حياتُنا نسمةٌ عابرةٌ مثلَ عُبورِ النَّسيمِ إلى روحِ حبيبِنا الغالي قرياقس حنا/ صبري يوسف



"يولدُ الإنسانُ وأمُّهُ تتألَّمُ ..

     يموتُ وأمُّهُ تتألَّمُ أيضاً 

     هذهِ المعادلةُ الصَّعبةُ

     لا أطيقُهاعلى الإطلاقِ!" .. 

             ***

لمْ أرَ في حياتي موقفاً 

أصعبَ مِنْ أنْ تُشيّعَ الأمُّ وليدَها 

موتٌ مُضاعفٌ في الحزنِ والأنينِ 

مُعادلاتُ الحياةِ مقلوبةٌ ..

لا يفهمُ الإنسانُ سرَّ الوجودِ 

يَفِرُّ العُمرُ مِنْ بينَ أيدينا 

     مِثلَ فِرارِ الحُلُمِ 


حياتُنا نسمةٌ عابرةٌ مثلَ عُبورِ النَّسيمِ 

لا نملكُ في الحياةِ سوى أعمارِنا القصيرةِ  

مهما عاشَ الإنسانُ 

فإنَّ يومَ الرَّحيلِ في الانتظارِ 

فجأةً تنفرشُ أمامي ذكرياتُ الماضي البعيدِ 

تتراقصُ سهولُ القمحِ أمامي 

كتراقُصاتِ أمواجِ البحرِ 

وأرى قرياقسَ يعبرُ أعماقَ البراري 

يقودُ "جرّارَهم" وهو يحلمُ بأيَّامِ الحَصادِ 

كَمْ مِنَ الأحلامِ والحَصادِ والغُربةِ 

كَمْ مِنَ الآمالِ والحَنينِ 

فجأةً يرحلُ الإنسانُ على أجنحةِ الحُلُمِ 

تاركاً الأمَّ تذرفُ دموعاً رقراقةً 

والإخوةَ في حالةِ ذهولٍ متسائلينَ بمرارةٍ حارقةٍ: 

هَلْ مِنَ المَعقولِ أنْ يغادرَنا آخرُ العنقودِ؟  

أحزانُ الدُّنيا تنهمرُ على أخيهِ ماروكي  

لا يصدِّقُ ماروكي عينيهِ

انسابَتْ دُموعُ الحَنينِ فوقَ سُفوحِ القلبِ 

تراءَتْ في مُخيّلتِهِ آلافُ الصُّورِ 

جرفتْهُ إلى قريتِهم الوديعةِ 

تذكّرَ أيَّامَ الحَصادِ والنَّوارجِ 

انسابَتْ دموعُهُ مِدراراً فوقَ أجنحةِ الرُّوحِ 

ماروكي كتلةٌ مِنَ الحَنينِ 



انهارَ أخوهُ الكبيرُ يوسف مِنْ هولِ الفجيعةِ 

جحظَتْ عيناهُ أسىً  

وانفرشَتْ أمامَهُ ملايينُ الذّكرياتِ 

نظرَ إلى السَّماءِ 

فرأى قرياقسَ مُبتسماً لنُجيماتِ الصَّباحِ 

حياتُنا معفَّرةٌ بغربةٍ مفتوحةٍ 

على مِساحاتِ أحلامِنا الهاربةِ    

     مِنْ لهيبِ الاشتعالِ 


بكاءٌ على مِساحاتِ الحَنينِ 

غربةٌ موجعةٌ اكتسحَتْ مآقي اسحق 

ذرفَ الدُّموعَ مِثلَ طفلٍ 

تمتمَ غريبٌ أنا في عُقرِ داري 

أينَ أنتِ يا أمِّي وأخي وأختي 

أينَ أنا مِنْ دُنيا الحنانِ؟

بحسرةٍ حارقةٍ يتأوَّهُ مُردِّداً  

أواهٍ .. يرحلُ أخي قرياقس 

     إلى أحضانِ السَّماءِ

آهٍ .. يرحلُ بعيداً عنِّي 

الحياةُ أوجاعٌ متتاليةٌ فوقَ جَبينِ البشرِ 

تبكي الأخواتُ بكاءً مُرَّاً 

والبنونَ في حَالةِ اشتعالٍ مَوصولٍ 

وغاصَ الأولادُ حنّا وكابي وليفر 

     في دموعٍ مُنسابةٍ في مآقي الأنينِ

وقفَتْ مادلينُ مجروحةَ الفؤادِ 

زوجةٌ غارقةٌ في لَهيبِ الحُزنِ .. 

وقفَ الأهلُ مَصعوقينَ 

الحياةُ رحلةٌ مليئةُ بالأوجاعِ 

سَفَرٌ في آفاقِ الأسى والأنينِ


ترفرفُ الطُّفولةُ أمامَ مرأى الأحبّةِ 

يبتسمُ قرياقسُ للأهلِ عَبرَ مرافئِ الذّكرياتِ 

لا تفارقُ بسْمتُهُ خيالَهم  

آلافُ الصُّورِ تتراءَى لهم دُفعةً واحدةً 

البشرُ ألبومُ صُورٍ مَحفوظٌ في ذاكرةِ الزَّمنِ 

ومرسَّخٌ في ذاكرةِ الأحبَّةِ


نحنُ فكرةٌ عابرةٌ على وجنةِ الحياةِ 

الموتُ جرحٌ قاطعٌ في كينونةِ المُحبّينَ 

لا يستوعِبُ الإنسانُ حَقيقةَ المَوتِ 

يخترقُ الموتُ صباحَنا ومساءَنا 

ويجرفُنا بَعيداً عَنْ جَادةِ الحَياةِ 

يُخلخلُ أحلامَنا المزدانةَ بالأملِ 

يجعلُنا نرى أنفُسَنا في مرآةِ الذَّاتِ 

نراها مَملوءَةً بالانكساراتِ 

     وشهقاتِ الاشتعالِ

يرحلُ حبيبُنا قرياقس في شهرِ نيسانَ

رحلَ في شهرِ البركةِ والاخضرارِ 

في شهرِ حبورِ الأزاهيرِ 

نبقى صامتينَ أمامَ هالةِ الموتِ 

نشعرُ أنَّنا شهقةٌ عابرةٌ في عُمرِ الزَّمنِ 

نولدُ على إيقاعِ النَّواقيسِ 

نجوبُ الدُّنيا على أجنحةِ الأحلامِ 

ثمَّ نرحلُ على إيقاعِ النَّواقيسِ أيضاً 

نحنُ حُلُمٌ مجنّحٌ فوقَ ربوعِ الدُّنيا 

حُلُمٌ مُزنَّرٌ بأزهى الآمَالِ وأنينِ الآهَاتِ 

وجعٌ يموجُ في سَماءِ الحَلْقِ 

دموعٌ لا تفارقُ مآقي الأحبّةِ 

     مِنْ هَولِ الفِراقِ!

***

"إلى جِنانِ الخُلدِ يا حبيبَنا قرياقس 

الصَّبرُ والسّلوانُ لكلِّ الأهلِ والأحبّةِ" .. 


صبري يوسف 

ستوكهولم: 21. 4. 2024 

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق