في رواية فريد مراد الجديدة، "رحيل نحو المجهول، محطّات زمنيّة"، نسافرُ معهُ في رحلةٍ سياحيّةٍ فيها الكثيرُ مِنْ تشابكاتِ الأحداثِ، عبرَ محطَّاتٍ متنوِّعةٍ في سياقِ سردِ روايَتِهِ المتشعّبةِ، فيأخذُكَ إلى مِساحاتٍ زمنيةٍ فسيحةٍ، تمتدُّ لأكثرَ مِنْ نصفِ قرنٍ مِنَ الزَّمنِ، وقد جسّدَ لنا عبرَ محطَّاتِهِ أبهى خيوطِ الحنينِ، تاركاً بينَ متونِ السَّردِ الكثيرَ مِنَ التَّساؤلاتِ للقارئِ، وسلّطَ قلمَهُ على بعضِ الاعوجاجاتِ السَّائدةِ في المجتمعِ الَّذي عاشَ فيهِ قرابةَ عقدينِ مِنَ الزَّمنِ، ثمَّ عبرَ البحارَ، وعادَ بعدَ أكثرِ مِنْ أربعةٍ عقودٍ يلملمُ ما تعلَّقَ في الذَّاكرةِ مِنْ أحداثِ تجربتِهِ في الوطنِ الأمِّ ودنيا الاغترابِ، وكتبَ بحنينٍ عميقٍ الكثيرَ مِنْ هذهِ الذِّكريات الّتي عاشَها في الوطنِ الأمِّ، بكلِّ أفراحِها وأتراحِها، مِمّا بقيَتْ مُرسَّخةً في الذَّاكرةِ، تاركاً خيالهُ يموجُ في هذهِ المحطَّاتِ، وجسَّدَها بإيقاعٍ شاهقٍ وبلغةٍ سلسلةٍ وسهلةٍ، ولم يتقيّدْ في روايتِهِ بتسلسلٍ زمنيٍّ بحسبِ سيرِ أحداثِ المَحطّاتِ، بل اتَّبعَ أسلوباً أشبهَ ما يكونُ بالتَّأمُّلاتِ والتّداعياتِ الانسيابيّةِ في استرجاعِ أحداثٍ ومواقفَ معيّنةٍ مخزَّنةٍ في رحابِ ذاكرتِهِ ومخيَّلتِهِ، وصَاغ منها فصولاً متناغمةً مَعَ رشاقةِ عرضِ رؤاه في السَّردِ الرِّوائي، وكأنَّهُ يحكي لنا مقتطفاتٍ مصطفاةً مِنْ حكاياتِهِ وذكرياتِهِ بطريقتِهِ الخاصّةِ، فوجدَ نفسَهَ أمامَ شلَّالٍ متدفِّقٍ مِنَ الأحداثِ والحكاياتِ، فانتقى ما رآهُ مناسباً لفضاءاتِ الرِّوايةِ الّتي قادتْهُ إلى رحيلٍ مفتوحٍ نحوَ المجهولِ، وراحَ يتلمَّسُ هذا المجهولَ محطّةً محطّةً، وكأنَّهُ يقومُ برحلةٍ فسيحةٍ في ماضيهِ البعيدِ والقريبِ، كي يقدِّمَ عصارةَ تجربتِهِ ورؤاهُ ويصوغَها مِنْ خلالِ توهُّجاتِ خيالِهِ السَّيالِ، كي تأتي أحداثُ الرِّوايةِ محبوكةً بطريقةٍ سلسةٍ دافئةٍ وبلغةٍ رشيقةٍ سهلةٍ، ويُمكنُ أنْ ندرجَ هذا النَّوعَ مِنَ الأعمالِ الرِّوائيّةِ في فضاءِ السِّير ذاتية منْ حيثُ منابعُ استلهامِ وقائعِ السَّردِ، مِنْ خلالِ ما نقرَؤهُ مِنْ أحداثٍ وأمكنةٍ وأسماءٍ مسرودةٍ بدقَّةٍ متناهيةٍ، لكنَّها ليسَتْ بالسِّيرةِ الذَّاتيّةِ، بقدر ما هي مُستلهَمةٌ مِنْ محطَّاتِ حياتِهِ، وقَدْ عرفَ كيفَ يستفيدُ مِنْ هذهِ المحطَّاتِ ويحوِّلُها إلى عملٍ روائيٍّ شيّقٍ، فأوجدَ احتباكاً ما بينَ منعطفاتِ محطَّاتِ حياتِهِ، وتدفُّقاتِ خيالِهِ في الكثيرِ مِنْ انسيابيِةِ البوحِ السَّرديِّ، فجاءَتِ الرِّوايةُ معجونةً بانبعاثاتِ الذَّاكرةِ ووهْج ِالخيالِ المتعانقِ مَعَ حيثياتِ الأحداثِ، مَعَ أنّهُ دوَّن أسماءَ الكثيرِ مِنَ الشَّخصيّاتِ الأساسيّةِ والفرعيّةِ كما هي، لكنَّهُ صاغَ الأحداثَ بطريقةٍ سرديّةٍ مجنَّحةٍ نحوَ آفاقِ الخيالِ في الكثيرِ مِنْ منعطفاتِ البوحِ الرِّوائيِّ، وكأنَّهُ يحاولُ استرجاعَ الماضي بطريقةٍ ملائمةٍ لبوحِهِ، أو القيامَ برحلةٍ في فضاءِ الطُّفولةِ والمراهقةِ والشَّبابِ ورحلةِ الاغترابِ الرَّحبةِ، فجاءَتْ محطّاتُهُ عبرَ رحيلِهِ إلى المجهولِ، مفتوحةً على مساراتٍ عديدةٍ، وطرحَ علينا الكثيرَ مِنَ الأسئلةِ، لعلَّنا نحنُ القرّاءُ بمختلفِ الأجيالِ نستخلصُ بعضَ العِبرِ الَّتي ساقَها في فضاءَاتِ روايتِهِ، وقَدْ عبَّرَ عَنْ نجاحاتِهِ واخفاقاتِهِ وانكساراتِهِ، ومراميهِ خلالَ رحلةِ العبورِ في أعماقِ المجهولِ في دُنيا الاغترابِ، ولو تمعَّنا فيما وراءَ السُّطورِ ممَّا يقصدُهُ الرِّوائيُّ فريد مراد، وكأنّهُ يقولُ لنا: إنَّ الحياةَ مجرَّدُ مجموعةٍ مِنَ المحطّاتِ، وأحياناً كثيرةً نعبرُ متاهاتِ هذهِ المحطّاتِ عَنٍ قصدٍ أو مِنْ دونِ قصدٍ أو بحسبِ ظروفِنا وما يمكنُ أنْ تقودَنا الحياةُ إليها، وبعضُ المحطَّاتِ أشبهُ ما تكونُ أقدارَنا الَّتي لا بدَّ مِنْ الدُّخولِ في معتركِها.
تضمّنتِ الرِّوايةُ خمسَ عشرَ فصلاً حملَتِ العناوينَ التَّاليةَ:
"اتِّخاذ القرار، عائلة أمّي، هكذا كان الحال في بلدتي، ليلة الرَّحيل، وقوع عمّي في الأسر، استقبال الأسير، من دمشق إلى برلين، السَّاعات الأولى في برلين، لقائي الأوّل مع خالي، النَّادي الآثوري في برلين، من برلين إلى هامبورغ، من هامبورغ إلى السُّويد، الزِّيارة الأولى للوطن، وتتالت الأيَّامُ، دردشة مع جدّي"، وتصدَّرَ الرِّوايةَ إهداءٌ مقتضبٌ واستهلالٌ مِنَ الرِّوائي، وفي نهاية الرِّواية تمَّ تقديم الرِّوائي في سطور مِنْ قبلِ النّاشرِ.
وقد صدرَ للقاص والرِّوائي فريد مراد في العام 2018 مجموعته القصصيّة الأولى: "عندما كنتُ أراها مُقبلة"، وفي العام 2019 مجموعته القصصيّة الثّانيّة: "الدُّنيا كما كنَّا نراها"، وأصدر روايته الأولى عام 2021: "كنتُ على وشكِ الرَّحيل"، وفي العام 2022 المجموعة القصصيّة الثَّالثة: "قيثارة الرُّوح"، وهذه الرِّواية "رحيل نحو المجهول، محطّات زمنيّة" أصدرها في نهاية العام 2023 عن دار نشر صبري يوسف في ستوكهولم!
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة:
هذهِ الرِّوايةُ هي حكايةُ كلِّ مغتربٍ وكلِّ مغتربةٍ مِنْ بعضِ الوجوهِ، وحكايةُ الكثيرينَ ممّنْ يُقيمونَ في الوطنِ الأمِّ أو خارجَ الوطنِ، أيَّاً كانَ وطنُ القارئِ والقارئةِ، مَعَ بعضِ الفروقاتِ لتجربةِ كلٍّ منَّا. وقدْ جاءَتِ الرِّوايةُ محمّلةً بوهْجِ الحنينِ والشَّوقِ إلى مسقطِ الرّأسِ والوطنِ بكلِّ جمالياتِهِ وانكساراتِهِ، وإلى الأهلِ الَّذينَ هم على قيدِ الحياةِ والّذينَ رحلوا، حيثُ كانَتْ أحداثُ الرِّوايةِ تعبقُ بحميميَّةٍ عميقةٍ إلى المكانِ الأوَّلِ، مسترجعاً الكثيرَ مِن حواراتِهِ ولقائِهِ مَعَ جدِّهِ الرَّاحلِ يعقوب سارة، وعمِّهِ الخوري شكري مراد، وعمِّه الأستاذ عيسى مراد، وخالِهِ جميل سارة وغيرهم مِنَ الأهلِ، والأصدقاءِ وأسرتِهِ ومحبيهِ، وأصدقاءِ رحلتِهِ الاغترابيّةِ، متحسِّراً على الحميميّةِ الّتي كانَتْ سائدةً بينَ الأهلِ والأحبّةِ والأصدقاءِ، والّتي خفَّتْ كثيراً في عالمِ اليومِ سواءً في دنيا الاغترابِ أو في ربوعِ الوطنِ، لأنَّ متغيّراتِ ومتطلّباتِ الحياةِ تغيَّرتْ وتوجَّهتْ نحو مساراتٍ أخرى!
آملاً أنْ تجدوا في قراءَةِ هذهِ الرِّوايةِ الفائدةَ والمُتعةَ معاً!
ستوكهولم: 5. 12. 2023
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق