إشكالية الدين والوطن/ فؤاد الحاج



هل الحرب الدائرة في فلسطين وفي لبنان تشكل نقطة انعطاف وتحوّل بارزة في مسار الحركات الوطنية والقومية، التي يحسب بعض المنظرين السياسيين في الغرب كما في بلدان المنطقة، خاصة الذين يظهرون على شاشات الفضائيات الناطقة بالعربية، تلك الحرب التي يقودها غُلاة الصهاينة في فلسطين المحتلة وفي محافل الشر الدولية بقيادة إدارات الشر الأميركية المتعاقبة الذين يعتقدون أن نهاية القضية الفلسطينية قد أُزفّت، وبأنّها باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة؟

ففي ظل ازدياد القناعات لدى شعوب المنطقة وكل الأنظمة العربية، ومناخات الإحباط التي تسود بعد الانقسام الفلسطيني الفلسطيني منذ "اتفاقية أوسلو 1993" ومتفرعاتها التي أدت إلى شرخ كبير في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية والحركات الرافضة لتلك الاتفاقية، ومعهم الحركات الوطنية والقومية في الأقطار العربية، لابد أن نلقي نظرة سريعة على مجريات الأحداث بعد المفاجأة المُدوّية التي أذهلت الجميع ووضعتهم في حيرة وارتباك بين مؤيد ومساند ومترقب وبالعكس، ألا وهي ما بات يعرف بـ"انتفاضة الأقصى" التي قسمت ظهر البعير، وانقسمت معها الشعوب بين مؤيد و"ممانع"، فمنهم من اعتبر أن تلك الانتفاضة قد أعادت مناخات وأجواء تحرير فلسطين، وحطّمت كل أوهام تركيع الشعب الفلسطيني، حيث أظهر شعب فلسطين من الشجاعة والجرأة والإقدام، والاستعداد للتضحية من أجل حرية الوطن. في فترة اعتقد فيها أعداء الإنسانية أن الثورة قد أخمدت في النفوس، وأن الشعوب قد استكانت تحت طبقات اليأس التي نتجت عن التراجعات المتكررة الناجمة عن تحولات ما بعد "اتفاقية أوسلو"، واتفاقيات التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني التي بدأت فعلياً بـ"اتفاقية كامب دايفيد 1979" بين مصر والكيان الصهيوني، التي تلاها "اتفاقية وادي عربة" 1994 بين الأردن والكيان الصهيوني، ثم بقية الأنظمة العربية في منطقة الخليج العربي في السر والعلن، ثم ما سمي بـ"الاتفاقيات الإبراهيمية" أو "اتفاقيات أبراهام" برعاية أميركية بقياد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث وقعت الإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني في آب/أغسطس 2020 تلك الاتفاقية التي استخدمت لاحقاً مصطلح "اتفاقيات السلام" للإشارة بشكل جماعي إلى البلدان الخليجية التي وقعت تلك الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني ومنها مملكة البحرين في أيلول/سبتمبر من العام نفسه، وأشير هنا إلى أن العلاقة القطرية مع الكيان الصهيوني فقد بدأت بإنشاء علاقات تجارية منذ سنة 1996، وبتاريخ 23 تشرين الأول/أكتوبر 2020 أعلن الكيان الصهيوني والسودان عن إقامة علاقات دبلوماسية رسمية لأول مرة، و"الذي سيعمل على تسوية العلاقات بين البلدين وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما"، ثم قامت المملكة المغربية بتطبيع العلاقات مع هذا الكيان بتاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر 2020، أما العلاقات التونسية مع الكيان الصهيوني فهي قديمة تعود إلى خمسينات القرن الماضي دون أن يكون هناك تمثيلاً دبلوماسياً رسمياً كما هو متعارف عليه، إنما كان هناك مكاتب يسمونها مكتب "رعاية المصالح" لتسهيل المشاورات السياسية، والسفر، والسياح، والتبادل التجاري بين البلدين، وقد افتتح الكيان الصهيوني مكتب "رعاية المصالح" في تونس في نيسان/أبريل 1996، وقامت تونس بافتتاح "مكتب اهتمام" في تل أبيب في شهر أيار/مايو من العام نفسه، وعلى الرغم من الجدل الدائر في تونس في عهد الرئيس قيس سعيّد، وخوف التوانسة من لحاق بلدهم بالدول العربية التي طبعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني قبل تسوية "الصراع العربي-الإسرائيلي" وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس المحتلة، فأن موقف تونس يتأثّر بموقف الجزائر التي تؤكد على رفضها التطبيع، وقد أكد الرئيس سعيّد معارضته القوية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ويعتبر أن التطبيع يشكّل "خيانة عظمى"، ودون أن أطيل في ذلك فأن عدداً من دول المغرب العربي تتحفظ على التطبيع مع الكيان الصهيوني.

من خلال ما تقدم وضمن هذه السياقات، لا بد من العودة إلى التاريخ القريب للقضية الفلسطينية في غزة وفي الضفة الغربية، حيث برز فيهما تطور نوعي في بُنية الخارطة السياسية العربية عامة والفلسطينية خاصة من خلال بروز قوى التيار الإسلامي السياسي الفلسطيني الممثل بحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" اللتين هما امتداداً لـ"جماعة الإخوان المسلمين" في قطاع غزة والضفة الغربية، اللذين أصبح لهما حضوراً مميّزاً من خلال الشعارات الدينية التي رفعوها بين طلاب الجامعات ومنها الجامعة الإسلامية بغزة، وفي جامعة بيرزيت التي تنوّعت داخلها التيارات السياسية والإسلامية، وكذلك الأمر في جامعة النجاح في نابلس، مما عزز المناخات المسيطرة آنذاك على ضرورة تحريك الوضع الداخلي لمواجهة الاحتلال الصهيوني، إثر ذلك تنوعت أساليب مقاومة الاحتلال، ثم الانتفاضات المتتالية والتي كان يشارك بها معظم التيارات السياسية الفلسطينية، ولاحقاً رفضت "حماس" و"الجهاد" معظم المواقف السياسية للقوى الفلسطينية الوطنية والقومية واليسارية والعلمانية، التي كانت تستبعد الإسلام السياسي عن إدارة الصراع، تماماً كما حدث لاحقاً في جنوب لبنان، وبرزت آنذاك إشكالية الدين والوطن، أو العروبة والإسلام، التي كونت فجوة كبيرة بين التيار الديني من جهة، والتيار الوطني والقومي من جهة ثانية، ما شكل تناقضاً بين ما هو ديني وما هو وطني في العمل النضالي، ثم امتد ذلك إلى ساحات الأحزاب والقوى الوطنية والقومية في الأقطار العربية، التي نتج عنها شعارات ربطت ما بين الدين وبين العروبة، دون أن تستوعب تلك الأحزاب والتنظيمات والقوى الوطنية والقومية، العمل المستقبلي المشترك، ووضع مشروع نهضوي شامل لكل أطياف المجتمع العربي، إن في فلسطين المحتلة أو في أرجاء الأقطار العربية التي تضم أطيافاً من الديانات الأخرى في تلك الأقطار.

ومع خوض تلك الأحزاب والقوى الوطنية والقومية وجماعات الإسلام السياسي في صراعات عقائدية وفكرية فيما بينها عبر التطورات المتسارعة والأحداث الجسام في المنطقة والعالم، التي لم تتوقف حتى الآن، ولم يتمخض عنها سوى بيانات تدعو إلى وحدة الصف وتحقيق الديمقراطية، ثم بيانات إدانة العدو الصهيوني ومطالبة المجتمع الدولي بالتحرك لفرض العدالة في فلسطين وفي لبنان، في ظل صمت عربي رسمي ودولي مريب إزاء جرائم الصهاينة في فلسطين ولبنان، ما أدى إلى ضعف تأثير تلك القوى في الجماهير وفي الشارع العربي التي لم تعد تؤمن بالشعارات الطنانة وانصراف معظمها إلى البحث عن لقمة عيش وعمل وثمن حبة دواء وعن وطن يعيشون فيه بكرامة، ناهيك عن الانشقاقات الداخلية في تلك الأحزاب والتنظيمات، وابتعاد شخصيات وقيادات وطنية وقومية بات كل منها يركز على القضايا القطرية!

فهل صحيح أن القضية الفلسطينية تلفظ أنفاسها الأخيرة في ظل شرق أوسط صهيوني جديد، ونظام عالمي جديد لم تتجلى ملامحه حتى الآن؟ فمتى ستنتهي إشكالية الدين والوطن؟ أم باتت الأمة وأحزابها تعيش خارج اللحظة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق