ما أفظع أن تسيء الأم وهي تعتقد أنها تحسن صنعا ، وما أشد وبال نتاج عملها السيئ عندما يتجاوز حدود عالمها الخاص وحياتها العائلية إلى حياة أمة بكاملها.
إنها " أغريبينا" والدة خامس وآخر إمبراطور روماني من السلالة اليوليوكلودية ، نيرون (37 ـ 68 بعد الميلاد ) أوصلته أمه التي كبرت وهي تعتقد بأن القتل سلوك طبيعي لتولي حكم الإمبراطورية الرومانية وهو في سن 16 من عمره ، فبعد وفاة والده وهو في سن الثالثة كفله خاله كاليغولا ذو النزعة العدوانية الشديدة الذي لم يجد يوما شيئا أسهل من القتل، ثم تمكنت الجميلة أغريبينا من إغواء الإمبراطور كلاوديوس لتتزوج منه بالرغم من أنه خالها، كانت امرأة راغبة لتخطي أي حاجز للحصول على أكبر نفوذ لترضي شغفها بالوصول إلى السلطة وتعطشها للحكم ، كان دربها إلى السلطة من خلال ابنها نيرون فضغطت على كلاوديوس لتبني ابنها ويجعله وريثا له على العرش بديلا عن ابنه برتانيكوس .
بدأ نيرون حكمه بفترة من الإصلاحات متأثرا بمعلمه الفيلسوف والمصلح الروماني سينيكا أحد تلاميذ أفلاطون، ولكن سرعان ما انقلب حكمه إلى كابوس رهيب بعدما انغمس في اللهو . سيطرت عليه رغبة أن يكون مغنيا وعازفا للقيثارة وسائق عربة حربية، بذخه وحبه للعطور جعل مقربيه يمطرون سقف الدعوات برذاذ من العطور والزهور.
علمته أمه فن المؤامرات ودربته على القتل لأنها تعلم أن وصول الأباطرة إلى عرش روما كان يتحقق غالبا عن طريق الاغتيالات السياسية وهي السمة الأساسية للحكم في روما لذلك كثرت في عهد نيرون المؤامرات والاغتيالات السياسية التي كانت من تدبيره ، ثم امتدت نزعته العدوانية فقتل برتانيكوس حتى لا ينازعه على العرش ثم أمر بقتل زوجته أوكتافيا لمجرد أنها لاحظت سقوط الصولجان من يده خلال أدائه مسرحية، ومن بعدها لم يتجرأ أحد من العاملين في قصره أن يعيب عليه أي عمل. تزوج نيرون من بوبايا اليهودية التي أوقعته في حبائل المرابين الأشرار وانحدرت شخصيته إلى الدرك الأسفل من السفالة و اللؤم وأخذت أعماله طابعا انتقاميا وأشكالا عدوانية علنية محطما كل شيء صالح وأنغمس أكثر في شهواته ونزواته الغريبة ولم يتردد في قتل أمه بسبب توبيخها له على عدوانيته ،نطقت أغريبينا الصغرى عندما رأت الحرس قادمين إليها بكلمات شهيرة وقالت " اطعنوني في البطن، هذا البطن الذي حمل هذا الوحش" نظر نيرون لجثة والدته وقال "لم أكن أعلم أنني أملك أما جميلة".. ومن حينها فقد معلمه سينيكا كل تأثير كان له عليه ، وكره نيرون من جانبه كثرة توبيخه له على زواجه من بوباياسبينا التي كانت تحسب على العبيد فخضع لطلب المرابين بإسكات معلمه سينيكا إلى الأبد خوفا من تأثير شعبيته الكبيرة عليهم، وهكذا أمر نيرون سينيكا أن ينهي حياته بنفسه .
ظلت السنوات التالية تزيده عنفا وصار منطق القتل عنده يخضع لإرادة التخلص من كل شخص يمكن أن يمارس عليه نفوذا وهكذا كان قد تخلص من معظم من لهم صلة قربى به وهو في سن الثانية و العشرين من عمره .
كانت من أشهر جرائمه على الإطلاق حريق روما الشهير سنة64 م.حيث انتشرت النيران في البيوت الخشبية المتلاصقة لمدة أسبوع وبينما كانت ألسنة النيران تتصاعد والأجساد تحترق كان نيرون جالسا في برج مرتفع يتسلى بمناظر الحريق ماسكا آلة طرب يغني أشعار هوميروس على وقع صراخ الضحايا" طرواده تحترق" هلك الآلاف من سكان روما واحترقت نصف مساكنها، اتجهت أصابع الشعب والسياسيين تشير إليه بأنه المتسبب في هذا الحريق ولما تزايدت كراهية الشعب له اهتدى إلى إلصاق التهمة للمسيحيين فألهى الشعب وراء مطاردتهم والقبض عليهم واضطهادهم وسفك دمائهم وتقديمهم للوحوش الكاسرة وحرقهم بالنيران أمام أهل روما وأصبح من مؤهلات الولاة في الأقاليم هو مدى قسوتهم في قتل المسيحيين لإشباع رغبة الجماهير في رؤية الدماء على مدى أربع سنوات .. وقد كان من ضحاياه الرسولان بولس و بطرس اللذان قتلا عام 68 م. ثم قتل زوجته الثانية بوبايا ركلا بالأقدام وهي حامل منه ،ولما سادت في الإمبراطورية الرومانية الفوضى والجريمة أعلن مجلس الشيوخ أن نيرون أصبح عدو الشعب ، حينها قرر نيرون الموت منتحرا بشكل مأسوي عام 68 م غرز الخنجر في عنقه وهو يردد نشيد العنف الأخير " قرينتي و أمي و أبي قد دفعوا بي إلى حتفي ، ياله من فنان عظيم يلقى حتفه .." مات نيرون مخلفا وراءه حالة من الإفلاس نتيجة بذخه الشديد والفوضى جراء كثرة
الحروب الأهلية .
لقد مات من عشق نفسه ورغب أن يحبه الناس فترك لعنة الذكرى لإمبراطور اختلف الرأي حوله بين قاتل مضطرب عقليا ،وبين قاتل للمنفعة الشخصية ، وفي الحالتين أخذ نيرون مكانة على رأس قائمة أسوأ مستبد في العالم يصفه التاريخ بالشيطان على أرضه الذي توج عنفه بحق نفسه كما توجت أمه عشقها للحكم و السلطة من خلاله بمقتلها على يديه ، كان نيرون مثالا للطاغية التي عرفها أفلاطون بالشخصية التافهة التي تخلط بين الحق والقانون و المصالح الخاصة ، وبين المتعة الشخصية و المصلحة العامة ،كما تنطبق على نيرون نظرة الفيلسوف أرسطو إلى الطاغية باعتباره يمارس السلطة بلا مسؤولية أخلاقية ويتحكم بمصائر الناس من أجل مصلحته الخاصة وليس لمصلحة المحكومين .
ولكن أليس من التناول الموضوعي الاعتراف بأن نيرون قد سيق إلى قدره مبكرا دون إرادة منه ودون أن يستعد له ودون أن يتم تأهيله نفسيا لتقبل ثقل مسؤولية إمبراطورية بحجم روما وهو في سن السادسة عشر.. ؟ يمكن القول أن نمو الطفل نيرون قد تشكل وعيه بقوى عديدة ومعقدة ومن أهم هذه القوى التي شكلته ضعف الإرشاد الأبوي وانعدامه عمن جانب الأم ، وعدم تواجد المحبة في محيطه الأسري والعائلي ، وغلبة المعتقدات المتعلقة بسيادة مفهوم القوة ، وسوء نموذج القدوة ممثلا في أمه و خاله. إن كل واحدة من هذه القوى تؤثر في خيارات الفرد وتدفعه للعمل أو التصرف وفق طبيعتها التي تؤدي في النهاية إلى إنتاج الشر، والحقيقة يصعب القول أن أي واحدة من هذه القوى المؤثرة في الفرد هي بذرة شريرة بطبيعتها ولكن في ظل توليفة من هذه المؤثرات مال نيرون للشر انطلاقا من خيار تم اتخاذه من قبل الوعي على افتراض أنها خير ، فحكم روما حلما جميلا ولكن عقيدة العنف في أسرته كانت قوية التأثير إلى درجة إنها حالت دون تمتعه بحرية الاختيار، لقد عاش نيرون وهما كبيرا باعتقاده في ازدواجية الحقيقة أي بأنه يوجد وجود منفصل سواء للخير أو للشر، أي أنه اعتقد أن للشر قوة خاصة به ووجود مستقل لفرض إرادته المبنية على دوافع أصلية كانت وراء قرارات اتخذها باعتبارها الأفضل في أوضاعها .إنها عقيدة وجدت لها صدى أقوى مما كانت عليه لدى نيرون بعدما مهدت زوجته اليهودية بوبايا أعماق نفسه ودخيلة قلبه لتلقى رسائل الشر والجريمة ، وهو نفسه السلوك اليهودي الممتد إلى اليوم في غزة، حيث اضطراب الشخصية والإفراط في القتل غير المبرر والهدم والتدمير كأسلوب عقاب جماعي الذي يمثل في حقيقته سلوكا أصيلا لنزعة الشر والسفالة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أطفال غزة يرحلون مبكرا
انحنى طفل في سن الرابعة بكل حنو على أخيه الأصغرفي الثانية من عمره الراقد على أرض المستشفى يلقنه في هدوء شديد شهادة أن لا إله إلا الله ، محمد رسول الله، كان الصغير يحتضر وهو غارقا في دماء تسيل من كل عضو فيه ويكاد لا يرى أحدا ، عيناه زائغتان لأعلى ولا يكاد يسمع من صوت أخيه الذي ما زال يواصل بصبر جميل تكرار تلقينه الشهادة ، طغى صراخ الوجع وتعالى بكاء الألم في كل أرجاء قاعات العلاج مع وصول أطفال أبرياء آخرون غيره ، ضحايا ومصابون يتوافدون وآخرون ممزقين وأشباه جثث محمولين على أكتاف آبائهم ، دماؤهم تقطر على الأرض وهم لا يدرون بأي ذنب يقتلون.
توثق دماء الرضع والأطفال ضحايا الإجرام الصهيوني رسالة للعالم أن قضية غزة صارت مسألة عزة،وستكون دماؤهم مدادا لآبائهم لمواصلة كتابة شهادات تاريخية جديدة على قتل أبنائهم صغاراوهم لا يدرون لمقتلهم سببا. سيبقى طيف أرواحهم يمثل أمام أعين المجرمين يعذبهم في الحياة ويؤرقهم في الممات ويتبعهم في الموقف العظيم بأي ذنب قتلوا .
لم يعد أمام أطفال فلسطين أفاقا ليحلموا لأنهم لا يتوقعون أن يعيشوا طويلا ، بل لم يعد لهم رجاء لغدهم لأن يشعرون بالموت يترصدهم في كل وقت وفي كل حين ، وأن رحيلهم القريب عن الدنيا وأصبح مسألة وقت فقط يحسب بالساعة ليس أكثر وما يزيد عن ذلك فهو فضل ونعمة من الله له الحمد وله الشكر ، سقف آمالهم في الحياة أصبح منخفضا جدا، وأنه لم يعد لصغارهم في الدنيا ما يبكون عليه ، لم تمنحهم الأيام الفرصة للتعبير عن وطنيتهم ، ولكن قضت إرادة الله أن يكونون سعداء وقد اختارهم مبكرا إلى جواره وسيكونون فرحين بما آتاهم من فضله الواسع .
" .. وبشّر الصابرين.." كلمات طيبة لآية كريمة من لدن العزيز الحكيم لعباده المؤمنين، عمق معناها ترياقا للنفوس المفجوعة في رحيل أبنائها الصغارالذين لن يدخلوا الجنة إلا مع والديهم مهما كانوا .. هذا جزاء عظيم لمن صبروا على قضاء الله تعالى وقدره وصابروا إلى حين يأتي اليوم الذي يشفي فيه المولى عز وجل صدور قوم مؤمنين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق