لم يكن محمود درويش واقفًا على محطة قطار عندما كتب: "كنا طيّبين وسذّجًا. قلنا: البلاد بلادنا ، قلب الخريطة لن يصاب بأيّ داء خارجيّ، والسماء كريمة معنا، ولا نتكلم الفصحى معا، إلا لماما؛ في مواعيد الصلاة وفي ليالي القدر".
كنّا في أعالي الجليل واقفين على جانب طريق ضيقة وأمامنا المدى الأخضر ممتد وكأنه بلا نهاية. كانت السماء قريبة فوق رؤوسنا والهدوء الجليلي يملأ الفضاء حولنا، لا يخدش صمته سوى أنفاس ريح متعبة وهمس خفيف ينثال من زرقة صافية بدت وكأنها كانت تحتفي بلقاء عاشق عاد إلى سروته ليفتش عن قلبه وليعرف "كيف جن البحر وانكسر المكان كجرّة خزفية". وقفنا على حافة الدهشة، وراءنا خرائب قرية سعسع الفلسطينية، تطمرها بيوت ساكنيها الجدد ويافطة ترحب بزائري كيبوتس سعسع وتعدهم أن يتذوقوا، حين يدخلوه، كيف يكون طعم الوقت في الجنة.
أذكر اننا غادرنا ذاك الصباح بيت عائلة محمود في قرية جديدة وتوجهنا شمالا. سافرنا بمحاذاة الاراضي اللبنانية حيث كان الجنوب قريبا على مرمى شهقة منا، وأعلامه الصفراء مزروعة في كل مكان ولا يفصلها عن فلسطين إلا سياج شائك مهتريء وجبال من الأسى والأمنيات. مشينا حتى كدنا أن ندخل بالخطأ أرض لبنان، ولم نعد الا بعد أن نبهنا راكبو سيارة اسرائيلية لموقعنا. عدنا باتجاه مدينة كريات شمونه، التي بنيت على أنقاض قرية "الخالصة" الفلسطينية. في الطريق أصبنا بنوبة من الضحك العبثي وتخيّلنا ماذا لو ضبطونا في الجهة اللبنانية متسللين، وماذا كنا سنقول ؟ أو ماذا كنا سنفعل وسنقول للضابط الاسرائيلي لو قرر اللبنانيون اعادتنا إلى وطننا؟
شربنا فنجاني اسبرسو في احدى محطات الوقود وتركنا كريات شمونه. في الطريق، حين وصلنا صلعة الجبل، وقفنا في ظل سروة وكان التاريخ تحتنا والبحر كان بعيدا وأبيض. فتح محمود درويش ذراعية وتنشق كل الهواء لصدره. خفت أن يختنق لكنه تنفسه على جرعات وأشار بسبابته نحو الغرب والجنوب والشرق وتمتم كأنه يسأل: أكانت كل هذه البلاد لنا ؟ وأردف، كيف خسرناها ؟ لم يجب ولا كان ينتظر الجواب، فلقد كان يكتب بقلبه قصيدته الشهيرة "على محطة قطار سقط عن الخريطة". وقفنا لأكثر من ساعة. كان لبنان وراءنا وجبال الجليل تندلق كالوجع أمامنا. عدنا إلى عكا . في الطريق كان كلام الشاعر قليلا والوجع ينطلق في صدره آيات وصورا "فكم كنا ملائكة وحمقى حين صدقنا البيارق والخيول ، وحين آمنّا بأن جناح نسر سوف يرفعنا إلى الأعلى".
المشهد الثاني: القاهر والظافر
كنا أولادا حين اندلعت وانتهت حرب حزيران 1967. ما زلت أذكر كيف ساعدنا والدينا بطلي شبابيك دارنا باللون النيلي بدون أن نفهم لماذا . كنا نتحدث داخل البيت بهمس ونمشي بحذر وكأن شيئا ما غامضا وغير متوقع سيصيبنا. لم نفهم ونحن في العاشرة من عمرنا ماذا تعني الحرب بالنسبة لسكان قرية جليلية صغيرة، يتحرز أهلها على أحلامهم ويخبئونها في صدورهم، ولا يفكرون بايذاء فراشة أو نحلة. كنت أرقب أبي وأضبط حركاتي بناء على ملامح وجهه، فاذا تبسم كنت واخوتي ننطلق للعب في حواكير القرية شريطة أن نعود الى البيت قبل العتمة، واذا عبس كنا نلزم غرفنا ولا نجرؤ على الكلام.
انتهت الحرب وعرفنا أن العرب هزموا بنكسة. فهمنا أن إسرائيل احتلت مناطق عربية جديدة يسكن فيها عرب مثلنا. لم ندرك كأطفال ماذا تعني النكسة، لكننا كنا نشعر أن الناس في قريتنا قد تغيّروا وصاروا أكثر صمتًا وظهورهم أكثر انحناءً وقد غابت الحمرة عن وجوه النساء وصدورهن ضمرت وانكمشت. لم نسأل ماذا حدث بالضبط، لكننا فهمنا بالحدس أن هنالك أمر جلل "كسر شوكة" المواطنين العرب في إسرائيل وسرق من قلوبهم الفرح.
بعد بضعة شهور من الحرب، وبالتحديد في احدى ليالي عيد الميلاد، أذكر أننا كنا نحتفل بليلة العيد كما كنا نفعل في كل عام؛ نجتمع مع بعض الأقارب والأصدقاء حول طاولة كان يمدها أبي بعناية ويملؤها بما يليق بيوم العيد. كانت تلك الأيام أيام قلّة وكنا ننتظر مجيء العيد كي ننسى قواعد الفقر والتقشف.
كان الكبار منهمكين حول الطاولة والاولاد يلعبون حين سمعنا طرقا على باب دارنا. وقبل أن يفتح أحدنا الباب فاجأنا رجل ضخم القامة، كبير الرأس وعلى وجهه ابتسامة صفراء يقتحم الباب بنفسه. دخل دون أن يستأذن ووقف قبالة الطاولة . اذكر لون وجنتيه وعينينه الجاحظتين. وضع يده تحت حزام سرواله وكأنه كان يمسك كرشه الضخم من أن يسحل، ونادى باسم أبي " جبغان" هكذا بلدغة اشكنازية/أوروبية ، وكان يقصد جبران. لم ينتظر ردًا بل أردف بصوت عال وسأل بسخرية "وين الظافغ ووين القاهغ بتوع جمال ابتاعكو يا جبغان" ؟ (يقصد الظافر والقاهر وهما صاروخان كان جمال عبدالناصر يتحدث عن قوتهما قبل الحرب).
كان أبي واقفًا على رأس الطاولة ويحمل بيده كأس نبيذ ويهم أن يشرب نخب ضيوفه الذين تحلقوا الطاولة. ما زلت أذكر كيف تسمّر في مكانه حتى استوعب الموقف بعد لحظات. كان يحاول أن يحتفظ ببقايا لون في وجهه وبأنفاس حياة وكان قلبه يدق كجرس حزين. سمع أبي وضيوفه خطبة ضابط الأمن الاسرائيلي الذي كان مسؤولا عن "أمن" قريتنا في تلك السنوات، ولم يجبه أحد . بعد دقائق قليلة وبعد أن مرر الضابط "رسالته" للجميع أعلن انه، على ما يبدو ، جاء بوقت غير مناسب، فانسحب وترك في بيتنا قهرا ووجعا وفرح عيد كسيرا.
كنا أولادا فمضينا إلى أحلامنا؛ أما الكبار فبلعوا قساوة المشهد وتذكروا أنه "في ليلة الميلاد تزهر الأرض، وفي ليلة الميلاد تبطل الحرب وينبت الحب" ومضوا في دهاليز حياتهم المتعرجة والقاسية.
كبرت بعد عيدين وصرت أفهم ماذا يعني أن تُقتحم كرامتك في ليلة الميلاد ويسخر منك في بيتك ومن أمة هي أصلا لا تعترف بنسبك اليها . فهمت ما معنى النكسة ولماذا صارت النهارات بعدها في جليلنا خجولة والفرح والغد أسيرين يتحكمون بهما أناس مثل ذاك الضابط الذي لم يعرف من الحرب سوى نشوة النصر وسكرته.
المشهد الثالث: موت الياس خوري وليل تفجير البيبرات؛
كنت أهم لكتابة نعي لنفسي بعد أن سمعت برحيل الياس خوري وهو الذي كان لي وللكثيرين في العالم منارة تضفي على ليالينا القلقة طمأنينة وأمانا وأملا. كنت أستعيد تفاصيل "حكاية الديوان الأخير" وكيف كان الياس في تلك الآيام والليالي يقفز بين ضفتي الفرح اللانهائي والحزن العميق. أذكره عندما جاءني في الصباح كعصفور بألف جناح واقعدني في ردهة الفندق، وبدأ يقرأ أمامي من نصوص القصائد التي وجدناها في بيت محمود درويش في عمان. كان يقرأ بصوت عال ويحرك يديه كمايسترو يقود فرقة من أمهر العازفين. وكان يضحك أحيانًا كمصاب بنوبة نشوة لا تقاوم ومرات كان يقف ليأخذ أنفاسه ويصرخ من الدهشة ويقول: من أين يجيء هذا الانسان بكل هذه المعاني والصور، انه المستحيل حين يصهر كلامًا في قصيدة.
لم أكمل نصي. توقفت وأرجأت حزني؛ وقلت عساه القدر قد دبّر رحيل "شيخ الأوادم" رفقة بقلبه المكلوم وبجسده المشظى بالوجع. فلو يبعث الموت فرحا ما بنفس، سوى الفرح المؤجل على رجاء قيامة المؤمنين بذلك، لقلت ها هي هذه الساعة؛ فقد رحل الياس خوري قبل أن يسمع ويرى كم كان أهله وما زالوا حتى يومنا هذا "طيبين وحالمين" فلم يروا "الغد يسرق الماضي ..طريدته ويرحل" . كان الياس يحب هذه القصيدة ، كما أحبها شاعرها، وأحبها أكثر حين سمع عن ولادتها في حضن أحراش طليلة سعسع. في ذلك الصباح العمّاني الحزين كان يقرأ القصائد كمكتشف لغة سحرية جديدة ويصرخ ويقول: "كان أهلي طيبين وسذجا . قالوا : البلاد بلادنا قلب الخريطة لن تصاب بأي داء خارجي والسماء كريمة معنا". آه يا وجع السذاجة والجهل.
نحن كنّا وما زلنا هنا، على هذه الأرض نفتش عمّا يستحق الحياة عليها .. أما أنتما فمن هناك تنظران معا من علٍ عليها وعلينا بصحبة تلك القصائد "التي لم يزدها الموت إلا عمقًا " كما قلت في حكاية القصيدة التي لم يرد لها أحد منا أن تنتهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق