أُمِّي.../ جورج عازار



مِن خَلفِ التَّنورِ أَطَلَّتْ أُمِّي

تَحمِلُ بين يدَيها

رَغيفاً وسُنبُلَةً

تبتسمُ مِثلَ وَردةٍ قبَّلَهَا النَّدى

في سَاعاتِ الصُّبحِ الوليدِ

فتَضَوَّع المُستَقَرُّ

بِعَبَقِ المَرجِ وأَريجِ الخُبزِ 

****

أُمِّي نُضُوحُ النَّبعِ 

في وادي الذِّكرى

هُناك تَجلِسُ في صَبرٍ وأَناةٍ

تُحيكُ لي سُترَةً صوفيةً

كي أُحاربَ بِها 

طَواغيتَ البَردِ وشياطينَ الجِّنِّ

وأفاعي الغُربَةِ

****

كُلَّما فَرَغَت جُعبَتي من فَرحٍ

أفتحُ خِزانَتَها العَتيقةَ

وأملاَ جيبي بحَفنَاتٍ

من قَمحِ عينَيها

ومِن تَجاعيدِ يَدَيها 

****

أُمِّي من طَيفِ بَسمَتِها 

أقتطِفُ رَيحانةً تكفي

لإضاءةِ عَتمةِ أيَّامي المُقبلةِ

وسَدِّ رَمَقِ رُوحي المُرهَقةِ

****

أُمي أشتاقُ إلى كَلمةِ عِتابٍ

أو لَمسةٍ وإلى مجرَّدِ هَمسَةٍ

وإلى عِناقٍ لا يُقِرُّ بأوقاتٍ

ولا يعترفُ بتعاقُبِ الأزمنةِ

****

في صَمتِ غيابِكِ أُمِّي

رُبَّما لا يَكفي

ما في العُمرِ مِن بَقيةٍ

كي أروي لكِ حِكاياتٍ 

في جَحيمِ البُعادِ

كم صارت الشَّمسُ باهِتَةً

وكيف صارت شُؤماً 

ضِحكَةُ القَمرِ

وكيف تَبكي في كُلِّ مَساءٍ

تِلك الزُّهورُ الَّتي زَرَعَتْهَا

 يَداكِ في جَنباتِ حَديقتِنا

****

يموتُ الضَّوءُ في عَينَيّ

ويعتري فؤادي

زَمهَريرٌ وخَوَاءٌ

أعيشُ ولا أعيشُ

كأنَّكِ يا أُمِّي 

في يومِ ميلادي

رَبَطِّتِ حَبلَ السُرَّةِ

بلَمسةٍ من كفَّيكِ

وضِحكةٍ من شَفتَيكِ

ومن زَغاريدِ وتَرانيمِ كُلِّ الأعيادِ

فكيفَ في عَتمةِ الرَّحيلِ لا أرتجِفُ؟

وكيفَ في مَحطَّاتِ الوَداعِ لا أنتَحِبُ؟

****

أُمِّي هل تَرَكْتِ مِعطَفَكِ الأَسوَدَ

مُعلَّقاً على مِشجَبِ ذَاكِرَتي؟

أُمِّي أخبريني

هل نسَيتِ صُرَّةَ الحَلوَى

يَتيمةً على رُكْنِ طَاولَتي

ومُسرعةً مَضيتِ؟

****

حين تَجئُ أُمِّي من فَضاءاتِ المَدى

تَحمِلُ في حقيبتِها مَطراً وحُبَّاً

ومِنديلاً أبيضَ مُعطَّراً بدُموعِها

تَمسحُ عَن وَجهي غُبارَ الوَهَنِ

وتَطبعُ قُبلةً وبُرعُمَ وَردةٍ

فوقَ وَجنتي

وتُغادِرُ قبل أن يُشْرِعَ الفَجرُ أبوابَهُ

فوق حِيطانِ حَيِّينا العَتيقِ

وقبل أن تستفيقَ الياسَمينةُ الغافيةُ

على جِدارِ نافِذتي

****

أُمِّي كم أشتاقُ إلى لَونِ الرَّغيفِ

الَّذي كان بفرحٍ يرقصُ بين أصابِعِكِ

وأشتاقُ إلى بَوحِ التَّراتيلِ

الَّتي كانت في كُلِّ الدُّروبِ تنبعِثُ

وأنا مُمسِكٌ بِذيلِ فُستانِكِ

كأنَّهُ مَلاكي الحارِسُ 

حين يخفُتُ نورُ السَّماءِ

ويتلاشى وَجهُ البَدرِ

****

أُمِّي يا زّهرةَ أُقحوانٍ بَريَّةٍ

يا صَوتَ النَّاي الصَّادحِ في المَدى

أُمّي يا عِشقي الأبدي يا بَلسَمَ جِراحاتي

أُمّي يا مِلحَ الأَرضِ الَّذي أبداً لا يَفسَدُ

أُمِّي رُغمَ غَصَّةِ الرَّحيلِ

 الَّتي سَكنَتْ رُوحي 

عَزائيَ الأكبرُ

 أنَّكِ كُنتِ 

كُنتِ أُميِّ


ستوكهولم السويد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق