أنَّ الدائرة الدلالية لعنوان الشاعرة المغربية : نجاة المالكي ( ضوء أسود ) توحي للمتلقي بدلالات حسّية – إدراكية – نفسية شاسعة في عالمها المرهف , فلقد أجادت تصوير تفاصيل حياتية من خلال لقطات تبدو ملامحها منذ أول سطر في ديوانها هذا , تشعرك بقمّةِ اليأس والقنوط , فرغم محاولتها تغييب حضورها بين الكلمات عميقاً , إلّا أنّ هذه الكلمات تفضح حضورها , وتكشفُ لنا مكنونات نفسها , فنستشعرُ بوجودها الشفيف يترك مع كلّ مقطع نصّي تكتبهُ . نحن نستشعر ونستقبل المثيرات التي تحدث حولنا في هذا العالم , احساس يجعلنا ندرك ماهية هذه المثيرات ونفسرها , الاحساس هو الوعي بما نلاقيه ونتعرض له في هذا العالم , ومن خلال الادراك نستطيع تفسير ما نواجهه في حياتنا , لا شعورياً نحن ندرك ما يحصل حولنا ويؤثر فينا من مؤثرات خارجية , أو من هواجس تنبعث من أعماق أنفسنا بسبب ضغوطات الحياة , وتوترات نفسية تعتمل في أعماقنا . وبالعودة الى عنوان الشاعرة ( ضوء أسود ) ندرك ونحسّ بفقدان الضوء وانعدامه , ومعضلة اللون ونزفهِ في بحر الذات الشاعرة : الى القابلة التي تركت حبلي السري ينزف / وهي ترى في بحر نجاتي قصيدة / وسفر الوان , وكأننا سنسافر معها في رحلة البحث عن الضوء والأمان , وهنا يتبادر الى الذهن : هل انّ مصائرنا نحن مَنْ يكتبها ؟! أم المصائر هي التي تكتبنا ؟! . ويأتينا السؤال من خلال توطئة الشاعرة : محمول على كل التوقعات / وبدون ثرثرة / ضوء أسود بلا سلطة أو وصاية .
ولنتساءل : ماذا يعني / ضوء اسود / لدى الشاعرة ؟ .
ولماذا اختارت هذا/ الضوء الأسود /؟ .
بوعيها اختارت / الضوء الأسود / أم بعدمهِ , أم لا شعورياً كان اختيارها ؟ .
من خلال رحلة البحث عن / الضوء / في ثنايا ديوان الشاعرة يبدو لنا فقدان هذا الضوء , يبدو لنا بأن هناك ظلاماً منتشراً في مقاطعها النصّية , وهذا ما يدركه المتلقي من خلال هذه المقاطع , وهذا الظلام – الضوء الأسود غير مرئي وواضح للعيان , نحن لا نرى هذا الـ / الضوء الأسود / ولكننا نتلمسهُ وندركهُ بسبب الخيبات والاغتراب والفقد والحزن والقلق والفراق وعذابات الرحيل ووهج الفجيعة وصمت الألوان وطيف الأمل المحترق وسط رمال الرحيل وصراخ الأمس .
من ظلّ نملة
أبحث
عن شرفة
عن عزلة ..
هكذا تبدأ الذات الشاعرة من خلال هذا الظلّ الشحيح رحلتها في البحث عن الضياء وعن عزلة تحتمي بها من سطوة الزمن , وعبث الأيام .
هذه الطعنات
ترسمني كلوحة عذراء
لا تلطّخا ألوان الهزائم
ولا تشعلها فرشاة الحروب .
وهنا ترسم لنا لوحة عذراء نقيّة النفس والسريرة , بيضاء ناصعة الوانها , لا تلطخها الهزائم ولا طعنات الحروب وقسوة العالم من حولها , ولا خبث السرائر , وعبث النفوس المريضة , لوحة تفيض نقاءً وحرية .
قشّة
أسندت قلبها للرمل ,
تحلم بموج عاشق
يغيّر حقيقتها.
ترسم لنا الشاعرة في مقطعها النصّي هذا أمنية لقشّة , فمن تكون هذه القشّة ؟ , هل هي الذات الشاعرة ؟ , أم ماذا ؟ . قشّة لديها أحلامها الوردية , وأمنياتها الجميلة , بحثاً عن العشق الذي يخلّص الأرواح النقية من ورطتها في هذا العالم , وحده العشق مَنْ ينقذنا , وينتصر لنا من طغيان الخراب والظلام .
تمرجحني غضباً خيوط العنكبوت
تطيّرني بقلق
نحو مشانق الضوء,
لا تفتح نوافذها العصية
تترك الباب يقتلع جذوره
والحيطان تتحطم بذاكرتها.
يبدأ قلق الذات الشاعرة من هنا وسيستمر معنا كثيرا , فنجد / الغضب/ القلق/ العصية / يقتلع/ تتحطم / ,فمن خلال هذه المفردات ندرك ونحسّ عمق المعاناة لديها , وسطوة / خيوط العنكبوت / رغم ضعفها كيف يتلفّ حول عنقها وتكتم أنفاسها ! , وكيف تبقى الأبواب عصية أمام الضوء ؟! .
في الرمال
طمرت نهديّ,
فقد يصادف خطوك
عطش النهاية .
الخوف من البكاء وخيبة الأمس , وظلّ الهزيمة , يرافقان الذات الشاعرة , الخوف من / عطش النهاية / , وضياع الأحلام , وقسوة ظلّ الرحيل الذي سيرافقها لو أصبح الضوء لديها أسوداً , الخوف والترقب من الغد وما يحمله لها من خطوات تأخذها الى النهاية البائسة .
ليت حصاتي
تُدركها موجة عالية
لتتلألأ في يد الحلم ووردة .
حلم يراود الذات الشاعرة في أن تصادف مَنْ ينتشلها من واقع هي اسيرته , حلم جميل يبعث فيها نشوة الأمل , ويبقيها على قيد العشق , ويبدد صمت الأيام , حلم ينتشلها من هذا الغرق ويطرحها على رمال الخيبة كوردة ناصعة الجمال .
كلّ الغيمات أنا
وما بعض الريح
إلّا حزني المباغت
وسفري المشتهى..
هنا ندرك عميق الحزن ولذة الشهوة في آنٍ واحد , نحسّ بما تعانيه من الألم , وما الغيمات الاً بشائر تبرق في أعماق النفس لتمطرو تطرد الأزمات التي كبّلت الذات الشاعرة , غيمات تحمل بشائر الخصب والنماء و المطر الى ارضها العطشى.
في فراقك
سأعبر ارضاً واسعة
ما أوجعتها جسور
ولا نبتت فيها ظلال .
الفراق وما أدراك ما الفراق ؟ , هي محاولة الانتصار للذات أمام القسوة , والذهاب بعيداً عن الذات الأخرى التي سببت لها كلّ هذا الحزن والالام , والعبور الى الضفة الأخرى , ضفة السلام والامان والألوان , بعيداً عن الظلام .
يا غرقي
حين ينام الضوء
ولا أجد غير شعلة منسية
يرويها الظلام
لعمق النهر
بانتشاء وسخرية .
خوف وترقب وانتظار وقلق يساور الذات الشاعرة من الظلام , من الغرق عميقا عميقا في بحر اسود لا ضوء فيه ولا نجاة منه , من سخرية الاقدار , وعبث الأيام القادمة , خوف يسكن الروح التي تدركه وتحسّ به وتخشاه .
وكم تخفي من بياض
أيّها الأسود
المتململ من جناح الضوء .
ضوء أسود تختفي وراءه الألوان / الحياة / , ضوء يزرع القنوط والحيرة والحسرة في قلب الذات الشاعرة العاشقة للنور , والمتمسكة بقوة بالحياة والأمل , ضوء أسود ينزع من روحها كل البهجة وجمال الحياة .
وكم من ألوان ستضع
يا لاعن الربيع
كم من طيف
سيقتصّ من روحكَ
وكم من ضوء.
كلّ الألوان / السعادات / ستضيع وتتلاشى وتختفي من قلب العاشق حين يختفي المعشوق , معشوق يعرف كيف يلعن بهجة الربيع / النفس / ويشوّهها بطغيانه , ولكن , في نفس الوقت لن يكون بمأمن من الأطياف التي سترافقه حيناً تقتصّ منه ومن قسوته , وكم من الضوء سيختفي في قلبه ايضاً , العقاب سيرافقه دائما بما أقترفه .
العيد
أن تسافر بثمار اليقين
الى شجرة الحرية
وأن تعانقك الريح
بسؤال وحلم .
ونصل أخيراً في ديوان الشاعرة : نجاة المالكي الى العيد المنتظر , فتختم رحلتها في البحث عن / الضوء / وعن الحرية والحلم , تسافر وهي على يقين بأنّ الأيام ستحمل لها البشرى بالسعادة , وأنّ أحلاما ستبقى غضة تعانق روحها النقيّة و ..
أن أفتح زهرة القلب
واعطر دروب الأبدية .
أن ارصّ مواعيد الفرح
واهب لغيماتي رقصة وأغنية .
من الملفت للنظر ومن خلال قراءتنا لديوان الشاعرة : نجاة المالكي أن نجد التعادلية حاضرة ما بين الظلام والضوء , هاتان المفردتان تساويا في عدد تواجدهما داخل نسيج الديوان , فـ ( 23 ) مرة ذكرت في نسيج الديوان , وكأنّ الصراع كان محتدما ما بين / الظلام / و/ الضوء / فلا علبة لأحدهما على الآخر , بينما جاء /الغياب/ من خلال ( 15) مرّة , وألألوان تشتت بـ ( 12) مرّة , وكذلك / البكاء / , ورافقها / الظلّ / بـ (10) مرّات .ومن خلال انتشار هكذا مفردات نستشعر وندرك جيداً مأساة الذات الشاعرة , ومحاولتها للهروب من الظلام / ضوء أسود / نحو الضوء- الحياة , محاولة الخروج من تحت الرماد كالعنقاء , وانتصار ذاتها بعد رحلة فاشلة , والبحث عن طريق الأمل / الألوان / , البحث عن الضياء وسط هذا العالم المظلم من حولها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق