شعراء وأبناء/ د. عدنان الظاهر


                              

(( دراسة في شعر بعض الشعراء العراقيين ( وربّما سواهم ) خاطبوا فيه أبناءهم تحت ظروف مختلفة وأزمنة متفاوتة. فكيف خاطب هؤلاءُ الشعراءُ الأبناءَ وكيف أثّرت شبكة التركيبة النفسية المُعقّدة والأجهزة العصبية المركزية وظروفهم السياسية والإجتماعية فيهم فإنعكست على ما قالوا من أشعار. لاحظتُ أنَّ أبرز من زاول هذا الضرب من الشعر الشعراءُ بدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ثم سعدي يوسف )).


مقدمة بسيطة:

خاطب الشعراء على مر العصور والأزمنة أزواجهم وعاتب أبناءهم أو إلتجأوا إليهم في ساعات الشدة والكرب. ورثوا أُولئك النسوة وهؤلاء الأولاد إثر موتهم. وديوان الشعر العربي يزخر بكل ذلك. معروفة على سبيل المثال قصيدة ( أبو ذؤيب الهُذلي ) التي يرد فيها على معاتبة زوجه إياه على إسرافه في الحزن على وفاة بنيه : 


قالت أُميمةُ ما لجسمكِ ناحلاً

منذُ أُبتليتَ ومثلُ مالِكَ ينفعُ


فأجبتها : أمّا لجسميَ   إنهُ 

أودى بنيَّ من البلادِ فودّعوا


وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارها

ألفيتِ كلَّ تميمةٍ لا  تنفعُ 

إلى آخر القصيدة.

كذلك معروفة قصيدة ( إبن الرومي ) في رثاء أولاده الثلاثة ولاسيما ثالثهم. أما رثاء نزار قبّاني لولده القتيل ( توفيق ) فإنها من روائع الرثاء، لا يقرأها المرء حتى يشعر بالحزن والأسى وكل ما عاناه الوالد المفجوع ساعة كتابته لهذه القصيدة.

لا أخوض وأستطرد في موضوع الرثاء إذ لكل مقامٍ مقال كما يُقال، فلقد وجهّت همّي في هذه الدراسة إلى الصنف الآخر من الشعر البعيد عن الرثاء. ولقد لاحظت أنَّ هؤلاء الشعراء جميعاً كانوا قد خاطبوا بنيهم أطفالاً أو ما فوق سن الطفولة بقليل أو في سني الشباب المُبكّر.لم يخاطبوهم ناضجين كباراً. خاطبوهم وهم في ساعات شدّة أو أزمة أو محنة أو مرض. وعدا قصيدة السياب ( مرحى غيلان ) فإنَّ الشعراء الثلاثة، على سبيل المثال، السياب والبياتي وسعدي يوسف،كتبوا الشعر لأبنائهم حين كانوا خارج وطنهم العراق وتحت ظروف قاهرة وعصيبة من مرض ( السياب، قصيدة أسمعه يبكي، كتبها راقداً في سرير مرضه الأخير في بريطانيا ) أو نفي وتشرد وضرب في الآفاق ( البياتي )، بل وحتى الحصار النفسي والجسدي والمكاني والتعرض اليومي لخطر الموت كما حصل أثناء حصار بيروت الشهير عام 1982 للشاعر سعدي يوسف حيث كتب خلال شهور الحصار والموت والدمارقصيدته الطويلة لإبنته مريم ( مريم تأتي ). 


                          بدر شاكر السياب   


للسياب في إبنه غيلان قصيدتان، كتب الأولى في العراق وعنوانها " مرحىً غيلان ". أما الثانية " أسمعه يبكي " فقد كتبها في سرير مرضه حين كان يُعالج في إحدى مستشفيات مدينة دُرَمْ البريطانية Durham . هذه القصيدة تحمل تأريخ 9-1-1963. سأتعرض للأولى وأترك القصيدة الثانية. 


( قصيدة " مرحىً غيلان ". من ديوان أُنشودة المطر/ بدر شاكر السياب، المجلّد الأول، دار العودة، بيروت 1971 ).

تمهيد :

 تأريخ كتابة هذه القصيدة مجهول، لكنْ يمكن تقديره في أو قبيل عام 1960 بمقارنة النهج العام وأسلوب ولغة وصور هذه القصيدة مع قصائد هذه الفترة. صدر ديوان أُنشودة المطر عام 1960. إلتقيت الشاعر صيف عام 1959 صدفةً في شارع أبي نؤاس المطل على نهر دجلة في بغداد وسلّمتُ عليه وكانت قرينته برفقته حاملاً بشهورحملها الأخيرة. إذا كان غيلان من كان في بطن أمه يومذاك فيكون مولده في الربع الأخير من عام 1959. غيلان في هذه القصيدة ينادي أباه (( بابا بابا )) أي أنه كان في أو قبل أنْ يتجاوز عامه الأول بقليل... شأن بقية الأطفال الأسوياء. غيلان الآن في أستراليا، ليته يقرأ هذا الكلام ويدقق ما جاء فيه ويصحح معلوماتي.

يُرجِّحُ تخميناتي أمران : مولد إبنة الشاعر البكر غيداء في 24/12/1956 ( إنتقل السياب إلى العالم الآخر يوم 24/12/1964 … يا لغرابة الصُدف ويا لِحكم الأقدار! ). ثم مولد إبنته الأخرى آلاء في السابع من تموز سنة 1961. فيكون مولد غيلان ما بين هذين التأريخين.  

مرحى غيلان  

قسّمتُ القصيدة إلى ستة أجزاء أو مقاطع، كل جزء يبدأ بكلمتي (( بابا…بابا )) كما جاءت في القصيدة. ذاك لأنَّ كل مقطع يتميز بالكثير من الأمور عن بقية المقاطع حتى لكأنَّ كل مقطع يمثل فصلاً مستقلا قائماً بذاته. رغم التمايز والتفاوت فإن أُطروحة جدلية أو ثنائية الحياة – الموت هي التي تجمع هذه المقاطع وتوحدها وإنْ بخيط يدِقُّ حيناً ويقوى أحيانا، يبدو ظاهراً للعيان تارةً ويتخفى تاراتٍ أُخَر. لا ينسى السياب الموت وهو في غمرة التعبير عن فرحه وسعادته إذ يسمع طفله الصغير يناغيه بأول صوت يستطيع النطق به (( بابا )) جسراً جسدياً – روحياً يربطه بأبيه الذي أسهم في عملية مجيئه إلى دنيانا، وأول تماس مباشر لمخلوق جديد مع العالم الخارجي تعبيراً عن حاجة يُحسها الطفل للإتصال بالعالم المحيط وحتمية خروجه من الداخل البشري إلى العالم الآخر، فهو جزء منه ووجوده فيه. عملية إكتشاف مبكّرة أولى. وقد تكون المناسبة هي الإحتفال بمرور عام واحد على مولد هذا الطفل.


ثنائية الحياة – الموت في قصيدة " مرحىً غيلان " 


الحياة هي الطريق المُفضي إلى الموت. هي الوجه الثاني للفناء. ولولاها، الحياة، لما كان موت وإندثار وفناء. قال إبن شبل البغدادي :


صحّة المرءِ للفناءِ طريقُ

وطريقُ الفناءِ هذا البقاءُ

وبعد ذلك بقرون وقرون قال سارتر (( عن طريق الوجود يتسرب العدم إلى الأشياء )).  

ثم هناك شعر أبي العلاء المعرّي الذي ما زال يصرخ عبر القرون قائلاً :


خفّفِ  الوطءَ ما  أظنُّ  أديمَ ال

أرضِ  إلاّ   من  هذه  الأجسادِ


سِرْ، إنْ إسطَعتَ في الهواءِ رويداً

لا  إختيالاً  على  رُفاتِ   العِبادِ 


رُبَّ لَحدٍ قد صارَ لَحداً مِراراً 

ضاحكٍ  من تزاحمِ  الأضدادِ


فقشرة الأرض الميتة هي أجسادنا التي كانت يوماً حيةً تزخر بالنشاط والحركة والحيوية.

الجسد الحي يمدُّ الطبيعة بعناصر الموت : بالتراب الذي نُدفن تحته وبالتراب الذي نتخذ منه غطاءً. مفارقة عجيبة مضحكة مبكية ! ثم إننا البشر الفانون عاجلاً أم آجلاً لا نمشي أحياءً إلاّ على رفات الآخرين التي كوّنت أديم الأرض. نطأُ هذا الأديم مرّاتٍ ليطأنا مرةً واحدة بعد موتنا وإلى الأبد.  

فقصيدة السياب تتأرجح ما بين هذين الوجهين صعوداً ونزولاً. ولكي يقوّي مواقفه الشعرية ويضخ فيها الكثير من عوامل التركيز والتأثير إلتجأ الشاعر كدأبه إلى الأساطير والرموز التأريخية مندفعاً إندفاعات غير منضبطة في سيل جارف من التدفق الروحي والشعوري العصي على الضوابط والروابط والحدود حتى ليقف الفكر عاجزاً أمام هذا الإندفاع الجارف ويستسلم المنطق إستسلاماً كاملاً. لا يكتفي السياب باللجوء إلى الرموز والأساطير، بل ويركن، كعادته، إلى أقسى وأعنف ما في الطبيعة والكون من ظواهر فيزجها في نسيج شعره زجاً تختلط فيه الأنا بالآخر وبالكون وبتقلبات الطبيعة. لقد ورد 

( الدم أو الدماء ) تسع مراتٍ في هذه القصيدة، وإستعان بتموز وعشتار السومريين أو البابليين والبعل إله الكنعانيين الفلسطينيين وعشتروث وبإيزيس الفرعوني وسيزيف ثم المسيح. تموز الراعي وعشتار آلهة الخصب والتناسل والبعل زوج عشتروث فلسطين والمسيح الذي يُشفي الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى ويمشي على سطح الماء وسيزيف حامل صخرته. كل هذا الرهط حضر إحتفالية مولد غيلان الأولى أو قدرته على النطق الأول. النطق والمشي معجزتان كبيرتان بالنسبة للكائن البشري. الكون والتأريخ كلها تساهم في ولادة جديدة وتكون شاهد عيان وتحضر المراسم والطقوس.كذلك بعض أنهار العراق، بويب الذي يمر في مدينة الشاعر ( جيكور ) في ضواحي البصرة ونهر الفرات الذي يشق العراق من شماله إلى جنوبه.كل هذه مظاهر فذة وشواهد على الخصوبة والإنبعاث فمولد غيلان وقدرته على النطق الأول يمثلان ولادة أخرى كونية جديدة، خاصةً إذا كان غيلان هو الطفل الذكرالأول وربما الذَكَر الوحيد لوالديه. ألا فليحتفل الكون إحتفالاً مناسباً مَهيباً بمولد إبن الشاعر. الكون في هذه اللحظة ولادة جديدة والمولود الجديد كون آخر جديد. أُوركسترا كونية تعزف لحن خلود الكون الأبدي. شيء جيد رغم ما فيه من مبالغات وقفزات وإقحامات متعَمَّدة كما سنرى. شيء جيد ولكن ماذا عن وجه الحياة الآخر: الموت والفناء ؟ وضع الشاعر بين أيدينا الكثير من مظاهر الذبول واليأس والتهيؤ للفناء بالموت الأكيد الذي فرضته الآلهة منذ أنكيدو وجلجامش على البشر. هناك إنتهاء الشاعر بعد ولادة مولوده الجديد وهناك نزول هذا الولد إلى الحضيض وهناك شوارع جيكور الحزينة، والأرض لاشيء سوى قفص عظام وما المسيح إلاّ ظلٌّ لا يحيا ولا يموت وكف بلا عصب وهيكل ميت. والموت يركض في الشوارع ويهتف بالنيام أن يهبوا فلقد (( وُلِدَ الظلامُ … وأنا المسيح أنا السلامُ )). هنا نتساءل : ممَ قد وُلِدَ الظلامُ ؟ وكيف يكون الظلام معادلا للمسيح وللسلام ويتكلم بإسميهما ؟ تقول الأسطورة الفرعونية إنَّ العذراء وضعت مولودها… إنها وَلَدت الشمس. العذراء ولدت الشمس ولم تلد الظلام كما جاء في قصيدة السياب. 

أخيراً ينكفيء الشاعر على نفسه ويغرق في سوداوية قاتلة رافقته طوال سني حياته القصيرة

فينقلب الربيع والنار والورود والربيع والفرات … تنقلب جميعاً إلى صورة سوداء كالحة من التشاؤم المر واليأس من الحياة. فالبعل يرقد ميتاً في ضريح والشمس تصرخ في الدروب شاكية من البرد :


وأنا الفراتُ، ويا شموعُ

رشّي ضريحَ البعلِ بالدمِ والهُبابِ وبالشحوبِ

والشمسُ تُعوِلُ في الدروبِ :

بردانةٌ أنا والسماءُ تنوءُ بالسُحُبِ الجليدِ. 

 

أحسب أن الصحيح أن يكون القول (( تنوءُ بسحب الجليد )). المُضاف إليه لا يُعرّف إذا كان المُضاف مُعرَّفاً. إلا إذا كانت (( السحب الجليد )) هي بالضبط كحالة ( السكك الحديد ).  

بدأ الشاعر بالخصب والبعث والولادة لينتهي بالموت والزوال. الموت الموت ثم الموت كان هاجس السياب القاتل والمميت كأن الرجل كان يحس أجله مقترباً منه مع كل لحظة يحياها في دنياه. مع كل شهيق هواء يسحبه إلى رئتيه. ثم فارق الحياة في الثامنة والثلاثين من عمره عليلاً قعيداً محطّماً وحيداً لا من مال في جيبه ولا من عقار في وطنه العراق ولا في مسقط رأسه قرية ( جيكور ).

صور ولغة القصيدة 

المقطع الأول :


" بابا…بابا "

ينسابُ صوتُك في الظلام، إليَّ، كالمطرِ الغضيرِ

بنسابُ من خَللِ النُعاسِ وأنتَ ترقدُ في السريرِ

من أيِّ رؤيا جاء ؟ أيِّ سماوةٍ ؟ أيِّ انطلاقِ ؟

… وأظلُّ أسبحُ في رَشاشٍ منه، أسبحُ في عبيرِ

فكأنَّ أوديةَ العراقِ

فتحتْ نوافذَ من رؤاكَ على سُهادي : كلُّ وادِ

وَهَبتهُ عشتارُ الأزاهرَ والثمارَ.كأنَّ روحي

في تُربةِ الظلماءِ حبّةُ حِنطةٍ وصداكَ ماءُ.

أعلنتِ بعثي يا سماءُ.

هذا خلودي في الحياةِ تكنُّ معناه الدماءُ. 


ماذا نقرأ في هذا المقطع، المُفتتح ؟ عُرس للطبيعة وبهجة غامرة تشارك فيها فرحة الشاعر بأول مقطع ينطقه طفله الصغير لأبسط الكلمات ( بابا ). نجد هنا السماء والماء والأودية والمطر وربّة الخصب والتناسل عشتار تحمل الأزهار والأثمار لأودية العراق. أشرك الشاعر في هذا المقطع أغلب عناصر الطبيعة وجنّدها للمساهمة بهذه المناسبة. الشاعر الفقير والضعيف لا يتحمل وحده عبء ومسؤولية النهوض بمستلزمات هذا العرس وهذا الفرح. إذن فلتتقدم الطبيعة، وهي أم الجميع، وتقف أمام وحوالي الشاعر الأب وتعرب عن بهجتها بطرقها الخاصة والمتشعبة حسب وضع عناصرها في الكون. صوت غيلان وهو ينطق كلمة ( بابا ) كالمطر وكالرؤيا وهو عبير وزهور ثم في غيلان إنبعاث الشاعر وخلوده في الحياة.

لقد تكررت الألف الممدودة في لغة هذا المقطع : الفعل جاء ثم الماء والسماء والدماء. كما ترك الماء ومشتقاته وما يتبعه بصماتٍ قويةً : المطر الغضير والسباحة في عبير وأودية العراق والماء صدى لغيلان. لوحة متغيرة الصور والظلال والألوان والإيحاءات تتحرك أمام قارئها كفيلم سينمائي ملون. والشاعر يعرف كيف يحرّك الصور بمهارة وبأية أفعال يحركها ويعرف وقع وتأثير مكان هذه الأفعال في جمله الفعلية. ثم إنَّ الفعل زمان ماضٍ وزمان حاضر وآخر لم يأتِ بعد ( المستقبل ). لا يُحسن توظيف دلالات الزمن إلاّ شاعر فنان موهوب ومتمرس في إستنطاق الأفعال ودلالاتها. إنه مصور بارع ومخرج سينمائي مقتدر ومتحكم في أدوات صنعته. لكن صورة واحدة في هذا المقطع تبقى صورة فكرية محضة لا يتحسس القاريء مجساتها ولا نهايات أعصابها، أي لا تستطيع الدخول إلى دهاليز عالمه الداخلي، عالم الإستجابة والتاثر والإنفعال. تجريد ليس إلاّ. أعني الصورة المركّبة (( فكأنَّ أوديةَ العراقِ، فتحتْ نوافذَ من رؤاك على سهادي )). صورة شبه جامدة لا نبض فيها لعصب ولا لشريان أو وريد. لا تستطيع إختراق أديم القاريء ومن ثم الولوج إلى دخيلة نفسه والوقوع على خلاياه الأدبية المُستَقبِلة ومراكز إلتقاط الإبداع. صورة باردة غير متحركة، صورة فوتوغرافية وليست صورة سينمائية متحركة أو صورة جهاز الفيديو. الفرق جدَّ كبير بين ما هو ساكن وما هو متحرك. الدفء والحرارة في الحركة وليس في السكون. ما معنى (( فتحتْ نوافذَ من رؤاك على سهادي )) ؟ إذا ما تجاوزنا المعنى فأي أثر يتركه مثل هذا التعبير في نفس القاريء ؟ لا شيء، لا شيء البتة. 


المقطع الثاني: 


ينقلنا السياب في هذا المقطع الصغير من عشتار إلى المسيح وتموز:

" بابا…" كأنَّ يدَ المسيحِ

فيها، كأنَّ جماجمَ الموتى تُبرعِمُ في الضريحِ

تموزُ عادَ بكلِّ سُنبلةٍ تُعابثُ كلَّ ريحِ. 


صوت المقطع الصغير ( بابا ) يُشفي المرضى ويُحيي الموتى ويجعل الحياة تدب ثانيةً حتى في جماجم الموتى وهم في قبورهم يرقدون تحت الثرى، تحت أديم أرض أبي العلاء المعرّي.

(( كأنَّ جماجمَ الموتى تُبرعِمُ في الضريحِ )). صورة مُفرِطة في غرابتها ! تنتأ براعم الربيع في رؤوس الموتى ! وما عسى أن ينتج من هذه البراعم غير جماجم جديدة ؟ برعم الشجرة جزء منها يماثلها ويعيد فيها وإليها دورة الحياة لا دورة الموت. شبح الموت يخيم على الشاعر شاء أم أبى. وقع الشاعرتحت تأثير سحر ما تعنيه براعم الربيع حيث تعيد الأرض حيويتها مع عودة الدفء وإنحسار موجة برد الشتاء، لكنه أخطأ القصد النهائي فسقط أو أسقط نفسه واعياً في تيار التشاؤم الطاغي عليه ليغدو الربيع والدفء وبراعم الشجر عوامل مساعدة على مضاعفة الموت وتكثيره كما تتكاثر الأشجار بالبراعم. 

ذكر الشاعر في المقطع الأول آلهة الخصب والتناسل عشتار ليذكر صاحبها تموز الراعي في هذا المقطع الثاني. السطر الأخير يُناقض ما قبله. نجد هنا السنابل (( تموز عاد بكل سنبلةٍ تُعابثُ كلَّ ريحِ )). السنابل تمزح مع الريح وتُشاكسها وتعبث بها. لقد قلب الشاعر هنا سياق ومنطق الأشياء فجعل السنابل تعبث بالريح بدل العكس. الأضعف يسخر ويستقوي على الأقوى. هذه إحدى أماني السياب العليل الضعيف المتشائم المُطارد والمفصول من وظيفته لأكثر من مرة. الإستقواء بالخارج على الداخل. مد ضعف الداخل  ( النفس البشرية ) بقوى الخارج ( الطبيعة ). وكان هذا ديدن وميل الشاعر الجارف في كل شعره غير السياسي دون إستثناء تقريباً. لذلك أراه قد تحول بالإكراه إلى شاعر مسكون بعالم الفضاء المطلق. شاعر الخروج من الذات الضيقة المهزوزة إلى العالم الأقوى والأوسع. إنه نهج ودأب الخروج من اللايقين (Uncertainty ) إلى الفعل ( Action ) أو الخروج من القوة إلى الفعل كما يقول الفلاسفة. 


المقطع الثالث :

لا أتجاوز الحقيقة إذا أطلقتُ على هذا المقطع عنوان ( مقطع الماء ). فيه كان الشاعر مغموراً حتى أُذنيه بالماء، عنصر الحياة. ومن الطبيعي أن يذكر الشاعر نهر بويب الذي يمر في قريته ومسقط رأسه جيكور. في هذا المقطع يستعين السياب برمز آخر جديد هو

( البعل )، إله الكنعانيين في فلسطين، لكنه يُعيد تشكيله فيجعله يتجلى في شخصية المسيح معجزةً ومكاناً. جعله يخطر في الجليل في أعالي فلسطين ماشياً كما فعل المسيح على سطح ماء بحيرة طبرية  (( أنا بعلُ أخطرُ في الجليلِ على المياهِ )). إذا ما تجلى البعلُ فظهر كالمسيح فلماذا تكلم الشاعر بلسانه (( أنا بعلُ )) ؟ ما الذي جعل الشاعر أن يتخيلَ أنه هو البعل أو أنه هو المسيح صاحب معجزة المشي على الماء كما ورد في  إنجيل متّى/ الإصحاح الرابع عشر ؟ مرة أخرى : الإستعانة بعناصر الخارج القوية، المعجزات في هذه المرّة، لقهر ضعف الداخل القاتل ! يتمنى الشاعر لو يمشي على سطوح الماء خفيفاً …هو الذي سقط في مرضه الأخير عاجزاً مُقعداً لا يقوى حتى على الوقوف على قدميه.

إنه بحق شاعر الفضاء المطلق، الشاعر المستعين على هزال نفسه بغيره. 

هل هذا الفضاء الخارجي المطلق إمتداد لداخل الشاعر ؟ الجواب كلاّ، إنه بديل الشاعر ليس إلاّ. البديل الذي يتجسده الشاعر ويتمناه. والتمنّي كما نعرف هو ( رأسُ مالِ المفلسِ ).

نقرأ هذا المقطع معاً :


" بابا… بابا…"

أنا في قرار بويبَ أرقدُ في فراشٍ من رمالهْ

من طينه المعطورِ، والدمُ من عروقي في زلالهْ

ينثالُ كي يَهبَ الحياةَ لكلِّ أعراقِ النخيلِ

أنا بَعْلُ : أخطرُ في الجليلِ…

على المياهِ، أنثُّ في الورقاتِ روحي والثمارِ

والماءُ يهمسُ بالخريرِ، يصلُّ حولي بالمحارِ 

وأنا بويبُ أذوبُ في فَرَحي وأرقدُ في قراري.


أية صور فتّانة في طرافتها وجدّتها تتفتق عنها مخيلة هذا الشاعر البصري ؟ وفي أية عوالم من الخيال الخصب العجيب يسبح هذا الشاعر؟ نراه يسيح ولا يستقر، يقوم ولا يقعد، يسرح بعيداً ولا يأوب إلاّ ليجد نفسه راقداً في قعر نهر قريته بويب. يتمرغ في طينه ويمزج بمائه الرقراق دمه ثم يسقي نخيل العراق بهذا المزيج. دم الشاعر إذن كامن في كل ما يأكل العراقيون من تمور نخيلهم. أفلم يقل السيد المسيح (( من يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديةٌ وأنا أُقيّمهُ في اليوم الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مشربٌ حقٌّ / إنجيل يوحنا / الإصحاح السادس )). سيُخلِّد العراقيون بدم الشاعر حيواتهم وسيحيون إلى الأبد. الشاعر قربانٌ لشعب العراق. لكنَّ الأُضحية التي جاد بها الشاعر لا تُرضيه. أنْ يمتزج دمه بأعراق النخيل ويتسرب إلى ما يأكل الناس من ثَمره لا يكفي. لذا مال إلى عالم آخر من النباتات ليهبه لا دمه الذي سفحه في جذور النخيل ( أشرف الشجر )، ولكنْ ليرش روحه نثاً على أوراق الشجر وعلى ما يحمل الورق من أثمار. إستخدم الشاعر هنا جمع القلّة ( ورقات ) بدل أوراق، لا لسبب إلاّ لكي يستقيم مقام التفعيلة وإيقاعها المُصوِّت. خلل آخر بلاغي وليس لغوياً. لقد جمع السياب المتناقضات جمع تنافر لا جمع إنسجام. فالخرير والصليل ( صليل السيوف ) فعلان يدلاّن على الجلبة والحركة العنيفة وهما أمران لا ينسجمان مع الهمس. قال الشاعر (( والماء يهمسُ بالخريرِ، يصلُّ حولي بالمحارِ )). هل في نهر بويب الصغير محار ؟ أشكُّ في ذلك. ليس في أنهار العراق محار، حسب علمي، وقد أكون مخطئاً. لا أعرف نهر بويب لكني أعرف دجلة والفرات.

في بداية هذا المقطع رقد الشاعر الجَزِعُ في قرار نهر بويب هرباً من الحياة ومن أوجاعه فيها. لكنه يُفاجئنا في نهاية المقطع بأن يتحول هونفسه الإنسان الشاعر إلى نهر إسمه بويب!

(( وأنا بويبُ أذوب في فَرَحي وأرقدُ في قراري )). أحسبُ أنَّ هذا السطر قد أساء إلى مبنى ومعنى المقطع الثالث ولم يُقدّم له جديداً…كالزائدة الدودية، ضرُّها أكثر من نفعها.  

إستطراد قصير : سبق وأن ذكر السياب الصليل والمحار في قصيدة ( الأسلحة والأطفال ) 

التي كتبها قبل ( مرحى غيلان ) بسنوات. قال السياب (( وأقدامها العاريةْ… مَحْارٌ يُصلصِلُ في ساقيةْ )). أظنُّ أن أول شاعر إستخدم الفعل ( يصلُّ ) لا صليل سيوف، بل صليل حِليةٍ وصليل حصى في الماء، هو أبو الطيب المتنبي في قصيدة ( أبوكم آدمٌ سنَّ المعاصي ) التي مدح فيها عَضُد الدولة البويهي عام 354 للهجرة : 


وأمواهٌ  تصِلٌّ   بها    حَصاها

صليلَ الحَليِّ في أيدي الغوانِي


المقطع الرابع :


" بابا… بابا…" 

يا سُلّمَ الأنغامِ، أيّةُ رغبةٍ هي في قراركْ ؟

" سيزيفُ " يرفعها فتسقطُ للحضيضِ مع انهياركْ.

يا سُلّمَ الدمِ والزمانِ : من المياهِ إلى السماءِ

غيلانُ يصعدُ فيه نحوي، من تراب أبي وجَدّي

ويداهُ تلتمسانِ، ثَمَّ، يدي وتحتضنانِ خدّي

فأرى ابتدائي في انتهائي.


" بابا … بابا " ليست مجرد حروف ينطقها طفل ما زال في المهد أو فارقه للتو، إنها أوركسترا وتخت موسيقي كامل السلالم تام القرار. إنها واحدة من سيمفونيات بتهوفن وموتزارت وتشايكوفسكي. هذا كله شيء جميل، ولكن ما بال الشاعر يجعل طفله وهو في غمرة هذه الموسيقى السماوية أن يهوي بأكثر أنغام سيمفونيته إستقراراً ( القرار ) إلى الحضيض وأن يجعله ينهار فجأة من عالي سلالمه إلى درك أسفل ؟ لماذا ساوى بين قرار النغم وقاعدة إرتكازه المكينة وبين الحضيض ؟ لماذا حطَّ ما كان شاهقاً في القمة وجعله سُفُلاً ؟ ما تفسير هذه النكسة أو الإنتكاسة ؟ ما علاقة الفرح بأول نطق الطفل بعذاب 

( سيزيف ) مع صخرته ؟ الجواب بسيط : إنها الحياة تأخذ بيد ما أعطت بالأخرى. صعود سيزيف بصخرته إلى أعلى الجبل ثم تدحرجها إلى السفح ثم إعادته الكرّة ثم إنفلاتها منه رمز لدورات الحياة كالسلّم الموسيقي صعوداً ونزولاً. الحياة صعود ونزول، والموسيقى درجات ونغمات وأقفال، ومحنة سيزيف كذلك في صعوده الجبل ثم هبوطه منه. تصوير رمزي بارع لتراجيديا الحياة وبعض ظواهرها التي تتكرر ولكن بأشكال شتى. الجبل مرقاة 

( سُلّم ) والموسيقى لا تستقيم إلاّ بسلّمها الخاص. والحياة، مثل جبل سيزيف، نشوء وإرتقاء بالولادة ( الخروج من الظلام إلى النور ) ثم إنحطاط وإنحدار بالموت ( النزول إلى عالم الظلام تحت الثرى ). 

من الظلام إلى النور --- ومن النور إلى الظلام

صعود بالتنفّس إلى الهواء العالي --- نزول إلى باطن الأرض بتوقف التنفس وحيث ينعدم الهواء.

جمع السياب في سطرين بذكاء بارع وشاعرية متمكّنة رؤوس مثلث يُشكّل الكون مركزه  1- دورة الحياة خَلقاً بالولادة ثم نزولاً بالموت 2- صعود ونزول نغمات السُلّم الموسيقي 3- صعود سيزيف الجبل ونزوله مُجبَراً منه. كل شيء في الوجود لا بدَّ أنْ ينتهي إلى قرار أو مُستقر. الماء في الطبيعة يميل تحت فعل قوة الجذب الأرضي ( التجاذب والتنافر قوىً كونية قاهرة لا مردَّ لها ) إلى التجمع في منخفضات الأرض بل وفي باطنها (المياه الجوفية).

إذا تكلم بعض الشعراء عن كيمياء الشعر فإنَّ السياب هو بحق رائد فيزياء الشعر.  

غيلان هو نطفةُ دم أبيه وتابعهُ في مسلسل الزمن. خُلِق غيلان كبقية البشر من ماء مَهين يتبخر بعد الموت لتصعد إلى السماء أرواحُ البشر (( ثم جعلَ نسلَه من سلالةٍ من ماءٍ مَهين / سورة السجدة، الآية الثامنة )).

(( يا سُلّمَ الدمِ والزمانِ من المياهِ إلى السماءِ. غيلانُ يصعدُ فيه نحوي، من تراب أبي وجدي )). وغيلان يكمل دورة حياة العائلة فيرتبط من خلال أبيه بجده. غيلان يتخذ من أبيه سُلّماً للصعود إلى سمتٍ أعلى يمثله جده لأبيه. 

جاءت " ثَمَّ " في هذا المقطع زائدة ولا لزوم لها أبداً. فالسطر يستوي رشيقاً بدونها ليكون

(( ويداهُ تلتمسانِ يدي وتحتضنانِ خدّي )). إلاّ إذا كانت هنالك ثَمّةَ من حاجة نفسية خاصة بالشاعر لتوظيف هذه أل " ثَمَّ ". 

ولادة غيلان هي نهاية حياة أبيه. كأسماك السَلَمون التي تتكبد المشقات سابحةً إلى مواطنها الأصل في أعالي بعض الأنهار لتضع بيوضها هناك ثم لتموت فتصبح طعاماً لصغارها بعد التفقيس. 


المقطع الخامس :

أتعبني وحيّرني هذا المقطع المعقّد والمتشعب والعَصيُّ على التحليل والتشريح. أُعيد قراءاته وأتساءل إلى كم كان المرحوم السياب مُعقّداً ؟ الحياة عقّدته والعلّة المستعصية عقّدته وهاجس الموت الذي لم يفارقه أبداً فمن ذا يلوم ! 

يكشف الشاعر في هذا المقطع – المسرح المتعدد الزوايا والدرجات والعروض… يكشف عن نَفَس ملحمي وموسوعة من المعارف والثقافات تراكمت لديه لكثرة ما قرأ وتابع وإستوعب ثم عالجَ وهظمَ وتمثّل. يتنقل خلال مفاصله ما بين عالم وآخر تنقّل الحاذق والمتمرّس أو كلاعب سيرك يتقافز في الفضاء على حبال شبكة معقدة من الأراجيح. يقوم بكل ذلك دون أن يفلتَ منه خيط موضوع أُطروحته الرئيس : ثنائية الصراع بين الموت والحياة، العدم والوجود. 

إذا كنتُ قد أسميتُ المقطع الثالث بمقطع الماء فإنَّ المقطع الخامس يستحق أن أُسميه ( مقطع الدماء ). أجل، مقطع الدماء، لكثرة ورود لفظة الدم فيه ( خمس مرّات ). ثم تكرار ورود مفردتي الظل والظلام أو الظلماء. للسياب شغف خاص بكلمة الظلماء. لماذا هذا الإلحاح 

في توظيف لفظة الدم ؟ هل لفقر الدم الحاد الذي كان السياب يعاني منه علاقة بالموضوع؟

جائز. هل له علاقة بخوف الشاعر وجزعه من منظر الدم وما يُسفح منه خلال الحروب والقتال والنزاعات الدينية والقومية والسياسية و..و..و…؟ جائز.كان السياب ضد الحروب وأعلن موقفه صريحاً في قصيدة " الأسلحة والأطفال/ 1954 " وفي قصيدة " فجر السلام/ 1951 ". أفردَ السياب  الجزء الأول من هذا المقطع للفرح الطاغي بشروع غيلان بنطق أول حروف الهجاء، الألف والباء ( ألف باء جيم … أبجد هوّز…)، وترك سجيته تأخذ طابعها وتكوينها الغالب كشأنه في أغلب شعره : الخروج من فضاء داخله الخاص والضيق أو إخراج نفسه منه تاركاً العالم الخارجي المحيط بالأشياء ليقوم بالمهمة الصعبة وليعبّر عن هذا الفرح غير المألوف. بدأ بمسقط رأسه قرية جيكور إذ تولد من شفتي طفله وإذ تدب الحياة والحيوية حتى في أعمدة الحجر والخشب الميت فتحمل توتاً وحيث تتفجر الأنهار ويصبح لبراعم الشجر وهي تنمو أو تمتص أندية الصباح صوتاً يسمعه الشاعر. إندماج تام مع الطبيعة وتفاهم مشترك. لوحة فيها بعض الحزن ( شوارع جيكور الحزينة ) لكنَّ طابعها العام والمؤثر هو الفرح بثمار الربيع ( التوت ) وتدفق الأنهار ونمو البراعم والسنابل التي تمدُّ الرحى بالحبوب قمحاً أو شعيراً . 

ينقلنا الشاعر فجأةً من هذه الأجواء الإحتفالية المتفائلة إلى أجواء متشائمة سود، غارقة في السوداوية. فلماذا هذا الإنقلاب المفاجيء وما أسبابه ودلالاته ؟ لماذ الإعتكاف على بؤر الحزن والإستسلام لأشباح وأصوات الموت ؟ لماذا الإرتداد وتحويل الفرح إلى بكائيات ومناحات وحشد كل ما يُثير اللوعة والأسى في نفس القاريء ؟ لماذا… لماذا…لماذا ؟

في المقطع الثاني رأينا المسيح الذي يُشفي الموتى ويُعافي المرضى، لكنّا نجده في هذا المقطع مجرد ظل (( ليس يموتُ أو يحيا )) ونجده يداً دونما عصب بل وكهيكل ميّت. الموت… الموت… الموت !!! وعشتار التي تهب الوديان (( الأزاهر والثمار )) في المقطع الأول تغدو في المقطع الخامس أرملة، أي أنها فقدت القدرة على الإخصاب والتكاثر بالتناسل 

(( عشتار فيها دون بعلِ )). إذا ذكر الشاعر لفظة الدم خمس مراتٍ في هذا المقطع فإنه ذكر الموت أربعَ مراتٍ ! دم… موت… عُقْم.

عالمان متعارضان، جدَّ متعارضين،جمعهما مقطع واحد في قصيدة واحدة. ظاهرة تدل على شيزوفرينيا مُزمنة… إنفصام مَرَضي خطير في الرأس والنفس والعصب. لذا لا أجد غرابةً إذ أرى الشاعر يتخبط في أُخريات هذا المقطع فيفقد السيطرة على نفسه وعلى عناصر شاعريته ويضيع منه التوازن الفكري والحسي ويدع يده تكتب ما تشاء لا ما يشاء هو : الأب – الشاعر – الإنسان. فالموت يعدو في الشوارع ويهتف بالنيام أن يهبّوا. والموت يبشرهؤلاء النيام بولادة الظلام. ثم يختلط عليه وعلينا الأمر بحيث لا ندري من هو المتكلّم:

الموتُ أم الظلام أم الشاعر ؟ (( والموتُ يركضُ في شوارعها ويهتفُ يا نيامُ / هبّوا فقد وُلِدَ الظلامُ / وأنا المسيحُ، أنا السلامُ )). كيف يكون الموت أو الظلام معادلين للمسيح وللسلام ؟! إقتبس الشاعر في حاشية الصفحة كلاماً عن أساطير فراعنة مصر أنقله كما هو لأنه يُناقض رؤيا الشاعر (( كان كَهنةُ إيزيس ينطلقون في منتصف ليلة 25/12/ من كل عام هاتفين في شوارع الإسكندرية : لقد وَضَعت العذراءُ حملها وقد وَلَدَت الشمسَ )).  وَلَدَت العذراءُ الشمسَ ولم تلد الظلام كما هو الحال في قصيدة الشاعر. ثم، النار تصرخ بالورود أن تتفتح، ثم تنقلب النارُ إلى ماء ( أنا الفراتُ ). هنا خَلطٌ آخر يتوه المرء فيه : هل ضمير المتكلم في (( أنا الفرات )) يعود إلى النار أو إلى من تكلّم قبل قليل بإسم المسيح والسلام ؟ أم إنه صوت الشاعر نفسه يتكلم هنا بإسم نهر الفرات كما تكلّم في المقطع الثالث بإسم نهر بويب (( أنا بَعلُ أخطرُ في الجليلِ على المياهِ، أنثُّ في الوَرَقاتِ روحي والثمارِ/… وأنا بويبُ أذوبُ في فَرَحي وأرقدُ في قراري ))؟ ثم مَن مِن هؤلاء يأمر الشموع أن ترشَّ (( ضريح البعلِ بالدمِ والهُبابِ وبالشحوبِ )) ؟ بعل ماء الجليل الحي في المقطع الثالث يقبع في المقطع الخامس تحت ضريح يغطيه الدم والسَخام والصُفرة. غيلان في تصوّري هو بعل الجليل : تجدد الحياة بمولود جديد. وبدر شاكر الأب هو بعل الضريح : الموت !! لا بُدَّ بعد كل ولادة من موت. الموت هو ثمن الحياة، وجهها الآخر، إمتدادها ومتممها.

أخيراً يجعل الشمس تخرج في الدروب مولولة صارخة لأنها تعاني من برد ولأنَّ السماء مُثقلةٌ بسحب لكن من جليد. 

كما لاحظ الأستاذ ناجي عَلْوَش في مقدمته لمجموعة السياب الشعرية الكاملة، أكثر الشاعر في هذه القصيدة من إستخدام كاف التشبيه. إستخدمه تسع مراتٍ، فما دلالة ذلك ؟ كاف التشبيه يحمل في باطنه أحياناً معنى التمنّي، نعم، التمني.كانت أماني السياب كثيرة وعلى رأسها أن يرى نفسه معافى وأن يرى أطفاله كباراً وأن يواصل إبداعاته الشعرية وأن يكتب ملاحم طويلة كما فعل بايرون وشيللي وربما دانتي وميلتون. 

نقرأ المقطع الخامس معاً :

" بابا… بابا …" 

جيكورُ من شفتيكَ تولّدُ، من دمائك، في دمائي

فتُحيلُ أعمدةَ المدينهْ

أشجارَ توتٍ في الربيعِ. ومن شوارعها الحزينهْ

تتفجّرُ الأنهارُ، أسمع من شوارعها الحزينهْ

وَرَقَ البراعمِ وهو يكبرُ أو يمصُّ ندى الصباحِ

والنُسغُ في الشَجَراتِ يهمسُ، والسنابلُ في الرياحِ

تَعِدُ الرحى بطعامهنَّ.

كأنَّ أوردةَ السماءْ

تتنفّسُ الدمَ في عروقي والكواكبَ في دمائي.

يا ظِلّيَّ الممتدَّ حين أموتُ، يا ميلادَ عمري من جديدِ

الأرضُ ( يا قفصاً من الدم والأظافرِ والحديدِ

حيثُ المسيحُ يظلُّ ليس يموتُ أو يحيا… كظلِّ،

كيدٍ بلا عَصَبٍ، كهيكلِ ميِّتٍ، كضُحى الجليدِ،

النورُ والظلماءُ فيهِ متاهتانِ بلا حدودِ )

عِشتارُ فيها دون بَعلِ

والموتُ يركضُ في شوارعها ويهتفُ : يا نيامُ

هبّوا، فقد وُلِدَ الظلامُ

وأنا المسيحُ، أنا السلامُ.

والنارُ تَصرخُ : يا ورودُ تفتّحي، وُلِدَ الربيعُ

وأنا الفراتُ، ويا شموعُ

رُشّي ضريحَ البَعلِ بالدمِ والهُبابِ وبالشحوبِ

والشمسُ تُعوِلُ في الدروبِ :

بردانةٌ أنا والسماءُ تنوءُ بالسُحُبِ الجليدِ. 


لقد فصل الأرض عن عشتار بأربعة أسطر كاملة تضميناً، الأمر الذي يٌتعب القاريء ويُفقد النص حرارة التدفق والإنسياب. ثم، ما معنى " ضُحى الجليد " ؟ هل للجليد فجر وضحى وظهيرة ومساء وليل ؟ تشبيه ضعيف حتى لو كان قصد الشاعر الإشارة إلى بداية عصر ذوبان جليد العصر الجليدي وبداية عهد الطوفان. 

(( والسماءُ تنوءُ بالسُحب الجليدْ )). لماذا السحب الجليد بدل (( سُحب الجليد )) ؟

لماذا عرّفَ المُضاف إليه ما دام المُضاف مُعرَّفاً بالألف واللام ؟ 

ثم : ما المقصود بالصورة الباردة غير المتحركة التي تختلف عن سواها من صور الشاعر الدافئة والمتحركة : (( كأنَّ أوردةَ السماءِ/ تتنفس الدمَ في عروقي والكواكبَ في

 دمائي )). أما كان الأفضل أن يقول (( كأنَّ أوردةَ السماءِ/ تتنفس الدمَ والكواكبَ في عروقي )). مجرد سؤال أتطفّل به على الشاعر الغائب.  أخيراً، لاحظت أن في الشاعر ميلا جارفاً للفعل ( يمصُّ )، فهو يُسرف في توظيفه في شعره. وإني لأجده فعلا مُقززاً للنفس ليس فيه طاقة شعرية ولا شيئ من قدرة على الإيحاء. 


المقطع الأخير ( السادس ) :

يعود التفاؤل الحَذِر للشاعر في نهاية القصيدة فيذكر الشمس والدفء ويتساءل : تُرى، أي نجم يتسلل أو يهبط من السماء إلى الأرض، قفص الحديد، فيخضّر الزمن الآتي في عروقه، في دمه ؟ هل هذا هو النجم الذي دلَّ المجوس على مكان ولادة عيسى المسيح في بيت لحم من فلسطين ؟ 

كانت الشمس في نهاية المقطع الخامس بردانة والسماء مُثقلة بالجليد لكننا نراهما، الشمس والسماء، في نهاية القصيدة على النقيض : دفء وتفاؤل أخضر يسري في دماء الشاعر ونجوم تنهلُّ على الأرض. شيء جميل أن يعود الشاعر لعالم التفاؤل والبهجة والثقة بالمستقبل، ولكن سطرين في آخر القصيدة لا يُعادلان عالم الشؤم الذي طغى على الكثير مما سبق من مقاطع. لا يصححان الميزان الذي تركه الشاعر مُختلاًّ.


" بابا… بابا… "

من أيِّ شمسٍ جاء دِفؤكَ أيِّ نجمٍ في السماءِ

ينسلُّ للقفصِ الحديدِ، فيورقُ الغدُ في دمائي ؟ 


ملاحظة : أخذتُ تواريخ ميلاد كريمتي الشاعر غيداء وآلاء من مقدمة الأستاذ ناجي علوش للمجلد الثاني من ديوان بدر شاكر السياب ( دار العودة، بيروت 1974 ). لا أدري لِمَ لمْ يذكر الأستاذ ناجي طفلَ الشاعر الأوسط غيلان ولا تأريخ مولده ؟ 

يا غيلان : هل تسمعني ؟ إذن أرسل لي تأريخ ميلادك من مُقامك في أستراليا البعيدة. 

أين أمك وشقيقاتك ؟ ومتى تُكرّمكم حكومة العراق الجديد ؟ هل سأل أحد المسؤولين عنكم ؟ يا حكّامُ العراق الجُدد : كرّموا عوائل وأبناء وبنات شعراء العراق، الجواهري وبلند الحيدري والسياب والبياتي. إسألوا عنهم وعن أحوالهم. خصصوا لهم رواتب تقاعدية مُجزية. خلِّدوا الموتى بتكريم الأحياء، وكرّموا الأحياء من أجل تخليد الموتى.   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق