الشَهِيدُ البَطَلْ المُقدَمْ الرُكنْ الدِرعْ عِزَّالدِينْ النَاصِريْ/ د. زِيَادْ مُحَمَّد السَبْعَاوِي

   



قال تعالى في مُحكم التنزيل :

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾

لا ... لا....  لا...  آسفاً عليك أبا مُحمد ؛ تعالى بالنحيبِ عليكَ صوتي وأنا أقرأ نعي رحيلك في ديار الغُربة أيها البطل ، ليت عيناي لم تطالع الخبر عسى أن يمد الله في عُمرك ، إلى كُلِّ أبطال سرية محمد القاسم في الكلية العسكرية على مر تأريخها ودوراتها يحق لكم أن تفخروا بإبن سريتكم البطل عِزَّالدِين ثامِر يُوسف عِزَّالدين الناصري إبن الدورة 71 علم الدورات ذلك البيرق الذي كان وسيبقى خافقاً شامخاً حتى يَرثَ اللهُ الأرضَ وَمَنْ عَليها .

 حبيبي أبا محمد أو (أبو بُرعي كما إعتادت أم محمد أن تناديك) تزاحمتِ الذكرياتُ وغَصَّ البيتُ بالبُكاءِ على فاجعةِ رحيلكَ فَقُل لي مِن أين أبدأ فلطالما كانت مفاتيحُ الحلِ معك وما كنتَ لتبخَل على أخيك " أبو الزود " ... سأبدأ من حيثُ إبتدأت معرفتي بِك ...

أولاً : نِهايةُ حياتِي الرياضية وتَتِمةُ مِشواري العَسكري : 

إنتهت بطولة السباحة الأولمبية للعام 1996م وحصلت فيها على المركز الثاني نتيجةَ سوءِ إدارة الحكم الذي غض الطرف عن تعجل أحد السباحين في قفزته التي باغتنا بها ، كنتُ حانقاً على نتيجتي إذ لا يَليقُ بِي المَركزُ الثانِي فَلطَالَما كُنْتُ الأولَ بلا منافس لكن خطأ التحكيم قالتْ كَلمتَها الفَصل ، وعلى أية حال فإنَّ التكريم الذي حظيت به وحفل البطولة أنساني زعلي ، لأمنح إجازة إلتحق بعدها إلى ق.ق حمورابي ح.ج (آني وِين وحمورابي وِين...) على كُلِ حال فَقَد حُسِمَ الأمرُ وتَمَّ تنسيبي لشغل منصب مساعد الفوج الأول لواء 15حمورابي التي كان لها شَرف المُنازَلة والقِتال المُباشِر مَعَ القطعات المُدَرعةَ الأمريكية وتَكبيدهم أعظم خِسارةٍ في تأريخ الجيش الأمريكي ، الأمر الذي إضطر أمريكا لإرسالِ خبرٍ مع الخارجية الروسيّة مفادهُ التَهديد بضرب العِراق ضربةٍ نَوَوية تَفوق ما ضُرِبَت به هيروشيما وناكا زاكي في حال لم يتوقف القتال ... لا أخفيكم سراً  إنْ قُلت بأنَّ صدمة نقلي كانت قويةٍ  رغم يقيني أنها آتية فكنت كمن يُدرك أنه ميتٌ لا محال لكنه يرجو تأخر مباغتة الموت له .

إنتهت حياتي الرياضية وودعت أجمل سِنين عُمري في مسابح القادسية ونادي الخطوط الجوية ونادِي السلام و... وودعت أساتذي المدربين من أبطال العالم والعرب الكابتن عبد الرضا محيبس والكابتن بدري والكابتن عبد و... أبطال العالم في عبور بحر المانش ، لأخلع مايوهات السباحة بألوانها الزاهية البَرَّاقَة ، ولطَالما كنتُ أتفائل باللونِ السمائي المتناسق مع لون نظارات السباحة التي أرتديها في التمارين والبطولات ؛ وهكذا طويتُ التراتكسوت ورزمتُ الترانشوز الرياضي في حقيبة سفري ، ثُمَّ إرتديتُ بدلتي المرقطة وبيرتي الحمراء لأسافر إلى وحدتي العسكرية وحياتي العسكرية الجديدة ، وبعد سفرٍ طويلٍ مُرهِق وصلت وروحي تكاد أن تَفِر من جسدي بسبب الكم الهائِل من اليأس والإحِباط والضجر ومما زاد الأمر سوءاً أن وصولي كان مع ساعات الليل الإوَلْ وقد شَرَعت جيوش البَعوض والبَق والحِرمِس (البرغش) تُعيدُ تنسيق تشكيلاتها وتباشر الهجوم أسراباً أسراباً .....

رَباه سأجُنُّ حتماً وربما أفَكرُ بالإنتحار فالبون شاسع بين حياتي الرياضية التي قضيتها في بغداد الحبيبة طِيلةَ أعوامٍ خَلتْ متنقلاً بين مسابحها الغَنَّاء خلال التمارين الصباحية في كل يوم ، متواعداً بين الرياحين أشمَّ عِطر الغيد الحِسِان في جزيرة بغداد السياحية تارةً وفي الزوراء تارةً أُخرى ، لنتسامر ليلاً في مسارح النجاح والمسرح الوطني وساحة الإحتفالات والمنصور والكرَّادَة و.... واليومَ أنا أسيرٌ معتقلٌ بينَ البيريةِ والبُسطال ، يحز وسطي النطاق وكل خطوةٍ محسوبة لعلها تشبه رتابةُ حياةِ الموتى إلا في الإجازات الدورية .... 

تراكض حُراس بابِ النظام إحتفاءاً بمساعدِ  فوجهم الجديد وهم يَعْدُون راكضين لإيصالي إلى مكتب الآمر ذو الأوداجِ المُنتَفِخةِ وشاربيهِ السوداوين اللذان يِملئان وجههُ بل ويتدليان إلى حَنَكِهِ ...  أديتُ التحية العسكرية التي أوشكتُ أن أنساها بِحُكمِ حياتِي الرياضية ، أخرجتُ كِتابَ إلحَاقِي وقلت :

تفضل سيدي هذا كتاب نقلي إليكم ، بعد الترِحابُ بي إصطحبني إبنُ ديالى ر.ر ماجد الباوي إلى البهو لتناول طعام العِشاء وتعريفي على زُملائي من ضباط الفوج ...  عِز الدِين الناصري إبنُ الحَارِثِيَّة فِي بَغداد ، جاسم الحمداني إبنُ كركوك ، وليد البغدادي المتهيء لإستلامِ كتابه إلى كلية الأركان ، إبن الكوت سمير حمادي عبيد ، جواد الكَرعاوي إبن الديوانية ، أحمد المعموري (الحلة) ، الشهيد حسن السبعاوي الملقب (حسن سيداوة) ، عمار العبيدي ، سلوان النعيمي وهو إبن ضابطٍ طيارٍ عراقي ، إبنُ زَيونة ناصر عبد الوهاب القيسي (صديقي الذي عَملنا معاً في مُقتَبلِ حياتِنا العسكرية لنُشغِلَ مناصب آمري فصائل في السرية الأولى بإمرة إبنُ بَغداد الذي تَمتَدُ جُذوره إلى آمرلي الشهيد النَقيبْ (عقيد ركن) علي خليل إبراهيم العَلواني الذي شغل لاحِقاً منصبَ آمر لواء المشاة 45 المكلفِ بالدِفاعِ عن مدينة أم قصر وقد إستبسل هذا الأسد الهَصُور هو ولوائه البطل في الصمود الملحمي مما إضطر الجِنِرال دوتون لتبديلِ كُل خُطَطِهم بعد أن عجزوا عن إقتحامِ مدينة أم قصر العِراقية ، وهكذا إضطُر الجنرال إلى تغيير خطة هجوم قطعاته وشَرَع بتقديمِ الكوماندوز البِريطاني وإرجاع وحدات المارينز المهزومة لتشكيل قوات التطويق والإحتياط ومع ذلك فَشل في دخول المدينةِ على مدى إسبوعين متتاليين ؛ وللتأريخ أقولها : بأنني قاتلتُ بشرف مع هذا القائد والله لا يحسبُ للموت حساب وكنّا نستمد المعنويات منه "يرحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته")....

 إستمَر الباوِي بتعريفي بأكثرِ مِن 45 ضابطاً برتبٍ مختلفة حفظت بعض الأسماء ، بعد أن عرفتهم بنفسي وخلال الحوار رَنَّ الهاتف ؛ إنه السيد عقيد ركن عجيمي البرع آمر اللواء يريدك أن تمثُل بين يديه (شغل لاحِقاً منصب قائد الفرقة المدرعة السادسة قيادة قوات سعد بن أبي وقاص وهو الذي قاد معارك أم قصر طِيلَةَ واحدٌ وعِشرونَ يوماً تَكبَّدَتْ فيها القطعات الغازية خسائر جسيمة " إستُشهدَ إثر إعتقاله بعد عام 2003م يرحم الله عجيمي وأسكنه فسيح جناته") إنه السيد عجيمي البرع آمر اللواء بإنتظارِك ، هكذا وُجِهَ الآمر خطابهُ لي .....

ثَانِيَاً : هكذا تَعَرفتُ بعِزَّالدِّين :

أردف الباوي موجهاً خطابه إلى ضابط الإستخبارات  نقيب عز الدين النَاصِرِي : 

أبو العِز : إصطَحِبْ سيادة المساعد وإذهبا إلى مقر اللواء ... وصلنا مكتب مقدم اللواء وتم تعريفي إلى تحسين الناصري بإنتظار أوان المقابلة التي تمت في أجواء تسودها الرهبة والقلق مما هو آت والكآبة التي تهيمن على كُل شيء ، ساعات ثقيلة كأنها الدَهرُ بكامله ، يا لوقعِ الساعات الرهيبة كأني بالزمن قد توقف خلالها ... حتى قطع دوامة تفكيري المُشوش ضحكاتٌ تتعالى عرِفت أنها ضحكات ناصِر القيسي مع تقاسيمٍ من ألفاظهِ التي يَندَى لها الجَبينْ لكِننا أدمناها ، روحُ القِيسي المَرِحة يَعرفها كل من عمل معه خاصةً إن وهو يحاول أن يَكسِر من رتابةِ الموقف ليُخَفِفَ عني ....

 توالى قدوم الضباط لمسامرتي وعلى الفور إفترشوا الأرض ثمَّ بسطوا قطعة من النايلون لتبدأ حملةً من طحنِ وسحقِ أوراق التتن (التبغ) ثم لفه وتحويله إلى سجائر وتقديم إحدى السجائر (سيجارة لف تتن) لي ، أخبرتهم بأنني لا أدخن لكنني إستسلمت في ظل توسلات إبنُ الكُوت نقيب سمير الزبيدي وهو يناشدي : 

وداعتي سيدي فِدوة بس هاي الجكارة ، وداعة عيونك لا تبقى لا كآبة ولا ضوجة وتحس وكأنه أنت عايش ببغداد مو بهذا الضِيم ...  صدك جذب .

لم أجدْ بُداً من تدخينها ومع أول شهقة نَفَسْ أحسَسْتُ بلسعةِ حرارتها في صدري وكدتُ أختنق بالسعال والكحة ، لكنهم أخبروني أن أدخنها بعد أن أرتشف الشاي ، لنبدأ حفلة لعب ورق البوكر لعبة 51 والكونكان ليبدأ تقسيم الفِرَقْ ، أنا وعز الدين فريق يقابلنا ناصر القيسي وسمير الزبيدي والفريق الخاسر يأتي بالعصائر والحلويات وينسحب ليحل بعده الفريق الثالث إبن كركوك جاسم الحمداني ومحمد عودة .... الحمد لله ها هي غيوم الضجر التي تلبدت في سمائي تتلاشى شيئاً فشيئاً ، توطدت علاقتي بعز الدين وناصر وسمير فقد كانوا الأقرب إلى قلبي رغم محبتي للجميع وأعتزازي بالكل ...

ثَالِثَاً : حَركةُ قَطعاتِنا إلى البَصرةِ الفَيحَاء :

على حينِ غرة صَدَرت الأوامر بالتحرك فوراً بإتجاه البصرة ليلاً وحركة وحدتنا ليست بالأمر اليسير خاصة ونحن قطعات آلية مُسَرَّفة ، وبطرفةِ عينٍ توافدت أرتال الفاونات لتحميل الدبابات والمدرعات عليها مُستِغلين أنوار الباعث ومهمتي إرشاد الطواقم بإشاراتٍ مِنْ كِلتَا يَدَي (يَعرفها أبناء الصِنفُ المدِرع والمشاة الآلي) وبالفعل قبيل الفجر وصلنا وعسكرنا على أطراف البصرة بإتجاه الحدود الكويتية وفي نقاشنا أنا وأبو العز وصلتنا تسريباتٌ غايةً في السِّرية أنهُ من المحتمل أن نتحركَ صوبَ الكويت للمرة الثانية خاصةً وأنَّ تحرك قطعاتنا كان وسط تعتيم ومنع للإجازات وإجراءات أمنية مشددة ، توطدت علاقتي بِعز الدين خاصةً وأننا كنا نعيش في ذات الخيمة في موقعنا الجديد فلا مكاتبَ ولا أثاث ولا إتصالاتٍ إلى غيرِ ذلك مِمَا إعتدنا عليهِ منِ مظاهر الوحداتِ الثابتة .

القُلوبُ وَجِلَة مَتى سَاعَةُ الصِفْر ... متَى نَشرَعُ بالهُجوم ... كِيف أوصِل خبراً  لأهلي أنني بِخير فكانَ القرار أن أستأذن الآمر بالنُزُولِ إلى البَصرة كي أستَحِم وأغُيرَ من نِفسِيتي المُحَطَمَة وأتسَلَلُ إلى أقرب مَكتِبِ بَريدٍ وأسمعُ صوتَ أمي ، هكذا إتَقفنا أنا وعِزَّالدين وبِمجِردِ مُفاتَحةِ ماجِد بالنزُولِ ولو لساعةٍ واحدةٍ كانَ الرد الصَادِم :

- الله يحفظك نحنُ بأقصى درجات الإنذار والدنيا توشك أن تُهجَم ، وأنتَ الضابِط الثاني فِي سُلَّ القِيادةِ هُنا ومن يتولى القيادة إن حَدثَ لي شيئ ، تريد تهجِم بيتي ، إستُر علينا ربي يوفقك !؟ 

تتابَعتِ الليالِي وأنيسِي فيها أبا العِز يُحَدِثُنِي عَنْ إرتباطهِ الرُوحي ومدى تَعَلُقِه بِزَوجِتهِ أم مُحَمَّد وكيف تَم إقترانهِ بِها وكأن الحياة توقفتْ عِند هذا الحَدث ، وكانت السَعادةُ تُهيمِن على كيانهِ إن تَحدثَ عَنْ طِفله الوَحيد " حَمْودِي" ، أمّا أنا فكُنْتُ أُخَصِصُ كُلَ يومٍ لأميرةٍ داعَبَتْ شِغَافَ قَلبِي إذْ كُنْتُ كما النَحلةِ التي تَجوبُ الجَنائِن وروضات الوُرُود تَمتَصُ رَحِيقَ هَذه وتَرتَشفُ عَبقَ تلكِ وَتلثُم أريجَ أحلى الزُهور ، فَما مِنْ يومٍ يَمر دونَ أنْ تَكون لي فِيهِ صولاتٌ وجَولات ؛ حتى جاء يَومَ نِقليِ إليكم يا أبا حَمودي فَتَصَحَرتْ أيامي وأجْدَبَتْ دُنياي وأصابَ القَحطُ حَياتِي فها نحنُ بكاملِ قِيافَتنا العسكرية كما تَرى بإنتظارِ الأوامر (وسعيدُ الحظِ فينا) مَنْ ينزَع البُسطال بِذَريعَةِ الوضوءِ والصلاة ، لكن مُصيبَتي أنني لا أُصلي ما يعني فقط أتخلصُ مِنه توالي الليل ... 

- عِز الدِين : كَم الساعة الآن ؟

- أنها الثانية والثلث ليلاً !

سيدي ... سيدي ... سيدي ... إنه صوتُ إنضباط الآمر 

خَير بابا إشبيك ... عَسى ما شَر ... شبيك مرعوص "مَرعُوب"  !؟  

- سيدي : الآمر يقول : هسة يجوني ركض زِياد وعِز الدِين !!!؟؟؟

- خيراً سيدي الآمر ؟

- الآن عُدتُ من المؤتمر الطارئ وقد صَدَرتِ الأوامر بإخلاء القاطِع فَوراً وأي دَبابة أو مُدرعة أو آلية مَع الضِياء الأول سيتمُ قَصفُها مِن قِبل طَيران التَحالف وخلال لحظات ستصل الفاونات وهذا واجبك أنت يا زِياد ؛ إنتهى ؟

بدأنا الإخلاء وأنا إتنقل ورِفاقِي الضُباط نَرتقي فَاون ونترجلُ مِن فاون آخر ويسر الله الأمر مع خُيوط الفجر الأولى تَمت المهمة دون أن نَعلم وجهتنا القادِمَة وكنت أنا وماجِد وعِزالدين وناصر في سيارة الرانج وهي عجلة إركاب الآمر التي تحركت آخر سيارة والطيران المعادي يحوم فوق رؤوسنا ، وبمجرد أن تحركنا هجم النوم بِكلِ جبروته عليَّ فبدأت أغفو ثُمَّ أصحو على صوت شَخيري فالأمر كانت فيه مشقةٌ عظيمة ومسؤوليةٌ رُبما نفقدُ حياتنا لو أخفقنا .

رَابِعَاً : العودة إلى مناطِق وِسطِ العِراق : 

عُدنَا إلى مَقَرِاتنا السَابِقة لكِننا فُوجِئنا بأنَّ الدبابات والمُدَرعات بقيت مُحَمَّلة على الفاونات دُونَ أنْ نسأل عن السِر أو السبب لكنَّ الأمر سيتضح حتماً ، مع صباحِ اليومِ التالي بدأت الباصات الحكومية الحمراء المخصصة لوزارة النقل تتوافد علينا فأدركنا أنها أوامرٌ  بتحركٍ جديد ، وبالفِعل بدأت قطعاتنا بالتحرك !  لكنْ إلى أين ؟ لا نَعلم   

لاحِقاً تبين لنا بأنّه قد بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بالإعلان منْ جانبٍ واحدٍ عنْ تطبيقِ مناطقَ حظر الطيران جنوبي خط عرض 532 وشمالي خط عرض 536 ثم جرى توسيع المنطقة إلى جنوبي خط عرض 33 في العام 1996م وهذا الحظر لا سابقَ له في الممارسات الدولية ويتناقض مع القانون الدولي ولا يحظى بموافقة الأمم المتحدة ولقد إنسحبت منهُ فرنسا وبقيت الولايات المتحدة وبريطانيا مصرتان على تطبيقه ( )

القرارُ هَذا يشملُ تواجد قواتنا في مَوقعها الحالي لِذا تَوزَعت قطعاتنا على مَقْرُبةٍ مِن بُحيرةِ الرزَّازَة وفي المناطق الصحراوية الرملية المفتوحة ما بين  صحراء كربلاء والنَجف ، وطيلة هذه الفترةِ التي تجاوزت الشهرين نحنُ فِي إنذارٍ والإجازاتُ مَقطوعةٍ ممنوعة وأنا فِي معزلٍ عنِ الدُنيا لا أعلم شيئاً عَنْ أهلي والعكسُ صحيح فما كابدتهُ خلال هذين الشهرين أعتقدُ بأنهُ كَفَّرَ ذُنوبِي وأنساني كُل أيامَ سَعادَتِي .... وفي قرارةِ نفسي بدأت أعتذِرُ لكلِ وردةٍ كِسرتُ بِخاطِرها وكلُ أميرةٍ جَرحتُ مشاعِرها وكلُ فراشةٍ إكتوت بوهج نار حُبي ؛ فَعُذراً لكلٍ دمعةٍ ترقرقت ، وعُذراً لكُلِ عَبرةٍ تهدجت ، وعُذراُ لكُلِ حَسرةٍ تحشرجت  .... لَعَلَّ لسان حالي اليومَ يقول لِمن تَربعت على عرشَ قلبي : 

لغيرَك ما سَهَر طَرفي ولا حَيْ

وَلا لَذْ بگرُبْ مَعْشَرْ ولا حَيْ

لانِي ميتْ بشُوگكْ ولا حَيْ

نَحِيلْ أصبَحِتْ بس العَظُمْ بِيَّ ... ويبقى للحديثِ تَتِمَّة ........

خَامِسَاً : مواقفٌ تُجَسِّدُ طِيبة قلبِ عِزَّالدِّين ونخوته ومروءته :

خِلال تواجدنا في مكاننا الجديد حدثتْ سِلسلةٌ مِن التنقلات حيث تم تَسَنَّمَ قيادة اللواء المقاتِل الشَهيد أبو إسراء ع.ر " لواء ركن خالد حاتم الهاشمي"  ( الذي شغل لاحقاً منصب قائد قوات سارية الجَبَل وهي الفرقة 51 مشاة آلي التي كان لها موقفٌ بطوليٌ مشرف في التصدي لقوات التحالف الكوني الغازية سنة 2003م في معارِك البصرة "رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته") واستلم قيادة الفوح الأول م.ر "لواء ركن علي سالم اللهيبي أبو أسيل" وسبحان الله جمعتني علاقةُ صداقةٍ وطيدة مع كليهما خاصة وأنَّ الهاشمي رياضي بروحٍ شبابيةٍ رائعة وكذا الحالُ  مع اللهيبي ، لكنَّ الإشكالية أنني حتى اللحظة لم أتمتع بأيِّ إجازةٍ قُرابةَ ثلاثةَ أشهر أعاني فيها الجفافُ العاطِفي والحِرمان واشتد بيَّ الشوق للأهلِ والدِيار .... المهم الآن أن يتمتعَ المتزوجون بإجازاتِهم أولاً ثُمَّ نحنُ العُزَّابُ لاحٍقاً ؛ أتعلمون ماذا يعني ذِهابَ عِزَّالدِّين وناصر القيسي بإجازة وبقائي أنا أتقلب على جمر الغضى بإنتظارهم ؟ اليوم بفراقهم سنة !!!؟؟؟

بعد أن تَمتَعَ كلٌ مِنا بإجازةٍ قصيرةٍ عُدنا لنجتَمع وصادَفَ يومُ جُمُعَة فإذا بي أرى تَجمعاً وكأنها زِيارة عائلية لأحد السُجناء وقد إزدَحموا على مقربةٍ مِن بابِ النظام وإفترشوا الرِمال ، فقُلتُ مُتسائِلاً :

- هَل مِن مسؤوليةٍ لو جعلنا هؤلاء العوائل تلتقي بأبنائها داخل غُرفة حراسات بابِ النِظام وهي تتسِعُ للمزيد ؟ فكانَ ردُ عِزالدين :

- حتى وإن كانت فيها مسؤولية فأنا أتحملها وَسفَة عليك أبو الزود !

صَادَف ذاتَ يومٍ في إحدى زِياراتِنا التَفَقُدِيَّة للسِجن وجودَ شابٍ بَدَا لِي مِنْ الوَهلةِ الأولى أنَّ لا يَنبَغي وُجودَه في هذا المكان فسألتُ عِزَّالدين عَنْ شأنه ؟ فقال : ليتكَ لَم تسأل !  فهذا الشاب هو فَنانٌ تَشكيلي ورَسّام موهوب ومُبدِعٌ في شتى الفُنون لكنّه مُودَعٌ هنا لأسبابٍ سياسيّة ويجبُ التَحفظ عليه بأوامِرَ عُليا .

بطبيعةِ الحال أنا مُولَعٌ بالفَنْ مُحِبٌ لأهله وعُشّاقه لذا بدأت أبعثُ في طلبِ هذا الشاب الذي تبينَ أنه مِنْ مدينة العمارة في محافظةِ ميسان فكنتُ أصرِفَ حُرّاس السِجن وأتحاوَرُ معه وأشارِكهُ طَعامي حتى أصبحتْ رؤيتهُ حُراً طيقاً أمرٌ مُعتاد ، فُكنا أنا وعزَّالدين وإبنُ ميسان في لقاءاتٍ مُتتابعة والحِوارُ في الفَنُ والأدبُ هو سَيدُ الموقِف حتى خَطَرَتْ لي فِكرةٌ ذاتَ يوم وهي : لماذا أجعَلُ عائلة هذا الشاب تَتَجَشَّمُ عناء السفر بغيةَ رؤيته ! فليكن العَكسُ هو الصحيح مِن خلال تَنظيم إرسالٍ طبي نُوفِدهُ إلى مدينته ليعيش بعض الوقت معهم وبمعدل ثلاثةِ أيام في كل شهرٍ أو يزيد حسب الموقف ، ورغم أن الموقف لا يخلو من خطورةٍ ومجازفة ويستلزم موافقة ثلاث أطراف هم (ل.ر علي اللهيبي و أنا و م.ر عِزالدين الناصري !

 تحاورت معَهم فأبدو رغبتهم في الأمر من بابٍ إنساني مع الأخذ بعينِ الإعتبار المحاذِير من خطورة ما سنُقدِم عليه ، ومن باب الطُرفة قال أبو أسيل اللهيبي : إذا ماتهجم بيوتنا ما ترتاح يا أبو الزيد ؟

تم تنفيذ الأمر وإرساله إلى اهله بِغطاء رسمي وفي كُل مرةٍ كُنّا نُتْلِفُ الأوليات بعد عودتهِ لتجنب المساءلة القانونية خشيةً من تداعياتها ... إستمر الحال لغاية بداية عام 1996م حيث صَدَرَ أمرُ نقلي إلى مقر القِيادة ، ودعت رِفاقي بِدمعِ العين وحسرات القلب ، المهم إستمر الحال مَع إبنُ ميسان بِذات المِنوال حتى صادَف اليوم الذي ذَهبَ فيه بإرسالٍ لكنهُ آثر مغادرة العراق دون رجعة ليكون عِزَّالدين في دائرة الإتهام وتمت معاقبته ولَم يَسلم اللهيبي من تداعيات الموقف لذا إتصلَ بي وبعد عتابٍ قال : وقع المحذور وَوَقَعَ الفأس برؤوسنا فهل إرتاحَ قلبكَ الشفافُ بعدَ الموقف الذي وضعتنا فيه ؟

سَادِساً : رِحلةُ اللاعودة إلى أنقرة :

إثر أحداث سنة 2014م وإقتحام المحافظات الشمالية والغربية مِن قِبل التنظيمات المُتَشَدِدَة كانت أربيل أول محطٍ لِرِحالنا أنا وعِزَّالدين ثُمَّ توجهنا إلى تُركيا أنا إلى إسطنبول وأبو العِز إلى أنقرة ، لكِنَّ الشوقُ للعِراق أقَضَّ مضجعي وأضطرني للعودةِ إلى أرضِ الرافدِين أمّا أبا ُمُحَمَّد فقد ساءت حالتهُ الصِحِيَّة في أنقرة وأتصل بي في آخرِ أيامهِ وأعربَ عن حَسرةٍ في قَلبهِ وشيءٌ مِن زِعلٍ تجاه صاحبنا الميساني الذي عاد إلى العِراق لاحِقاً ، كون عِزَّالدين تواصل مُعهُ لكن كانت النتيجة لا تَسُر ولم يُفصح لي عن التفاصيل وقد أوردتُ الموقفِ هذا للتأريخ ، المُهم في كُل مرةٍ يشتد بي الوجدُ وأختنقُ بِعبرتي أبادِرُ لأسمعَ صوت عزَّالدين الذي رُزِق بإبنةٍ أسماها روان وقال :

 يشهدِ الله أننا إتفقنا في البيت إن كان المولود صبي فسيكون إسمُهُ زِياد على إسمك  ولكن قَدَّر الله أن تكون الأميرةُ روان حفظها الله .

توالتِ الأيام ونِيرانُ شوقيِ تتلظى لِسماعِ صوت أبا مُحَمَّد وكُنْتُ أؤجل الأمر حتى فُجعت بنبأ وفاة عِزَّالدين في العَاصِمة التُركية أنقرة في تمام الساعة العاشِرة والثُلث ليلاً من يوم الأربعاء المصادف 5 تشرين الأول 2022م الموافِق 9 ربيع الأول 1444هـ  وهكذا دُفن بعيداً عن ديارهِ ووطنه ؛ ولله دَرُّ جدي الإمامُ عليٌّ زين العابِدين القائل : 

لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمنِ       إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ

إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتهِ            على الْمُقيمينَ في الأَوطانِ والسَّكَنِ

اللهــــم : يا حنَّان يا منَّان ياواسع الغفران إغفر له وأرحمه وعافهِ وأعف عنه ، وأكرم نزله ووسع مدخله وإغسله بالماء و الثلج و البرد ، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس ؛ اللهــــم : أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة بلا سابق حِسابٍ أو عذاب وإجعل الفِردَوس الأعلى مُستَقراً له ومُقاما ... إنك وليُ ذلك والقَادِرُ عليه .                    

هناك 4 تعليقات:

  1. رحمه الله تعالى وغفر له وأسكنه فسيح جناته

    ردحذف
  2. بارك الله فيك وجعل دعواتكم في ميزان حسناتكم ووفقكم لما يحب ويرضى شكرا لجنابك ... د.زياد السبعاوي

    ردحذف
  3. حياالله ورحمة الله السوداء

    ردحذف
  4. حيا الله الأحياء منكم ورحمه الله الشهداء

    ردحذف