سيمفونية الوجع الإنساني المشترك- غناء الذات الشاعرة على أنغام الهورة/ كريم عبدالله



قراءة في قصيدة الشاعر الكردي : عزالدين زكي زاد / أربيل- حلبزة .

ترجمة الشاعرة سلوى علي / السليمانية .

الشعوب ضحايا الحروب والارض ميدان للمأساة الانسانية, وتتداخل الأزمنة والمدن في ذاكرة الأنسان المنكوب, وتستعيد الفاجعة الانسانية بريقها حين تحترق مدينة هنا وأخرى هناك, وتتجدد محنة الانسان , ويعيش على حافة القلق الانساني, وهو ينظر الى صورة الانسان تشوّهه الحروب , وتحاول أن تمسح وجوده من فوق الارض التي عاش عليها, وتربّى فيها هو وأجداده منذ القدم .

ويقفز تاريخ المحن والكوارث من الماضي الى الحاضر في ضمير الشاعر , الشاهد الذي رأى كلّ شيء, وعاش المحنة , واحتفظ في ذاكرته صور المأساة , وبشاعة قسوة الطغاة على الضعفاء, ليكتشف نفسه يعيش تلك المأساة من جديد, وهي تمرّ أمامه كشريط سينمائي .وتتسرّب وتتداعى الاحداث بشكل تلقائي في نسيج الشاعر, وتسقط المدن واحدة تلوى الاخرى, ويسقط الانسان الأعزل تحت وابل الغضب الوحشي, وقنابل الدمار, وتجحض عيون المفقودين محتفظة بالألم .

حلبزة  فجيعة المدن المنكوبة , وغناء على أنغام الهورة , هكذا هي قصيدة الشاعر الكردي : عزالدين زكي زاد , والتي هي عبارة عن مدينة/ حلبجة/ ومدينة / غزة / , فقد اصبحت كارثة حلبجة رمزاً إنسانياً تنزّ بالوجع المزمن, ومحنة الذات المنكوبة, تصبح ذاكرة حيّة لدى الشاعر كلّما تجددت مأساة هنا , ومأساة هنا, وتبقى حاضرة وشاخصة حينما تنفتح على مأساة مدينة أخرى كما حدث في مدينة / غزة / هذا الجرح الذي لمّا يزل ينزف بغزارة أمام صمت العالم كما حدث بالأمس لمدينة / حلبجة/ عندما تعرّضت لأبشع هجمة همجية . هكذا يفتتح الشاعر: عزالدين زكي زاد , قصيدته:

 رامي  النار/ یرصد الوطن بنیرانه / و العالم  يأخذ السیلفي معه/ الأكفان لا تدرك الموت / مدینة سويت بالأرض / تحولت رماداً / لا تصل الانفاس للمستغيثين / تحت الکتل الکونکریتیة.

وسرعان ما ينقلنا الشاعر الى مدينة أخرى تشترك مع مدينة / حلبجة/ في نفس المحنة , والقلق الانساني, والدمار , والقتل ,والخراب, وتنفتح القصيدة على مأساة مدينة غزة, المدينة التي دمّرت لأكثر من مرة عبر التاريخ, لا لشيء سوى المطالبة بالحرية , والسلام والوجود فوق ارضها, كما في مدينة / حلبجة / التي حاول الطغاة أن لا يتركوا لها أثراً فوق الارض , لا لشيء سوى المطالبة بالحرية والوجود والامان, فها هو الشاعر ينقلنا الى عميق المأساة , فيقول :

سيسرد التاريخ / ملحمة المقاتلين / الذين لم يتمكنوا من استرداد غزة / لكنهم سيسردونها / سيسردون / حكاية الانين  تحت الانقاض / الاثداء التي سال حليبها / لوليدها الضائع.

ليجعل من التاريخ شاهداً آخر على المحنة وهو يسرد لنا هذه الصور المؤلمة , وضياع الأنسان تحت أنقاض وحشية الحرب , وهي تلتهم الجميع بلا رأفة , وينتقل في حارات مدينة / غزة/ ويصور لنا بشاعة الحرب , فها هو يقول :

مساجدها دنست / لا صلاة فيها  / صلواتها المدفونة / صلواتها  المذكورة البعيدة / ذاك الوشاح المتعب تحت التراب / وتلك الاتربة المتراكمة  فوق الجماجم / عيونها المترقبة فقدت الامل / أمل الشهيد المُثقل بالقلق .

فمن خلال صوت تحطّم الجماجم, وفي العيون المغمضة تحت التراب, نسمع أنين المساجد, وصلواتها المدفونة تحت الانقاض, والأمل المثقل بالقلق والخوف, والموت .

ويستمر الشاعر : عزالدين زكي زاد في غنائه الحزين حين يقول:

سيسردون / التاريخ في عشرات القصص / قصص في عشرات أسطر من الدم / دم من جراح عشرات الأزقة / أزقة تحت جناح مدینة محترقة / مدينة فوق أكتاف مكسورة.

لقد وجد الشاعر نفسه في عمق الموت, وكأنّه هو الميت لا غيره, حيث الموت حاضر في خلجات / الشاعر- المدينة/ والقصص يكتبها الدم النازف الذي لا يتوقف, الكلّ أموت فيها حتى الاحياء الذين ينتظرون الموت , القادم اليهم لا محالة , والقاتل يصرّ على تدمير الحياة في هذه المدينة, ولا رادع يردعه, ولا ضمير يصرخ بوجه ويوقف شلالات الدم , ويغلق أبواب القبور!

ويعود بنا الشاعر عبر التاريخ الى مدينة أخرى تشترك مع مدينة / غزة/ بنفس المحبة حين يقول:

سيسردون / کانت هناك مدینة مثل حلبجة / دون ذنب دمرت / الجمعة في أحد أحياء السليمانية .

هذه المدينة التي كانت آمنة , التي تعرّضت الى كارثة انسانية , نتيجة الطغيان والاستبداد والظلم, حين قصفها الطاغية المقبور بالمواد الكيمياوية المحظورة , وحولها الى مدينة اشباح تعوي فيها المأساة .

ثم يستعيد الشاعر صورة الشاعر الكردي/ لطیف هلمت / ويضعها أمام صورة الشاعر الفلسطيني / محمود درويش/ وجهاُ لوجه, ليقول لنا بأن الشعراء هم القلب النابض بين الناس , والصادقون في تصوير المحبة , والوقوف بقصائدهم أمام الطغيان والطغاة, كما في هذا المقطع :

في بیت شاعر "گرمیان"ي*/ غسان كنفاني / بشعره المجعد  / الأكثر تشابكاً من ظلم الحياة / بعينين أكثر سواداً من يوم حلبجة / یخرج من دیوان"لطیف هلمت"*.

ويحاول الشاعر أن ينبش وسط الدمار, وخراب المدينة المنكوبة , عن بقايا الحياة , بعدما يتناول / كركاً – مسحاة/ من مدينته المنكوبة / حلبجة/ , دليلا على اشتراك مدينتي/ حلبجة / ومدينة / غزة / ليتحول اسميهما الى اسم اخر مشترك بينهما, يتحولان الى مدينة واحدة تدعى / حلبزة/ , مدينتان منكوبتان في زمن الطغاة , وعلى ايد أعداء الانسانية , فها هو يقول لنا :

یستلم (کرکاً) من حلبجة / کركاً يتعرف على أتربة الجثث تحت التراب / کرکاً يتعلم فتح القبور المجهولة / کرکاً سمع أنین الجرحى لحين الاستشهاد / کرکاً  مازال يتذكر عويل الاطفال لحين احتضارهم / کرکاً لا يلامس الضلوع و الجماجم و الفقرات / لا يلامس الطائرات الورقية المقتولة / الدمیة المخنوقة بین اليدين/ بهذا الکرک .

يحاول من خلال هذا /الكرك – المسحاة / المنتسبة الى مدينة حلبجة ,أن يتعلم كيفية فتح قبور لجثث مجهولة , فهو لمّا يزل يسمع أنين الاطفال في مدينة/ حلبجة – وغزة/ وهم يحتضرون , فهو لمّا يزل يسمع طقطقت عظام الجثث , ولمّا يزل يرى صور الطائرات الورقية التي كان يلعب بها الاطفال في ايام السلام , لكن! تبدد كلّ شيء وهو يرى كيف تموت حتى الدمى مخنوقة بين أيدي الأطفال!

وسرعان ما يطلق العنان لساقيه مستغيثاً , ومستحضراً لشخصية البطل المنقذ , يستنجد به , الى دیوین ذلك مكان الذي یقع في الجنوب الغربي من مدینة اربیل , والذي كان مكان اقامة صلاح الدین الأيوبي لفترة من الفترات, البطل الذي دحر طغيان اليهود في يوم ما, ولكن, عبثاً لا يوجد اليوم منقذ ينقذ المدن المنكوبة في زمن الاستسلام والتشتت والتشظّي والغربة! فها هو الشاعر يصدح بصوته / و على أطراف أربيل / یطلق العنان لساقيه  حتى وصوله ل قلعة "ديوین" / یتوضآ/ لسفر رجوعه للبيت / یصلي الاستخارة. / يقفز / يعيده شغفه الی غزة / یرفع الانقاض / من تحت الدمار.

وتصبح مدينة / غزة/ محور اهتمام الشاعر , والمحرّك الذي تتحرّك من حوله المدن, وتتشابك الخطوب, ويتكاثر الموت في  حاراتها, فلا أحد بمقدوره أن يرفع الانقاض على كاهلها, ولا أحد يحاول أن يمسح عن وجهها الحزن غبار الحرب والموت, فتصبح رمزاً لصمود المدن كما كانت بالأمس مدينة / حلبجة/ , لكن من خلال هذا الدمار , ومن تحت الأنقاض , تنهض المدن وتنفض عن كاهلها غبار الحرب , وتنتصر رغم قسوة الطغاة , وعبثية الحروب, فها هو الشاعر يعود بنا من خلال هذا المقطع النصّي الى ما يحلم به , ويراه في مخيلته , وما يؤمن به من انتصار قادم / أثداء الأمهات تحولت لنبع  یتدفق منه الحلیب /غسان ينظف السواق  بکرک حلبجة / يروي أرض غزة حليباً / یزرع  الحیاة / یذر الأمل في الحقول/ يطعّم جذوع الهموم  بالأحلام /تصل  الجراح للسواقي / شريان بعد شريان یعید الارض وطناً / الدمار يصبح مروجاً / تنبت الازهار جنباً الى جنب / أزهاراً  ذوات أوراق بِیض  کالحلیب / تتسارع لتنمو، أسرع من نبض رضيعٍ مرتعب / , وتتلاحم المدينتان / حلبجة / و / غزة/ لاشتراكهما في مأساة واحدة , وهي الحرب وما تخلّفه من دمار للأرض والأنسان , وما تتركه من جثث تحت الانقاض , لكن الشعراء سيبقون هم ضمير الارض الصادق اينما كانت الارض وكان الانسان, فها هو / غسان كنفاني/ شاعر الارض الفلسطينية ينظف ما خلفته الحرب بالآلة التي رفعت آثار الموت عن مدينة / حلجة/ , وها هي الأم مصدر الحياة يتدفق حليبها دلالة على النمو والتكاثر والوجود وقد تحولت الى نبع للحياة والصمود والنصر, ستنمو بذور الأمل في الارض المحروقة, وتقف الحياة وجهاً لوج أمام غطرست الموت لتنصر, ويتحول الدمار الى مروج تنبت فيها الازهار , تتسارع وتنمو دلالة على الاجيال القادمة, وتنتصر المدينة.

ويسترسل الشاعر في رسم صورة المستقبل للمدينة المنكوبة , المدينة الحاضرة في ذاكرته , فها هو يقول/ حدائق ما بعد الدمار  كل غصنٍ  لها يزهر وردتين / وردة  أنشقت نصفين /تعود جذورها للجراح / سيجعلها الجيل القادم شعاراً للحبّ / و الاخری وردة للعین / كبؤبؤ عین  باکیة / بجنب كل نبتة مورّدة / ضربات نبض قلب طفل / يمد خیطاً لظهر ورقة تملأ السماء طيراناً / خارج كل ساقية شاب يقطع القصب / ليصنع ناياً /يملأ الكون عزفاً / اعترى غسان ابتسامة واستراح / یقبّل مقبض الکرک... و /یغني قصيدة الأرض  لمحمود درويش / على لحن ال "هورة".

ستبقى الحدائق عامرة بالأزهار بعد أن يندحر الدمار وتنتصر الارض على طواغيتها, وسينهض الجيل القادم متخذاً من الحبّ لغة له وشعاراً, وستملأ السماء الصافية طيارات ورقية يطلقها الاطفال دون خشية القذاف واصوات الطائرات الحربية التي صبّت جام غضبها على هذه الارض / حلبزة – حلبجة / غزة/ , وسينهض الشباب عماد المستقبل يستذكرون محنة هذه المدن , يملؤون الكون عزفاً وغناء, وبعد أن تستعيد الارض حرّيتها وعافيتها من بعد الدمار, ستعتري الشاعر ابتسامة , بعدما هدأت الحرب ووضعت أوزارها .

وهنا نجد الشاعر/ عزالدين زكي زاد / يقف على اطلال المدن يغني تلك الاغنية الحزينة , الأغنية الكردية التي تشبه الى حدّ ما النواح المزمن  الساكن في أرواح المنكوبين نتيجة الخيبات , وانتشار الموت في كل زمان , لقد انتقل النعي وإن أختلف باختلاف الامكنة والازمنة الى هذه المدن المنكوبة , وتجذّر في موروثها الشعبي, وكأنّي بالشاعر / عزالدين زكي زاد/ قد استخدم القناع في قصيدته ليعبّر لنا محنة شاعرين عاصرا الحروب والدمار والموت , وهما/ محمود درويش – من فلسطين/ والشاعر/ لطیف هلمت – الشاعر الكردي/ , ووقف على آثار الدمار يصدح بذاك الصوت الحزين , يندب الاحباب وهم يتساقطون , وكأنّه الشاهد على محنة الانسانية وهزيمتها أمام سلطة الموت, الشاهد على استمرارية الحروب وطغيان الجبابرة. لقد ارتبطت هذه المدن في ذاكرة الشاعر , وبقيت حاضرة تراوده مشاهدها المرعبة, ومن خلال قاموسية المفردات في هذه القصيدة نجد الوحشية حاضرة بكل أنواع دمارها وجبروتها, وهذه بعض من تجليات المدن المنكوبة في زمن الحرب.


القصيدة:

حلبزة

بقلم/ عزالدين زكي زاد / أربيل

ترجمة الشاعرة سلوى علي / السليمانية


رامي  النار

 یرصد الوطن بنیرانه

و العالم  يأخذ السیلفي معه

 الأكفان لا تدرك الموت

 مدینة سويت بالأرض

تحولت رماداً

لا تصل الانفاس للمستغيثين

تحت الکتل الکونکریتیة.

سيسرد التاريخ  .....

ملحمة المقاتلين

 الذين لم يتمكنوا من استرداد غزة

لكنهم سيسردونها

سيسردون

حكاية الانين  تحت الانقاض،

الاثداء التي سال حليبها

لوليدها الضائع.

مساجدها دنست

لا صلاة فيها 

صلواتها المدفونة،

صلواتها  المذكورة البعيدة ،

ذاك الوشاح المتعب تحت التراب

وتلك الاتربة المتراكمة  فوق الجماجم،

عيونها المترقبة فقدت الامل

أمل الشهيد المُثقل بالقلق

سيسردون..

 التاريخ في عشرات القصص

قصص في عشرات أسطر من الدم

دم من جراح عشرات الأزقة

أزقة تحت جناح مدینة محترقة

مدينة فوق أكتاف مكسورة.

سيسردون....

کانت هناك مدینة مثل حلبجة

دون ذنب دمرت..

الجمعة في أحد أحياء السليمانية

في بیت شاعر "گرمیان"ي*

غسان كنفاني

بشعره المجعد

الأكثر تشابكاً من ظلم الحياة

بعينين أكثر سواداً من يوم حلبجة

یخرج من دیوان"لطیف هلمت"*

یستلم (کرکاً) من حلبجة

کركاً يتعرف على أتربة الجثث تحت التراب

کرکاً يتعلم فتح القبور المجهولة

کرکاً سمع أنین الجرحى لحين الاستشهاد

کرکاً  مازال يتذكر عويل الاطفال لحين احتضارهم

کرکاً لا يلامس الضلوع و الجماجم و الفقرات

لا يلامس الطائرات الورقية المقتولة،

الدمیة المخنوقة بین اليدين.

بهذا الکرک..

و على أطراف أربيل..

یطلق العنان لساقيه  حتى وصوله ل قلعة "ديوین"

یتوضآ،

 لسفر رجوعه للبيت

یصلي الاستخارة.

يقفز..

يعيده شغفه الی غزة

یرفع الانقاض

من تحت الدمار....

 أثداء الأمهات تحولت لنبع  یتدفق منه الحلیب،

غسان ينظف السواق  بکرک حلبجة

يروي أرض غزة حليباً

یزرع  الحیاة

یذر الأمل في الحقول

 يطعّم جذوع الهموم  بالأحلام

تصل  الجراح للسواقي

شريان بعد شريان یعید الارض وطناً

الدمار يصبح مروجاً

تنبت الازهار جنباً الى جنب

أزهاراً  ذوات أوراق بِیض  کالحلیب

 تتسارع لتنمو، أسرع من نبض رضيعٍ مرتعب

حدائق ما بعد الدمار

كل غصنٍ  لها يزهر وردتين

وردة  أنشقت نصفين

تعود جذورها للجراح

سيجعلها الجيل القادم شعاراً للحبّ،

و الاخری وردة للعین

كبؤبؤ عین  باکیة.

بجنب كل نبتة مورّدة

ضربات نبض قلب طفل

يمد خیطاً لظهر ورقة تملأ السماء طيراناً

خارج كل ساقية شاب يقطع القصب

ليصنع ناياً،

يملأ الكون عزفاً.

اعترى غسان ابتسامة واستراح

یقبّل مقبض الکرک... و

یغني قصيدة الأرض  لمحمود درويش،

على لحن ال "هورة"

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

حَلَبزة: ترکیب جدید لاسم مدينتي حلبجة الکردیة و غزة الفلسطينية

گرمیان: مدن تقع جنوب اقليم كردستان

لطیف هلمت"* شاعر كردي

دیوین: مكان یقع في الجنوب الغربي من مدینة اربیل كان مكان اقامة صلاح الدین الأيوبي لفترة من الفترات.

هورة:  نوع من الغناء الکردي الحزين .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق