بِالقربِ مِن جُزُرِ ميامي الأمريكيّة The Magic City/ الأب يوسف جزراوي



وقفتُ فيما مضى، كظلٍّ يَتوكأ مُستندًا على نفسِه في ظهبرةِ الشّمسِ لادفئ كتابات بدأَ صقيعُ البَرْدِ ينالُ منها، ولأنَّ الأفياء تستهويني، وجدتني أكتبُ في فيءٍ ينسخهُ الظّلّ!

أما اليومَ، مرّة أُخرى في زُرقةٍ سماءِ ليلٍ يُعكِّر هدوئه تحلّيقُ  الطّائراتٍ بِلا هوادةٍ تجلي المنكوبين. أُطلِقتُ جناحيَّ طائري، أما نظري فكانَ صوب  جُزُرِ ميامي الأمريكيّة The Magic City.

هُناكَ يخيلُ لي، كنتُ أمشي  مع ظلّيّ ومظلّتي كلَّ عصرًا في الشّمسِ  وأعودُ إليَّ في اللٌيلِ مع المظلّةِ  بِلا ظِلٍّ.

في هذه الّليلةِ رفعتُ عيني نحو السّماء بالقول:

 أيعقلُ هذا يَا أبُّها الّليلُ؛ فانّي أكادُ بِالكادِ أترنحُ بينَ الظّلِّ والفيءَ، بينَ بحرٍ ومحيطٍ، ولا أخفيكم سرًّا كَمْ متعبٌ أنَا كغيريّ بسنواتِ ترحالي .

لقد نامتِ الزهورُ ورحلتِ الطيورُ ولا شيءَ هُنا سوى الصّمت والخواء، قصدتُ شاطئًا، فكنتُ كالعادةِ على أمواجهِ شراعًا يبتسم لرياحِ بحار الغربة ومحيطها وشطآنها،

استمعت لموسيقى Ciovinni marddi  وغيره، إذ أنني كَم مِن مرّة ومرّة كنتُ في هدأة اللّيلِ أكتبُ النّصوصِّ وأرتلُ الصّلواتِ، ولكنَّ اليَومَ الأمطار تتساقط بحياءٍ والرّياح ليس بالعاتيّة. 

وأنا أمارسُ رسالة الكتابة، كنتُ ألحظُ أقدام موحلّةٍ لعابرينَ، تخطو على رمال السَّاحل النّديّة وتتركَ أثرًا.

فيما بعد، كنتُ الهث وأنا أركضُ لمخبئ، علّه يصدَّ المطر عنّي، التقطُ فيه أنفاسي.  رغم كُلّ هذا،  الأجواءُ هُنا ملهمة لكتاباتٍ وجدانيٌة روحيّة لا عبثيّة فيها، تبثُ رجاءّا  يفوح منه الأمل.

وبينما أنَا أكتبُ كانتِ العواجلُ تأتيني بينَ الفينةِ والفينة عبرَ الهاتف النقال، تارةً عن نتائج غاراتٍ جويّة، وتارة أُخرى عن فياضانات سويت ناطحات سحابٍ بِالأرضِ في فلوريدا... 

وغالبًا مَا يحدثَ أيضًا نباح الكلاب لا يهدأ، فيضايقني ويعكّر منشوراتي.

الآن السّماء تنذر بِالمطر الغزير، وأنا مِن هواة المطر؛ بيَنمَا نبرة الريح بدأت تعلو وأخذ صدأها يرتفع، أما قرطاسي النّدي المبدوغ برمالِ السّواحل وتبع الغليون ورذاذ القهوة، مَا عاد يسعفني على الكتابةِ.

اليومَ باتَ المطرُ قيدًا آخر  على القيود الّتي تكبلّني وتقيّد حريتي، والنضج قيدٌ يقيّد؛ بيدَ أنّني أحاول أن ابتكرَ نصًا شعريّا منثورًا أو قُل سرّديّا جديدًا يقولني ويُخلدني، رغم أنّني لستُ شاعرًا؛ وقد يكونَ لي صوتٌ خفيضٌ بينَ جوقةِ السُّعراءِ الكبارِ.

 للأمواج هُنا موسيقى  لعلّها لا تطربني كما كانت في غيرها مِنَ البلدانِ، تتناغم مع حفيفِ الأشجار، هكذا اعتدتُ أن اسقيَّ البحار مِن نصوصي وكتاباتي، وهذا قلّما مَا حصل في أمريكا!.

أما اليوم مِن أُستراليّا/ سيدني، أكتبُ إلى وعن تلكَ البلادُ الّتي أحُبُ وأعشقُ، الّتي كانت يحتَسي ذهنها أفكاري بنهمٍّ رشفةً .. رشفة وتلتهم كتبي ومقالاتي قضَمة قضمة بلذةٍ مُنذ أكثر مِن عقد، فصورتها لم تزل تركض أمامي، لكنّني لطالما تسائلت عن العكاز الّذي بيدها اليوم وهي تتكأ عليه رغم صغر سِنها، ألا يوجع أرصفة التمشي ورمال السَّواحلِ؟!.

إنَّ للتّرحالِ دروبًا، ومَا الدربُ سوى مسافةٍ، طريق، فيه بوحٌ،  ووحدَه طائرُ اللّيلِ ( السنونو)الّذي يحومُ في سمائي، كَانَ شاهدًا على بحارٍ وانهارٍ ومحيطاتٍ لم تفتح قلبها إلاّ لسواي، وكأنّني الصاغي لها وحدي، رغم أنَّ لكلَّ واحدة  طريقتها أو وسيلتها أو نوعية أحاديثها في بوحها، هكذا اعتدت بلاهتها!. 

ببحّة صوتٍ ناجيتُها : أيِّ بلدانٍ تلكَ الّتي تبوح أسرارها لغريبٍ مرتحلٍ على شاكلتي، فالكثيرُ مِنَ العابرينَ والزوار ومِن ضمنهم أنَا، مروا مِن هُنا مرارًا وتكرارًا، بخطوات حافية القدمين، ربّما لأنّني أعتدت على السواحل الكتابة ليلاً واستجماع مَا تبعثر منّي في غربتي، وهي تعزف وتبوح لي تحت بندِ ( سرِّ الإعتراف)، الله أعلم!.

فإلى وحتّى متى تغالبني الأسفارُ، ودعوني في الختام أبوحُ لكم بسرٍّ: ليس التّرحالُ بذلكَ السوءِ الذي يعتقده البعضِ أو يقرأه في كتاباتي ونصوص سواي، فإنكَ قد لا تغدو إنسانيًّا دونَ ترحالٍ. هذه هي خلاصة الكلام.

هناك تعليقان (2):

  1. الرب يحميك و يحفظك بكل خطواتك ابونا آمين 🙏

    ردحذف
  2. الرب يحميك ابونا الغالي🙏🙏🙏

    ردحذف