ليس كما يظن البسطاء أن نشاط القراصنة دائما مرادفا لسلب ونهب القوافل التجارية في أعالي البحار، ففي أيامنا هذه امتدت عمليات القرصنة كمفهوم إلى مجالات أخرى فكرية وعلمية وتقنية أكثر حداثة وأشد تطورا وهي ليست متاحة لأي فرد فهي لعباقرة هذا الزمان فقط، ولا شك أن الأمر سيحمل من الغرابة ما قد يصعب تصوره .
إنه الشاب الجزائري حمزة بن دلاج من مواليد 1988تخرّج مهندسا في الإعلام الآلي من الجامعة الجزائرية عام 2008 وبعدما درس صيانة أجهزة الكمبيوتر اتجه إلى عالم القرصنة الالكترونية وعمل على اختراق المواقع والحسابات بالبنوك والمؤسسات المالية حول العالم، جمع من خلالها ملايين الدولارات. اتهمه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي باختراق 217 حسابا بنكيا ، واختراق أكثر من 50 مليون حاسوب حول العالم فوضعه على رأس قائمة الشخصيات المطلوبة عالميا باعتباره أخطر " هاكر".تم القبض عليه عام 2013 بالعاصمة بانكوك ـ تايلاند بالتعاون مع الإنتربول ،وتم نقله إلى الولايات المتحدة حيث حُكم عليه بالسجن 10 سنوات ،وعاد بعدها إلى بلاده.
لم يكن بن دلاج بالقرصان العادي، أولا لمستواه التقني العالي ، وثانيا لنبل أخلاقه !نعم لقد وجه الأموال التي جناها من عمليات قرصنة الحسابات البنكية والمصرفية إلى ما تراءى له من أعمال الخير للشعوب الفقيرة ، ولضحايا الحروب والنزاعات المسلحة وضحايا الإرهاب والمنكوبين جراء الكوارث الطبيعية ..
لقد أرضى بن دلاج غرور نفسه وأثبت لذاته قدراته الفذة في التعامل مع التكنولوجيا الحديثة والتحكم في أدق تقنيات العصر وأعقدها، لقد نجح بالفعل فيما يصعب بل يستحيل على آخرين عمله ، وأثبت لمن يحتكرون العلم ويبخلون بالمعرفة أنه قادر على إظهار حقيقة حجمهم ،فهم لا يفوقونه علما ومهارة هذا أولا ، وثانيا كان أسمى منهم أخلاقا عندما وضع كل شيء في يد الجمعيات الخيرية لخدمة الإنسانية ، فيصبح مفهوما أن ما أقدم عليه كان موقف رفض ومظهر اعتراض احتجاجا على استقطاب المال بيد قلة في العالم من أجل استغلاله في التحكم بمصائر الشعوب المضطهدة والإنفاق على التسلح وعلى برامج السباق النووي من أجل أوهام السيطرة والتوسع .
ليس المقصود تبرير ما قام به هذا القرصان الشاب، ولا تلمس أسباب ما فعل ، ولكنها هي الابتسامة العريضة التي ظهر بها في مختلف المواقف الحرجة وفي كل الأوقات، إنه ليس أمام موقف فكاهي يستدعي هذه الابتسامة العريضة وهو وسط رجال الأمن ، ثم وهو يستمع إلى الحكم بسجنه، لقد كانت زوجته حاملا منه ووضعت طفلا لم يره بعد ذلك إلا فتى يكاد يتساوى معه في طول القامة، الابتسامة لم تفارقه، إنها ابتسامة مشابهة لابتسامة أخرى في ظرف أشد قساوة ، ابتسامة باقية في الذاكرة الجماعية للجزائريين لقد شدوا بها عزمهم في ثورة التحرير وزغردت لها النساء ، ابتسامة " قاتلة " للشهيد العربي بن مهيدي وهو مكبل اليدين أسيرا وسط جنود الاحتلال الفرنسي ، ابتسامته وهو في طريقه لتنفيذ حكم الإعدام عليه شنقا عام 1957 فهل حملت ابتسامة بن دلاج رسالة مشابهة لابتسامة الشهيد العربي بن مهيدي ، كلاهما كان فعلا في قبضة العدو ، كلاهما أدين بتهمة اقتضت تسليط العقوبة ، كلاهما ابتسم للعدو ساخرا، ، وأن ابتسامتهم تعبير عن فخرهم بما فعلوا وعظمة ما يشعرون به وفي ذلك تقليل واحتقار لشأن عدوهم ، بن دلاج أراد التأكيد على أنه سليل المجاهدين والشهداء.الأول لقي ربه شهيدا مغفور له بإذن الله، والثاني عاد إلى بلدته وسط أسرته فخورا بما نفذهوقام به وراضيا بما كان يريده لخير العباد..ولكن بطريقته العبقرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق