ظلت روايات الجاسوسية منذ بداياتها فنا ينتمي إلى أدب المغامرات في الدراما العربية والسينما العالمية حتى بدأت الصراعات الدموية والنزاعات المسلحة تفرض أحداثها المأسوية وجودها على خيالات رجال الفن السابع من خلال سيناريوهات جرى إعدادها من واقع الأحداث التي وثقتها تقارير الاستخبارات.
يجمع العديد من النقاد وأصحاب الأقلام الفنية على أن صورة اليهودي في الدراما التلفزيونية والسينمائية في مصر كانت إيجابية قبل بدأ الصراع العربي الصهيوني، حيث ظلت معظم الأفلام تصف اليهودي بالمرابي والبخيل بشكل كوميدي فقط وليس بنظرة عدوانية ، والمفارقة ان معظمها كان من إخراج توجو مزراحي المخرج اليهودي الشهير ، ويدلنا تاريخ السينما المصرية إلى تحولات مهمة لحقت بشخصية اليهودي فيها وفقا لطبيعة تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، ففي المرحلة الأولى أي تلك التي لم تكن مسألة العداء للصهيونية قد ظهرت فيها بوضوح ، ظهر اليهودي إنسانا عاديا دون توصيفه بصفات سلبية وعرضت السينما أفلام أبطالها من اليهود مثل " شالوم الرياضي" وهو شخصية طيبة تساعد فريق رياضي كروي على كسب فرق أخرى أجنبية ، وكذلك فيلم " شالوم الترجمان" وسلسلة أخرى بطلها شالوم ظهرت فيها شخصية اليهودي دون سلبيات، كما عكست بعض الأفلام الحديثة نسبيا مثل" فاطمة وماريكا وراشيل" و " حسن ومرقص وكوهين " حالة التعايش السلمي التي كان يحياها اليهود داخل المجتمع المصري باعتبارهم جزء من نسيجه.
ولكن بدأت الصورة السلبية بالظهور في أعقاب حرب 1948 وقيام الدولة الصهيونية ، وسرعان ما تنامت بعد ذلك بعد حرب أكتوبر 1973 ويمكن اعتبار فيلم " الصعود إلى الهاوية عام 1978أحد الأفلام المهمة في صراع الدراما الاستخباراتية وهو يتحدث عن جاسوسة خطيرة عملت لصالح الكيان المحتل في الخارج وتم الإيقاع بها من خلال ضابط مخابرات مصري، ثم توالت المسلسلات التي ترسم ملامح أخرى لشخصية العدو وطرق محاربة سلوكه العدائي مثل " دموع في عيون وقحة" ثم " رأفت الهجان" و" السقوط في بئر سبع" و" الثعلب" و" الحفار" و " حرب الجواسيس " بالإضافة إلى أفلام الجاسوسية مثل " مهمة في تل أبيب" و" إعدام ميت" وكلها من وقائع مأخوذة من ملفات المخابرات العامة المصرية يعتبر الكاتب ماهر عبد الحميد صاحب أول عمل روائي يستند إلى وقائع من ملفات المخابرات في عمله الأدبي الموسوم " قصتي مع الجاسوس" المنشور في عام 1968 وكان آخر السلسلة من كتّاب قصص المخابرات هو الكاتب الدكتور نبيل فاروق صاحب سلسلة الكتب البوليسية الشهيرة " رجل المستحيل " وظلت المخابرات العامة هي التي تنشر الأعمال الأدبية إلى أن تبينت فيما بعد خطورة هذا العمل بعد اكتشاف أن هناك من قام بتحليلها لاستنباط أشياء معينة من بين السطور ، وظهر بعد ذلك كتّاب آخرون استندوا إلى قصص حقيقية ، ثم كان ظهور الكاتب صالح مرسي أشهر من كتب قصص المخابرات وأجاد حبكتها ليمثل انقلابا حقيقيا في هذا النوع من الروايات ، ويجمع النقاد على أنه نجح في جعل الجاسوس في رواياته شخص له مشاعر وأحاسيس .
كان آخر حلقة من حلقات سلسلة الصراع الدرامي المخابراتي هو مسلسل " فارس بلا جواد " بطولة الفنان القدير محمد صبحي المأخوذ عن مذكرات الصحفي والمؤلف الراحل حافظ نجيب الذي تمتع بحس المغامرة واشتهر بقدرته العالية في التنكر والاحتيال وانتحال الشخصيات ، ترك هذا المسلسل أثرا مزعجا في أوساط المنظمات الصهيونية حيث نقلت الصحافة الأجنبية تقارير عديدة عن هذه المنظمات عكست فزعها الشديد من تعرض المسلسل لكشف أو فضح بروتوكولات حكماء صهيون وبلغ الفزع حد المطالبة بتدخل وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت كولن باول وحثه على ممارسة الضغط على الحكومة المصرية لوقف عرضه إذ اعتبرت عرض المسلسل مظهرا من مظاهر التحريض على معاداة السامية ، وتمكنت فعلا المنظمات الصهيونية من الحصول على قرار بالإجماع من الكونجرس الأمريكي بإدانة المسلسل .
لقد كسبت دراما المخابرات معارك الوعي ، وساهمت في مهمة تنمية الشعور الوطني في مواجهة ضلال المعتقدات وزيف المبادئ التي تتعلق بالأرض والهوية والانتماء، واستطاعت دراما المخابرات المصرية تقديم محتوى قادر على تفعيل الدور التثقيفي لخدمة تعميق الوعي الوطني ، وكذلك في بعث رسائل ضمنية ذات مغزى ومعنى موجهة للجهات الخارجية .
تميزت المعالجة الدرامية لأحداث أمنية خفية وقعت بالفعل بقدر كبير من الجاذبية الخاصة التي حققت التفرد باهتمام الجمهور لما تمتعت به من أهمية وحرفية عالية ، ونجحت في فضح خيانات ترتكب باسم حقوق الانسان عبر منظمات تلتحف بستار المجتمع المدني ، وفي إزاحة الستار عن زيف الإعلام المضاد وكشف حملات الترويج للمخططات الهدّامة والمؤامرات. أصبحت دراما المخابرات بمثابة سيرة ذاتية لأبطال حقيقيين كان لهم تأثير قوي في جهود ضمان الأمن والسلامة لأوطانهم وحملت أعمالهم الكثير من الإسقاطات على الحاضر، وهكذا يعمل الانتاج الدرامي في مصر على إعادة كتابة التاريخ وتصحيح من علق به من مغالطات وتشوهات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق