الامنية في بصيرة الجريح كمال عرعراوي/ عصري فياض


يتقاطرُ الاصدقاءُ والأقاربُ إلى بيتِ الجريحْ " كمال خالد عرعراوي " في مخيَّم جنين لتهنئته بالسلامة إثرَ العملية الجراحية الاخيرة التي أجْرِيتْ له بإعادة عظمة مقدمة الجمجمةِ،التي إنتزعتْ من رأسه لأشهر طويلة في محاولة لعلاج العمى الذي أصابه أثر الاصابة الخطرة التي تلقاها في ميدان التصدى لقوات الاحتلال الاسرائيلي في إجتياح الثالث والرابع من شهر تموز من العامِ الفائت في مخيَّم جنين،في مشهدٍ تراجديّ عنيف دامَ عدة دقائق،حصدَ إلى جانب إصابته،ارتقاء ثلاثة من اعزاءه وهم :- ابن عمه المقاوم مجدي ابن الـ17،وصديقيّة المقاومين علي الغول، واحمد عامر،اللذان يقاربانه في السنِ والجوارْ، ثلاثتهم ارتقوا شهداء في تلك الحادثة وهم من صلب مجموعات فتيان مخيّم جنين ،وقد اطلق الاعلام المحليّ عنهم لقب " أبطال كمين حارة الدمج ".

كمال الذي فقدََ بصره لا زال يتذكرُ معظمَ اصدقاءه ببصيرته،يعرفهم من خلال أصواتهم،يجلس على سرير الشفاء في بيتهم تجلله سكينة هائلة...وتعلو ثغره الوضاء ابتسامه طفولية صافية الجميلة ،تشع ُ بالامل والتفاؤل،خاصة عندما يردد والده آخر عبارة ورددت في تقاريره الطبية التي تقول " هناك أملٌ في أن يعود شيء من الابصار في عينه اليسرى،بالرغم من وجود تهتك بالاعصاب البصرية في العين اليسرى،إلا أن القرنية لا زالت متماسكة".

لقد إقتعلتْ رصاصةُ القناص عينه اليمنى،وأطفأت النور في اليسرى،وما زاد ألمه،ارتقاء شقيقه محمود المقدام في مواجهة ضارية بعد إصابته بنحو شهرين،واعتقال شقيقه الثالث مجدي،وتحويله للاعتــ//ــقال الاداري.

عندما تدخل بيتهم،ويستقبلك الاب والام والشقيق الممرض "ايوب" المتبقي لهم في البيت،تلحظ سواد الحداد في ملابسهم،لكنه سواد متلألئ بإبتسامة صبر جميل،وإحتساب عميق،يُنسيكَ ولو للحظات ما أصاب هذه العائلة التي اضحت نموذجا من نماذج الفداء والتضحية والرضا على طريق القدس والحرية والخلاص من الاحتلال والعودة لمسقط الرأس قرية " المنسي " البديعة على ضفاف المنطقة الشمالية الوسطى من ربوع مرج بن عامر الخلاب في قضاء حيفا.

يبدا والده الحديث مع اصدقاءه بشيء من الدعابة،يضحكون،فالسخرية من الموت والأوجاع والمحن إحدى سمات هذا المخيَّم الجبار،ويبتسم كمال بهدوء فيشاركهم الحديث ببعض من صور المواقف التي كانت تمر عليه مع اصحابه قبل الحادثة،فتتواصل الضحكات،وتنتشر اجواء الفرح الخجول لبعض الوقت،ثم تعود اللحظات الصمت الطويل من الجميع والعيون ترقب كمال وأبوه ووالدته التي دخلت لتوها بآنية القهوة،وهي ترحب ثم تعاتب هذا وتلوم ذاك من اصدقاءه برفق،لأنهم في بعض الاحيان يتركوا كمال لوحده طويلا،لقد أصبحت تخاف عليه من كل شيء،حتى من الضجر رغم هدوءه الفريد،فيستمعون،ويتفاعلون،ويبررون،لكنهم معتادون على ذلك العتاب القادم من قوة العلاقات الاسرية في المخيَّم.لقد خلقت اجواءُ المواجهة مع الاحتلال ترابطاً متيناً جديدا بين أسَر المخيَّم...

يعودُ مشهدُ اللقاء للسؤال الجدي،أحدهم يحاول تقليد الكبار في السؤال عن آخر ما تقوله الفحوصات والتقارير عن حالة كمال وهو ينفث الدخان من سيجارته التي تعود عليها مبكرا،الوالد يبدأ بشرح ما عانى في استخلاصه من كلام الاطباء،سواء كان ذلك في فلسطين او الاردن عن بصبص أمل في أن يعود لابنه الجريح الكفيف كمال جزءاَ من نور البصر،لكنه يتذكر أن هذا الامل مرتبط بالبحث عن علاج في الخارج،ويبدي استعاده للذهاب به إلى أيّ مكان في العام لتحقيق ذلك مهما كلف الثمن برغم ضيق ذات اليد.

وقبل أن تتسلل لعينيّ والده دمعة حزن،او شعور قهر يقاومه في صدره،ينظر اصدقاء كمال لوجه كمال،فيكسرون تلك الحالة بالقول :-

ستعود ترى مثلنا حتما...لا تقلق صديقنا...

يبتسم كمال،ويقول بابتسامة الهاديء الواثق التي تغطي وجهه النضر :-

سيكون ذلك إن شاء الله.... عندها سأحقق الامنيـــة الغاليــــة على قلبــــــي...

فَهِمَ الحاضرون مغزى كمال، وما يقصده بالأمنية...صمت الوالد،فنهض الاصدقاء يريدون المغادرة وهم يَعِدُوَن كمال بالعودة اليه غدا في ساعات المساء،ويستحلفونه بالإفصاح عما يريد أو يحتاج...،يتعفف ويشكر،ويقول :-

تعالوا مبكرا.. اريد أن اخرج من البيت... اريد أن نمشي معا...لقد مللت الجلوس وحيدا... وأريد اللقاء بكم طويلا... 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق