الشَّبابُ الشُّجْعان/ ترجمة ب. حسيب شحادة



جامعة هلسنكي


القاصّ/الحكّاء: الكاهن الأكبر سلّوم عِمران (1922-2004).

בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון 2021, כרך ב’ עמ’ 576-573. .


اللهُ ميراثُنا


نعم، نعم، إنّي أستريح هنا من عمل اليوم، في غرفة الضيافة الجميلة التي بنيتُها لي بجِوار بيتي الواسع على جبل جريزيم، في المدخل الغربيّ لقرية لوزا. هنا أستقبل ضُيوفًا من أبناء الطائفة، وضيوفًا آخرين سمِعوا عنّي فيأتون إليّ طلبًا للمشورة بخصوص مشاكل شخصيّة. وغالبًا ما يتِمّ حلُّ المشكلات بفضْل بركة الله الموعودة ، كما ورد في التوراة، لبني ليڤي/عاطف.

الله ميراثنا، كما جاء في قول الله بواسطة سيّد الأنبياء، موسى عليه السلام. كلُّ مكافأة أتقاضاها على نصائحي هي بركة من الله. لا، لا، لا داعيَ للشكوى، لقد سمعتُ شكاوى بني إسرائيل. اِذْهب وقل لهم، في الوقت القصير الذي يتسنّى لي الجلوس وحدي في هذه الغرفة، أتَوجَّهُ إلى خِزانة الكتب التي تروْنها، أستلّ منها مُجلّدًا من مجلّدات أ. ب. - أخبار السامريّين، أُبحِر إلى الوراء في التأمّل  والقراءة بصدد ما مرّ بنا في غُضون العشرين عامًا الأخيرة، وقبلَها بآلاف السنين.

لا شكَّ، مادّة القراءة متوفّرة بوفرة، وعليه ففي آخر المطاف، لا أُضيّع وقتي وأنا مكتوف اليدين. عندما أَستضيف في بيتي سامريّين يوميًّا، تعلّمتُ من أبينا إبراهيم الخليل، أن أقوم بالواجب على أكمل وجهٍ من الضيافة، كي يستمتعوا بوقتهم، كما أستمتع أنا عند زيارتهم.

أعملُ معظمَ الوقت، من أجل أبناء الطائفة في ذبْح الأغنام، التي أَقتنيها بمالي من قُطعان الرعاة على جبل جريزيم. لي تجربةُ سنين كثيرة في هذا المجال، ومع أنّ الخدمة ليست مجّانيّة، إلّا أَنّي أَعُدُّها واجبًا، إذ عليّ تقديمها لتوفير اللحم لأبناء طائفتي في نابلس وحولون.

هذا الواجب ليس ظريفًا دائما. إنّ شعب إسرائيل، في الواقع، جائع دائمًا، لكنّه انتقائيّ لحدّ كبير (بِتْبَغْدَد، إرضاؤه صعب) أيضًا. عادة، أُفضّل أن يشتري بنو إسرائيل بأنفسهم الخروف ويُحْضرونه لي للذبح، وهكذا ينتهي الأمر بسرعة بفصل جزء ”القدس“، والجزء الذي يُعطيه لي صاحب الخروف أُجرةَ الذبح.

ولكن في المعتاد، في أغلب الحالات، أنا أبيع لحم الخِراف التي اشتريتها. عندها، لا تجد مشتريًا يكون راضيًا عن اللحم الذي اقتناه. ما زلتُ غيرَ قادرٍ لفتْح ملحمة، حيث يستطيع الشاري اختيارَ ما يرغب من الأجزاء. وإلى أن يتِمّ ذلك بسرعة في عمرنا، فالعمل يجري بتقسيمي الخروف لوَحَدات بوزن كيلوين كلّ واحدة، وفيها شريحة من الدُّهْن في كلّ كيس. هنالك مطالباتٌ وشكاوى بشكل دائم. هذا يتذمّر، الدُّهن كان أكثر من اللزوم، وذاك يدّعي: اللحم ليس طريّا. بصبرٍ أسمع الشكاوى، وأُتابع عملي من أجل طائفتي. وثمّة خِدمة إضافيّة أعَدّها الله في الخِدمة المقدّسة أمامَ الطائفة.

في نزولكم في الطريق المؤدّية من قرية لوزة، نحو تلّ الراس وحُرْش الأشجار الضخم المحيط به، وتستمرّون في السير حولَ الجبل من الشمال إلى الجنوب، من دون دخول الحُرش، والنزول في السبيل المتعرّج نحو السفح، وها عند وصولكم للنقطة التي فيها يمكن مدُّ خطٍّ مستقيم في سفح الجبل، من الشرق إلى الغرب، من مكان وقوفكم إلى قبر الشيخ غانم  في قمّة الجبل، تكونون هكذا قد وصلتم المبتغى/الهدف: شجرة تين من جهة يَسار الطريق، المسمّاة عندنا جميعًا باسم عراق التين/أوراق التين. 

ثمّة صُخور ضخمة وعالية على يمين الطريق، وداخلها شِبه مَغارة غير كبيرة. هذا هو المكان، الذي زاره كلّ فتًى سامريّ، وهناك أمضى أيّامًا كثيرة في المرح الصاخب والتصرّف كالبالغين، قبل معايشة الحياة القاسية. 

يُمكنُ الوصولُ إلى المكان بطريقتين أُخريين: الطريق الطويلة جدًّا من قرية لوزة جَنوبًا، الدوران حول الجبل في سبيل من الغرب شرقًا [في الطريق صخور عالية ويجب النزول بحذَر شديد لتفادي الانزلاق، لا سمح الله] والسير بضْع مئات من الأمتار.

أمّا الطريق القصيرة فهي النزول البطيء والحذِر جدًّا من قمّة الجبل، من بُرج قبر غانم للمراقبة، قُرابة المائتي متر حتّى وصول الصخور التي فوق شجرة التين. استخدام الطريقتين الأُخريين غير مُحبّذتين (غير موصى بهما) لمن ينوون إجراء حفلة سمَر حولَ النار، في المَغارة بجانب شجرة التين، لأنّهم يكونون حاملين سِلال مملوءة بكلّ ما لذّ وطاب، وبأدوات ضروريّة لمثل هذه الحفلة. 

على الرغم من الفرح الكبير الذي يُصاحب مثلَ هذه الحفلة، فإنّ بعدَ مشي بضْع مئاتٍ من الأمتار، يبدو لكلّ واحد أنّ سلّته تزِن عدّةَ أطنان، ويتلاشى الفرح. لذلك، فمنَ الأفضل الذهاب في الطريق الوسطى وهي، إن أردتم، الأقصر والأسرع، لا صُعودَ فيها ولا هُبوط (لا طلعات ولا نزلات)، والدردشة ممكنة وغير محدودة، لأنّه لا حاجة لاختزان النفس للصمود عند التسلّق أوِ الانزلاق.

تسألون بالطبع لماذا، بغية إقامة حفلة، وجب الابتعاد عن مخيّم السامريّين على الجبل، إلى هذا الحدّ؟ في الواقع، هنالك كسالى يُقيمون حفلاتٍ جميلة على قمّة الجبل، بين بقايا الكنيسة البيزنطيّة، ولكن جُلُّ الشباب يفضّلون الابتعادَ حتّى شجرة التين، لأنّه مكان آمنٌ بعيد عن أعين الآباء والأعمام المتحرّية عن أعمالنا الطائشة.

بالرغم من أنّ هذا لم يكن سرًّا البتّة، أي إقامة الشباب الحفلة هي لذرّ الرماد في العيون، إذ أنّ الهدف الأساسيَّ لها هو تدخين جُنونيّ للسجائر، وكلّ المكثر في ذلك يُحسن صُنعًا. يُعيدني كلّ هذا الموضوع المنعش، إلى أيّام شبابي، عندما كنت عضوًا كامل العضويّة في الشلّة،  التي ترأّسها عاهد غزال ابن عائلتي، الذي أصبح لاحقًَا الكاهن عاهد غزال، إمام السمرة في نابلس حتّى وفاته في العام 1988، رَحِمَه الله، وصديقي وهو كأخي راضي الأمين، الذي تُوُفِّي في العام 1990، رحمة الله عليه.

في أيّامَ صبانا وبعدَها كنّا يدًا واحدة، وفاق عددها الأيّامَ الأخيرة، التي سادت فيها الخِلافات بيننا، وهذا ما يؤدّي إلى ذَرف دموع الأشواق والحنين إلى تلك الأيّام، التي نفتقدُها اليومَ في جوّ طائفتنا. 

من مهامّ رؤساء شِلّة الشباب السامريّ، كان تنظيم الحَفْلات خارجَ المنازل. ولقد كانت أفضل الأيّام لذلك بالطبع، أيّام ما قبل عيد الفسح وسبعة أيّام المصّة. وقد عمِل جاهدًا في هذا الصدد بشكل خاصّ راضي الأمين، الذي كان عليه أن يكون حذِرًا من ضرب ذِراع عمّه ممدوح صالح صدقة الشديدة، الذي حرَص على جعله سامريًّا صالحًا، واتّخذه تحت كنَفه بعد وفاة شقيقه الأمين والد راضي.

لكن، دَعنا لا نُقدّم المتأخّر، كان راضي يقوم بتمويل جزء كبيرٍ من تكاليف الحفلة، من المال الذي كان يتسلّمه من أبيه بذرائعَ شتّى. كنّا بذلك المال نشتري اللحم، الخَضْراوات، الفواكه، ولا سيّما عُلَب اللفائف/السجائر المعدنيّة المذهّبة  الإنچليزيّة - ثلاث خمسات، خمسة خمسة خمسة- Five Double Five. عاهد، ابن عائلتي كان يؤمّن زجاجتَي عَرَق سامريّ صافيًا، أي ليس ذاك المزيّف الذي معظمه ماء، الذي كان والدُه يبيعه للبريطانيّين والعرب. بعد كلّ حفلة كهذه، كان والد عاهد يتساءل كيف أخطأ في عدّ قناني العَرَق، وكان مستعدًّا أن يُقْسِم بأنّه أحصى زجاجتين أكثر ممّا في الخِزانة/النمليّة الآن. 

وصلنا شجرةَ التين مرتاحين، وضعْنا إبريق الشاي على النار (كومة من الحطب المشتعل)، رتّبنا السِّلال في شُقوق الكهف 

الصغير لنتفرّغ ”للعمل المقدّس“، المتمثل في تدخين السجائر. آنذاك، كان الشباب بعكس اليوم، يستحي من التدخين أمام َ شخص بالغ. أُشعِلت كلُّ لفافة جديدة من سابقتها، إلى أن أُفعِم رأسُنا بإحساس طيّب بأنّنا كالكِبار البالغين. وكنّا نتناول البصل  بعد هذا التدخين، لكي نُخفي رائحة التبغ، لئلا يكتشفها آباؤنا وأعمامُنا. هذا حقًّا يقضي على الهناء بعد الحفلة، ولكنّه كان أفضلَ من جَلْدات سوط أقاربنا.

عُدنا إلى المخيّم على الجبل تَعبانين، ولكن سُعداء، ورائحة البصل تسبِقنا ببضعة أمتار، مثل عامود الغمام قدّام بني إسرائيل، ولكن شتّان ما بينهما، وتلك الرائحة كانت خيرَ دليل على تدخيننا المفرِط للسجائر. بشكل خاصّ، كان المرحوم فهمي عبد الرحيم سراوي، رحِمَه الله، يضحك علينا كثيرًا، ويسأل دائمًا: حسنًا/طيِّب كم سيجارة دخّنتم؟

في مدخل الخيمة، كان ممدوح  ينتظر راضي ابنَ شقيقه، ونظرات عينيه لا تبشِّر خيرا. أكّدنا له: الوحيد الذي لم يُدخّن هو راضي. و للتوّ، كانت والدته زينب تدافع عن ابنها: ماذا لو دخّن سيجارة واحدة؟ 

العمّ ممدوح: ضحِك. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق