركاتها من جديد "تابعت فرح الكتابة..." "فاعلت" في تدرج تلقائي طبيعي للفعل . يا وطن' نداء والمنادى ظل إلى هذه النقطة من التأزم نكرة لتدخل في صراع ثلاثيً بزوايا حادة مستعجلة هي الرغبة في إتمام المشروع الابدي الذي خلدت به " استشهاد الاب" ووثقت به عقد الاختيار ثم الإصابة التي وان عرقلت المشروع فإن الحلً وسدً النًقص سيكون من ذات الشخصية, بسبًابتها ودمائها .والأهم هو نسبة الوطن إلى المنادية"ني" لتجعل من الاختيار "اني اخترتك يا وطني" حكمة ومثلا بل قرارا وعقدا برمزية الاحتواء بما بين حرفي البداية والنهاية في قرار الفصل بين الحياة والموت . ففي موتها حياة مع الصمت وفي حياتهم موت مع الازيز والضجيج..
والنقص لم يكن باختراق الرصاصة صدرها من الخلف علامة الغدر والظلم وانما في سقوط قطعة الطباشير وعدم إنهاء بنود العقد، ليكون الاستدراك مرة أخرى ليغلّب الإرادة على الالم والوجع والموت "غمست سبابتها في الدًماء..وكتبت....ليكون الاستئناف بالتراخي "ثمً تكوًمت..." لتصمت وهي حية عند ربها ترزق" مثلما تكوًم الشاب والاب وغيرهما .
اجيال متلاحقة تلقى نفس المصير .هي بعض من كل .هي تجربة تعاد وتتكرر حتى صارت مألوفة عادية .لكن الكاتب وليؤكّد على إنً الحياة تستمر ولن يفنى الشعب وسيحيا رغم المحن فإن النهاية كانت بالارغفة الساخنة التي ستنضمً إلى البطلة وستدفئ جسمها البارد في تجانس تام مع مشروع التضحية "تغمًس بالدًم القاني.." بعد أن تحرًرت من المعطف .
صورة أو هي لقطة من لقطات سيميائية قديمة قدم الإنسان تذكر يقابيل وهابيل وما تعودنا مشاهدة أمثلة منها لحروب نشاهدها يوميا دون توقف لا تخمد حرب الا لتندلع أخرى مضرجة بالظلم والجرم الفظيع في حقً طفولة لن تكبر أبدا ولن تحيا الا صمتا يبتدئ ساعة فصل بين ما كان وما سيكون.
قصة من وحي الساعة جعل الكاتب الطفولة هي المهددة والأرغفة الملطخة بالدماء تحيل على الرًضيع ياكل الاعشاب الطفيلية اليابسة المتربة ، يقضمها بلهفة الجائع يسكت أزيز أمعاء خاوية في تحدً للانسانيًة المحتضرة على شاشات تستانس بهذه الفظائع وتحقًق بها نسب مشاهدة مرتفعة
قصة غاص فيها المؤلف في وجع الوطن المحتل من خلال تتبّع مسيرة عفويًة لطفلة تحمل الارغفة الساخنة وتناجي وطنها كي تحيا فيه بعد أن تصمت.
حبيبة المحرزي
تونس
القصة القصيرة
"إني اخترتك يا وطني"
كانت الأرغفة الساخنة تلفع راحتيها الصغيرتين وهي عائدة من مخبز الحي، حاولت أن تُنقِّل الأرغفة من يدٍ إلى أخرى، لعلّها تحظى بفترةٍ قليلة من الراحة، ولكن بلا جدوى فالبخار الحار المتصاعد من الخبز الساخن يحرق راحتيها، وعندما يئست هداها تفكيرها إلى أن تخلع معطفها، وأن تحمل الأرغفة فوقه، فحلت المشكلة، ولكنَّ البرد بدأ يتسلل إلى جسدها الغضِّ رويداً رويداً.
نظرت إلى القروش القليلة التي تبقت بعد أن دفعت ثمن الخبز، ثم دخلت إلى دكان الحي، ونقدته تلك القروش، وهمست: أريد لوحاً من الطباشير، أعطاها ما طلبت، فمضت إلى الجدار المقابل، رسمت عليه شكل رجل وكتبت بجانبه بابا، ثم بدأت تكتب حرف الألف ثم تتالت الحروف" انّي اخترتك".
سمعت أصوات طلقاتٍ في الجوار، ولكنَّها ومنذ زمنٍ بعيدٍ لم تعد تكترث لتلك الأصوات، فبعد خمس سنوات من الحرب اعتادت أزيز الرصاص، واستنشقت رائحة البارود، وحتى ملامح الموت خَبِرَتْها عندما سقط أبيها قتيلاً قبل ثلاث سنوات، وحينها نظرت إلى عينينه الجامدتين، وأدركت أنَّ الموت ما هو سوى اختيارٌ للصمت فحسب.
سمعت جلبةً خلفها كان بعض الجنود في حالةٍ هستيريةٍ قال أحدهم لزميله: اِحذر إنَّهُ هناك مختبئ ٌخلف النافذة انتبه، ثم مرَّت رصاصة بينهما فانبطحا تحت السَّاتر الترابي.
تابعت فرح الكتابة "يا وطن" وكانت تهمُّ باستكمال الجملة بحرف الياء، لأنها تعرف أنَّ الحكاية تبدأ دوماً من الألف وتنتهي حتماً بحرف الياء، وبين الألف والياء تموت كلّ الأشياء وبينهما تحيا.
تعالى صوت الرصاصة التي سمعتها وهي تخترق ظهرها وتطيح بقطعة الطباشير من بين أصابعها الصغيرة، خَرَّت على ركبتيها، كانت تتألمُ بشدةٍ، ولكنَّها أرادت رسم الحرف الأخيرالمتبقي، حاولت أن تزحف نحو قطعة الطباشير لتجلبها فلم تتمكن من ذلك، كانت قطراتٌ غزيرةٌ قد أخذت تتجمَّع على الرصيف، غمست سبابتها في إحدى قطرات الدَّم، وكتبت حرف الياء، ثم تكوَّمت بلا حراكٍ فوق الرصيف.
تحررت أرغفة الخبز من معطفها وهي تهوي أرضاً، وتَعَمَّدتْ بلونِ الدَّم القاني وأخذت تُدفئُ جسدَها البارد مرةً أُخرى.
جورج عازار ستوكهولم- السويد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق