وسواس في الراس/ شوقي مسلماني

 


 (من الترّ للورّ) 

توفي راعي غنم وماعز من بلدة "سرعين الفوقا" ـ البقاع الأوسط ـ لبنان ـ وبادر "زلفو" ـ إبنه ـ وباع "الغنمات والمعزايات" واشترى سيّارة "دوتش"، مطالع سبعينات القرن الفائت، للعمل سائق "تاكسي" ـ أجرة، وهي مهنة ازدهرت في لبنان ذاك العصر والأوان، وصادف أنّه يقود مسرعاً في شارع وسط البلدة، ورأته أمّه وصرخت: "شو يا زلفو، من "الترّ" ـ  من عمل الرعيان ـ "للورّ" ـ للسرعة والطيش"؟!. 


 (جرو الكلب) 

أخبرنا الصديق حسن فصاعي عن عمّه الفكه وجيه فصاعي: كان عمّي وجيه بمستشفى "بهمن" ـ بيروت ـ ونزل "بالأصنصير" ـ المصعد الكهربائي ـ وتعرفون كيف يكون "الأصنصير" بالمستشفيات  "مليان"، وقال عمّي وهو وسط "الحشد" مبدياً أسفاً وبجديّة وكأنّه ينفث من صدره ما لا طاقة بعد فيه لإحتماله: "يا سبحان العاطي، يا ربّ ألطفْ"!. ونظر كلّ من في المصعد صوبه مشدوهاً وسألوه: "خير، شو صار، شو القصّه"؟. قال: "فِيْ مَرَهْ" ـ إمرأة ـ "خلّفتْ جَرو" ـ كلباً صغيراً ـ تعجّبوا، صدّقوا وقالوا: "الله أكبر"!. 


 (يا أحمر الخدّين) 

قال أحد الأصدقاء وهو مصري: "ما لقوش عيب بالورد قالوله يا أحمر الخدّين". وعادت بي الذاكرة إلى زمان الولدنة، وفيما أمرّ بالباحة المؤدّية إلى مسكننا في محلّة زقاق البلاط ـ بيروت ـ أواخر ستينات القرن الفائت ـ سمعت من يجادل سيّدة كانت في شجار مع زوجته التي هي أصلاً إبنة مختار قريتي كونين ـ جنوب لبنان ـ وعيّرتها بإصفرار خدّيها، وهو يقول لها كأنّما مذكِّراً إيّاها ومخفياً عنها في آن أنّه يهجوها: "اللي ما بيحلّوها خدودها بيحلّوها جدودها". 


 (ضوّ أبو فتيلة) 

وقصّ الصديق علي حماده "أبو حبيب" وقال: ضاقت السبل بالجنوبيين اللبنانيين بسبب من الإهمال المزمن الذي خصّته بهم الدولة بدءاً من خمسينات القرن العشرين. وبدأت هجرات الأسر المتتالية إلى العاصمة بيروت. وبعضهم سكن في مناطق عُرفت بإسم "أحزمة الفقر". ومنهم من لم يهاجر مع أسرته بل اختار أن يترك أسرته في بلدته ويرجع إليها كلّما اشتدّ به "الشوق والحنين". وكان أبو وجيه البندر من بلدة دير كيفا أحد هؤلاء الأخيرين، وكان له بيت بجوار القلعة الأثريّة، ومرّة رجع من بيروت "مزنوقاً"، أي "شوقه وحنينه في الأوج"، والبيت مكوّن من غرفة واحدة، والإبن البكر تخطّى الثامنة عشرة، أي هو يعي، ولا بدّ من التستّر، واستطال حبل في فضاء الغرفة، وتدلّى "شرشف" ـ غطاء رقيق ـ وصارت الغرفة إثنتين، واحدة لوجيه وإخوته والثانية للأب وللأم المسرورين بالفكرة. وبعد شهر أيضاً كانت عودة ثانية إلى دير كيفا، وكان الليل و"الضوّ أبو فتيلة"، ولم تكن كهرباء بعدُ، وأبو وجيه "مزنوق"، وقال لإبنه البكر، وهو في فراشه، من وراء الشرشف، أن يخفّف الضوء المعلّق فوقه، وذلك خوفاً أن يعكس الضوء مشاهد غير مستحبّة. وعمل وجيه أنّه لم يسمع، وقال له أبوه وأعاد. وتأفّف وجيه وقال بنبرة: "بدّك تعمل عملتك اعملها، مفيش حدا منّا عم يطلّع"!. 


 (حرب العتابا) 

وانتهى عرس "بنتجبيلي" ـ بنت جبيل ـ جنوب لبنان ـ ستينات القرن الفائت ـ بمعركة  بين آل بزّي وآل بيضون ـ الأسرتين الطموحتين والمتنافستين ـ  والقصّة هي حين قال أحد آل بزّي بالعتابا: "أنا لموت كرمال إبن بزّي \ الكرم والجود يلبق لإبن بزّي \ ومتى ما صار نائب إبن بزّي \ بنزتّ الزعامه عالبواب"، وقال صادحاً أحد آل بيضون ردّاً: "أوف"، وأردف: "إبن بيضون بحر كرمك مالو حدود \ وقمح بيدرك للطالبين ممدود \ الله ريتو اللي بيبغضك عالنعش ممدود \ ونرمي لحمه لكلب العراب". وصاح أحد آل بزّي: "لحم مين بدكن ترموا"؟!، وصاح أحد آل بيضون: "بدنا نرمي لحم إبن بزّي"!. واشتغلت العصي وطارت الحجارة وكانت جراح طفيفة. 


 (فقدناكَ) 

قال الصديق عدنان فوعاني: "كنتُ أخيراً عرّيفاً في حسينيّة كونين بمناسبة ذكرى أسبوع، ومن جملة ما قلته بالفقيد: "فقدناكَ رجلاً كريما". ثمّ ونحن خارج الحسينيّة اقترب أحد الظرفاء منّي وقال لي غامزاً، وأنا كالمسطول أقف أمامه ولا أفقه ماذا وراءه، وهو يكاد "يهجّي" ما يقول: "فقد نا كَ رجلاً كريماً"؟!. وبعدَ وقت فهمت وضحكت وعلمت كم  لغتنا كثيراً حمّالة أوجه". 

  

 (أصلع رسمي)

مرّة، قبل نصف قرن، سرت شائعة في بيروت عن "دواء" يساعد على إنبات شعر الرأس. وقصد شاهر علي مسلماني الذي "هرّ" أو "كتّ" شعره وهو لا يزال في العشرينات من عمره وصار "أصلع رسمي"، فالأصلع الرسمي هو الذي "يصلع" وهو في العشرينات من العمر، وقصد "فرمشيّة" ـ صيدليّة ـ قيل إنّها تبيع "الدواء السحري"، ودخل إلى "الفرمشيّة".. وخرج، أو كما يُقال بالإنكليزيّة "إنْ أند أوتْ"، أي بإختصار: "دخول وخروج". دخل، رأى الفرمشاني بالثوب الأبيض، لم يقل كلمة، فقط فوراً استدار وخرج. والزيت يُحرم على الجامع إذا احتاجه أهله، ، وقال لذاته: "أنا بعد عندي كم شعره، أخونا الفرمشاني مضوّي" ـ أي ولا شعره واحده في رأسه ـ  "أنا اللّي عم عِنّ بدّو يكسّر عليّ اللّي عم يبكي"؟ ـ أنا الجريح سيضمّد جرحي الميّت؟ ـ "يْروح يشفله شغله تانيه، وخلّي يا شبّ مصرياتك بجيبتك". وخرج.  


 (إلى آخره)

"عيونو خضر: بيلبق نعيِّنو وزير زراعه، جسمو رياضي: مليح بنعيِّنو وزير صحّه أو رياضه"، وإذا هو من أسرة القاضي أو الشرع نعيّنه وزير عدل، وإذا هو من عائلة  الجندي أو الحارس نجعله وزير حربيّة، وإذا هو سنّي، "متل ما بلبنان، بيصير رئيس وزرا"، وإذا هو ماروني يكون رئيس جمهوريّه، وإذا هو شيعي يكون رئيس مجلس النوّاب، وإذا هو درزي ـ والدروز أصل في دولة لبنان الكبير ـ لا يرتدي الثوب الأبيض واقفاً إلى جوار الماروني والسنّي والشيعي ولو أقلّه رئيساً لمجلس الشيوخ.. وإلى آخره".  


 (يا حسرة)

وكتب العميد اللبناني د. قاسم سمحات: "أعلنَ المؤتمر السوري العامّ في السابع من آذار 1920 الأمير فيصل الأوّل ملكاً دستوريّاً على سوريا. وذهب من جبل لبنان إلى دمشق وفدٌ للتهنئة، وكانت فرنسا ضدّ فيصل، وكان مع الوفد شاعر شعبي ـ زجّال. وعندما وصل إلى مقرّ فيصل بادر مغنياً بطريقة "العراضة" أو "العديّة": "بواريدنا بتردّها \ وبصدورنا بنصدّها \\ فيصل أمير بلادنا \ وباريس تلزم حدّها". وبعد أشهر إجتاح الجنرال الفرنسي "غورو" دمشق، وبعد انتصاره في معركة ميسلون ـ تموز 1920 ـ غادر الملك فيصل سوريا، ورجع الوفد اللبناني إيّاه من الجبل إلى دمشق لتهنئة الحكومة الجديدة الموالية للفرنسييّن، وفيما الوفد في دمشق صدح الشاعر إيّاه: "يا مير وشْ لكْ بالحروب؟ \ باريس منَّك قدّها \\ هيدي دولْ بدّها دولْ \ راعي غنم ما يردّها". وكتب الباحث والأستاذ في الجامعة اللبنانيّة د. محمّد مسلم جمعة متابعاً ما كتبه د. قاسم سمحات: "مئة سنة مضت ولم يتغيّر أي شيء، نفاق، سكوت على الحقّ، وزعماء لا يصلحون حتى لرعي الماشية، والرعي أمانة وإخلاص". وحقّاً ما أشبه اليوم بالأمس. 


 (إسلام ومسيحيّة)

الزمان هو خمسينات القرن الفائت. والمكان هو بلدة يارون اللبنانيّة الجنوبيّة الحدوديّة مع فلسطين المحتلّة. ويارون "مختلطة"، أي أهلها بين مسلم ومسيحي ـ "حارة للمتاوله" ـ و"المتاوله" إسم آخر للطائفة الشيعيّة في لبنان كان لا يزال متداولاً ويكاد يُنسى في هذه الأيّام ـ و"حارة للمسيحيّين". و"كانت الدنيا قايمه"، أي الدنيا في "حاص باص" أو في "غليان"، فالمسيحيّون يؤيّدون كميل شمعون "المسيحي"، والمتاوله يؤيّدون فؤاد شهاب "المسيحي" أيضاً، والماروني أيضاً مثل كميل شمعون. واحتشد "المتاوله" إلى الخطّ حيث "حارة المسيحيين" في مظاهرة قرويّة صاخبة ردّدت أصداءها الحقول والكروم المحيطة والعصافير وطيور الحجل. وكان من الهتافات: "يسقط شمعون" و"يعيش فؤاد شهاب". ولم يخل المشهد من سيّدة مسيحيّة شجاعة وهي "أسما سلّوم" التي قالت من الخطّ المواجه، وهي لا تكاد تصدّق ما ترى من المتاولة وما تسمع: "ليش شادّين على بغلتكن يا متاوله؟، شمعون منّا، وشهاب منّا"؟!. ومن الهتافات التي صدح بها المتظاهرون في حينه: "بدنا الوحده العربيّه \ إسلام ومسيحيّه". 


 (خمس ورقات) 

وقال الصديق ابراهيم حيدر: "الله يرحمك يا شيخ علي ـ مؤذّن بلدة كونين الجنوبيّة اللبنانيّة ـ لمّا كنت ـ بالستينات ـ تطلع عالميذنه ـ المئذنة ـ وتقول بعد الآذان: "يا أهل بلدنا، أوّلكم محمّد وثانيكم علي وثالثكم فاطمه بنت النبي، والحاضر يعلِم الغايب، انفقد مبلغ من المال ويلّلي بيلاقيه يردّو لصاحبه وإلو حلال زلال خمس "ورقات" ـ ليرات ـ ويللي بيردّه الله بيردّ عنّه وبيوفّقه بالدنيا وبالآخره". وختم الصديق إبراهيم قائلاً: "وهيك كان الإعلام بضيعتنا".  


 (الخضر والعبّاس) 

كرّرتُ أخيراً زياراتي إلى بيت خالتي الحاجّة أمّ ناصيف مهنّا حمّود ـ 96 عاماً ـ أمدّ الله عمرها بالصحّة والعافية ـ وعنها أنقل الآتي: "كلب معروب كل يوم بمسروب". "كلب زبدين مالوش غنى عن سوق النبطيّة". "الجارْ إذا جارْ أصعبْ من النار". "لو الدعاوى بتجوز ما ضلّ لا أرمله ولا عجوز". "ناس بهناها وناس بعزاها". "نزل عليك من السما الطرش والعمى"؟. "من عميا لشلاّحه"؟!. "ما في حمار مات وأخد جلاله معه". و"بحقّ اللي خلق الليل والنهار، بجاه اللي أخد أمس وجاب اليوم، اللّي كوّن الكون، يا حبيبي يا ألله، دخلك يا ربّي، بحقّ حيدر الكرّار، الخضر والعبّاس، تشيل الوسواس من الراس". 

Shawkimoselmani1957@gmail.com 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق