رؤى النّاقد والأكاديمي العراقي الدُّكتور حاتم الصكر خلَّاقة يستذكر الشّاعر الأردني الرّاحل أمجد ناصر بمناسبة الذّكرى الرَّابعة لرحيله/ صبري يوسف




النّاقد والكاتب الأكاديمي العراقي الدُّكتور حاتم الصكر، شخصيّة أدبيّة نقديّة عميقة في رؤاه التَّنويريّة وتحاليله وكتاباته الّتي حقَّقتْ حضوراً متميِّزاً في بحوثِهِ النّقديّةِ المتعدِّدةِ في فضاءِ الأدبِ الحديثِ والمعاصرِ، ولَهُ باعٌ كبيرٌ في فضاءِ الصَّحافةِ، فقد أشرفَ على الصَّفحات الثَّقافيّةِ كرئيسِ تحريرِ مجلَّةِ الأقلامِ في بغدادَ فترةً مِنَ الزَّمَنِ واشتغلَ في تدريسِ الأدبِ والنّقدِ في الجامعةِ المستنصريّةِ، وفي قسمِ التّربيةِ الفنّيّةِ بأكاديميّةِ الفنونِ الجميلةِ في بغدادَ، وأستاذاً للنقدِ والأدبِ الحديثِ في جامعةِ صنعاءَ، وتوغَّلَ عميقاً في تقديمِ محاضراتٍ حولَ أدبِ المرأةِ في مركزِ الدِّراساتِ النّسويّةِ في صنعاءَ. ثمَّ وجَّه أنظارهُ نحوَ مدينةِ ناشفيل، ولاية تينيسي في الولاياتِ المتّحدةِ منذُ نيسانَ/ أبريل 2011 كي يتفرّغَ للكتابةِ الإبداعيّةِ ويحصُدَ ما يراهُ مُعشَّشاً في آفاقِهِ الخلّاقةِ. توجَّهَ في بداياتِهِ الأدبيّةِ إلى كتابةِ الشِّعرِ، وتوقَّفَ مليَّاً عندَ الحداثةِ الشِّعريّةِ، كتبَ شعرَ التَّفعيلةِ، وحلَّقَ أيضاً في فضاءِ قصيدةِ النَّثرِ لِمَا فيها مِنَ حرّيّةٍ في التَّحليقاتِ والتَّدفُّقاتِ الشِّعريّةِ، وأصدرَ أربعةَ دواوينَ شعريّةٍ، لكنَّ انشغالَهُ واشتغالَهُ في فضاءِ الكتابةِ النَّقديّةِ، أبعدَهُ رويداً رويداً عَنْ آفاقِ القصيدةِ والشِّعرِ، مُركِّزاً على تحليلِ النُّصوصِ الشِّعريَّةِ، بكلِّ ما تتضمَّنُ مِنْ دلالاتٍ وترميزاتٍ في فضاءِ القصائدِ الَّتي يُحلِّلُها.  انطلقَ النَّاقدُ الصكر بأوَّلِ كتابٍ نقديٍّ لَهُ بتقديمِ دراسةٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ عميقةٍ بعنوانِ: "الأصابعُ في موقدِ الشِّعرِ.. مقدِّماتٌ مقترحةٌ لقراءَةِ القصيدةِ"، مُلخِّصَاً رؤيتَهُ النّقديّةَ لآفاقِ الشِّعرِ، ثمَّ تلاهُ كتابُ: "الثَّمرةُ المحرّمةُ"، متوغِّلاً في فضاءَاتِ قصيدةِ النَّثرِ، محلِّلاً جمالياتِها وبناءَها الفنِّي، وقدَّمَ العديدَ مِنَ الشُّعراءِ الَّذينَ كتبوا قصيدةَ النَّثرِ، وحلَّلَ قصائدَهم بعمقٍ، بما يتعلَّقُ بوهْجِ الطَّاقةِ السَّرديَّةِ والتَّكثيفِ الشِّعري، والجمالِ الفنِّي والإيقاعِ الشِّعريِّ، وقدَّمَ دراساتٍ نقديَّةً عديدةً حولَ قصيدةِ النَّثرِ منها: "حُلْمُ الفَراشةِ؛ الإيقاعُ والخصائصُ النَّصيّةُ في قصيدةِ النَّثرِ"، و"في غيبوبةِ الذِّكرى–دراسات في قصيدةِ الحداثةِ"، و" قصيدةُ النَّثرِ في اليمنِ-  مقدِّمة ومختارات ــ سلسلةُ دراساتٍ"، و" الجُرمُ والمجرّةُ ــ حولَ التَّحديثِ في الشِّعرِ الأردنيِّ المعاصرِ"، ويعتبرُ النَّاقدُ حاتم الصكر مِنَ النُّقَّادِ البارزينَ في دراساتِهِ النَّقديّةِ في فضاءِ قصيدةِ النَّثرِ والحداثةِ والأدبِ المعاصرِ، ويرى أنَّ "قصيدةَ النَّثرِ ثمرةُ شجرةِ الحداثةِ الشِّعريّةِ"، وقَدْ أصدرَ العديدَ مِنَ الكتبِ النَّقديّةِ تمحورَتْ حولَ الحداثةِ الشِّعريّةِ وقدَّمَ دراساتٍ معمَّقةً حولَ التُّراثِ الشِّعري وتحليلِهِ بأساليبَ عميقةٍ، ومناهجَ مُعاصرةٍ. 

وركَّزَ على الكتابةِ السِّير ذاتيّة، وأصدرَ في هذا السِّياقِ عدةَ كتبٍ منها: "البوحُ والتَّرميزُ القهري - دراساتٌ في الكتابةِ السِّير ذاتيّةِ"، ولهذا الجنسِ الأدبي أهمّيّةٌ في الدِّراساتِ النّقديّةِ، وأصدرَ كتاباً آخرَ: "أقنعةُ السِّيرةِ وتجلِّياتُها- البوحُ والتَّرميزُ في الكتابةِ السِّير ذاتيّة"، وحلَّلَ عوالمَ الكتّابِ الَّذينَ استوحوا فضاءَاتِ إبداعِهم مِنْ 

وحي سيرتِهم الذَّاتيّة في الكثيرِ مِنْ تجلِّياتِهم، ونالَ جائزة الإبداع الثّقافي مِنْ قبلِ وزارةِ الثّقافةِ العراقيّةِ. 

وقفَ بكلِّ صَلابةٍ وتَحليلٍ ليتناولَ عبرَ دراساتِهِ التَّحليليّةِ وبحوثِهِ النَّقديَّةِ تجربةَ شعراءِ السَّبعينيّاتِ وقدَّمَ دراساتِهِ تحتَ عنوانِ: "مواجهات الصَّوت القادم"، نابشاً بتمحيصٍ دقيقٍ هذهِ المرحلةَ مِنَ التَّجاربِ الشِّعريّةِ آنذاكَ، ثمَّ راحَ يكتُبُ "الشِّعر والتَوصيل ــ سلسلة الموسوعة الصَّغيرة"، مبيّناً ما يمكنُ أنْ يقدِّمَه ُالشِّعرُ عبرَ فضاءَاتِ القصيدةِ، يحلِّلُ ويفنّدُ القصيدةَ برؤيةٍ حداثويةٍ معاصرةٍ، مُعتبراً القصيدةَ في حالةِ نموٍّ دائمٍ نحوَ فضاءَاتٍ جديدةٍ مثلَ تجدُّدِ كافَّةِ أنواعِ الفنونِ والأدبِ والفكرِ والموسيقى والحياةِ، لهذا نراهُ يكتبُ "المقتربات اللِّسانيّة والشِّعريّة"، مُنطلقاً مِنْ رؤاهُ العميقةِ في مجاهيلِ وعوالمِ اللُّغةِ والقصيدةِ، كي يقدِّمَ لنا مقارباتٍ رصينةً متوازيةً مَعَ مستجدَّاتِ تطوُّراتِ العصرِ، لأنَّ النَّقدَ عندَهُ طاقةٌ تأمُّلاتيّةٌ للغوصِ في بواطنِ النَّصِّ، ومَبعثُ النَّصِّ هو الذَّاتُ الشَّاعرةُ، وهذا ما قادَهُ إلى رصدِ بحوثِهِ وتحاليلِهِ ومقارباتِهِ لتقديمِ "دراسات في واقعيّةِ الشِّعرِ – كتابةُ الذّاتِ" وكأنَّهُ في سياقِ استبطانِ ما يموجُ في أعماقِ الشَّاعرِ فيحلِّلُ هواجسَ الذَّاتِ وتطلُّعاتِها، رابطاً انبثاقَ وقائعِ الشِّعرِ بمرامي الذَّاتِ الَّتي تشكِّلُ القصيدةَ، وكلُّ هذا الغوصِ ناجمٌ عَنْ استحداثِ رؤيةٍ نقديّةٍ عميقةٍ مواكبةٍ لمستجداتِ الإبداعِ على الدَّوامِ. 


ينظرُ النَّاقدُ حاتم الصَّكر إلى الأدبِ نظرةً حصيفةً فيها عمقٌ كبيرٌ نحوَ فضاءِ المعاصرةِ والتَّجديدِ، فقَدْ كتبَ: "البئرُ والعسلُ: قراءَاتٌ معاصرةٌ في نصوصٍ"، و "ترويضُ النَّصِّ: تحليلُ النَّصِّ الشِّعري في النَّقدِ العربي المعاصرِ"، و "مرايا نرسيس: قصيدةُ السَّردِ الحديثةُ في الشِّعر المعاصرِ"، وكلُّ إصدارٍ مِنْ هذهِ الإصداراتِ جاءَ في عدَّةِ طبعاتٍ، دليلُ أهمّيّةِ ما حلَّلَهُ في متونِ هذهِ الكتبِ الَّتي غدَتْ مرجعاً في القراءَاتِ والتَّحاليلِ الحديثةِ المعاصرةِ، ولَمْ يكتفِ بالقراءةِ الأدبيّةِ للنصوصِ المعاصرةِ، بَلْ راحَ يحلِّلُ التَّشكيلَ العربيَّ المعاصرَ، ووقفَ عندَ التَّشكيلِ الفنِّي المتفرِّدِ في عطاءَاتِهِ وتجدُّدِهِ ولديهِ دراسةٌ موسّعةُ بعنوانِ: " المرئي والمكتوب: دراساتٌ في التَّشكيلِ العربيِّ المعاصرِ"، وكتابٌ آخرُ: " أقوالُ النُّورِ– قراءَاتٌ بصريّةٌ في التَّشكيلِ المعاصرِ"، ماذا يعني بالمرئي والمكتوبِ؟ هَلِ المرئي هو التَّشكيلُ اللَّوني، الفنُّ، الرَّسمُ، العملُ الفنِّي، والمكتوبُ هَلْ هو نفسُهُ التَّشكيلُ عبر ترميزاتِهِ أمْ يقصدُ مقاربةً بينَ المرئي والمكتوبِ أي بين اللَّونِ ــ التَّشكيلِ والكتابةِ، ويطرحُ تساؤلاتٍ عميقةً في تحاليلِهِ، وأمَّا في كتابِ أقوالِ النُّورِ، فيرى التَّشكيلَ بمثابةِ النُّورِ الَّذي يقودُنا إلى الضِّياءِ والسُّطوعِ عبرَ وهْجِ التَّشكيلِ الفنِّي، وكتبَ كتاباً فيهِ شاعريّةٌ عاليةٌ، قائلاً عبرَ عنوانِ الكتابِ: "كُنْ شاسعاً كالهواءِ ــ قراءة في دفاترِ الفنَّانِ غسان غائب"، فهو يطلبُ مِنَ الفنَّانِ غسان غائب أنْ يكونَ شاسعاً كالهواءِ وكأنَّهُ يرى الفنَّان والفنَّانينَ بمثابةِ فضاءٍ مفتوحٍ وشاسعٍ على فضاءِ الكونِ مثلَ الهواءِ المُنسابِ على وجهِ الدُّنيا! وقدَّمَ دراسةً ومختاراتٍ تحتَ عنوان: " انفجار الصَّمت ــ الكتابة النَّسويّة في اليمن"، حيث وجدَ في الأدبِ النّسويِّ أو مَنْ تكتبُ الأدبَ مِنَ النِّساءِ، رؤيةً جديدةً مِنَ المرأةِ، تطالبُ بحقوقِها، ومساواتِها مَعَ الرَّجلِ، بعدَ صَمْتٍ طويلٍ، وهذه الرُّؤيةُ بذرةُ تحريرِ المرأةِ والدِّفاع عنها عبرَ كتاباتِها ومَنْ يناصرُ تحرُّرها مِنْ الرِّجالِ!

النّاقد حاتم الصكر ناقدٌ متجدِّدٌ وعميقُ الرُّؤيةِ والبحثِ والتَّحليلِ، فلا  يتوقَّفُ عندَ مدرسةٍ  نقديّةٍ  معيَّنةٍ، بَلْ 

يذهبُ برؤاهُ إلى مِساحاتٍ نقديّةٍ أعمقَ ممَّا قرأهُ في المدارسِ النَّقديّةِ، ولديهِ اجتهادٌ في التَّحليلِ النَّقديِّ ولا يجدُ غضاضةً مِنْ نقدِ النَّقدِ، ولديهِ كتابٌ نقديٌّ يحملُ عنوانَ: "نقد الحداثة- قراءات استعاديّة في الخطابِ النَّقدي المعاصر وتنويعاته المعاصرة"، يقدّمُ عبرَهُ وجهاتِ نظرِهِ النَّقديّةَ في الحداثةِ وما بعدَ الحداثةِ وفي الكثيرِ مِنْ آفاقِ النَّقدِ، حيثُ ينظرُ إلى المدارسِ النَّقديّةِ مِنْ وجهاتِ نظرٍ نقديَّةٍ جديدةٍ وعميقةٍ، وقَدْ أصدرَ كتاباً بعنوان: "تنصيصُ الآخرِ ــ المثاقفةُ الشِّعريّةُ والمنهجُ ونقدُ النَّقدِ"، وبهذا يكونُ النّاقدُ الصكر ناقداً للنقدِ نفسِهِ ولرأي ووجهات نظرِ النقّادِ في بعضِ الوجوهِ أيضاً، وكأنَّهُ يرى أنَّ النَّقدَ يحتاجُ إلى رؤيةٍ نقديّةٍ كي ينقدَ الكثيرَ مِنَ الآفاقِ والمناهجِ النَّقديّةِ ويقدِّمَ نقداً متجدِّداً، فهَلْ يريدُ تطويرَ وتنويرَ النَّقدِ السَّائدِ بنقدٍ أكثرَ تنوُّراً وتطوُّراً وحداثةً وتناغماً مِمّا هو سائدٌ الآنَ، وكلُّ هذا يقودُنا إلى أنَّ النَّاقدَ حاتم الصّكر يحملُ رؤيةً نقديّةً رصينةً متجدِّدةً على الدَّوامِ، إلى درجةِ أنَّهُ يقدِّم رؤيةً نقديةً للنقدِ نفسِه، فلا يرى أيَّ شيءٍ ثابتاً، فكلُّ رؤيةٍ نقديَّةٍ قابلة للتطويرِ والتَّنويرِ، وهذا ما قادَهُ إلى الوقوف عندَ منهجِ التَّأويلِ، محلِّلاً ومفنِّداً آفاقَ التَّأويلِ مِنْ عدَّةِ جهاتِ، وقَدْ قسَّمَ التَّأويلَ إلى عدّةِ أنماطٍ مِنَ التَّأويلِ، منها على سبيلِ المثالِ: التَّأويلُ المغلوطُ، وتأويلُ معنى المعنى، والتَّأويلُ التَّكفيري، والتّأويلُ الدَّاخلي، والتَّأويل التَّخلُّصي، والتَّأويلُ الضَّال، والتَّأويلُ الإيديولوجي، والتَّأويلُ الدِّيني، والتَّأويلُ المفرطُ، والتَّأويلُ الوظيفي، والتَّأويلُ القانوني، والتَّأويلُ الجمعي، وهو رغمَ تقسيمِهِ لكلِّ هذهِ الأنماطِ مِنَ التَّأويلاتِ، يرفضُ التَّأويلَ النِّهائي، لأنَّهُ يرى التَّأويلَ قابلاً للمزيدِ مِنَ التَّحاليلِ والتَّأويلاتِ، وهذا ما جعلَهُ يطرحُ رؤيةً مفادُها تأويلُ التَّأويلِ، كما سبقَ وطرحَ نقدَ النَّقدِ أيضاً!

***


الكتابةُ صداقةٌ عميقةٌ مَعَ الحياةِ، مَعَ الذَّاتِ المتعانقةِ مَعَ هدوءِ اللَّيلِ، مَعَ الطَّبيعةِ المسربلةِ بأسرارِ تجلِّياتِ مُهجةِ الرُّوحِ، مَعَ شهقةِ الوجودِ الموشومةِ فوقَ خدودِ الصَّباحِ، مَعَ أصدقاءٍ مِنْ عذوبةِ اخضرارِ الكونِ، مَعَ أحلامٍ مجنّحةٍ إلى أقاصي السَّماءِ، مَعَ تغاريدِ البلابلِ وهديلِ اليمامِ ورفرفاتِ أسرابِ الطُّيورِ وهي تعبرُ البحارَ بحثاً عَنِ الشَّواطئِ الآمنةِ، بعيداً عَنْ غدرِ القنّاصينَ!.. يكتبُ النّاقدُ والأكاديمي العراقي حاتم الصَّكر حرفَاً مِنْ نَكهةِ إشراقةِ الشَّمسِ في صباحاتِ نيسانَ، كأنَّهُ يستوحي تدفُّقاتِهِ مِنْ عرينِ الأرضِ لشهوةِ الشَّمسِ في أوجِ انبعاثِ دِفئِها لكينونةِ الكائناتِ، فتأتي كتاباتُه موسومةً بأسرارِ القصيدةِ المُنسابةِ مِنْ خيالِ شاعرٍ مسكونٍ بخصوبةِ أرضٍ مقمّطَةٍ بأحزانِ الجبالِ، ويتجلَّى في انبعاثِ آهاتِ الأحزانِ ولغةِ التَّأبينِ، وهو يحلِّقُ عالياً فوقَ مروجِ الحنينِ، يكتبُ بطريقةٍ أنينيةٍ شاهقةٍ في الذِّكرى السَّنويّةِ الرّابعةِ لرحيلِ الشَّاعرِ الأردني أمجد ناصرـ يقدِّمُ استذكاراً بديعاً، مَدموغاً بلُغةٍ معتَّقةٍ بالأسى وغدرِ هذا الزَّمانِ. حنينٌ في غايةِ الرَّهافةِ هيمنَ على عوالمِ حاتم، مجسِّداً وشائجَ الصَّداقةِ فوقَ منارةِ العمرِ. آهٍ .. حياتُنا رحلةٌ قصيرةٌ، عمرُنا شهقةٌ عابرةٌ فوقَ وجنةِ الزَّمنِ، محطّاتٌ مُرصرصةٌ بالآهاتِ، نخرجُ مِنْ آهةٍ ونعبرُ في آهاتٍ أخرى غيرِ قابلةٍ للعدِّ أو الحصرِ، لما فيها مِنْ تشظِّياتِ شراهةِ الغدرِ في وضَحِ النَّهارِ. حاتمُ الصّكر وفاءٌ مندَّى بأريجِ حرفٍ معتَّقٍ برفرفاتِ الطُّيورِ المهاجرةِ، بعيداً عَنْ أعشاشِها، فتحِنُّ بشغفٍ عميقٍ إلى عشِّ الأُمومَةِ الأوَّلِ. يترجمُ مرامي الصَّداقةِ مِنْ أشهى وأبهى أبوابِها، فتنهضُ القصيدةُ شامخةً في مِحرابِ التَّجلِّي، مُسترجِعَاً أبهى الذِّكرياتِ، فتطفحُ عيناهُ شوقاً إلى معالمِ الطُّفولةِ، حيثُ الصَّفاءُ يزدادُ شُموخاً في هِلالاتِ الذَّاكرةِ، فينْسابُ خيالُهُ ابتهالاً وبوحَاً لإشراقةِ أهازيجِ الشِّعرِ، ويغمرُهُ شوقٌ مُسربَلٌ بطفوحِ الدَّمْعِ. الشِّعرُ بَلسمُ الرُّوحِ في ذُروةِ المِحَنِ، ينتشِلُنا مِنَ المآزقِ الّتي تحاصِرُنا، كابحاً لظى الاشتعالِ المتشابِكِ مَعَ خيوطِ الصّباحِ. استذكارُكَ للذكرى الرّابعةِ لرحيل الشَّاعر أمجد ناصر، مدهشٌ لِمَا فيهِ مِنْ معانٍ ووفاءٍ، وأوجاعٍ مزنَّرةٍ في أجنحةِ الذَّاكرةِ، مُستنهِضاً رحيقَ الذِّكرياتِ في أزهى أيَّامِ التَّواصلِ على أنغامِ الشِّعرِ، ومجسِّداً حميمياتِ الزَّمنِ الجميلِ، فَرُحْتَ تكتبُ هذا البوحَ الموشَّى بالأوجاعِ. نصٌّ موغلٌ في ألقِ الإبداعِ عَبرَ منعرجاتِ حَرفٍ ملظّى بلهيبِ جمرِ الحياةِ، تنبعُ رؤاكَ مِنْ رحيقِ ذاكرةٍ محفوفةٍ بدموعِ حرفٍ ملظَّى بالآهاتِ، يتوغَّلُ حرفُكَ المنسابُ برهافةٍ نحوَ أعماقِ الحنينِ، والمتفرِّعُ نحوَ ذاتٍ مُعرَّشةٍ في لبِّ الفؤادِ. نصٌّ رصينٌ رصانةَ الشِّعرِ الخلّاقِ، كأنّهُ تدفُّقاتُ أَمانٍ محبوسةٌ في رِحابِ ذاكرةٍ طافحةٍ بدُموعٍ مُمَلَّحةٍ بصداقةِ حرفٍ مضمّخٍ بأشجارِ اللَّيمونِ المتناثرةِ في رِحابِ الذَّاكرةِ، واخضرارِ الزَّيتونِ في دُنيا متلظِّيةٍ بلهيبِ البكاءِ. صداقةٌ موشومةٌ باخضرارِ السَّنابلِ، مفروشةٌ على مِساحاتِ حنينِ الطُّفولةِ، وكأنَّها في حالةٍ حُلْميّةٍ تريدُ استرجاعَ العمرِ التَّائهِ، والغارقِ في مهبِّ الانكسارِ. 

الصَّداقةُ حالةٌ إنسانيّةٌ مبهجةٌ للروحِ والقلبِ، وأشهى مساراتِ جُموحِ الخيالِ، تفوقُ قاماتِ البُلدانِ وقِممَ الجبالِ وتكويرةَ الرَّحمِ في بعضِ الأحيانِ. في حنايا حرفِكَ وكينونَتِكَ وخفايا بوحِكَ، صداقةٌ معبّقةٌ برحيقِ القصيدةِ، وانبعاثِ أصفى هَدهداتِ الحَرفِ، فجاءَتْ مَنارةُ الاستذكارِ تستمطرُ علينا قراءَةً شاهِقةً ملفّحةً برذاذاتِ الدَّمعِ المتناثرةِ مِنْ مآقي الشَّوقِ. كيفَ أمسَكْتَ انبعاثاتِ رؤاكَ الباذخةِ في فضاءِ التّجلّي؟ توغَّلْتَ عميقاً في مرامي الشِّعرِ وخفاياهُ السَّاكنةِ في أحلامِنا الغافيةِ فوقَ تلالِ الذَّاكرةِ وشموخِ الخيالِ، وأصفى ما في آفاقِ الحنينِ، وانبعاثها مِنْ حَسراتِ الماضي بكلِّ أوجاعِهِ، وانكساراتِهِ. أراني مشدوداً إلى فضاءَاتِ مخيّلةٍ حافلةٍ بانسيابِ أصفى الدُّموعِ، لأنَّها متماهيةٌ مَعَ تدفُّقاتِ مآقي الرُّوحِ. تكتُبُ حرفاً مَمْهوراً بشهيقِ الحياةِ. وكأنَّك تستقرئُ أرواحَنا المسكونةَ في أمواجِ البحرِ، وجذوعِ الأشجارِ، وشموخِ الجبالِ، ونُسيماتِ الصَّباحِ، تكتبُ حرفاً مُنبلجاً مِنْ أوجاعِ الرُّوحِ الخفيّةِ. هَلْ أرواحُنا ممتدّةٌ على مِساحاتِ حُلْمِ مجنَّحٍ على رَحابةِ الخيالِ؟ هَلْ نحنُ طاقاتٌ أثيريّةٌ نجولُ في ربوعِ الدُّنيا كنَسيمِ اللَّيلِ الحنونِ؟ مَنْ نحنُ السَّائرونَ فوقَ عجينِ الأرضِ، في رحلةٍ مضمَّخةٍ بألفِ سؤالٍ وسؤال؟ هذا النَّصُّ يفجِّرُ بنا تساؤلاتٍ تتجاوزُ عرينَ اللُّغاتِ، لأنَّ فضاءَهَ مفتوحٌ على شَهقةِ الشَّفقِ، فكيفَ سنُحيطُ بتساؤلاتٍ مفتوحةٍ على مِساحاتِ بوحِ الخيالِ؟ حاتم الصكر تمتلكُ رؤيةً نقديّةً حصيفةً، وتواصُلاً إنسانيّاً، تستجلي أغوارَ الحزنِ العميقِ. إنَّكَ كنزٌ ثمينٌ فيما يموجُ في مخيالِكَ، وكنزٌ ثمينُ هذا الَّذي قرأناهُ، والأكثر جمالاً وعمقاً ورهافةً، ما تركتَهُ لنا بينَ السُّطورِ، وما ظلَّ عالقاً في مخابئِ الذَّاكرةِ والخيالِ.  

دُمْتَ ناقداً خلَّاقاً، وكاتباً مستنيراً عميقاً في تجلِّياتِ رؤاكَ، ومُبدِعاً رهيفاً من أشهى ما في نكهةِ المطرِ.


ستوكهولم: 31. 10 - 1. 11. 2023

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق