هذه ليست مقالة في التاريخ ولا في علم الاجتماع، بل هي كتابة في شؤون الضمير ومتاعبه. منذ السابع من اكتوبر عشت مثل معظم الاباء في مجتمعنا العربي، محنة حقيقية في مواجهة اولادي واضطراري الى لجم عقولهم وافواههم ومنعهم عن التعبير جهرا عن ارائهم حيال ما يجري داخل إسرائيل وفي غزة، حتى المقبولة منها والتي كنت موافقًا عليها بدون تحفظ. . لقد كانوا في الواقع يتفوقون علي في كل مناقشة بحججهم الموضوعية وبمنطقهم الانساني السليم، لكنني كنت انجح دائمًا في "ترويضهم" عن طريق استعطافهم موظفًا معي حجة الخوف عليهم من ردات فعل "الوحش" الذي في اسرائيل. لست راضيًا من حالي فهم أولاد هذا العصر واخوة "سيري" "وانستغرام" "وتشات جي بي تي"، وحدودهم هي احلامهم وشغفهم بالحرية الخالصة الطاهرة النقية التي ترفض من يعذبها او يَعقل جنونها ؛ أنا مقهور من حالنا لاننا تحولنا،، الى كاتمي أصوات أولادنا في مجتمع كامل وضع على فيه كاتم الصوت الكبير.
لماذا وكيف وصلنا الى هنا؟
تدخل الحرب على غزة يومها الواحد والسبعين؛ وتحافظ الحكومات والشعوب العربية والاسلامية على أنماط ردود أفعالها التي تراوح بين رتابة في ايقاعاتها الهادئة أحيانًا، والمحتجة بغضب "مسؤول ومسيطر عليه" عموما ، أو الصاخبة فرحًا بمباهج النعمة والوفرة التي أغدق الله بها على بعض الدول العربية فراح أهلها يقيمون بعيدًا عن بحور الدم في غزة، طقوس أفراحهم على شواطئ الاحلام وفق حكمة "الخيّام" في رباعياته " واغنم من الحاضر لذاته ..". إنها عوالم عربية واسلامية قديمة جديدة تقلع في فضاءات هذا العصر الذي يسيطر عليه، وفق نظرة البعض، "نظام التفاهة ".
لا أقول ذلك لأننا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، لسنا أبناء هذا العصر ولا نتصرف كأدواته/ مخلوقاته تماما كباقي أشقائنا العرب والمسلمين، "فصمتنا العربي" ازاء ما يحصل في منطقتنا، أكبر دليل على كوننا أبناء هذا الشرق؛ لكنّه، في نفس الوقت، عارض لتفاقم الأزمة التي عاشها مجتمعنا العربي ويدفع اليوم ثمن فشله في مواجهتها.
لقد تطرقت مؤخرًا للدوافع التي أدّت، برأيي، الى التزام المواطنين العرب في اسرائيل وجميع قياداتهم السياسية والدينية، سياسة الصمت والتململ الموزون. لن اعيد ما كتبته في حينه لأننا فعلا نمرّ في مرحلة حرجة وخطيرة جدا ونحتاج فيها لهذا "الصمت الراشد" او ربما الى هذا الخوف، الذي وصفتُه كأحد علامات نضوجنا وحكمتنا. فنحن، هكذا كتبت، "احفاد النكبة, ونحب الحياة ومن يحبونها ؛ وقد رضعنا العبرة من صدور امهاتنا ومن دروس ابائنا والاوائل". هذا الكلام الذي كتبته صحيح ، خاصة في الأجواء التي سادت اسرائيل ومواقع كثيرة في العالم بعد تكشف فظائع هجمة حماس الدموية على المدنيين في السابع من اكتوبر؛ ولكن الاكتفاء بالاتكاء عليه كتعليل كان ضروريا لتبرير حالة "الشلل المؤقت" ولكنه لم يعد كافيًا اليوم، والتوقف عنده والتغاضي عما تخططه حكومة اسرائيل لمستقبلنا داخل او خارج اسرائيل هو أمر غير مقبول وغير معقول؛ اذ لا بد لمجتمع "يحب الحياة ويحب من يحبونها " ان يفتش عن طرق بديلة تأخذه نحو مستقبله الآمن ليعيش بسلام في وطنه، لا خارجه.
فهل ما زلنا مجتمعًا يتمتع بهذه المقومات والقدرات امام اسرائيل المتحورة والمتغيرة منذ عام النكبة فالنكسة حتى طوفان الاقصى؟
كنت في الحادية عشرة من عمري عندما وقعت حرب حزيران/يونيو 1967. كنت صغيرا على استيعاب ما تعنيه كلمة "النكسة"، وكبيرا مستعدا لامتصاص رحيق النشوة. أذكر انني وأترابي عشنا ايامًا من فرح غير اعتيادي؛ كنا نحس به ولا نعرف سببه. كانت أحاديث الكبار حولنا قليلة وحذرة، لكنهم حاولوا أمامنا ممارسة طقوس حياتهم بروتينية طبيعية. لم نشعر كأولاد، بخوف، ولا بأنهم خائفون، لكننا كنا نشعر أنهم كانوا ينتظرون حدوث أمر كبير. حتى عندما اضطر أهلنا، حسب تعليمات الحكومة الاسرائيلية، الى تغمية زجاج شبابيك بيتنا باللون النيلي، لم نخف، ولا عندما كانوا يتهامسون مع أصحابهم وكأنهم يتكتمون على سر رهيب. اذكر كيف كان أبي يضع راديو الترانزستور على اذنه ويقف بعيدا عنا. كان يبتسم بحذر احيانًا واحيانًا كان يعبس بكشرة مقلقة يبلع معها دخان سيجارته بشفطة واحدة ولا يتحرك . لم أر أبي بعد اليوم السادس للحرب يضع الترانزستور على اذنه، وصار يحب الصمت بلا بهجة في عينيه. فهمنا، من ثقل أنفاسه، عندما كنا نجلس معهم حول مائدة الطعام، ان ما كانوا ينتظرونه لن يأتي. انتهت الحرب فجأة وبسرعة طلقة. وعرفنا ان اسرائيل انتصرت فيها على كل العرب وأننا صرنا منذئذ أولاد النكسة. لا أذكر اننا شعرنا بالخوف سنتها ولا أن اهلنا خافوا؛ لكنني أذكر أن أبي وأصحابه فقدوا الشهية على الفرح وصاروا يتصرفون وكأن حملا كبيرا وضع على صدورهم وأكاليلا من شوك على هاماتهم. كانت تلك علامات المهانة والمذلة . كبرنا وصرنا نفهم اكثر ذلك الفرق بين الخيانة وبين الصمود والدفاع عن الكرامة والوطن.
ثم وقعت حرب اكتوبر 1973، فأعادت لوجه أهلنا بعضًا من النور ومحت من قلوبنا آثار غصات دفينة. بعدها حلّ يوم الارض 1976. انتفض المواطنون العرب دفاعًا عن ارضهم وعن هويتهم وكرامتهم. كان لديهم قيادات سياسية جسورة وحكيمة لا تهادن على ضيم ولا تغامر دفاعًا عن وهم. نادوا باسم المسؤولية فهبّ الناس برسم الثقة وبدافع الحرص على مصائر اولادهم. يومها، على ارضنا، تعلمنا الفوارق بين الحرص والخوف وبين الخوف من والخوف على.
لن تكفي هذه العجالة للتوقف عند جميع المحطات التي اصطدمت على سككها قطارات المواطنين العرب بحيطان السياسة الاسرائيلية العنصرية "واسمنتها المسلح". ففي اكتوبر عام 2000 اندلعت ."هبة الاقصى" ، فقتلت الشرطة الاسرائيلية 13 مواطنًا عربيًا من سكان اسرائيل. في اعقاب سقوط هذا العدد من الضحايا بنيران الجيش والشرطة الاسرائيلية، شكلت الحكومة "لجنة القاضي اور" . كشفت اللجنة، وقبلها الاحداث الدامية، عن عدة أسئلة واشكالات جوهريه ووجودية حول علاقة الدولة بمواطنيها الفلسطينيين وبالعكس. ورغم خطورة الاشكالات، بقيت، للاسف، بدون متابعة لا من قبل مؤسسات الدولة ولا من قبل القيادات والمؤسسات العربية. لقد كان من اهم ما كشفته الاحداث الدامية هو ان المؤسسة الاسرائيلية مجتمعة تصرفت كأن إسرائيل موجودة في حالة حرب مع مواطنيها العرب. لقد تبيّن ان اسرائيل الرسمية تعتبر مواطنيها العرب اعداء فعليين لها على ما يستبطنه هذا التعريف من سياسات يستوجب اتّباعها بحقهم مستقبلا. في هذا العام بدأ عمليا مسار المواجهة والاصطدام المحتوم بين الدولة وبين مواطنيها العرب وهذا ما بدأنا نلمسه لاحقًا في عدة مواجهات واعتداءات لاجهزة الامن الاسرائيلية على المواطنين وعلى ممتلكاتهم، حتى وصلنا لمواجهات ايار /مايو 2021 وما خلّفته من هوة سحيقة بين المجتمعين العربي واليهودي وتربة مرويّة بشهية قمع سلطوية رسمت عليها بالدم حدود معادلة الصدامات المقبلة.
لقد بتنا نتحرك منذ العام 2000 على منزلقين؛ فاسرائيل تنزلق نحو هاوية الفاشية وتعاني من تفكك في بنى اجهزتها ومؤسساتها التاريخية وتنحو نحو "الدولة الفوضى"؛ ونحن، بالمقابل، كنا ننزلق نحو هاويتنا ونعاني من تفكك في معظم البنى القيادية وخسارة جميع كوابحنا الضابطة. لقد هزمت قيمنا الاجتماعية واستعر العنف ورفعت الجريمة رأسها وتقدم "نظام التفاهة" ليأخذ دوره بيننا وليفرز وكلاءه الذين تمكنوا من إحكام قبضاتهم على مجتمع بات ينام خائفًا ويفيق ضعيفًا وهو بلا قيادة حقيقية قادرة على مواجهة واقع الدولة الفاشي الجديد من جهة، وقاصرا على مواجهة آفاته الداخلية من جهة ثانية.
لقد كنا احفاد النكبة فعشنا الخوف منها وحيّدناه؛ ثم صرنا اولاد النكسة فعرفنا المذلة ومن هم آباؤها ومن هم آباؤنا. ثم واجهنا سياسة القمع والاضطهاد الاسرائيلية بأدوات صنعناها محليًا وحملناها تحت رايات قياديين اصيلين وغير مستوردين عرفوا كيف يوازنون بين الوطن والوطنية فكسبوا ثقة ابناء شعبهم وناضلوا معهم فصمدوا. ثم جاء عام 2000 واسرائيل القديمة تخلع جلدها وتتأهب للقاء وعود ربها. عندها في ذلك العام وبعده تبدلت الحسابات ودخلت علينا محركات جديدة، مستجلبة من عواصم العرب والغرب والعجم فاختلت المعادلات والموازين وصارت معاني النضال ملتبسة والافق بعيدا حتى وصلنا الى "طوفان الاقصى" والى حالة يجمع فيها الجميع على ان صمتنا حكمة وخوفنا نضوج وزينة العقل، فلم يعد المنادي ينادي بالجليل ولا يصرخ الشيخ واغزتاه ولا المفكرون يغيثون.
لن أزايد على احد. فانا اول من كتب ودافع عن ضرورة ان نعيش كفلسطينيين "بين صمت مثالي وخوف عاقل". لكنني كتبت بعده ايضا "ماذا بعد الحرب على غزة ؟" فأنا اخشى ان تنتهي الحرب على غزة ويتحول "شللنا المؤقت" الى شلل دائم، وسكوتنا الى ملجأ.
فماذا بعد غزة في وقت لا السياسة واحزابها وحركاتها الدينية القائمة قادرة على حمل المسؤولية، ولا من يمثلون "نظام التفاهة" قادرون على اخراجنا من هذا الجحيم .
فهل ستأتي النجاة من جهة اصدقاء "سيري" وابناء هذا العالم الافتراضي ؟!
ربما ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق