المقالة في علم الدلالة/ فراس حج محمد

 


اليوم التاسع والعشرون من شباط لعام ألفين وأربعة وعشرين، وهذا يعني أنّ هذه السنة سنة كبيسة. ليس مهماً أن تكون السنة كبيسة أو ناقصة، لا أظن أن الناقصة مقابل الكبيسة، لأن السنة العادية سنة كاملة، ولا أظن كذلك أن الكبيسة سنة مميزة، ولا مواليد هذا اليوم مميزون، إنما وقع حظهم أن يولدوا في يوم المعادلة الفلكية لانتظام الكون في حساباته الدقيقة أو شبه الدقيقة. ثبت أن الدقة لا مجال لها، وخاصة هذه المعادلة القسرية لاعتدال ميلان الكون الزمني.

كل ذلك أمر طبيعيّ لا ميزة فيه، ولا امتياز، كما أنه ليس أمرا ذا دلالة كلية أو جزئية أن إحدى النساء اللواتي تعلقتُ بها أو تعلقت بي زمنا، ولدت في سنة كبيسة في شهر شباط أيضاً، أنا لم أولد في سنة كبيسة، ولدت في سنة فردية، فمن المستحيل أن تكون كبيسة، سنة قبلي كانت سنة كبيسة، وسأنتظر حتى عام 1980، العام الذي ولدت فيه زوجتي، لتكون ابنة لسنة كبيسة. 

أنا وأبي- رحمه الله- متخالفان تماما فيما يخص السنة الكبيسة والنساء، ولد هو في سنة كبيسة، وأمي في سنة قبله فردية، سينتظر أبي أكثر من عشرين سنة أخرى؛ ليتزوج مرة أخرى من امرأة ولدت في سنة كبيسة. وامرأتي الثانية التي تزوجتني فترة قصيرة ثم تركتني دون مبرر لم تولد في سنة كبيسة.

أولادي وبناتي الستة، رضي الله عنهم، لا واحد منهم قد ولد في سنة كبيسة، (1999، 2001، 2003، 2009، 2011، 2021)، كيف تجنبت ذلك؟ هل تجنبت ذلك فعلا؟ إنني لم أفطن لذلك البتة، لأنه أمر لا يستحق العناء والهندسة البيولوجية المحددة ليولد أحد أبنائي في سنة كبيسة. وكذلك حفيدي الأول لم يولد في سنة كبيسة، ولد في (2023). حفيدي الثاني القادم بعد شهرين تقريبا- إن شاء الله- سيكون ابنا لسنة كبيسة، هل سيكون مختلفا عن حفيدي الأول، بالطبع لا، وإن ولد في سنة كبيسة، وخلّف وراءه شهر شباط بأيامه التسعة والعشرين يوماً.

الحرب الحالية التي شبّت نارها مستعرة، تحرق أخضرنا واليابس، حرب كبيسة، ملعونة، قاسية، لم يكفها أنها ولدت في سنة غير كبيسة، بل أصرت أن تلتهم المزيد من لحمنا في السنة الكبيسة، حرب كبيسة، في سنة كبيسة، جعلتنا نعاني من كل الكوابيس. الكوابيس هنا شاملة، نحن وهم، والعالم العبد. لا أحرار في هذا العالم ليثوروا إلا أحرار غزة الذين حاولوا التحرر من كابوس الظلم، فكبسهم كابوس القتل، الكابوس على وزن صاروخ. تذكروا هذا مع أنها معلومة لغوية لا فائدة فيها، لأن فاروق على الوزن نفسه، ولا فاروق ليعدل ما اختل من أمر هذه الكوابيس القاتلة.

أؤكد لكم أن كل هذا لا معنى له إطلاقاًـ فأين علم الدلالة إذاً في هذه المقالة؟ 

الدلالة في المعجم، وليست في هذه الحركة العقيمة من الولادات والسنوات والزيجات، والحرب المسعورة.

في كتاب "في رحاب اللغة العربية" تعرضت لشيء من التطور الدلالي لطائفة من الألفاظ في الفصل الأول منه، كنت مأخوذا بدلالتها.  في يفاعتي المبكرة وأنا أفكر باللغة على هدي من القرآن الكريم، وكنت أقرأه يوميا عقب كل صلاة مفروضة، سجلت في أحد دفاتري بخط يدي أن كثيرا من معاني القرآن الكريم تطورت من معنى ماديّ إلى معنى معنوي، كنت سعيدا بهذا الاكتشاف. كنت ربما في السنة الأولى أو الثانية الجامعية، ولم أدرس بعد مساق علم اللغة العام وفقه اللغة، ولم أكن أسمع بعلم الدلالة إلا عندما تلقيت المساقين على يدي أستاذنا المرحوم يحيى جبر. أبو عبد الله- رحمه الله- كان موسوعة لغوية، وكان يسترسل في عمل شبكات بين اللفظ ومعانيه قديما وحديثا. أحيانا لم أكن أصدّق ذلك، أو أقتنع به، وأقول أي شطط هذا؟ كنت أجد ذلك نوعا من التمحل وليّ عنق اللغة وألفاظها والتقنية لها (عمل قنوات) لتسير في هذا المسرب أو ذاك، كأنه نوع من الإجبار، لنرى اللفظ ومعناه أو شبكة معانيه كما يريده أستاذنا.

على أية حال، جربت ذلك التمحل كثيرا، وتعايشت معه في مساقات أخرى مع الأستاذ نفسه، ثم في ما بعد مع نظرات العلامة البلاغي فاضل السامرائي في احتمالات المعنى للفظ القرآني في لمساته البيانية، ولماذا قال القرآن هذا اللفظ ولم يقل ذاك. كلام السامرائي أيضا فيه نوع من التهيؤ، أو التصور الذهني لمعنى قد يكون مشتهى له؛ أي يرغب أن يكون على هذه الشاكلة، كثيرة هي ألفاظه التي يحاول فيها "مُلْكاً" لعله يعذر، أطال الله بقاءه ومتعه بالصحتين العقلية والبدنية.

علمتني اللغة وألفاظها أنها زئبقية غير ثابتة الدلالة وبإمكان أي واحد من عقلاء المجانين أن يخترع لفظاً ويعطيَه أي معنى. بشار بن برد اخترع لفظاً وأدخله الشعر، وزعم أنه من لغة "الحمير"، وقال لمحدثه، إن أراد أن يعرف المعنى، عليه أن يسأل حماراً ما. بشار الأعمى مجنون رمى حجرا في بئر اللغة كل العقلاء لم يستخرجوه، ولن يستطيعوا أن يستخرجوه. "كبس" اللفظ والمعنى وانتهى الأمر. كثيرون مثل بشار كبسوا ألفاظاً كثيرة وهاجموا فيها عقولنا، وأجبروها على أن تدخل المعجم.

أحد أصدقائي يحب اللغة على طريقته، ويزودني بلفظين، الأول: الحتلنة، ينحته من عبارة "حتى الآن"، واشتق منها الفعل، حتلن ويحتلن، ويستخدمها بكل سلاسة في كتاباته. إنها لفظة لافتة وجميلة، وصارت شائعة، رأيتها قليلا عند غيره. والآخر: رنقية، وينحته أيضا من عبارة "رسالة نصية قصيرة"، ستغدو هاتان اللفظتان قديمتين بعد فترة، ككثير من الألفاظ التي ولدت متأخرة عن المعجم العربي القديم، لكننا محتاجون لدخولهما في المعجم لتوطينهما، حتى لا يظل برنامج (WORD) يخط تحتهما خطا أحمر بدعوى أنهما لفظتان دخيلتان على اللغة العربية. يزعجني كثيراً الخط الأحمر تحت الكلمات في صفحات الحاسوب، كنت أحيانا أتخلص منه بإلغاء التنبيه لوجود الخطأ، لأنه يخط بأحمره تحت كثير من الألفاظ؛ هي من قُحّ اللغة العربية، ومخّها.

ما علاقة لفظ بشار المقصود الذي لم أقله بعلم الدلالة، وبالسنة الكبيسة، وبشغل علماء اللغة، أمثال يحيى جبر والسامرائي؟ العلاقة هينة، إقحامية، لا تحتاج مبررا لأن تكون موجودة، السنة الكبيسة؛ أضيف فيها على شهر شباط يوم واحد، ليصبح (29) يوما، واللغة العربية أضيف إليها لفظ اعتباطي، لا معنى له إلا في لغة الحمير، هكذا هي العلاقة في طرفي المعادلة الخطية هذه، كلاهما- اليوم واللفظ البشاريّ- لا قيمة لهما حقيقية في العلم والتصور.

المهمّ أكثر هو لماذا أطلق على هذه السنة وصف "الكبيسة"؟ الآن سيأخذ علم الدلالة بالفاعلية، الكبيسة على وزن فعيلة، وصف للمؤنث والمذكر كبيس، وما هو الكبيس في لغة العرب القديمة؟ 

أورد لسان العرب هذه المعاني للفظ الكبيس: الكبيسُ: حَلْيٌ يُصاغُ مجَوَّفاً ثم يُحْشى بِطِيب ثم يُكْبَس، والكَبيسُ ضرْب من التمر، وإِنما يقال له الكبيس إِذا جفَّ. والعام الكبيس هو السنة الكبيسة؛ في الأمر حشو وتراكم، وهذا ما جعل الكابوس هو نكح المرأة لمرة واحدة، كإضافة يوم واحد على شهر واحد فقط، والكابوس هو "البُضع أو الذَكر"، وهو أداة النكاح الفعّالة فيه. وفي المعنى حشو وإضافة. هذه الآلة التي أصبح اسمها "الحنتكور" في اللغة الافتراضية ذات الإيحاءات الشهوانية في اللذة الجمعية الجماعية الحادثة عند رواد مواقع التواصل الاجتماعي الحنتكور هو الذي يدخل إلى الحيصبون؛ الوادي المهجور، ولا يخرج منه إلا مكسور الجناح.

وفي معنى الحشو والإضافة في السنة الكبيسة، يتم حشو اليوم التاسع والعشرين بين اليوم الثامن والعشرين لشهر شباط، والأول من آذار، كما فعل محرّك البحث جوجل هذا العام؛ مثّل هذا اليوم ضفدعاً شبيها بضفدع كيرمت؛ صاحب اختراع الحنتكور والحيصبون، يقفز بين اليومين. عليّ الاعتراف بالقدرة الخيالية لجوجل على هذا التصوير البارع لحشر اليوم بين هذين اليومين. 

ولكن مع كل هذه البراعة الملحقة لأمر غير منطقي، لماذا حشر هذا اليوم هنا، وأضيف بين هذين اليومين؟ ألأن شباط أقصر الشهور، فعوضوه يوماً آخر، كل أربع سنوات؟ لا أعتقد ذلك. يقال إن "أغسطس" وهو شهر آب، الشهر الثامن كان ثلاثين يوما، ولأنه سمي على اسم أحد القياصرة كما هو شهر يوليو، ولأن يوليو 31 يوما تم إضافة يوم إلى أغسطس، لأنه لا قيصر أهم من آخر، فساووا بينهما. عدلا وعدا وقيمة. هل تصدقون هذه التخاريف غير المنطقية؟ أنا لا أصدق. وربما تكون قد حدثت فعلا، ولكن أين المنطق؟ هل يحق لأي ملك مغرور اليوم أن يضيف يوما على أي شهر؟ هل يحق لترامب، بوصفه أكثر المجانين أتباعا واتّباعاً أن يقرر زيادة يوم على شهر آخر من ثلاثين يوما ليصبح واحدا وثلاثين، أو أن يكمل عدة شباط ثلاثين يوماً؟

المهمّ في هذه المسألة الاعتباط وغير المنطقية، ليس في علاقة الدال بالمدلول كما يرى دوسوسير فقط،  بل هي أيضا كحال الألفاظ وتطور دلالاتها، لا منطق فيها، ما الجامع المنطقي بين العين الباصرة والعين النبع والعين في مجلس الأعيان؟ وما الجامع المقنع بين الكبيس المخلل المحشو في المرتبانات بالعام الكبيس، بل ما علاقة الكبّاسة بكل هذا؟ وما دخل مكبس الحديد بكل هذه المعاني وجذورها؟ 

وما دخْل طبخة "الكبسة" التي لا أحبها في الموضوع؟ لماذا أطلقت امرأة مجنونة كبشار بن برد على هذه الطبخة اسم كبسة؟ هل كانت مكبوسة تلك الليلة، وأحبت أن تكبس كابوسها بهذه الكبسة؟ أي أن تحشو معدة "كابسها" بالطعام التي رأت أنه شهيّ. إنه احتمال قويّ الدلالة. أتدرون لماذا؟ لأن الكبسة تقوم على الفلفل الحار والمشهيات واللحمة والبهارات المقوية، تكبس آكلها كبساً، فيعود هذا الكبس كابوسا آخر متجددا لمخترعة الكبسة، فهذه البهارات تقوي الباءة عند الرجل ما يجعل "كابوسه" فعّالا ليقوم بعمله على أكمل وجه في الكبس والتكبيس، ولذلك يقال إذا نكح رجل امرأة ما، كأمر عابر من مثل "إذا هبت رياحك فاغتنمها" إنه قد "كبسها"، مرة لاحت والفرصة أتيحت، فتم "الكبس"، وتفرق الكابس والمكبوس، إنما هي مرة واحدة يستبد فيها الكابوس فيعمل خاطفا قاطفاً دون مبررات معقولة.

لله درك يا علم الدلالة أين أخذتني، وسقتني إلى شعاب متشعبة الطرقات، ولعلني صرت محتاجا للتكبيس، بأن تضعَ إحدى هؤلاء النساء المولودات في أعوام كبيسة يدها عليّ فترقيني برقيتها، فكم أنا محتاج لذلك، مع أنه لا يوجد مبرر معنوي لمعنى التكبيس ووضع اليد في الرقية على الشخص المرقيّ إلا إذا كان وضع اليد "كبساً"، يتوخى هذه المرة إخراج "الكابوس" الذي هو أيضاً: الجاثومُ، والباروكُ، والنِّئْدِلان، أو هو الهاجس الضاغط على الأعصاب، أو ذلك الحلم المزعج الذي يحتاج المرء بعده لأن يرتاح بفعل رقية من امرأة تحط يدها حيث يجب أن تضعها، لعلها تساوي ألف حمامة نزلت على الفؤاد لكي تشرب. هذه الخلطة الأخيرة من اللغة والشعر المعاصر مقحمة تماما كما هو مقحم اليوم التاسع والعشرون من شهر شباط/ فبراير الذي أسميته شهر الحبّ اعتباطا غير منطقيّ أيضاً.

وأخيرا أقول: لا شيء منطقيّ في اللغة وعلم الدلالة والحب والمعاني، إنما هي كلها تخاريف من وضع المجانين الذين كان منهم بشار بن برد وأول امرأة صنعة طبخة الكبسة، ولا يقلان جنونا من صاحب اختراع الحنتكور والحيصبون وأشباه تلك الكلمات التي لا أساس لها من منطق، لكنها متداولة وشرعية، وتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وسيظل القانون العام للغة الذي يقول "اللغة وضع واستعمال، وإذا تعارض الوضع مع الاستعمال، فالاستعمال أولى" مفيدا فائدة مطلقة، نحتاج إليه كل يومٍ تقريباً. وكل عام ومواليد السنة الكبيسة بخير، وخاصة مواليد اليوم المحتفى به؛ التاسع والعشرين من شباط.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق