شعراء في أمريكا/ د.عدنان الظاهر

 


تمهيد :


ثلاثة شعراء معروفين كتبوا قصائد عن أمريكا, أثناء أو بعد زيارة بعضهم لها زيارات قصيرة . الشعراء الثلاثة حسب تواريخ كتابتهم للقصائد هم : 

1- علي أحمد سعيد ( أدونيس ) / 1971

2- عبد الوهاب البياتي / 1977

3- سعدي يوسف / 1995


فما هي, ترى , أوجه الشبه والخلاف بين هذه القصائد الثلاث شكلا ومضمونا ؟


شرع أدونيس في كتابة قصيدته في نيويورك وأنهاها في مدينة ( بكفيا ) في لبنان واستغرقت كتابتها خمسين يوما. في حين كتب البياتي قصيدته في يوم واحد, أو ربما أنهاها في اليوم الذي أثبته في نهاية القصيدة ( 9-3-1977 ) . أما سعدي يوسف فلست أحسب أنه أنجز كتابة قصيدته الطويلة في يوم واحد هو ( 20-8-1995 ) . 

مما يلفت النظر هو الشبه الكبير في دلالات عنواني قصيدة أدونيس ( قبر من أجل نيويورك ) وقصيدة البياتي ( قداس جنائزي الى نيويورك ) . فهناك قبر وهنا جنازة .


المشترك والمختلف في هذه القصائد /  

                           حذا البياتي حذو أدونيس في ذكره الأسماء الأتية :

نيويورك , هارلم , والت ويتمان , الشارع الخامس Fifth Avenue  علما أن البياتي قد التزم في قصيدته شعر التفعيلة فأبدع في حين كتب أدونيس قصيدته نثرا واضحا حينا ورمزيا بعض الأحيان متمتعا بقدر أكبر من حرية التعبير وتوظيف الدلالات المنوعة . أما سعدي يوسف فانه لم يشترك مع الشاعرين الآخرين الا في ذكر اسم الشاعر الأمريكي والت ويتمان , في حين ذكر أسماء كثيرة أخرى تأثر بها أو أثرت فيه بهذا الشكل أو ذاك خلال مسيرة حياته انسانا وشاعرا . ثمة علامة أخرى تميز قصيدة سعدي : أنه كتبها متأثرا بحجم الدمار الذي أصاب العراق ومدينته البصرة بشكل خاص في عملية عاصفة الصحراء ( 17-1-1991 ) التي حررت قطرا عربيا صغيرا ( الكويت ) ودمرت قطرا عربيا أكبر ( العراق ) . كان كثير الهدوء في احتجاجه , عاتبا بأدب على أمريكا . يداعبها  بذكر بعض علاماتها الفارقة التي جلبت المسرة للكثير من البشر كالممثلة مارلين مونرو والشاعر والت ويتمان ومارك توين والجينز والجاز والسجائر الأمريكية ( التبغ الفرجيني / ولاية فرجينيا ) وكلاب محرر العبيد ابراهام لنكولن وموسيقى Blues . قصيدة سعدي يوسف مزيج بين قصيدة النثر وشعر التفعيلة , وكان في قصيدته حالما يمشي مغمض العينين خاصة حين يتذكر مدينته البصرة , جذوعها وقناطرها ونخيلها ومساجد قراها .

اللافت كذلك للنظر استخدام أدونيس والبياتي وبعدهما سعدي يوسف كلمات وجمل قصيرة باللغة الأنجليزية , وظفها أدونيس وسعدي باتقان ورشاقة فتكللت بالنجاح الفني الذي يبتغيه الشاعر وقد يتحسسه فيتذوقه القاريء . لكنها جاءت في قصيدة البياتي باردة ومقحمة اقحاما لا مبرر له كما سنرى لاحقا , خاصة اذا ما عرفنا أن المرحوم البياتي لا يجيد من لغات الدنيا الا العربية . في قصيدته الطويلة التي استغرقت 26 صفحة من صفحات الديوان ( الصفحات 647 - 673 ) لم يستخدم أدونيس الا كلمة واحدة وبضعة حروف انجليزية هي Subway + I.B.M.

أجل , قد ذكر الرجل الكثير من أسماء الأمكنة والأعلام الأمريكية وغير الأمريكية , لكنه ذكرها بالحرف العربي . 

كما ذكر كل من أدونيس والبياتي تمثال الحرية في نيويورك بسخرية , فقد وصفه أدونيس كما يلي:


امرأة - تمثال امرأة

في يد ترفع خرقة يسميها الحرية ورق نسميه التأريخ

وفي يد تخنق طفلة اسمها الأرض ...


وفي مكان آخر فال :

 نيويورك, أيتها المرأة الجالسة في قوس الريح

شكلا أبعد من الذرة ...


وفي مكان آخر قال :


تفتتي تفتتي يا تماثيل الحرية, أيتها المسامير المغروسة في الصدور ...


أما البياتي فقد ذكر تمثال الحرية بالرمز والمجاز :


وحش حجري يتربع فوق الفولاذ المسنون ...

 

ثم وصف هذا التمثال لاحقا بشكل آخر :


تذرف دمعا فسفوريا , عين الوحش الرابض قرب البحر ...


لقد أجمع هؤلاء الشعراء الثلاثة على ادانة أمريكا غير ذاكرين شيئا ذا بال من حسناتها وانجازاتها الحضارية المعروفة للجميع . وكان أدونيس أشدهم حملة ونقدا لأمريكا , يأتي بعده المرحوم البياتي الذي تمنى :


موسيقى تعلن عن " عامورة " في القرن العشرين 

و " سادوم " المجهول المعلوم .


يدهشني تركيز هؤلاء الشعراء جميعا على اسم الشاعر الأمريكي ( والت ويتمان ) رمزا يفتخر به الشعراء . وكان الأجدر بهم - حسب اجتهادي - أن يكرموا أيضا أعظم شخصين تمردا على أمريكا فغادراها احتجاجا على غياب العدالة فيها . أقصد المسرحي والشاعر الألماني برتولد بريخت 

والممثل الأشهر شارلي شابلن الذي تنازل حتى عن حق المواطنة في أمريكا وتركها لاعنا ومشهرا ومات فدفن في سويسرا . وكان قد سخر شابلن مرة في أحد أفلامه سخرية لاذعة أضحكت العالم من تمثال الحرية هذا . التمثال هو هدية من الشعب الفرنسي لأمريكا بعد انتصارها في حرب الأستقلال عن بريطانيا .


الآن أتعرض لقصائد هؤلاء الشعراء تفصيلا : 


                                              أدونيس (1)


اسم القصيدة " قبر من أجل نيويورك " .

شرع الشاعر في كتابتها يوم 25 آذار في نيوييورك وأنهاها يوم 15 آيار 1971 في بكفيا في لبنان .

استغرقت القصيدة 26 صفحة من صفحات الديوان وجاءت في مجملها بشكل نثر جميل رمزي - سوريالي كأي قصيدة نثر ناجحة . وكانت رغم طولها أو بسبب طولها طافحة بأسماء المدن وأسماء الأعلام . على أن من الممكن رصد المحاور الرئيسة الأتية فيها :

1- زنوج أمريكا ورمزهم الشهير ( حي هارلم ) في نيويورك / محرر العبيد ابراهام لنكولن .

2- ثورة الزنج في البصرة جنوبي العراق بقيادة ( علي بن محمد العلوي ) .

3- انفلات جبروت المؤسسات الرأسمالية الأمريكية ممثلة بعملاق الصناعات الألكترونية  I.B.M.

4- مأساة ( هيروشيما ) والقنابل الذرية الأمريكية .

5- هانوي وفضائع الحرب الأمريكية في فيتنام .

6- ذكر الشاعر أسماء ثوار العالم المعروفين ماركس ولينين وماو وهوشي منه وكاسترو وغيفارا .

7- كما حرص أدونيس على ذكر بعض العواصم العربية كبيروت ودمشق وبغداد والقاهرة . وهنا نرصد موقفا واضحا للشاعر , فبلد الميز العنصري والجبروت المالي والعسكري يقابله التخلف وغياب الحرية والديمقراطية في أغلب هذه العواصم .

ولما كان اسم القصيدة ( قبر من أجل نيويورك ) فقد ذكر الشاعر فيها اسم نيويورك 27 مرة , وذكر اسم هارلم 12 مرة في حين قد ذكر اسم الشاعر والت ويتمان 8 مرات فقط . 

نيويورك هي سرطان كوني بالنسبة للشاعر , وهي أم المصائب في الدنيا .

8- ثم مقابلة الهندي الأحمر بالشعب الفلسطيني , وكلاهما ضحية جريمة الأستيطان وحرب الأبادة.

9- وقد ذكر الشاعر صاحبه الصوفي الذي لا يفارق ( النفري ) وأبا العلاء المعري ثم الشاعر الجاهلي ( عروة بن الورد ) الذي قيل عنه أنه كان من أوائل الأشتراكيين في الوجود اذ قال في بعض شعره (( أقسم جسمي في جسوم كثيرة )) . هل قرأ عروة بن الورد الأنجيل ؟ قد يجوز , فلقد قال قبله السيد المسيح ( 2 ) 

(( أنا هو خبز الحياة . ان أكل أحد من هذا الخبز يحيا الى الأبد . والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم )) .

10- كما لاحظت أن الشاعر ميال الى ذكر الكيمياء ومتعلقاتها وبعض المصطلحات العلمية .


فلنسمع كيف يصف الشاعر مدينة نيويورك :


نيويورك ,

حضارة بأربعة أرجل , كل جهة قتل وطريق الى القتل ...

...

نيويورك ,

جسد بلون الأسفلت

نيويورك - هارلم 

...

كسل يشبه العمل , عمل يشبه الكسل . القلوب محشوة اسفنجا والأيدي منفوخة قصبا .

نيويورك -

شبح ميدوزي يرتفع بين الكتف والكتف . سوق العبيد من كل جنس . بشر يحيون كالنباتات في الحدائق الزجاجية .

...

نيويورك ,

امرأة من القش والسرير يتأرجح بين الفراغ والفراغ , وها هو السقف يتهرأ .

نيويورك = ثقبا في الغلاف الأرضي ينبجس منه الجنون أنهارا أنهارا

نيويورك - المرأة قمامة , والقمامة زمن يتجه الى الرماد.

نيويورك - النظام بافلوف , والناس كلاب التجارب ...

حيث الحرب الحرب الحرب !

نيويورك + نيويورك = القبر أو أي شيء يجيء من القبر

نيويورك - نيويورك = الشمس .


هذا بعض ما قاله الشاعر عن نيويورك في عام 1971 , فمن يصدق أن هذا الشاعر قد وضع نفسه بين مشاهير الساعين للتطبيع مع اسرائيل بعد مؤتمر السلام في مدريد ؟

اسرائيل هذه قاتلة الفلسطينيين وغاصبة أراضيهم تقف أمريكا وراءها باعتبارها ولاية أخرى لها , والعواصم العربية التي نعاها وتشكى منها تقف عاجزة لا حول لها ولا قوة في وجه سرطان التوسع والأستيطان الأسرائيلي والقتل والدمار بالأسلحة الأمريكية الأكثر تطورا . أم أن الشاعر يميز بين اسرائيل وأمريكا فينحاز لتلك ويخاصم هذه ؟

ليس معقولا أن يعجز المثقف والمفكر أدونيس عن رؤية نجمة داوود ساطعة متميزة بين بقية نجوم العلم الأمريكي . فأمريكا - عزيزي علي أحمد سعيد - واسرائيل وجهان لعملة واحدة . أو كما قال المرحوم أحمد شوقي ( أنا أنطونيو وأنطونيو أنا ) . العلاقة الستراتيجية بين الدولتين ليست سرا , فأمريكا هي التي تجاهر بها حتى ليصح القول أن هناك دولة واحدة برأسين هي ( اسرائيكا ) تسعى محمومة للسيطرة على العالم باسم العولمة ( الرأسمالية الكونية ) والدرع الأمريكي المضاد للصواريخ بذراعي الناتو واسرائيل . ( اسرائيكا ) هي أفعى سامة برأسين , الرؤوس أمريكية وأنياب السم اسرائيلية . علما أن اسرائيل هي قلب الناتو السري النابض وذراعه الضارب في منطقة الشرق الأوسط . وعلى هذا الأساس فليتصرف اخوتنا الفلسطينيون وباقي العرب والمسلمين .

ولعمري , ماذا سيكتب أدونيس لو دعي _ فلبى _ لزيارة اسرائيل اليوم . هل سيتجرأ على الكلام عن مأساة حصار الفلسطينيين وتدمير مزارعهم ومنازلهم على رؤوسهم واغتيال أطفالهم ومناضليهم وقادتهم ؟ هل سيجرؤ على ذكر ترسانة الأسلحة النووية الأسرائيلية ومفاعلات ( ديمونة ) ومعهد 

( صوريك ) للأبحاث النووية وانتاج أسلحة الدمار الشامل ؟ لا أظن ذلك . لأن الرجل لم تهتز له شعرة بعد على ما يحدث أمامه خلال شهور الأنتفاضة الفلسطينية الأخيرة . لم يكتب شعرا أو مقالة حول استشهاد الطفل محمد الدرة أو الطفلة ايمان مثلا , وقد فعل ذلك فورا الشاعر محمود درويش .

ليت نزار قباني ما زال حيا , ليت !! - ليت للبراق عينا فترى !! مطلوب من أدونيس أن يحل هذا الأشكال , اذ ليس مقبولا أن يكون المثقف ذا وجهين : واحد ضد أمريكا والأخر مع اسرائيل .


بيروت ودمشق /


لقد ذكر الشاعر في قصيدته العاصمة اللبنانية بيروت ثلاث مرات . قال عنها مرة :


قلت : أغري بيروت 

- (( أبحث عن الفعل . ماتت الكلمة ))

أقول أكتبوا ...

أكتبوا - من المحيط الى الخليج لا أسمع لسانا , لا أقرأ كلمة . اسمع تصويتا .

وفي آخر ذكر لبيروت قال أدونيس :


وأغري بيروت . تلبسني وألبسها . نشرد كالشعاع ونسأل :

من يقرأ , من يرى ؟ الفانتوم لدايان والنفط يجري الى مستقره , صدق الله .

هنا يكشف الشاعر عن شدة تعلقه المفعم بالأجواء الصوفية ببيروت , فيستعير بعض صور القرآن الكريم من مثل (( تلبسني وألبسها . نشرد كالشعاع ... )) اشارة للعلاقة بين الرجل والمرأة التي وردت في سورة البقرة (3) / (( أحل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ... الآية 187 )) . 

هذا ما قاله أدونيس عن بيروت , فما الذي قاله (مهيار الدمشقي ) بحق عاصمة وطنه دمشق ؟

قال في دمشق بين أيلول 1963 وأيلول 1964 ما قاله البياتي عام 1977 في نيويورك " تقريبا " . فلقد كتب عنها في (( تحولات الصقر - فصل الدمع ))/ (4)  ما يلي :


يا أمرأة منذورة لكل من يجيء

للحظ , للعابر الجريء

ترقد في حمى وفي ارتخاء

...

يا امرأة للوحل والخطيئة

أيتها الغواية المضيئة

يا بلدا كان اسمه دمشق .

...

يا امرأة الرفض بلا يقين

يا امرأة الفضول

يا امرأة الضوضاء والذهول

يا امرأة مليئة العروق بالغابات والوحول

أيتها العارية الضائعة الفخذين يا دمشق ,

تصغين للموتى وللقبور والتكايا

تصغين في خشوع ....


لا أعلق . أترك التعليق للقاريء الكريم .


هذا الشاعر الزاري على دمشق ( الأبن الضال ) اصطف بكل وضوح مع فلسطين ومع عبد الناصر  

فكتب يوم أن كان في بيروت عام 1970 ديوان ( وقت بين الرماد والورد ) حيا فيه جمال عبد الناصر في ( مقدمة لتأريخ ملوك الطوائف ) وكتب شعرا مليئا بالأسى عن حال جبال الخليل وحيفا والقدس ويافا وأريحا والناصرة , وكان تضامنه واضحا مع فلسطين والقضية الفلسطينية (5) .

أفما زال الشاعر أدونيس مع حماسه هذا الذي عبر عنه عام 1970 أم أنه قد تراجع عنه بعد تورطه في مهزلة التطبيع مع اسرائيل بعد مؤتمر مدريد ؟؟؟

لم يتورط البياتي ولا سعدي يوسف بوحول خرافة التطبيع . وذلكم موقف يتشرفان به وسيحفظه لهما تأريخ العرب الحديث .


أدونيس ويوحنا المعمدان :


 لم يوفق الشاعر في استعارته لقصة يوحنا المعمدان الشهيرة (6) اذ قال في قصيدته موضوعة البحث

(( منذ يوحنا المعمدان, يحمل كل منا رأسه المقطوع في صحن وينتظر الولادة الثانية )) .

واضح للجميع أن يوحنا المعمدان ( ابن خالة المسيح ومعمده في نهر الأردن )  كان قد دفع رأسه ثمنا لموقف ديني - أخلاقي لم يتنازل عنه . لقد أفتى بتحريم زواج الرجل من زوجة أخيه , فطلبت

( سالومي ) ابنة ( هيروديا ) زوجة حاكم فلسطين الروماني ( هيرودس ) أن يقدم لها رأس يوحنا المعمدان على طبق وفاء لوعده أن ينفذ لها ما شاءت من رغبات , بعد أن رقصت أمامه فجلبت له السرور . وقف ضد زواج ( هيرودس ) من زوجة أخيه ( هيروديا ) فتحمل الموت .

فماذا قدم أدونيس لوطنه وشعبه وأمته حتى يتراءى له أنه ( يحمل رأسه المقطوع في صحن وينتظر الولادة الثانية ) ؟؟؟

في موقف يوحنا دين وأخلاق وثبات وأمانة ورجولة , فكيف يجوز أن نقارن أنفسنا برجال كيوحنا المعمدان ؟ لقد شاءت ( هيروديا ) التي تزوجت من شقيق زوجها أن تنتقم من يوحنا الذي حرم هذا الزواج حسب ما تقتضيه شرائع دينه , فأشارت الى ابنتها  (سالومي ) أن تطلب من ( هيرودس )

أن يقطع رأس هذا الرجل بعد أن وعد أن يعطيها ما تشاء مكافأة للعرض الراقص الجميل الذي قدمت أمامه وكان مسرورا به . امرأة متجبرة وزوجة حاكم روماني في فلسطين , شعرت بتحدي رجل دين فقير متمسك بدينه أمين على شعائره وتحمل جراء ذلك السجن قبل قطع رأسه . فلماذا يحمل أدونيس رأسه على طبق ؟ لم يعرف سجون سوريا ولم يحكم عليه أحد بالأعدام غيابيا مثلا كسلمان رشدي . حالة المدافعين عن حرية الرأي والتعبير اليوم تختلف عن حالة يوحنا المعمدان في سالف الأيام . أدونيس شيء والمعمدان شيء آخر , فلقد اصطف أدونيس بكامل رغبته وكامل وعيه 

مع ( هيروديا ) اليهودية القاتلة ضد رمز فلسطين ( يوحنا المعمدان )  وشارك في حمل رأسه على طبق هدية للعنصري النازي ( شارون ) . 

أتوقع من أدونيس الشاعر أن يكتب مرآة لهيروديا , فقد سبق وأن كتب مرايا لكل من هب ودب من بشر وشجر وحجر .


                                      عبد الوهاب البياتي (7)


اسم القصيدة : قداس جنائزي الى نيويورك 


كتب المرحوم البياتي قصيدته هذه في عام 1977 , ربما بعد زيارة قصيرة الى نيويورك كما يبدو من  الجو والطابع العام للقصيدة . أي أنه كتبها بعد قصيدة أدونيس بستة أعوام . الطريف أن عنوان القصيدتين مكون من أربع كلمات ويرد اسم نيويورك في كلا هذين العنوانين سوى أن هناك قبر لنيويورك وهنا قداس جنازة لها .

لم يفارق البياتي هنا التزامه بشعر التفعيلة فجاءت القصيدة مموسقة وبايقاعات جميلة وكلمات رشيقة منتقاة بعناية تحمل صورة الشاعر ونهج مدرسته الواضح في التعبير عن المعاني بالصورة والرمز والأشارة والمجاز . وكما اعتاد سابقا , حرص البياتي هنا أن يفصل بين مقاطع قصيدته بالأرقام حتى لو جاء المقطع في كلمتين فقط : (( الحب دخان / المقطع رقم 12 )) .

لم يحالف الشاعر الحظ اذ نهج نهج سواه فتورط في ذكر اسم شارع شهير في نيويورك باللغة الأنجليزية (( Fifth Avenue  / المقطع الرابع )) ثم ذكر جملة بصيغة السؤال (( Tell me what was that ?   / المقطع الخامس ))  . اذا ما تقبلنا المقطع الرابع على مضض على اعتبار أن الشاعر قد ذكر  مباشرة قبله ( عامورة ) و ( سادوم ) ثم ( الأحياء البشرية في علب الليل المهزوم / المقطع الثالث ) ... فلا أحسبنا قادرين على هظم المقطع الخامس حيث جاء السؤال باردا أبلها لا نفس فيه ولا شيئا من دفء الروح , سيما وأن الرجل ما كان يتقن الأنجليزية . 

لقد تمنى لنيويورك مصير مدائن لوط ( سادوم ) و ( عامورة )  التي ورد ذكرها في التوراة (8)   ((فأمطر الرب عل سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء )) وصارت امرأة لوط نفسها عمود ملح . وفي الأنجيل (9)  ((كما أن سدوم وعمورة والمدن التي حولهما اذ زنت على طريق مثلهما ومضت وراء جسد آخر جعلت عبرة مكابدة عقاب نار أبدية )) . كما جاء ذكر لوط ومدينة قوم لوط في القرآن الكريم (10) دون ذكر لأسمها (( فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل )) . 


البياتي واليهود /


لقد أشار البياتي في قصيدته موضوعة البحث ثلاث مرات الى اليهود في أمريكا : ملوك المال ومالكي مفاصل الحياة السياسية والثقافية ( والجامعات ) والأعلامية والفنية والبنوك أسطورية الثروات . فلقد سخر الشاعر من تمثال الحرية وأطلق عليه (( الوحش الرابض قرب البحر )) وجعله (( يعد نقود الصرافين ويقرأ طالعه في سفر الرؤيا )) .وسفرالرؤيا هذا لاوجود له بين أسفار العهد القديم (التوراة)

المعروفة , لكن الشاعر وظف كلمة ( سفر ) ليشير الى اليهود وأسفارهم وطبيعتهم المتأصلة فيهم لعبادة الذهب عجلا وصنما واحتكار الأموال وامتهان الصيرفة والربا . انهم باختصار شديد سادة أمريكا وتجمعهم الأكبر في مدينة نيويورك وقلبها جزيرة مانهاتن . 

في المرة الثالثة والأخيرة ذكر الشاعر ( كهان الهيكل / المقطع الأخير 14 ) والكهانة من صلب الديانة اليهودية . وكهان الهيكل قد أساءوا لهيكل الرب في البيت المقدس حيث حولوه الى مكان لمزاولة الصيرفة والبيع والشراء (11) ((  ولما دخل - المسيح - الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه قائلا لهم : مكتوب أن بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص )) .


البياتي وزنوج أمريكا /


اذا كان أدونيس قد ذكر ( هارلم ) حي الزنوج في نيويورك 12 مرة فان البياتي قد تطرق الى ذكر اسم هذا الحي مرة واحدة فقط . ذكره في المقطع العاشر على شكل :


                          لمغني الشارع في هارلم

                          وجه عجوز خشبي محزوز نائم

                          تحت رماد الصيف الزنجي الراحل


لقد أجاد الشاعر في رسم صورة وجه المغني الزنجي ( خشبي محزوز ) ولكن كيف يكون المغني نائما؟

فهو اما أن يغني أو أن ينام . ثم لم يشعرني هذا المقطع بالتضامن مع محنة السود في أمريكا . لقد كان أدونيس بارعا في هذا المجال وكثير التفوق وكان ناصع الموقف ضد التمييز العنصري , وذلكم موقف انساني يسجل له بالثناء . لكن البياتي من جهة أخرى كان عميق الأحساس بالقرف والغثيان من روتينية وميكانيكية نمط الحياة الأمريكي . ولقد نجح في التعبير عن ذلك في المقطع الأول من القصيدة


على وجه الخصوص :


                                    وحش حجري يتربع فوق الفولاذ المسنون

                                    يتمطى فوق رغاء الأصوات المسحوقة , تغلي

                                    في داخله أوساخ  الطوفان البشري المهزوم

                                     بعين أعماها النور يحدق في طقس الروتين اليومي

                                     وجدول أعمال النمل , وفوق قناني الخمر الفارغة السوداء

                                     يتناوم سكران

                                     تملؤه أحلام اليقظة , منتفخا جوعان .

القصيدة جيدة وفق كل المقاييس رغم أنها مقيدة الأبعاد قصيرة الخطى بالمقارنة مع قصيدة أدونيس 

التي جال فيها الشاعر وجول كالفارس المعلم والمثقف البصير الذي يعرف جيدا ما سببت أمريكا للعالم عموما وللعرب خاصة من مآس وكوارث . ثم ان أدونيس يدرك جيدا حدود طاقاته وآفاق مخططات أهدافه الأبداعية في قصيدة النثر التي أحسن في اختيارها شكلا لمنظومه ومسرحا عريضا لأستعراض مخزونه الثقافي وبسط معارفه الواسعة والمنوعة بشكل مفعم بالعقلانية , ما خلا موقفه من دمشق !! الذي جاء مشحونا بالحقد وبالتشفي .

                                        

                                       سعدي يوسف (12)

اسم القصيدة :   America ,  America   


كتب الشاعر هذه القصيدة في دمشق واضعا في نهايتها تأريخ 20-8-1995 . القصيدة بكاملها احتجاج على حرب عاصفة الصحراء التي بدأت فجر يوم 17-1-1991 وأنتهت , بدعوى تحرير الكويت , بتدمير العراق بشرا وأرضا وما تحت وما فوق هذه الأرض . جاءت القصيدة متراوحة ما بين النثر البسيط والشعر الحر ( شعر التفعيلة ) . جاءت تحمل كافة خصائص الشاعر وأسلوب كتابته الشعر . أقصد العتاب الهاديء البعيد عن الضجيج والتكلف وتحميل الأمور ما لا تحتمل . هي صورة أخرى لما أعرف من طبع الشاعر . ثم لم تفارق سعدي عادة وضع الكثير من أسطر النقاط

( ثلاثة أسطر من النقاط عادة ) التي تتخلل أبيات شعره وفي كافة دواوينه بلا اشتثناء . تلكم عادة لا أسيغها اذ تأتي أحيانا كثيرة بدون أي مبرر . أقول " أحيانا كثيرة " لأنها قد تأتي في بعض الحالات مبررة بل وضرورية كما سنرى . ثم ماذا عن وضع القليل من الأسطر في الصفحة الواحدة ؟ أليس في ذلك استغلال لجيب مقتني الديوان ؟ أم أن الناشر هو من يلام على أية حال ؟

وكما فعل صاحباه , استخدم سعدي جملا باللغة الأنجليزية من مثل :


                                        God save America

My home , sweet home                                                      


وكرر هذا المقطع خمس مرات وترجمه (( يا رب , احفظ أميركا // موطني , موطني اللذيذ ))

فهل ينسجم هذا الكلام مع موضوع القصيدة أصلا ؟ قد نفسره بأنه كلام عتاب ساخر , لكن ستظل أمريكا بلدا غريبا على الشاعر , ليست وطنه بأي حال من الأحوال . فكيف يتوجه لربه متضرعا- كما في صلاة - أن يحفظ أمريكا ... موطنه اللذيذ ؟ وبالمناسبة , فان كلمة  sweet   

تعني هنا ( رائع أو جميل ) وليس ( لذيذ ) اذ لا مكان للذة ههنا مطلقا .

قد يفسر هذا الدعاء المتضرع بأنه طقس سخرية , وقد نتقبله على علاته ولكن , لماذا وضع الشاعر لعبارة (( يعيدني طيار الفانتوم الى العصر الحجري )) ترجمة الى الأنجليزية  Back to stone Age ! 

لا لزوم البتة لهذه الترجمة , والا عددناها من قبيل الدعاوى الفارغة والنزوع لحب التظاهر بمعرفة لغة أجنبية والرطانة المضحكة بأحرفها . مخاطبة أمريكا - حتى وان كانت من باب العتاب والتوسل -

لا تتطلب بالضرورة معرفة لغة الدولة الرسمية السائدة . ففي الولايات المتحدة الأمريكية شعوب وقبائل ( الهنود الحمر مثلا ) تتكلم ألسنة شتى لعل أكثرها شيوعا العربية والصينية والأسبانية, بل وحتى الروسية والألمانية . في أمريكا جالية عربية كبيرة ما زالت تقرأ وتتكلم العربية . لو قال سعدي جملته تلك بالأسبانية مثلا لجاءت أكثر انسجاما مع موضوع قصيدته ولقبلناها بالأقل من التحفظ  .

لنتذكر كوبا ومحاولة غزوها ثم الحصار الظالم المضروب حولها منذ عقود . 

                                                      

                                                   Blues


هذا هو عنوان فرعي لأحد أقسام القصيدة . جاء بعده شعر جميل لعله أفضل ما في القصيدة . الذي يقرأ هذا الجزء يستنتج فورا أنه ترجمة حرفية - أو تكاد - لأغنية أمريكية . تقول القصيدة :


كم سأمشي الى ساكرمانتو

كم سأمشي الى ساكرمنتو 

كم سأمشي لأبلغ بيتي

كم سأمشي لأبلغ بنتي

كم سأمشي الى ساكرمنتو !


منذ يومين, لم يسر في النهر مركب

منذ يومين يومين يومين

يا عسلي , كيف أركب ؟

انني أعرف النهر 

لكنن , ولكن , ولكن , ومن قبل يومين

لم يسر في النهر مركب 


ساكرومنتو هي عاصمة ولاية كالفورنيا الأمريكية , ويجري نهر في وادي ساكرومنتو . وأن موسيقى وأغاني Blues   هي في الأصل موسيقى وأغاني العبيد الأفارقة الذين استجلبهم تجار الرقيق الى أمريكا. لذا فانها أغان حزينة فيها أنين وفيها أسى وشجى .

قلت ان هذا الجزء جميل رائع . وأن أنهار ومراكب البصرة مدينة الشاعر السندباد وتجار ألف ليلة وليلة فيها لم تفارق وجدانه وعينيه أبدا , وسوف لن . الشاعر يحلم بالأوبة الى مسقط رأسه راكبا بحرا أو نهرا .

حافظ الشاعر في هذه القصيدة - كما هو دائما تقريبا ! - على توازنه الفني والشخصي الدافيء والحميم . انه لم يسب ويشتم أمريكا كما فعل البياتي الذي دعا لها بخراب شبيه بدمار (سادوم )

و (عامورة ) . لم يسبها ويكيل لها الشتائم كما فعل أدونيس مع دمشق . بل على العكس , فقد ذكر بعض ما يحب في أمريكا :


أنا أيضا أحب الجينز والجاز وجزيرة الكنز

وببغاء جون سيلفر ونوافذ نيو أورليانز

أحب مارك توين ومراكب المسسبي وكلاب ابراهام لنكولن

أحب حقول القمح والذرة ورائحة التبغ الفرجيني 

....

اذا كان عبيد أمريكا زرقا  Blues  فان أشقاءنا في ليبيا قد درجوا على تسمية الرجل الأسود البشرة  (أخضر ) . 

وحين حمي غضب الشاعر قليلا هز رأسه بالنفي قائلا :


لا البترول أريد ولا أمريكا

لا الفيل أريد ولا الحمار ( وهما رمزا وشعارا الحزبين الحاكمين في أمريكا )


أترك لي أيها الطيار بيتي المسقوف بالسعف وقنطرة الجذوع

أريد القرية لا نيويورك

...

أيها الجندي أترك لي كوخ القصب الطافي

وحربة الصياد . أترك لي طيوري المهاجرة وخضرة الريش 

خذ طيور الحديد المزمجرة وصواريخ توماهوك .


في مقطع آخر قال سعدي مخاطبا أمريكا :


خذي مسدس جيمس بوند الذهب

وأعطينا كركرة مارلين مونرو

خذي حقنة المخدر المرمية تحت شجرة

وأعطينا زجاجة المصل .

خذي اللحية الأفغانية

وأعطينا لحية والت ويتمان الملأى بالفراشات

خذي صدام حسين وأعطينا لنكولن .


                                        سعدي ودمشق


كتب سعدي هذه القصيدة في دمشق حيث قضى شطرا من حياته يحرر أو يرأس تحرير بعض المجلات الصادرة فيها كمجلة الهدف السياسية ومجلة المدى الأدبية . وكانت دمشق ( قبل هجرته الأخيرة واقامته في بريطانيا التي دعاها بعد الهجرة منفى المنافي ) احدى أفضل محطات تغربه الكثيرة بعيدا عن وطنه العراق والبصرة مسقط رأسه ووحي الكثير من أشعاره . ففي بيروت كاد أن يموت الشاعر مرارا , وخرج منها يوم أن خرج منها ياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية بعد الغزو الأسرائيلي للبنان وحصار بيروت المعروف عام 1982 . وفي عدن كان شاهد عيان على ما جرى فيها من أحداث دامية ابان الحرب الأهلية في اليمن الجنوبي . ثم ما كان الرجل مرتاحا في الجزائر اذ عمل مرة معيدا مع الدكتورة والشاعرة العراقية ( وفية أبو قلام ) في جامعة قسنطينة . ولا أدري كيف كان حال الشاعر في قبرص ولا كم عاما قضى في باريس في فترة نقاهة واسترخاء بعد عناء العمر وضريبة الثبات على الخط السياسي الأنساني والنهج العقائدي . فالرجل قد ظل ثابت القرار ثقيل الوزن حين خفت موازين غيره من الشعراء صامتين شياطين خرسا أو مساومين . لم يلتزم أدونيس خطا سياسيا محددا في حياته ولم يرتبط بحزب أو يعتنق عقيدة خلا وضوح قوة خط مذهبه الشعري ومنهجه الفكري المتميز والمبدع واستقلال شخصيته والتزامه بنهج الدفاع عن حرية الرأي والتعبير والنشر الأمر الذي عرضه لهجوم البعض فناله ما نال المرحوم بدر شاكر السياب من أذى أيام نشاطهما مع مجلتي (حوار وشعر ) اللبنانيتين حيث قيل عنهما في حينه أن جهات أمريكية( معينة) تقوم بتمويل هاتين المجلتين . يتناقض هنا أدونيس مع صديقه سعدي يوسف . فلقد هاجم الأول دمشق متحاملا شامتا داعيا لها بالويل والثبور جراء حرمانه من حقه الطبيعي في دخولها . غير أن سعدي لم يهاجم بغداد  ولم يحمل حقدا على العراق الذي أقفل أبوابه في وجهه وتركه مع ملاييين من العراقيين مشردين ومنفيين وهائمين على وجوههم في شتى أصقاع المعمورة . لقد درج سعدي في شعره وفي كل ما كتب على مخاطبة البصرة وبغداد والعراق مخاطبة الواله الواجد والمصلي المتضرع والخاشع المتعبد رغم جحود النظام الحاكم وتنكره للأخيار من العراقيين . انه يميز بين العراق وبين من يحكم العراق . لم يسجن البياتي في حياته ولم يعرف أدونيس السجن , لكن سعدي دخل أبشع أنواع السجون ورأى الموت بأم عينيه مرارا لكنه ظل متوازن الخلق والشخصية دافيء الصوت دمث الأخلاق ( حتى تورط في أشعار الأيروتيكا آخر أيام العمر ) . 

في جلسة له في منزله في دمشق تتراءى المدينة لسعدي من خلال الشرفة  فيكتب  شعرا :


الآن

أنا أنظر عبر الشرفة

عبر سماء الصيف , الصيف الصيفي

دمشق تدور , مدوخة , بين هوائيات التلفزيون

ثم تغور , عميقا في حجر الأسوار

وفي الأبراج

وفي أرابيسك العاج

تغور بعيدا , عن " ركن الدين "

وتغيب الشرفة ...


ثم يلي هذا الكلام ثلاثة أسطر من النقاط .

ذات يوم دمشقي صائف حار (( الصيف الصيفي )) يرى الشاعر دمشق عبر شرفة شقته ملأى 

( مدوخة ) بهوائيات التلفزيون , وهذا دليل على رفاه أهل دمشق ( الشوام ) . لكن دمشق هذه الغارقة بأنتينات أجهزة التلفزيون والرافلة بنعيم الفن ( أرابيسك العاج ) والتأريخ العريق ( الأسوار والأبراج ) , دمشق هذه بحضورها الآني الساحر وتأريخها العريق تغيب بغتة عن عين الشاعر

( وتغيب عن الشرفة ) . كل ما يراه الشاعر عبر الشرفة يغيب فجأة عن الشرفة . أرؤيا حلم ؟

حلم يقظة ؟ طائف منام ؟ كلا. يضع الشاعر ثلاثة أسطر متوازية من نقاط . يلتقط أنفاسه . يغادر أحلام يقظته . يفرك عينيه . يفيق فيرى البصرة أمامه شاخصة كأن بين يديه مصباح علاء الدين :


والآن

أتذكر أشجارا ,

نخلة مسجدنا في البصرة , في أقصى البصرة :

منقار الطير

وأسرار الطفل

ومائدة الصيف .

النخلة أذكرها

أتلمسها , وأكون بها , حيث هوت سوداء بلا سقف .

ثم يعرج الشاعر على تأريخ البصرة النضالي البطولي فيرسم صورة نابضة بالحيوية لأحدى مظاهرات عمال شركة النفط اذ سقط فيها عدد من الشهداء القتلى برصاص شرطة العهد الملكي في العراق وسالت دماؤهم الزكية في الشوارع :


                       (( أذكر كيف اساقط زهر الرمان على الأرصفة ))


وكان قد شارك سعدي شخصيا مع الكثير من زملائه الطلبة في تلكم المظاهرة .


أنهى سعدي قصيدته  America , America  بشعر ايقاع التفعيلة حيث استعرض تأريخ العراق منذ الآشوريين ( آلهة الثيران ) والمجوس عبدة النار ( آلهة النيران ) وما أصاب بعض أئمة المسلمين من مآس ( آلهة الأحزان المجبولة صلصالا ودما في أغنية ) . ثم نراه يصر على توكيد انتمائه الأيديولوجي الراسخ لفقراء الناس الجائعين والفلاحين :


                             نحن الفقراء لنا أرض الآلهة الغرقى

                             آلهة الثيران

                             آلهة النيران

                             آلهة الأحزان المجبولة صلصالا في أغنية ...

                             نحن , الفقراء , لنا رب الفقراء

                             الطالع من أضلاع الفلاحين

                             الجائع

                             والناصع                             

                             والرافع كل جبين .


لست أدري ! أيظل سعدي يوسف ثابتا في صف الفقراء والفلاحين والجائعين بعد أن وجد له في لندن ملجأ ثم أسماها ( منفى المنافي ) ؟؟؟


مراجع وهوامش

1- أدونيس / الآثار الكاملة - المجلد الثاني . الصفحات  647 - 673

دار العودة . بيروت . الطبعة الثانية 1971 .

2- الكتاب المقدس ( العهد الجديد ) / انجيل يوحنا  (48 و 51 )

3- القرآن الكريم / سورة البقرة . الآية 187

4- المصدر (1) / الصفحات 45 - 58 

5- المصدر (1) / الصفحات 581 - 611

6- الكتاب المقدس ( العهد الجديد ) / انجيل مرقس ( 17 -20 )

7- ديوان عبد الوهاب البياتي / المجلد الثاني . الصفحات 421 - 424

دار العودة . بيروت . الطبعة الرابعة 1990

8- الكتاب المقدس ( العهد القديم ) / تكوين ( 24 - 26 )

9- الكتاب المقدس ( العهد الجديد ) / يهوذا ( 7 )

10- القرآن الكريم / سورة الحجر ( الآية 73 )

11- الكتاب المقدس ( العهد الجديد ) / انجيل لوقا ( 45 - 46 )

12- سعدي يوسف / قصائد ساذجة  ( الصفحات  87 - 112 )


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق