طائر السِّحر و”المطران“ السامريّ/ ترجمة ب. حسيب شحادة



The Magic Bird and the Samaritan ‘‘Bishop’’

Narrated by the High Priest Jacob Son of ‘Uzzi (1899-1987)

and Written by Menahem Kapeliuk (1900-1988)


جامعة هلسنكي

בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך א’ עמ’ 89-84. 


ملاحظة الأمين صدقة: الاسم ”بابا“ كان شائعًا بين اليهود والسامريّين في الألف الأوّل للميلاد، لأنّه اختصار للكلمات الثلاث الأولى في التوراة: בראשית ברא אלהים - في البدء خلق الله. الجيل الثاني والثمانون في الكهنة الكبار، أبناء فنحاس في نابلس (بابا بن نتنئيل بن فنحاس: 849–860 م.)، كاهن أكبر في دمشق، في الجيل السابع عشر (بابا بن إلعزر 1186–1203 م.). لذلك لا مسوّغَ للتفاسير المتأخّرة للاسم: الأب، الباب. 


ليڤي يُغادر إلى القسطنطينيّة

عانى السامريّون الأمرّيْن في عهد الحُكم الرومانيّ في البلاد. وقدِ اشتدّ الضغط بنحو خاصّ أيّامَ المفوّض سويروس. وعندها هبّ السامريّون ضدّ مضطهِديهم، وقتلوا الكثيرين منهم. ردّ الرومان على ذلك فانتقموا من السامريّين، وفرضوا عليهم ضرائبَ باهظة لا تُطاق.

لم يهدأ بال الحكّام العُتاة حتّى منعوا السامريّين منَ الاقتراب من جبلهم المقدّس، جريزيم. أقام الرومان قلعةً كبيرة وحصينة، وأحاطوها بسبعة أسوار محصّنة، الواحد داخلَ الآخر، وبنَوا داخلَها معبدًا لعبادة الأوثان/الأصنام. اشتعل غضب السامريّين كنار ملتهبة، عند هبوب الريح عليها. وكان السامريّون من وقت لآخرَ، يصعَدون إلى جبل جريزيم ويقتلون من الرومان، محتلّي جبل قدسهم ومدنّسيه. هكذا فعلوا كلّ الأيّام.

عندما نَفِد صبر الرومان حِيالَ السامريّين، طلبوا النصيحة والحيلة والمساعدة من العرّافين والسحَرة. صنع أحدُ السحرة طائرًا كبيرًا من النحاس، ووضعه على قمّة القلعة التي على جبل جريزيم. وعندما كان السامريّ يقترب من الجبل، كان الطائر يفتح فاهُ ويَصيح بصوت عالٍ باللاتينيّة ”إبْريوس، إبْريوس“ أي: عِبري، عِبري (سامريّ).  وعند سَماع رجال القلعة صوت الطائر، كانوا يُسرعون ويُلقون القبض على السامريّ ويُميتونه ميتة غريبة.

لم يتمكّنِ السامريّون من القُدوم إلى جبل قُدسهم، جريزيم،  خلال بضع سنوات… فقام من بينهم رجل عظيم وحكيم، شهير بحكمته وبَسالته، وبحبّه الجمّ لأبناء شعبه. أطلق السامريّون على ذلك الرجل الاسمَ  ”بابا ربّه“ (الأب العظيم) أي: الأب الذي يتوجّه إليه الجميع.

ترأّسهم بابا ربّه، وحّدهم وأنشأ جيشًا قويًّا، وكان ينقضّ على معسكرات الرومان، في كلّ أماكن تواجدهم باستثناء معسكر جبل جريزيم، حيث تعذّر عليه الصعود إلى هناك، بسبب الطائر الذي يُطلِق كلمة ”إبْرِيوس! إبْرِيوس“، كلّما دنا السامريُّ من الجبل.

في أحد أعياد السامريّين المركزيّة، صعِدت مجموعة من النُّسّاك الوَرِعين السامريّين سِرًّا إلى الجبل المقدّس للصلاة،  ولأداء الأحكام والفرائض التي أعطاها الله لعباده بيد موسى عبده الأمين. لكن الطير شعر بهم، فتح فمه وصرخ  ”إبْرِيوس! إبْرِيوس“، سمِع حُرّاس الحِصن فأسرعوا للبحث عنهم. لم يتمكّنِ الورِعون من الهروب والنجاة، فوقعوا بأيدي الرومان، الذين أحضروهم للقلعة، وأصعدوهم على مذابحهم وحرقوهم أحياءً قربانًا لأصنامهم.

اِلتهبت روحُ بابا ربّا، رئيس السامريّين من الحزن والوجع، فقرّر، مهما كان، التخلّصَ من هذا الطائر اللعين. جمع زُعماءَ الشعب وتشاور معهم حول الوسيلة للتخلّص من شرّ طائر السِّحر الذي صنعه عرّافو روما.

قرّروا إرسال رجل حكيم إلى عاصمة الرومان، كطالب ظمآن للحكمة والمعرفة، ليتعلّم هناك حِكمتهم ومكنوناتِهم. ربّما يبارك الله، إلهُ إسرائيل، طريقَه فينجح ويترقّى، ثم يعود إلى نابلس ويقضي بحكمته على الطائر الرهيب، ويخلّص شعبَ السامرة.

وكان لبابا ربّا ابن أخٍ، ابن سبعَ عشرةَ سنةً اسمه ليڤي. كان هذا الفتى وسيمًا جدًّا، حكيمًا بصيرًا، وأحبّه الجميع. قال بابا ربّا لرؤساء السامريّين: أرى أنّه من صالحنا أن نُلقي هذه المهمّة على كاهل هذا الصبيّ. إذ عرفتم عقله الراجح، فهمه ومواهبه الكثيرة. وافق المجتمعون على عرْض رئيسهم. اِستدعى بابا ربّا ليڤي ووصّاه بالمحافظة على دين آبائه، والمثابرة لاكتساب علوم الأغيار، وتدبّر أعماله بفِطنة وحَذر.

اِستعدّ ليڤي وغادر إلى أرض الرومان، وهو بلباس التلميذ. كان النجاح حليفَ ليڤي في عاصمتهم في كلّ شيء. وتقدّم الفتى ليڤي درجة تِلوَ أُخرى، حتّى بلغ المراحل العليا، وانتقل من حكمة إلى أخرى كسهم من قوس. لم تمضِ عشرُ سنوات وها الفتى السامريّ، قدِ اكتسب علومَهم ومكنوناتِهم وبدأ بتأليف كتب دينيّة وعلميّة لاتينيّة. ذاع صيتُه في كلّ بلدانهم وأحبّه الملك وقرّبه منه. تدفّق إليه الطلّاب من الأقطار كافّة، لانتهال العلم منه.  وكان من ضمن طلّابه أمراء ونبلاء كثيرون من روما. كلّفه الملك بمهمّة سامية، وعيّنه المسؤولَ الأعلى على كنائسهم. لم تطُلِ الأيّامُ وها ليڤي أصبح أُسقفًا يمسح الملوك ويحكمون بأمره.


تحْطيم طائر النحاس

بلغ عمْر ليڤي ثلاثين عامًا. رأى بأنّه حان الأوان ليجنيَ ثمرة عمله، والقيام بالعمل الذي من أجله أتى إلى القسطنطينيّة. ذات يوم، أخبر ليڤي الملكَ بأنّه عزم على السفر للسياحة في الأراضي المقدّسة، وزيارة أماكن العبادة الرومانيّة في نابلس. أعدّ له الملك حاشيةً كبيرة لمرافقته في سفَره، ومن ضمنها ملوك ونبلاء والوزير العظيم. 

اِنطلقتِ الحاشيةُ الكبيرة المحترمة حتّى وصلتِ الأراضي المقدّسة. وقبل أن يصل المُطران (ليڤي) نابلس، موطن معظم السامريّين، بعث رُسُلًا إلى المدينة لتبليغ الحاكِم بوصوله. دعا حاكِمُ نابلس جميعَ الحكّام والموظّفين القريبين والبعيدين، للقدوم لاستقبال المطران العظيم. وأعلن حاكمُ نابلسَ عن مجيء المطران، وأصدر أوامره لجميع المواطنين، من كلّ الطوائف، رجالًا ونساء، التوجّه لخارج المدينة للترحيب بأُسقف عابدي الأصنام.

لم يطرأ على بال السامريّين، أنّ هذا الضيفَ المعظّم، هو رسولهم/موفَدهم ليڤي بن فنحاس شقيق بابا ربّا، فخافوا خوفًا شديدًا. وقال الواحد للآخر: حقًّا أتى هذا الرجلُ ليُبعدَنا عن توراة آبائنا، للسير قُدُمًا في الضغط علينا وإرغامنا للسجود لأصنام روما واعتناق دينها. اُضطرّ السامريّون إلى الخروج وفي مقدّمتهم زعيمُهم ورئيسهم، بابا ربّا.

وصل ليڤي برِفقة حاشيته الكبيرة من ملوك ونبلاء ووزراء. اقتربت منه الحشود لاستقباله بالتحايا وللتعبير عن الخضوع له. تقدّم إليه بابا ربّا عمّه ولم يعرفْه، إذ تغيّرت ملامحُ وجه ليڤي، الآن ذو لحية طويلة، ملابسه السميكة والقبّعة قد غطّت معظم وجهه، وكلّ هذا أضفى عليه منظرًا غريبًا جدّا. اِرتعش قلب ليڤي عندما رأى عمَّه ورؤساءَ طائفته ففاض حنانُه، ولم يستطع أن يتمالكَ نفسَه. اِنسحب من حاشيته إلى رُكن خفيّ، وانهمرت دموعه كالماء. بعد ذلك غسل وجهه وعاد إلى حاشيته.

توجّه ليڤي إلى حاكِم نابلس الذي التحق بمرافقيه وسأله: من هؤلاء الرجال، ولماذا يرتدون ملابسَ غريبة ومختلفة عن الجميع؟ أجاب الحاكِم: هؤلاء هم السامريّون، يا سيّدي، أحد فصائل اليهود الكفّار، ويعبُدون مثلَهم إلهًا لا يرَوْنه ولا يلمُِسونه.

أردف المُِطران وسأل: لماذا لا تُجبرونهم لاعتناق دين روما؟ أجاب الحاكِم: بالفعل، جرّبنا ذلك غيرَ مرّة، وعذّبناهم إلى أقصى حدّ، وأبَدْنا منهم ما لا يُعَدّ ولا يُحصى، لكن هذا الشعب العنيد بتمرّده باقٍ، ولن يأبَهَ لا للتعذيب ولا للملاحقات.

حرّك الأُسقف رأسَه كأنّه يسخَر من كلام الحاكم وقال: إذن، عليكم تحذيرهم، بأنّهم سيموتون كلّهم ميتةَ رجُل واحد إن لم يعتنقوا ديننا. قال الحاكِمُ مُجيبًا: فليكن كما تقول، يا سيّدي؛ غدًا سأُنفّذ أمرَك المقدّس بحذافيره.

اِنتشر الخبر في المدينة، وتناهى لمسامع السامريّين، وعلِموا أنّ نهايَتَهم قريبة. ولكن قلبهم صامد قويّ في داخلهم، فضّلوا الموتَ على عبادة أوثان الرومان.

تابع المطران وحاشيتُه المسيرَ إلى أن وصلوا جبلَ جزيزيم. وما أن وصل ليڤي ”المطران“ إلى الجبل وإذا بالطائر السحريّ يفتح فاه صائحًا: ”إِبْرِيوس، إِبْرِيوس“!  الرومان البيزنطيّون الذين عرفوا الطائر وحكمه، دُهشوا جدًّا وأخذ الواحد ينظر إلى صاحبه مذهولًا، إذ أنّهم كانوا موقِنين بعدم وجود أيّ سامريّ على كلّ الجبل المحاط بجيش روما العرَمْرَم. تظاهر ليڤي بأنّ لا علمَ له بطائر السِّحْر وحكمه، فسأل حاكمَ نابلس عن مدلول نداءاته. حكى الحاكمُ حكمَ الطائر كاملًا. 

قال المُِطران: اِبحثوا في الجبل وفي مُحيطه، قد يكون الطائر صادقا. أسرع الجنود الرومان من سكّان نابلس ففتّشوا في جميع زوايا الجبل، حتّى فقدان الأمل ورجعوا بخُفَيّ حُنَين. 

الطائر لم يسكت، ظلّ يُنادي كلَّ الوقت بصوت واحد: ”إِبْرِيوس“! كان صوت صراخ الطائر يتزايد، حتّى سئِم  المُِطران صيحاتِه.  قال ليڤي لجميع الواقفين: إنّكم تغْوون في الخُزَعْبلات وتثقون بأعمال الغِشّ والتضليل. أسرعوا واقطعوا رقبةَ الطائر اللعين الذي أوجع آذاننا بالصُّراخ العبثيّ. ربّما كان هذا الطائر مفيدًامن قبل، لكنّه الآن ربّما هَرِمَ ولا طعمَ له وغدا عديمَ الفائدة.

هيّا، أَسرِعوا، أنزِلوه للتوّ واقتلوه - أمرَ ”المْطران“. اِنطلق حاكِم نابلس وأنزل الطائر بيديه وحطّمه. بعد ذلك، أمر المطران بإقامة الولائم والحفلات وأعلن: ليشرب كلّ من يُحبّني ويكرع فهذا اليوم يوم فرح ومرح لنا. أخذ الرومان باجتراع الخمْر، وتنافس الواحد مع الآخر في السُّكر، إلى أن ثمِل الجميعُ، رجالًا ونساءً، وسقطوا يتمرّغون بقيئهم كجُثت ميّتة. 


اللقاء المنشود

في هزيع الليل، عندما غلّف الظلام الكونَ كلَّه، تمنطق ليڤي سلاحَه ونزل من الجبل، ولم يشعر به أحدٌ منَ الحرّاس. هرع ليڤي إلى بيت عمّه بابا ربّا. اِجتمع جميعُ رؤساء السامريّين في بيت زعيمهم، للتشاور حولَ كيفيّة حماية أنفسهم، إذا أرغمهمُ الرومان على تنفيذَ أمر الحاكم، لأنّهم رفضوا الموتَ كالأغنام التي تُجرّ إلى الذبح.

ذهب ليڤي إلى الباب وطرقه بخفّة. اِرتعب المجتمعون فلم يفتحوا الباب، لأنّهم كانوا يخشَون فتحَه لشخص غريب في ساعة متأخّرة من الليل. لكن بابا ربّا ذهب إلى الباب وفتحه ليرى مَنِ القادم. لمّا رأى بابا ربّا الآتي، انفعلَ جدًّا واستدار إلى الخَلْف ونادى رؤساء الطائفة: هيّا إلى السلاح! قوموا وموتوا موتَ الأبْرار/المستقيمين.

عندها سقط المُِطران على الأرض وركع لعمّه بابا ربّا وصرخ: أنا ليڤي ابن شقيقك. فعلتُ كلَّ ما أمرْتني به وعدتُ إليكمُ الآن. تعرّف بابا ربّا على صوت ليڤي ورفعه عن الأرض، ضمّه وقبّله طويلًا ثمّ أجهش بالبكاء فرحًا حلّ عليه على حين غِرّة.

وقف المجتمعون مذهولين، ولم يقْوَوا على النُّطق ولا على قول أيّ شيء. عندما تعرّفوا على ليڤي، صرخوا بصوت عالٍ، وانطلقت أصوات الفرح والمرح، السرور والحبور. أمطر المجتمعون ليڤي بشتّى الأسئلة، فقصّ عليهم بإيجاز كلّ ما حدث له وقال: لا وقتَ للكلام الآن، لأنّ كلَّ لحظة أثمنُ من الذهب. اِستدعوا رِجالَكم، اِنقضّوا على  عابدي الأوثان واقتلوهم ولا تبقى منهم روحٌ واحدة. انقسموا لمعَسكريْن: أحدهما يهاجم عابدي الأوثان في المدينة، والآخر يهاجم الموجودين في الجبل. أشعِلوا نارًا في السور وفي معبدهم/كنيستهم، لأن عابدي الأوثان غارقون في سُباتهم وسُكْرهم من وفرة النبيذ الذي أسقيتهم إيّاهُ الليلة.

هبّ السامريّون في تلك الليلة وضربوا الرومان بحدّ السيف/قضوا عليهم عن بِكرة أبيهم. وعندما رأى السامريّون ألسنة النار المندلعة والخارجة من القلعة التي أقامها الرومان على جبل جريزيم، أسرعوا كلّهم إلى هناك وانقضّوا على الرومان مطلقين النداءات: الله، جبّار في القتال/الحرب، الله اسمه [لاحظوا أنّ العبارة: גבור מלחמה, غير واردة في التوراة؛ وردت في المزامير” 24: 8]. ضربوهم بحدّ السيف وقضَوْا عليهم عن بِكرة أبيهم. ثمّ أحرقوا بيوت الأوثان وقصورهم. في ذلك اليوم، خلَّص اللهُ شعبَه من أيدي عابدي الأوثان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق