الشعراء والأديان الأُخرى/ د. عدنان الظاهر


                              

مقدمة 

لِمَ لجأَ وما زال يلجأ الكثير من الشعراء العرب المسلمين إلى توظيف الأديان الأخرى في شعرهم إشارةً أو تلميحاً أو إستعارةً أو مجازاً ؟ ما الذي يعنيه لهم الدين الآخر وما الذي يُغريهم فيه ؟ هل قرأوا ثم إستوعبوا هذه الأديان مغزى وتفصيلاً وجوهراً ؟ هل وظّفوا هذه الأديان الأخرى بنمط واحد ولخدمة غرض واحد وبإسلوب ونهج واحد ؟ 

أضع هذه الأسئلة إبتداءً لأتناول هذه الظاهرة في شعر عدة من الشعراء المعروفين قديماً وحديثاً. فلقد تتبعت الأمر في دواوين أبي نؤاس والمتنبي والسياب ثم البياتي.كما أشرتُ هنا وهناك إلى أمثلة أخرى لها علاقة بالموضوع قالها هذا الشاعر أو تلك الشاعرة. 

تجدر الإشارة إلى أنَّ هؤلاء الشعراء جميعاًلم يغفلوا الدين الإسلامي كليّةً فيما قالوا من شعر. فلقد إستعاروا أجزاءً من بعض آيات القرآن الكريم وضمّنوها شعرهم لكنهم، وبشكل يُلفت النظر، أخذوا الكثير من تراث الإسلام ومن شخصياته الشهيرة وخاصة تلك التي لعبت أدواراً حاسمة في بعض مفاصل تأريخ وتطور الدولة العربية الإسلامية. 


                  أبو نؤاس، الحسن بن هانيء 

                   (( 762  – 814  ميلادية ))

                    (( 145 – 199 هجرية )) 

أستطيع القول وأنا مطمئن غاية الإطمئنان إن أبا نؤاس هو من أكثر الشعراء إستخداماً وإستعارةً للمسيح والدين المسيحي وما يتفرع عنه وما يتصل به من طقوس وشعائر. لقد أحصيت الأمثلة فوجدتها 37 مرةً جاء أغلبها أُنموذجاً واحداً في قصيدة واحدة. لكنَّ الشاعر شاء أن يتعرض للموضوع خمس مرّاتٍ في خمسة أبياتٍ من قصيدة واحدة قصيرة  

( قصيدة بدر في اُفق / الصفحة 448 من الديوان ). جاء في هذه القصيدة القصيرة ذكر الصليب والكنيسة والمسيح والإنجيل والبيعة.كما أنه أشار إشارات قليلة عابرة إلى اليهود أو الدين اليهودي. 

ما سبب ولع أبي نؤاس بالنصارى والنصرانية ؟ ليس الأمر سرّاً من الأسرار. فلو تتبعنا تواتر ورود هذه الظاهرة في أشعاره نجدها مرتبطة وملتصقة بالخمور وحاناتها وبالخمارين وبصاحبات هذه الخمّارات. بيع الخمور وحانات تعاطيها أمور كانت مُحرّمة على المسلمين. وأبو نؤاس على ما نعرف من ولع بالخمرة والشراب ومجالسة ندماء الصهباء والطرب. فلو ألقينا نظرة عجلى على تمثاله القائم على ضفاف نهر دجلة في بغداد لرأينا الرجل يحمل كأساً، وعلى قاعدة هذا التمثال محفور بيت شعره الذي يقول فيه 

                              ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هي الخمرُ

                              ولا تسقني  سِرّاً  إذا أمكنَ  الجهرُ 

ولقد ناله الحيف والسجن من قِبل الرشيد والأمين جرّاء إسرافه في إعلان شغفه بتعاطي الخمرة ومجونه وغزله الغلماني الصريح. 

جُلَّ ما قال أبو نؤاس في النصارى والنصرانية إنما قاله وهو منغمر حتى قمة رأسه في أجواء السكر والشراب والمجون في خمّارات تُدار من قبل نصارى تملكاً أو خدمةً. سأسوق أمثلة على ما أقول (( ديوان أبي نؤاس / دار صادر، بيروت، بدون تأريخ )).

قال في جملة ما قال في قصيدة ( خمرة كالنار المتأججة / ص    11 من الديوان ) :

لا يصرِفنّكَ عن قصفٍ وإصباءِ

مجموعُ رأيٍ ولا تشتيتُ أهواءِ 

واشربْ سُلافاً كعين الديكِ صافيةً

من كفِّ  ساقيةٍ   كالريمٍ   حوراءِ

وصفّقوها   بماءِ   النيلِ  إذْ   بَرَزتْ

في قِدرِ قَسٍكجوفِ الجُبِّ روحاءِ

كأنها   ولسانُ     الماءِ    يقرعها

نارٌ   تأججُ   في   آجامِ   قصباءِ

لها   من المزجِ  في كاساتها  حَدَقٌ

ترنو  إلى  شَربها  من بعد  إغضاءِ

فاشربْ هُديتَ وغنِّ القومَ مبتدئاً

على   مساعدةِ   العيدانِ   والناءِ

لو كان زُهدكِ في الدنيا كزهدكِ في

وصلي، مشيتِ بلا شكٍّ على الماءِ              

المشي على الماء خبر ورد في الإنجيل عن السيد المسيح (( وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوعُ ماشياً على البحر / إنجيل متّى، الإصحاح الرابع عشر، 25 )). 

لقد إستعار الشاعر أحمد شوقي صورة المشي على الماء في قصيدته التي كتبها خصيصاً لمدح الملك فيصل الأول ( أول ملك على العراق ) والتي غنّاها الفنان محمد عبد الوهاب بطلب من أحمد شوقي حين زار الفنان العراق. يقول مطلع القصيدة :

يا شراعاً وراءَ دجلةَ يجري

حتى يقول شوقي:

قفْ على الماءِ كالمسيح رويداً …

إستعارة أحمد شوقي جيدة إذ أنَّ المسيح، كما ورد في الإنجيل، مشى على سطح بحيرة طبرية لكي يُنقذ السفينة التي أقلّت حواريه من الغرق نتيجة لهبوب ريح قوية. ففيصل هو من كان معوّلاً عليه أن يقود وأن ينقذ العراق بعد تأسيس الحكم الوطني فيه عام 1921 . وبحيرة طبرية في شمال فلسطين يقابلها نهر دجلة في وسط العراق. ويسوع منقذ البشر يقابله فيصل ( شراع دجلة ) الذي سينقذ العراق من هيمنة المحتلين الإنكليز. 

لقد عاد أبو نؤاس فكرر في قصيدة " بين نارين " على الصفحة 18 من الديوان بيت المشي على الماء آنف الذكر:

 لو كان زُهدُكِ في الدنيا كزهدكِ في

وصلي، مشيتِ  بلا شكٍّ  على الماءِ.

في قصيدة ( نفوس أحياء وأجساد موتى ) / ص 28-29 قال أبو نؤاس في جملة ما قال:

وساقٍ غريرِ الطَرفِ والدلِّ فاتنٍ

ربيبِ ملوكٍ كان والدهم كِسرى

حثثنا مغنينا على شُربِ كأسه

فتُدركه كأسٌ وفي كفّه أُخرى

فأمسكَ ما في  كفّه   بشمالهِ

وأوما إلى الساقي ليَسقيَ باليُمنى

فشبّهتُ كأسيهِ بكفيهِ  إذْ بدا

سراجينِ في محرابِ قَسٍّ إذا صلّى

هذه هي صور أبي نؤاس الشعرية : كؤوس الخمرة في أيدي من يهوى وأجواء السكر توحي له وتستحضر في خياله صور بعض الطقوس الدينية المقدسة فيقارن تلك بهذه دونما حرج أو حياء. تُضيء الخمرة في كأسها وتشع كما يضيء ويشع بالنور سراج الكنائس وقت صلاة الرهبان. السكر لأبي نؤاس رهبنة وصلاة وجو قدسي. الحانة مكان الكنيسة وكأس الشراب بدل سراج الصلاة وأبو نؤاس هو الراهب !! إخترع أو أوجد الشاعر لنفسه ديناً خاصاً به، لكأنما كان يقول : أيها الناس ، لكم دينكم وليّ ديني. لكم طقوسكم التي تقدسون ولي طقوسي ومقدساتي. 

القصيدة طريفة، يساوم فيها أبو نؤاس تاجر خمور ويسميه " دهقان ". ويحوّل مبدأ المساومة على جرّة أو دن خمر إلى " خِطبة " لإحدى " بنات " هذا الدهقان، التاجر. كيف إستطاعت هذه الأمور أن تملأ كل هذا الحيز العظيم من حياته ووجوده.كيف يجد نفسه مغموراً بهذه الأجواء التي تفوح منها روائح أنواع المشروبات الكحولية التي برع في وصفها والتغزل بها ونعتها بشتى النعوت المعروفة وغير المسبوقة. كيف يتراكم كل هذا الوجد وعرام الرغبة في تعاطي الخمور في أعماق نفس وجسد الشاعر؟؟؟؟؟

نستمع إلى بعض ما قال في هذه القصيدة :

خطبنا إلى الدهقانِ بعضَ  بناتهِ

فزوّجنا منهنَّ في خِدرهِ الكبرى

وما  زالَ  يُغلي مهرَها ويُزيدهُ 

إلى أنْ بلغنا منه غايته القصوى

رحيقاً أبوها الماءُ والكَرمُ  أُمها

وحاضنها حرُّ الهجيرِ إذا يَحمى

يهوديةُ الأنسابِ مُسلمةُ القُرى

شآميةُ  المَغدى عراقيةُ   المنشا 

مجوسيةٌ قد فارقتْ  أهلَ  دينها

لبغضتها النارَ التي عندهم تُذكى 

رأتْ عندنا ضوءَ السراجِ فراعها

فما سَكَنتْ حتّى أمَرنا بهِ يُطفى .

لقد مهّدَ أبو نؤاس في هذا البيت لموضوع سُرُج القسيس حين يتهيأ لقضاء صلاته في محرابه. وكان بذلك كعادته ذكياً بارع الملاحظة وقادراً على الربط بين الدال والمدلول. 

في قصيدة ( فتية كالسيوف ) / ص 32 – 34 يقارن أبو نؤاس بين كأس ذهبية وما فيها من خمر يضاهيها لوناً فيقول :

أقولُ لمّا تحاكيا شَبَهاً

أيهما للتشابهِ الذهبُ

هما سواءٌ وفرقُ بينِهِما

أنهما جامدٌ ومُنسَكِبُ

مُلسٌ وأمثالُها مُحفّرةٌ

صُوِرَ فيها القسوسُ والصُلُبُ 

يتلونَ  إنجيلهم  وفوقَهمُ

سماءُ خَمرٍ نجومها الحَبَبُ .

ومن طرائف إستعارات أبي نؤاس الأخرى ما جاء في قصيدة ( جسمٌ سقيم وقلب لائع ) / ص 64 وهي قصيرة في سبعة أبيات ذكر في ثلاثة منها الكثير مما يخص التراث المسيحي :

مُزنّرٌ   يتمشّى   نحو   بيعتهِ

إلههُ الإبنُ فيما قالَ والصُلُبُ 

يا ليتني القسُ أو مطرانُ بيعتهِ

أو ليتني عنده الإنجيلُ والكتبُ

أو ليتني  كنتُ  قرباناً  يُقرّبه

أو كأسَ خمرتهِ أو ليتني الحَبَبُ .

أخيراً لا بأس من ذكر القصيدة القصيرة التي كرر في خمسة أبياتٍ منها ذكر أمور لها علاقة مباشرة بالنصارى والنصرانية، أقصد قصيدة ( بدرٌ في الأفق ) / ص 448 :

عَلِقتُ من شِقوتي ومن نَكَدي

مُزنّراً  والصليبُ   في    عُنُقِهْ 

أقبلَ   يمشي   إلى    كنيستهِ 

فكُدتُ أقضي الحياةَ من فَرَقِهْ 

فقلتُ من أنتَ بالمسيحِ وبال

إنجيلِ  سطّرتهُ  على    وَرَقِهْ

وبالصليبِ الذي  تُدينُ  له ؟

فقالُ بدرُ السماءِ  في  اٌفُقِهْ 

سألتهُ   عن   محلِ    بيعتهِ 

فقالَ : في نارهِ وفي حُرَقِهْ. 

القصيدة ليست من غُرر قصائد أبي نؤاس، لكني ذكرتها لكثرة ما حشر فيها، على صِغرها، من مفردات لا نعرفها إلاّ في الديانة المسيحية. 

إذا ربط هذا الشاعر بين النصرانية وبيع وتعاطي الخمور التي لا يحرّمها هذا الدين، فما باله يُفرط في التغزل بالفتيان النصارى ؟ في ديوانه أمثلة كثيرة تُفصح عن نفسها، وفي إمكان القاريء الرجوع إلى الديوان.


                              أبو الطيب المتنبي 

            (( 915 – 965 ميلادية )) 

            (( 303 – 354 هجرية ))

جاءت في قصائد المتنبي ثمانية تضمينات إستعارها من المعروف عن النصارى والنصرانية 

( ديوان المتنبي/ دار بيروت للطباعة والنشر، 1980 ). كما أنه ضمّنَ شعره ثماني إشارات أو أسماء لشخوص يهودية. وفي مناسبة واحدة ذكرَ ( عبيد النجوم )، فمن هم أولاء عبيد النجوم ؟ من مقدمة القصيدة نستنتج أن المتنبي كان قد عنى المُنجمّين أو بعض الناس الذين يتفاءلون ويتشاءمون ببعض الظواهر الطبيعية وسواها من زجرِ طيرٍ أو رمي حجرٍ مما كان شائعاً في تلكم الأزمان. هل كان هؤلاء من السَحَرة أو المجوس أوكلدان بابل أو الصابئة ؟

تحضرني في هذا المقام قصيدة أبي تمام التي حثَّ فيها الخليفةَ المعتصم أن يباشر حرب الروم مُستجيباً لصرخة ( وامعتصماه ) التي أطلقتها أَمَةٌ عربية في أرض الروم، وأن لا يُصدّقَ مزاعم وتكهنات المنجمين الذين نصحوه، بعد أن قرأوا الغيب والطالع والنجوم ومواقعها في منازلها، أن لا يباشر الحرب في الزمن الذي إختاره للشروع بالزحف. بدأ القصيدة بالقول : 

السيف أصدقُ أنباءً من الكتب

في حدّهِ الحدُّ بين الجَدِ واللعبِ.  

أعود لصاحبنا المتنبي. جاء في قصيدة من فرح النفس ما يقتل ( الصفحات 306 – 308 )  

(( ضُرِبت لسيف الدولة خيمة عظيمة فهبّت ريحٌ شديدة فسقطت فقال )) :

أيقدّحُ  في  الخيمة  العُذّلُ          

وتَشمَلُ من دهرها يَشمَلُ 

وتعلو الذي  زُحَلٌ  تحته

مُحالٌ، لَعَمرُك ما تُسألُ 

فتَبَاً  لدين عبيد  النجومِ 

ومن  يدّعي أنها   تَعقِلُ.

نعم، ذكر أبو الطيب عيسى وذكر المسيح والصلبان والنصارى وإشاراتٍ أُخَرَ لما تواتر أو قيل من معجزات تُنسب للسيد المسيح إبن مريم. 

حين نقرأ ديواني الرجلين، أبي نؤاس والمتنبي، نجد الفرق جدَّ شاسعٍ بين توظيفات وتضمينات الشاعرين لكل ما يمتُ للنصرانية بصلة. لقد رأينا كيف ربط أبو نؤاس بين هذه وبين الخمور والخمّارات وأصحاب الحانات. أفاد الشاعر للحدود القصوى من مسألتي تحليل شرب الخمرة في المسيحية وبيعها، ثم التغزل بشاربها من الندماء وبائعها أو بائعتها على حد سواء. أما أبو الطيب المتنبي فما كان متعاطياً للخمور وما كان من مرتادي حاناتها، وإذا ما تغزل فغزله عفيف عُذري مقبول من قبيل ( قصيدة وُلِدوا على صَهَواتها / ص 185 ):

إني على شَغَفي بما في خُمرها

لأعِفُّ  عمّا  في   سرابيلاتها

أو ( قصيدة الحسن في الخلائق لا في الوجه / ص 393 ) : 

وأغيدَ  يهوى  نفسَه  كلٌّ  عاقلٍ 

عفيفٍ ويهوى جسمَهُ كلُّ فاسقِ  

ثم إنَّ المتنبي لم يتخذ الغزل مذهباً قائماً بذاته، بل كان يستخدمه مُفتتحاً لقصائد المديح

ومقدمةً لتطييب الجو وإنعاش نفوس مستمعيه وتهيئتها لما سيقول، يخلص منها لإطراء الممدوح. وكان قد قال هو بهذا الصدد : إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المُقدَّمُ // أكلُّ فصيحٍ قال شِعراً مُتيّمُ ( قصيدة لا رزقَ إلاّ من يمينك / ص 302 ). ثم إنَّ في شعر المتنبي غزلاً رائعاً راقياً لم يُدرس مفصلاً بعد، وإنه ليستحق عناية خاصة من لَدُن الباحثين. 

نماذج مما أخذ المتنبي من النصرانية. قال في قصيدة ( غريبٌ كصالحٍ في ثمود/ ص 19-22 ):

ما مُقامي بأرضِ نخلةَ  إلاّ

كمُقامِ المسيحِ بين اليهودِ. 

وقال يمدح محمد بن زريق الطرسوسي في قصيدة ( ونطرد باسمه إبليسا / ص 58 – 60 ) :

لو كان  ذو القَرنينِ  أعملَ  رأيهُ

لمّا  أتى الظُلُماتِ صِرنَ  شُموسا

أو كان صادفَ رأسَ عازرَ سيفُهُ 

في  يومِ   معركةٍ   لأعيا  عيسى

أو كان  لُجَّ  البحرِ  مثلَ   يمينهِ

ما  انشقَّ  حتّى جازَ فيه موسى 

جمع المتنبي في هذه الأبيات الثلاثة أسماء الإسكندر المقدوني ذي القرنين الذي بلغ بجيوشه الجرّارة بحر الظُلمُات، والعازر الذي أحياه المسيح بعد موته، ثم عيسى وموسى الذي شقَّ البحر بعصاه فنجا وقومه من فرعون مصر. في هذه القصيدة يُنسب الشاعر إلى ممدوحه بعض الخوارق التي كانت متداولة يومذاك مما كانوا يقرأون في كتب أهل الكتاب من النصارى واليهود. غير أنَّ في هذه الأبيات مبالغاتٍ وأموراً تعجيزية يرفضها عقل الإنسان. من قبيل أن ضربة سيف الممدوح لا شفاء منها حتى لوكان الطبيب المداوي والشافي هو المسيح عينه، صاحب المعجزات الذي يُشفي الأموات (( ورسولاً إلى بني إسرائيلَ إني قد جئتكم بآيةٍ من ربكم إني أخلقُ لكم من الطينِ كهيئةِ الطيرِ فأنفخُ فيهِ فيكونُ طيراً بإذنِ اللهِ وأُبريءُ الأكمهَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذن الله وأُنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إنَّ في ذلك لآيةً لكم إنْ كنتم مؤمنين / سورة آل عمران، الآية 

49 )).  

أعاد المتنبي قصة عيسى والعازر في قصيدة ( الكواكب في التراب تغور/ ص 71-72 ) التي قالها في رثاء محمد بن إسحق التنوخي :

وكأنما عيسى بنُ مريمَ ذِكرهُ

وكأنَّ عازرَ شخصُهُ المقبورُ. 

فالميت إنما هو العازر الذي ينهض حياً من قبره لمجرد ذكر إسم المسيح. 

ما عدا المبالغات، ليس هناك في هذه الأشعار ما يُسيء إلى عيسى أو إلى الديانة المسيحية. هذا هو الفرق الهائل بين المتنبي وأبي نؤاس. يستعير المتنبي من الأديان الأخرى ما يُضفي على منظومه من أجواء الأبهة والهيبة وباقي المؤثرات الروحية والقدسية والصوتية وقوة تأثير ما في التأريخ من إيحاءات وظلال وسحر.  

من أكثر إستعارات المتنبي طرافةً تلك التي سخر فيها من رجل ( يتعرض للشعر ) بعثه إليه

علي بن محمد بن سيّار بن مُكّرم التميمي ليناشده ( فتلقّاهُ وأجلسه في مجلسه ثم كتب إلى علي يقول / الصفحات 193 – 197 ) :

تيممني  وكيلُك مادحاً لي

وأنشدني من الشعر الغريبا 

فآجركَ  الإلهُ  على عليلٍ

بعثتَ إلى المسيحِ به طبيبا  

ولستُ بمُنكِرٍ منك الهدايا

ولكنْ  زدتني  فيها  أديبا.

فالشاعر المستجد الذي أرسله الممدوح علي بن محمد بن سيّار ما هو إلاّ رجل عليل من حيث المقدرة على قول الشعر. والمتنبي الشاعر الفحل المعروف هو المسيح الذي يُشفي المرضى من أمثال هذا الشاعر المبتديء. فما عسى أن يقولَ عليلٌ لرجلٍ يُطبّبُ ويداوي فيُشفي مَن به علّة مستعصية ؟! ( بعثتَ به إلى المسيحِ طبيبا ). الطريف الآخر في الأمر هو السخرية المهذّبة والذكية من  شأن الهدايا التي بعثها الممدوح إلى المتنبي مع هذا الوكيل المتشاعر:

ولستُ بمُنكِرٍ منك الهدايا

ولكنْ  زدتني  فيها  أديبا.

فقْدر الشاعر الوكيل كقْدر ما حمل من مُوكِّله من هدايا، وقيمة الهدايا كقيمة حاملها!!

غمزة بارعة من أبي الطيب. لا أكاد أقرأ هذين البيتين حتى أغرق في ضحك مستمر. 

يُذكرّني هذان البيتان بقصة الشاعر الذي قرأ شعراً يمدح فيه بعض الأمراء، فأجازه الأمير على مدحه بكيس من الشعير. رفض الشاعر هذه الهدية وإرتجل بيتاً لاذعَ السخرية قاله في مجلس الأمير:

أُجِزتُ على شِعرِ الشعيرِ وإنهُ

كثيرٌ…وقد  خلّفتهُ   البهائمُ 

ضحك الأمير وقد فهم المغزى فأمر بمضاعفة مقدار الهدية :كيسان من الشعير بدل الواحد!!

في قصيدة " سمعاً لأمير العرب / الصفحات 437 – 440 " التي بعثها عام 353 للهجرة من الكوفة إلى سيف الدولة الحمداني، وكان حينئذٍ في ميّافارقين، وضع المتنبي في بيتين من أبيات القصيدة بعض أركان الدين المسيحي وجهاً لوجه أمام بعض أركان الدين الإسلامي. كان سيف الدولة يقاتل الروم ممثلاً بالطبع للإسلام وذائداً عن حياضه، في حين كان الروم نصارى. فحوى البيتين يدل دلالة قاطعة على عمق إستيعاب المتنبي لدقائق ما في المسيحية من عقائد وأركان وطقوس. قال المتنبي ضمن ما قال في مدح سيف الدولة :

فخرّوا   لخالقهمْ      سُجّداً

ولو لم تُغِثْ سجدوا للصُلُبْ

وأنتَ  مع  اللهِ   في  جانبٍ

قليلُ   الرقادِ   كثيرُ  التَعَبْ 

كأنكَ    وحدكَ    وحّدتُهُ

ودانُ   البريّةُ  بابنٍ    وأبْ . 

في البيت الثالث ( ودانَ البريةُ بابنٍ وأبْ ) إشارة واضحة للعقيدة المسيحية التي تقول إنَّ عيسى هو إبنُ الله (( الأبُ والإبنُ وروحُ القُدس )). وقد وردت آياتٌ في القرآن الكريم تُنكر هذا القول وتراه أمراً خطيراً (( قلْ هو اللهُ أَحَد. اللهُ الصَمَد. لم يلِدْ ولم يولدْ. ولم يكنْ له كفؤاً أحد / سورة الإخلاص )). ومن الطبيعي أن يكون المتنبي قد درس وإستوعب القرآن منذ نعومة أظفاره يوم كان يؤم كتاتيب ومدارس الكوفة مسقط رأسه. (( وقالت اليهودُ عُزيرٌ إبنُ اللهِ وقالتْ النصارى المسيحُ إبنُ اللهِ ذلكَ قولُهم بأفواههم يُضاهئونَ قولَ الذينَ كفروا من قبلُ قاتلهم اللهُ أنّى يُؤفَكون. إتخذوا أحبارَهم ورُهبانَهمْ أرباباً من دون اللهِ والمسيحَ ابنَ مريمَ وما أُمِروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إلهَ إلاّ هو سُبحانَهُ عمّا يُشرِكون / سورة التوبة الآيتان 30 و 31 )). 

ومن سورة الأنبياء (( وقالوا اتخذَّ الرحمنُ وَلَداً سُبحانَه بل عِبادٌ مُكرَّمون / الآية 26 )).


                             بدر شاكر السيّاب 

                              (( 1926 – 1964 ميلادية ))


قصيدة ( المسيح بعد الصلب )/ ديوان بدر شاكر السياب/ دار العودة، بيروت 1970 .

بعدما أنزلوني، سَمِعتُ الرياحْ

في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ

والخطى وهي تنأى. إذن فالجراحْ

والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوالَ الأصيلْ

لم تَمُتني. وأنصَّتُ : كان العويلْ

يعبرُ السهلَ بيني وبينَ المدينةْ

مثلَ حبلٍ يشدُّ السفينةْ

وهي تهوي إلى القاعِ.كان النواحْ

مثلَ خيطٍ من النورِ بين الصباحْ

والدجى، في سماءِ الشتاءِ الحزينةْ.

يمثل هذا المقطع، الذي إستغرق الصفحة الأولى من صفحات القصيدة التي تنوف على الخمس، الدائرة الأولى من بضع دوائر تتوالى متداخلةً حيناً، متباينة المساحة والمحيط لكنها تشترك في بؤرة واحدة أو مركز واحد. أو متماسةً أو متباعدةً أحياناً أُخَرَ… من حيث الموضوعات والصور والرؤى والأغراض. يبدو هذا المقطع للوهلة الأولى مقطعاً مَهيباً مفعماً بالجلال وحرارة الإحساس بمأساة السيد المسيح ودقة وصدق التعبير عن هذا الإحساس. الأمر الذي ربما يدل على قدرة السياب على تقمّص أو إستنساخ المسيح شخصاً وفكراً وموقفاً ثم مصيراً. أي أنه نجح في الدخول في جسد المسيح والإستقرار في روحه حتى إنه لم يعدْ يميّز بين ما له وما للمسيح. آية ذلك، أو إحدى تلك الآيات، أن الشاعر يتكلم بلسان المسيح ( بعدما أنزلوني )… ( والصليب الذي سمّروني عليه ). 

هل مرَّ السياب بمحنة تعادل محنة المسيح مع كُهّان الهيكل وكَتَبَته في أُورشليم في فلسطين و جند القائد الروماني بيلاطس وهيرودُس؟ بالتأكيد كلاّ. هل سُجن أو عُذّب ؟ كلاّ. لقد طورد إبّان العهد الملكي في العراق فغادره للعمل في الكويت. ثم حورب وفّصل من وظيفته بعد ثورة تموز 1958 في العراق فبالغ في جنوحه نحو اليمين ونشر ما نشر في بعض صحف بغداد الصادرة يومذاك متبرئاً من ماضيه وعقيدته وإلتزامه السياسي السابق. لا شيء إذن يجمعه ومحنة المسيح، فلماذا أنطق نفسه بضمير المتكلّم نيابةً عن المسيح ؟ لم تحمل القصيدة تأريخ كتابتها. سأركّزُ على هذا المقطع لأنه البداية والواجهة ولأنه يحمل ثقل القصيدة الأكبر من بين بقية المقاطع. تحليل وتفكيك هذا المقطع يكشف عيوباً جديّةً في نسيجه وبنائه وتسلسل أفكاره بل وحتى في لغته : 

1 - لامنطقية بعض الصور الشعرية وإهتزازها : 

الصور الشعرية في الأسطر الثمانية الأولى في هذا المقطع صورٌ محكمة السبك وناجحة. غير أنَّ الصورة الأخيرة تخيّب ظن القاريء. الصورة التي تقول (( كان النواحْ… مثلَ خيطٍ من النورِ بين الصباحْ… والدجى في سماء الشتاءِ الحزينةْ )). حسناً، من حقنا أن نسأل الشاعر : كيف جمع النواح والنور ؟ كيف يكون النواح وهو حزن وصراخٌ وألم… كيف يكون نوراً والنورهو الأمل والضياء والتفاؤل والحياة؟

لقد ورّطت مجموعةُ صور مركّبةٍ سابقةٍ الشاعرَ فجرّته من يديه جرّاً وأسقطته في فخ الصورة الأخيرة. أعني لوحة الصور الثلاث المركّبة التي صاغها في الأسطر التي سبقت الصورة الأخيرة في الصفحة الأولى. ((كان العويلْ… يعبرُ السهلَ بيني وبين المدينةْ (1)… مثلَ حبلٍ يشدُّ السفينةْ (2)… وهي تهوي إلى القاعِ (3) )). وللمقارنة السريعة سأُعيدُ كتابة بعض ما جاء في التشكيلتين من الصور:

كان العويلُ… مثلَ حبلٍ يشدُّ السفينةْ

كان النواحُ… مثلَ خيطٍ من النور…في سماءِ الشتاءِ الحزينةْ.

لست بحاجةٍ للتذكير أنَّ الحبل هو مجموعة خيوطٍ وأنَّ الخيط هو بدوره حبل أو جزء من حبل.لم يتورط الشاعر بشكلية التعبير عن الصور حسبُ :

كان العويلُ مثلَ حبلٍ …

كان النواحُ مثلَ خيط…

بل وأسلس قياده لضغط تأثير وإغراء التصويت السجعي بالقوافي ( المدينة… السفينة… الحزينة…). 

إذا كان قصد السياب في هذه الصورة الأخيرة، التي تضع أمامنا أكثر من علامة إستفهام، أن يقولَ إنَّ النواح قد إستمر طوال الليل حتى الصباح. عندئذٍ سنسأله : وعلام كل هذا النواح ما دام المسيح قد أُنزلَ من صليبه وقام حيّاً يسمع كباقي البشر ويُنصت كبقية العباد؟ ثم إنه يُقرر بشكل لا لَبسَ فيه إنه لم تمته الجراح ولا الصليب الذي سمّروه عليه:

بعدما أنزلوني، سَمِعتُ الرياحْ

إذنْ فالجراحْ

والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوال الأصيلْ

لم تُمتني …

متناقضات سببها على ما يبدو الوهن وضعف قدرة الشاعر على التركيز والسيطرة على عاصفة توهج موهبته الشعرية التي تفرض عليه إتجاهاتها العشوائية ومساراتها المنفلتة وتتركه  عاجزاً مشلولاً لا حولَ له ولا قوّة. أم، تُرى، هنالك قوة سحرية غامضة تمارسها سرّاً هذه الإتجاهات والمسارات على فكر وإحساس وشاعرية بدر شاكر السياب فتدمغه بطابعها وتحركه أنّى شاءت وكيف شاءت هي لا كيفما يشاء هو. 

ثم لماذا إختار فصل الشتاء في البيت الأخير (( في سماء الشتاء الحزينة )) وهل له علاقة بتأريخ أو زمن الصلب ؟ سألت بعض الأصدقاء المسيحين عن اليوم والشهر الذي صُلب فيه المسيح فقالوا إنه الرابع عشر من شهر نيسان أو ربما يكون قد وقع في شهر آذار. أما إذا لم يكن الشاعر قد قصد زمناً أوفصلاً معيناً بعينه كتأريخ لصلب عيسى فسيكون حشر " الشتاء " في هذا السطر مجرد حشو فراغٍ لا أكثر. وتلك طامّة كبيرة لا يتمناها أحدٌ للشاعر. 

2- الركوع أمام سلطان السجع والتقفية :

هذه ظاهرة عامة ومشتركة يتقاسم عيوبها جميع شعراء الشعرالحر، شعر التفعيلة. علماً أنَّ السياب هو الشاعرالوحيد بينهم الذي أعطى نفسه حرية التنقل في القصيدة الواحدة من بحر إلى آخر ( في القصيدة موضوعة البحث، ينتقل من فاعلن فاعلن فاعلن إلى فعْلن فعْلن فعْلن، أي من بحر المتدارك إلى بحر الخبب ). 

نرصد على هذه الصفحة ( 457 ) ترادف القوافي : الرياح، الجراح، النواح، الصباح.ثم

النخيل، الأصيل، العويل. ثم المدينة، الحزينة. ثم التسجيع بالألف المقصورة : الخُطى وتنأى. ثم التسجيع بالألف الممدودة والهمزة : سماء الشتاء. جاء كل هذا الحشد الزاخر من المحسّنات البديعية في عشرة أسطر لا غير!!  

مع ذلك، ورغم الإستطراد غير الموفّق الذي رأينا آنفاً، فإنَّ في المقطع تكثيفاً بالصور لافتاً للنظر. وفيه آلية حركية أضفت عليه سمة متميزة من سمات الجمالية والتفرد. في تحليل وتفكيك المقطع نرى أن الشاعر قد وظّفَ عشرة أفعالٍ جاء نصفها في الزمن الماضي

( أنزلوني، سمعتُ، سمّروني، لم تمتني، وأنصتُّ ) وجاء النصف الآخر بصيغة الزمن الحاضر

( تسفُّ، تنأى، يعبرُ، يشدُّ، تهوي ). لقد نجح الشاعر، ربما بدون وعي كامل منه، في أن يقيم معادلة التوازن ما بين عالمي الماضي والحاضر من خلال مقابلة و مزج صيغتي زمني الفعلين الماضي والمضارع. الزمن واحد من أخطر أركان بناء القصيدة. ففيه ومنه تأتي الحركة داخل دروب ومنعطفات القصيدة. ثم إنه المقياس الفيزيائي للحركة. وإنه هو الهواء الذي تتنفس والضوء الذي ينير ظلمات الشاعر فكراً وروحاً. والصور في الشعر لا تكون على أبلغ ما تكون إلاّ بالأفعال. ففي الفعل حركة وإتجاه في الفضاء ( المكان ). وفي الحركة أو نتيجة لها تتولد صورة أو مجموعة صور تتفاوت في درجة وضوحها وأصالة ألوانها وشدة تأثيرها في النفوس. ثم إنَّ الزمن الحاضر ما هو إلاّ الإمتداد الكوني الطبيعي لحركة الزمن الماضي، أي أنه إبنه ووليده. إذنْ جمع السياب الإبن والأب معاً. وذلك أمر ينسجم مع العقيدة المسيحية ( الأب والإبن وروح القدس ) ومع السياق العام للقصيدة، عنواناً ومحتوى.

هل جاء ذكر " النخيل " في هذا المقطع سهواً وعفوَ خاطرٍ ؟ كلا. الشاعر إبن البصرة، حاضنة وأم النخيل. لقد جاء ذكر النخلة ثانيةً في مقطع آخر من القصيدة. ثم لنتذكر النخلة التي وُلِد المسيح عيسى تحتها (( فآجاءها المخاضُ إلى جذعِ النخلةِ قالت يا ليتني مِتُ قبلَ هذا وكنتُ نسياً منسيا / سورة مريم، الآية 23  … وهُزّي إليكِ بجذعِ النخلةِ تُساقطْ عليكِ رُطَباً جنيا / سورة مريم، الآية 25 )). لذلك أطلق أبو العلاء المعري على النخيل صفة " أشرف الشجر" كما جاء في بيته الشعري :

شرِبنا  ماءَ  دجلةَ  خيرَ  ماءٍ

وزُرنا أشرفَ الشجرِ النخيلا. 

نقطة ضعف أخرى في هذا المقطع : جاء خلواً من أي بشر خلا المسيح نفسه بعد نزوله حيّاً من الصليب. ألغى الشاعرُ المسيحَ إذ أعطى نفسَه حقَ الكلام نيابةً عنه. لقد طغى صوتُ الشاعر وغطّى كلَّ صوتٍ عداه. ورغم الكثافة الظاهرة وسبك وبهرجة الصور التي يفتقر بعضها للمنطق وقوانين المعقول، يبدو المقطع بعد القراءة المحايدة، المتأنية والتفكير الطويل، شاحباً كأنه أرض خلاء. الإصحاح الرابع والعشرون من إنجيل لوقا يخبرنا بما قام به المسيح بعد مغادرته قبره من حوارات مع بعض الناس وحركة هنا وهناك وطلبِ طعامٍ ونصحٍ بقراءة الكتب وتتبع أخباره في الصحف الأخرى. فالمسيح الحقيقي بعد صلبه غير مسيح السياب.

في الصفحة التالية يدور الشاعر على عقبيه دورة كاملة فينأى عن كافة موضوعات وأطروحات المقطع الأول. يضعنا السياب في هذا المقطع في أجواء مدينته جيكور الريفية  الغارقة بنور الشمس والماء وخضرة الحقول والتوت والبرتقال والزهور والسنابل. إنتقل نقلة فجائية من عالم الظلام والتشاؤم والألم إلى عالم البهجة والتفاؤل. فما تفسير ذلك، وما الذي أراد أن يقول ؟ إذا كان المقطع الأول يعني موت المسيح فهل يعني المقطع الثاني عودة أو قيامة المسيح ؟ جائز. مقابلة الموت ( العدم ) بالقيامة ( الإنبعاث ). نقرأ من هذا المقطع :

حينما يُزهرُ التوتُ والبرتقالْ

وتمتدُ " جَيكور "ُ حتى حدود الخيالْ

يلمسُ الدفءُ قلبي، فيجري دمي في ثَراها

قلبيَ الشمسُ إذْ تنبضُ الشمسُ نورا

قلبيَ الأرضُ تنبضُ قمحاً وزهراً وماءً نميرا

قلبيَ الماءُ، قلبي هو السنبلُ

موتُهُ البعثُ : يحيا بمن يأكلُ

في العجينِ الذي يستديرُ

ويُدحى كنهدٍ صغيرٍ، كثديِّ الحياهْ

متُّ بالنارِ: أحرقتُ ظلماءَ طيني، فظلَّ الإلهْ

كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ.   

أكدَّ السيابُ في هذا المقطع على ثلاثة من شروط الحياة على الأرض الأربعة : الأرض

( التراب )، الماء، الحرارة ( الشمس والنور أو النار ) ثم الهواء الذي أهملَ السيابُ ذكره. هل أراد الشاعر أن يقول إنَّ هذه هي شروط قيامة الموتى من قبورهم وإعادة إنبعاثهم إلى الحياة التي نعرف جسداً وروحاً ؟ وبدون هذه الشروط لا سنبلة في الحقل ولا قمح ولا عجينة خبز في تنور ؟ بعد أكله يُصبح الخبز جزءاً من خلايا جسد الإنسان (( أنا هو الخبزُ الحي الذي نزل من السماء. إنْ أكلَ أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد / الإصحاح السادس، إنجيل يوحنا )).   

وضع الشاعر شروطاً ثقيلة لكيما يلامس الدفءُ قلبه.كرر " حين " أربع مرات كشرط ينتظر جواباً له : ( يلمس الدفءُ قلبي ).كما إنه كرر " قلبي " خمسَ مراتٍ فما دلالة ذلك ؟ مرةً أخرى يضعنا الشاعر هنا أمام التناقض بين الموت والحياة. فموت السنابل يعني حياة آكلها. يذبح الإنسانُ الحيوانَ، يقتله، ينفيه لكي يحيا، يواصل الحياة . إنها المعادلة الأبدية : موت – حياة / و حياة – موت. السنبل لا يحيا إلاّ بالماء. قلب الشاعر هو خزّان الماء هذا. السنابل تصبح قمحاً أو شعيراً. القمح يُطحن ويُجبلُ بالماء فيغدو عجيناً ثم رغيف خبز مستدير. عجينة القمح المستديرة تُشوى بنار التنور، تموت بالنار. حسناً ولكن، ما علاقة الموت بالنار بإحراق ( ظلماء طيني ) و ( ظلّ الإلهْ ) ثم يختتم الشاعر هذا المقطع بقفزة أولمبية أُفقية وأخرى رأسية فيقرر أنْ ( كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ ). هل قصد بذلك التقرير أنَّ الخبز البسيط هو كل غذاء الفقراء ؟ جائز. 

قال الأسنتاذ ناجي علوش في دراسته القيّمة التي قدّم بها الديوان، إنَّ السياب " مُهتز " وإنفعالي غير تأملي وينساح إنسياحاً بدل الجنوح إلى التركيز. أُضيف إلى ذلك أنَّ السياب لا يستطيع في أحيان كثيرة السيطرة على " سيلان " وتدفق موهبته الشعرية فيتركها تتحكم فيه على هواها لا حسب ما يقتضيه منطق وضرورات الموضوع الذي يعالجه. لا أجد في ذلك غرابةً، فقد كان الرجل عليلاً جسداً ونفساً وكان ضعيف الجهاز العصبي المركزي، فكيف يستطيع السيطرة على عالمه الخارجي من لا يستطيع السيطرة على نفسه وجسده ؟ تلكم هي المعضلة. 

بعد عالم السنابل والقمح والطحين والخبز يأخذنا السياب مباشرة إلى المسيح رمزاً كما جاء في الإنجيل. لكنه يظل يتكلم بإسمه وعلى لسانه متماهياً معه بشكل يُذكّرني بشِعر الحلاّج الذي قال (( إننا روحان حلاّ بدَنا )) : 

متُّ، كي يؤكَلَ الخبزُ باسمي، لكي يزرعوني مع الموسمِ

كم حياةٍ  سأحيا : ففي كل حفرةْ

صرتُ مستقبلاً صرتُ بذرةْ

صرتُ جيلاً من الناسِ : في كلِّ قلبٍ دمي

قطرةٌ منه أو بعضُ قطرةْ.

نقرأ في إنجيل يوحنا من العهد الجديد (( أنا هو الخبزُ الحيُّ الذي نزل من السماء. إنْ أكلَ أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبزٌ الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذلهُ من أجلِ حياة العالم / 51 )). ونقرأ في مكان آخر (( من يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديةٌ وأنا أُقيّمهُ في اليومِ الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرّبٌ حقٌّ. من يأكلُ جسدي ويشربُ دمي يَثبُتُ فيَّ وأنا فيهِ / 45، 55، 56 )). 

السياب ويهوذا 

رتّبَ السيابُ مقابلةً بين المسيح بعد قيامته ويهوذا الذي خانه. ومعلوم أنه بخيانة يهوذا تم صلب المسيح. فهو الذي قاد الأعداء إلى المكان الذي كان فيه المسيح مجتمعاً مع أنصاره وحواريه ودلّهم عليه وشخّصه لهم بتقبيله وحده دون الآخرين (( وبينما هو يتكلمُ إذا جمعٌ والذي يُدعى يهوذا أحدُ الإثني عشرَ يتقدمهم فدنا من يسوع ليُقبّلَه. فقالَ له يسوعُ يا يهوذا أَبقُبلةٍ تُسلِّمُ إبنَ الإنسان / الإصحاح الثاني والعشرون من إنجيل لوقا، 47 و 48 )). 

في المقابلة والحوار الذي دار بين الضحية والخائن الغادر، حقق الشاعر نجاحاتٍ تخللتها بعض الإخفاقات. تكلم السيد المسيح، الضحية، أولاً فقال : 

هكذا عُدتُ، فاصفرَّ لما رآني يهوذا

فقد كنتُ سِرَهْ

كان ظلاً، قد اسودَّ، مني، وتمثالَ فكرهَْ

جُمدِتْ فيهِ واُستُلّتْ الروحُ منها 

خافَ أنْ تفضحَ الموتَ في ماء عينيهِ…

( عيناهُ صخرهَْ

راحَ فيها يُواري عن الناسِ قبرَهْ )

خافَ من دفنها، من مُحالٍ عليهِ، فخبّرَ عنها. 

لا أدري لِمَ حصر الشاعر سطرين بين أقواس ؟ هل إستعارهما من شاعر أو كاتب آخر ؟

درج السياب على وضع هوامش واضحة يُثبّت فيها مصادر معلوماته وما يأخذ من معلومات أو أشعار من غيره. فلماذا ترك هذا الأمر غامضاً ؟ ثم أوقع نفسه في مطب التقريرية والوضوح المباشر في قوله عن فكرة ضرورة أن يظلَ شخص المسيح سرياً وغير معروف لغير أتباعه ومريديه (( خاف من دفنها، من محالٍ عليهِ، فخبّرَ عنها )). ضعيف الشخصية لا يستطيع إخفاء سر… هذا هو كل ما في الأمر. هل تكلم السياب عن نفسه في هذه الجملة المفرطة بعري المباشرة التي يأباها الشعر الحقيقي وينفرُ منها ؟ عريُ الكلمات المباشرة في تحديد موقف من حدث خطيرٍ ما إنما يكشف عُريَ وعراء ومِعرّة موقف قائلها من هذا الحدث. لقد إرتدَّ  الرجل فإنقلبَ على عقيدته السياسية وسبَّ في الصحف علناً وشتمَ وأفشى أسماء بعض رفاقه القدامى. نعم، يكاد أن يقولَ المتهمُ خذوني!

كذلك وضع الشاعرُ كلامَ يهوذا بين أقواس، لكنها جاءت هذه المرة صغيرةً مزدوجة.  وليس واضحاً سبب ذلك. ماذا قال الخائن يهوذا وهو في حضرة المسيح وجهاً لوجه ؟

لنستمع :

- " أنتَ ! أم ذاك ظلي قد ابيضَّ وارفضَّ نورا ؟

أنتَ من عالمِ الموتِ تسعى ! هو الموتُ مرّةْ.

هكذا قال آباؤنا، هكذا علّمونا فهل كان زورا ؟ " 

لم يحقق السطر الأخير ما أصاب السطران الآخران من نجاح فني مرموق. إنه غاية في التسطح والبساطة إلى أقصى حدود السذاجة. قال لنا آباؤنا إنَّ الإنسانَ يموت مرة واحدة فقط !! هل في هذا الكلام شعر أو شيء من الشعر ؟ أشكُّ كثيراً في ذلك. ثم ما قيمة أن يُنكر يهوذا قيامة المسيح وبعثه بعد موته (( أنتَ من عالم الموتِ تسعى )) … إذا كان هو نفسه من خان سيده وقائده الروحي ؟ 

في المواجهة الكلامية بين المسيح ويهوذا نضع اليد على مفارقة طريفة أحكم الشاعر قبضته عليها فأبدع في تصويرها. الروح الخالد والذي بجسده يخلد البشر هو النقيض المباشر للخيانة ولمن يخون الأمانة. الروح الخالد يمثّلُ البياض، رمز النقاء. بينما يجد الخائن 

نفسه غارقاً في السواد، في الظلمة. يقول المسيح قاصداً يهوذا :

(( كان ظلاًّ، قد اسودَّ، مني، وتمثالَ فكرَهْ ))

يهوذا هو الطبعة السوداء للمسيح. وبلغة التصوير الفوتوغرافي هو ال Negative . هو

الظل الأسود والنقيض المضاد للبياض، وفكرة ميتة لا حياةَ فيها، تمثال.

يرد يهوذا إذ فوجيء بشخوص المسيح أمامه :

(( أنتَ ! أم ذاك ظلي قد ابيضَّ وارفضَّ نورا ؟ )) 

يهوذا لا يعترف بالمسيح. يصرخ مستنكراً ومُستكثراً على من يرى أن يكون هو المسيح.

فالمسيح مات والموتى لا يعودون من سفرتهم الأبدية. يهوذا هو ظل المسيح الأسود. والمسيح هو ظل يهوذا الأبيض. (( إبيضَّ وارفضَّ نورا )). لماذا تعمّدَ الشاعر هذا السجع

في (( إبيضَّ وارفضَّ )) ؟ زيادة في شدة بياض النقيض ونقائه. يتحول الظل الأسود إلى البياض أولاً ثم ينفجر النور منه. وهذا بالضبط ما يحصل في تعاقب الليل والنهار. ظُلمة الليل يعقبها السَحَرُ ثم الفجر فالصبح المُشرق ثم الضُحى فتمام الهار. تماماً كما يحدث في عالم المعادن إذ تحمى بالحرارة فتسخن أولاً ثم تحمرُّ ثم تبيضُّ قبل أنْ تتحول إلى غاز بالتبخّر.  

أبدع السياب في إجرائه لهذه المقابلة بين الأضداد. وتستحضر في ذهني شخصية المسيح الدجّال في التراث المسيحي، والأعور الدجّال ( ضديد المهدي، القائم المُنتظر ) ومسيلمة الكذّاب ( نقيض النبي محمد ) في تراثنا الإسلامي. كما قد يكون إبليس الذي عصى ربّه وإستكبر  ورفض السجود لآدم هو نقيض أبينا آدم. ظله أو نسخة اللوح الفوتوغرافي السوداء. (( قال ما منعكَ ألاّ تسجُدَ إذْ أمرتُكَ قالَ أنا خيرٌ منهُ خَلَقتني من نارٍ وخلقتهُ من طينٍ. سورة الأعراف، الآية 12 )). في النار حرارةٌ وضوء يستحيل الإمساك بهما بينما في الطين برودة وقوام معتم يمكن الإمساك به وتطويعه وتشكيله بأي شكل تقتضيه الضرورة.

كلمة أخيرة : معروف عن السياب إعجابه بالشاعر المصري علي محمود طه، صاحب قصيدة الجندول التي غنّاها محمد عبد الوهاب. وقد وجدت آثار هذا الإعجاب في بحر وتقفية هذا المقطع التي تّذكّرني بقصيدة الجندول إياها حيث قال شاعرها في بعض مقاطعها :

بين كاسٍ يتشهى الكَرمُ خمرَهْ

وحبيبٍ يتمنى  الكأسُ  ثغرهْ

إلتقتْ عيني  بهِ… أولَ مرّةْ

فعَرفتُ الحبَّ من أولِ نظرَهْ .

أنتقلُ إلى المقطع الأخير في هذه القصيدة متجاوزاً بقية المقاطع، لأنه ختام ممتاز رائع الصياغة ومسربلٌ بالمعاناة الحقيقية التي نجح في تجسيّدها السيابُ بمقدرة واضحة وحرارة  يحسها قاريء القصيدة :

بعدَ أنْ سمّروني وألقيتُ عينيَّ نحوَ المدينةْ

كدتُ لا أعرفُ السهلَ والسورَ والمقبرةْ

كان شيءٌ، مدى ما ترى العينُ،

كالغابة المزهرةْ،

كانَ، في كلِّ مرمىً، صليبٌ وأمٌّ جزينةْ

قُدِّسَ الربُّ !

هذا مخاضُ المدينةْ. 

هل شاهد السيابُ فيلم ( سبارتاكوس ) قائد ثورة العبيد في روما ؟ لقد شاهدتُ في هذا الفيلم صوراً لمشاهدَ كتلك التي رسمها الشاعر في هذا المقطع. بعد فشل الثورة تم رفع  سبارتاكوس مُشبّحاً على صليب في صفين لعدد لا يُحصى من الصلبان مثبّتٍ عليها الرجال الذين ثاروا معه. لقد خفض سبارتاكوس رأسه وهو معلّق على الصليب وتكلّمَ مع المرأة التي أنجبت طفلاً منه. الطفل رمز لإستمرارية الثورة. إنه يمثل جيلاً جديداً سينهض بالمسؤولية. وهذا ما قاله الشاعر بدر شاكر السياب في ختام قصيدته " المسيحُ بعد الصلب "…(( كان في كلِّ مرمىً صليبٌ وأمٌّ حزينةْ )). إنتشرت المسيحية بعد مقتل المسيح وأصبحت ديناً عالمياً (( كان شيءٌ مدى ما ترى العينُ كالغابة المُزهرةْ )). 

رغم ما إعتورها من خلل هنا أو هناك، نتيجةً لإخفاق الشاعر في السيطرة المطلقة على هندسة المنطق الفكري أو في صياغة القوالب الشعرية، فإني لأعتبر هذه القصيدة قمة هرم موهبة بدر شاكر السياب. لا أحسب أنَّ أحداً ممن نعرف من شعرائنا قادرٌ على إصابة كل هذا القدر من النجاح فيما لو حاول معالجة هذا الموضوع المتشعب والمُعقّد. 


                            عبد الوهاب البياتي 

                          (( 1926  - 1999 ))  

قصيدة " المسيح الذي أُعيدَ صلبه " (( ديوان عبد الوهاب البياتي / المجلّد الأول. دار العودة، بيروت الطبعة الرابعة 1990 )).

لا تمتُّ هذه القصيدة للمسيح بأيما صلة. فلماذا منحها هذا العنوان الدرامي المثير ما دام قد كتبها وأهداها للمناضلة الجزائرية " جميلة بوحيرد " التي إعتقلها وعذّبها جنود الإحتلال الفرنسي آواخر عام 1957 أو أوائل عام 1958 ؟ ثم ما الذي يجمع بين هذه المرأة الجزائرية المسلمة والسيد المسيح ؟ كانت واحدةً من بين مئات آلاف المجاهدين والمجاهدات الجزائريات ممن قلبوا الدنيا على المستعمر الفرنسي سواء بالتظاهرات السلمية في فرنسا ومدن الجزائر أو بحمل السلاح وخوض المعارك الدامية في الجبال والقرى وبعض المدن الجزائرية. كانت ثورة المليون شهيد. أفلن يجد البياتي مثالاً آخر يقارنه بالمسيح ؟ إنَّ جميلة بوحيرد لم تُستَشهد ولم تُشنق أو تصلب كما كان الحال مع عيسى المسيح. أمرها معكوس، فلقد كانت تقاتل محتلاً مسيحياً حاول ( فرنسة وتمسيح ) شعبها وبلدها وإنتصرت أخيراً وتم طرد المحتل من وطنها. كانت تقاتل جبروتاً وطغياناً محسوبين على المسيح ولا أقول إنها كانت تقاتل المسيح نفسه. كتب وقتذاك الكثير من الشعراء والكتاب عنها وعن محنتها، وهكذا فعل البياتي. فلماذا أعطى محنتها عنواناً لا علاقة له بها ؟ 

كتب السياب هو الآخر قصيدة أسماها ( إلى جميلة بوحيرد ) ظهرت في ديوانه ( أُنشودة المطر ) الذي طُبِع ونُشِر عام 1960. وجاءت بعدها مباشرةً في الديوان قصيدة أخرى أعطاها العنوان ( رسالة من مقبرة ) أهداها إلى ( المجاهدين الجزائريين ). قصيدة السياب 

( إلى جميلة بوحيرد ) سبقت بالطبع تأريخ نشر الديوان بعامين في أقل تقدير. لا أدري من سبق الآخر في الكتابة عن جميلة بوحيرد، السياب أم البياتي ؟   

 لقد ثبّتَ البياتي تأريخ كتابة قصيدته ( المسيح الذي أُعيدَ صلبه ) … ثم قال ( إلى جميلة بوحيرد ) في 7-3-1958 حين كان في دمشق. هل كتب السياب قصيدته ( المسيح بعد الصلب ) قبل هذا التأريخ بقليل ؟ بعده بقليل ؟ الطريف أنَّ السياب هو الآخر أشارَ في قصيدتيه عن جميلة والمجاهدين الجزائريين إلى المسيح حيناً وإلى بعض فصول محنته أحياناً أُخرَ. لديَّ شعور غير مؤكد تماماً أنَّ السياب كان هو الأسبق في كتابة قصيدته ( المسيح بعد الصلب ). ثم كتب البياتي بعد ذلك قصيدته حول جميلة بوحيرد ذات العنوان المُشابه ( المسيح الذي أُعيد صلبه )  فظهرت في ديوانه ( كلماتٌ لا تموت ) الذي نشره كذلك عام 1960 حين كان ما زال في موسكو. 

ما علّة هذا الشبه الكبير بين عنواني قصيدتين لشاعرين عاصر أحدهما الآخر،كتباها في زمنين متقاربين ؟ 

السياب : المسيح بعد الصلب ( ثلاث كلمات ).

البياتي : المسيح الذي أُعيدَ صلبه ( أربع كلمات ).

  قلتُ ليس في قصيدة البياتي ذات العنوان المثير ( المسيح الذي أُعيد صلبه ) أية علاقة أو إشارة إلى المسيح. مع ذلك، سأذكر بعضاً مما جاء في مقدمتها لإنارة الموقف أمام القاريء 

 

كلَّ ما قالوه كَذْبٌ وهُراءْ 

اللصوصُ الشعراءْ

الحُواةُ الأغبياءْ

أنني احسستُ بالعارِ لدى كلِ قصيدةْ

نظموها فيكِ

يا أُختي الشهيدةْ 

وأنا لستُ بصعلُوكٍ منافقْ

ينظمُ الأشعارَ مزهوّاً 

وأعوادُ المشانقْ

لأخي الإنسانِ، بالمرصادِ

أعوادُ المشانقْ

حتى يقول :

يا جميلةْ

إنَّ ثلجاً أسوداً 

يغمرُ بستانَ الطفولةْ

إنَّ برقاً أحمراً 

يحرقُ صلبانَ البطولةْ

إنَّ حرفاً 

مارداً 

يولدُ في أرضِ الجزائرْ 

يولدُ الليلةَ

لم تظفرْ به ريشةُ شاعرْ.

مجرد كلام عادي خالٍ من حرارة العاطفة الصادقة ومن المعاناة الحقّة.كلام مُقطّع الأوصال، مُسطّر ومُدوزن بموسيقى البحر.كلمة في السطر الواحد أو كلمتان أو ثلاث. صرّف الممنوع من الصرف مرتين فأساء إلى لغته. أعني ( ثلجاً أسوداً ثم برقاً أحمراً). ثم، ما علاقة الصلبان ( صلبان البطولة ) بنضال شعب الجزائر المسلم من أجل الإستقلال بقيادة مجاهديه؟ عنوان القصيدة شيء ومحتواها شيء آخر !! 

بلى، سأذكر قصيدتين أُخريين ( ديوان البياتي، المجلّد الأول ) أشار فيهما إلى المسيح، أولاهما ( إلى عام 1957 ) والأخرى ( صليب الألم ) كتبها عام 1950 فجاءت موزونةً ومقفّاة على عمود أحد بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي،كدأبه في تلكم الفترة من مسيرته الشعرية.

في أدناه بعض النماذج مما قاله عن عيسى المسيح في قصيدة ( إلى عام 1957 ):

واغرورقت عيناهُ بالدموعْ

وقالَ لي :

يسوعْ

بالأمسِ مرَّ من هنا، يسوعْ

صليبهُ غصنانِ أخضرانِ

مُزهِرانْ

عينانُ كوكبانْ

طلعتهُ حمامةٌ مِشيتهُ أغانْ.

بالأمسِ مرَّ من هنا

فأزهرَ البستانْ

واستيقظَ الأطفالُ، لا أحلى

وفي السماءْ

كانت نجومُ الليلِ

كالأجراسِ

كالصلبانْ

غرقى بدمعي كانت الأحزانْ

طريقَنا للحبِ والنسيانْ

وأرضُنا الخضراءُ في مخاضها

مُثخَنةُ الجِراحْ

تحلمُ بالزنبقِ والصباحْ

تحلمُ في ألفِ يسوعٍ سوف يحملونْ

صليبهم في ظُلمةِ السجونْ

وسوف يكثرونْ

وسوف ينجبونْ

ذُريّةً تزرعُ أرضَ اللهِ ياسمينْ

تصنعُ أبطالاً وقدّيسينْ

تصنعُ ثائرينْ.

ذكر البياتي يسوع وصليبه لأنّ المناسبة كانت تستوجب ذلك : إحتفالات ميلاد المسيح ورأس سنةٍ ميلادية جديدة… حسب ما درج عليه العالم المسيحي في كل عام.

القصيدة الأخرى هي ( صليب الألم ). قال الشاعرُ فيها :

في  طريقي  إلى الظلامِ البعيدِ

صلبَ الليلُ بالفراغِ وجودي 

لظلالِ   الفناءِ   أعصرُ    قلبي

ولإبنائهِ     أحزُّ       وريدي 

كم مشى " قيصرٌ " عليَّ لنصرٍ

وتغنّى بمجدِ " فرعونَ " عودي

وبنيتُ الأهرامَ والقيظُ يشوي

رأسيَ المُتعبَ الحزينَ وجيدي

ولثمتُ   الأيدي التي لطمتني

وتفانيتُ   في  هوى معبودي

ثم إختتمها بالقول :

يا صليبَ العذابِ ! خُذني حطاماً

ويكَ خذني ! إلى صليبٍ جديدِ ! 

لقد كرّسَ الشاعر معظم مضمون القصيدة للتذكير بجهود العمال الذين يُشيدون المعالم العظيمة كالأهرام، والجنود المجهولين الذين يبذلون دماءهم لتحقيق إنتصارات يفخربها الملوك والرؤساء وتحسب لهم لا لمن ضحى بدمائه في حروب لا ناقةَ لهم فيها ولا جَمَل.

كلمة أخيرة

حاولتُ في هذه الدراسة أن أُلقي بعض الأضواء على سؤالي السابق : ما الذي يُغري شعراء مسلمين، قدامى وجُدد، بالإفادة من تراث الأديان الأخرى وخاصة الديانة المسيحية ؟ وربما يتساءل متسائلٌ : أليس في الإسلام والتأريخ العربي ما يكفي من رموز وتراث وعِبر وأحداث قادرة على أنْ تُلهم الشعراء بما شاءوا من إبداع ؟ 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق