المتنبي في موسكو/ د. عدنان الظاهر

 


فاجأني صديقي المتنبي صباح هذا اليوم بطلب غريب : أن نزور العاصمة الروسية موسكو معاً !! قلت له ولماذا هذا الإختيار الصعب في مثل هذه الأيام ؟ قال أصبح العالم بفضل العولمة قرية كبيرة ـ كما تدّعون ـ كما غدا الناس بفضل ذلك إخواناً لا فرق بين روسي وكندي وأمريكي . ولا فرق بين عراقي وحجازي ونجدي . ولا فرق بين يمني ومصري أو سوري ... ولا فرق بين سني وشيعي أو عربي وكردي وتركماني ويزيدي أو مندائي. كانت السخرية شديدة الوضوح في لهجة الشاعر صاحب هذا المقترح . مع ذلك وافقت على تنفيذ رغبته بأسرع ما أستطيع . كنت في الحقيقة ومنذ زمن طويل توّاقا ً أن أزور مدينة موسكو التي درست فيها وقضيت هناك ستة أعوام كاملة بخيرها وشرها ( أيلول 1962 ـ أيلول 1968 ) . سألني صاحبي فيما لوكنت قد نسيت اللغة الروسية التي أتقنتها لغةً وكتابة ً وقراءةً كأي روسي أصيل ؟ قلت قد نسيت بعضها ، لكني قادر على إستعادة لياقتي اللغوية سريعاً حين أجد نفسي في أجواء روسية من بشر ولغة وسواهما . قال هيا إذا ً ... توكل وقد عزمنا . 

ما أن حللنا في فندقنا في وسط المدينة حتى إشتعل في خافقي شوق غريب للإلتقاء ببعض أصدقائي القدامى وبعض معارفي الجُدد ممن آثر البقاء والإقامة الدائمة هناك كلا لظروفه الخاصة .... زواج من سيدة روسية أو دراسة متواصلة  أو تجارة وغير ذلك . ماذا عن الصديقات القديمات ، الصديقات الحميمات من ساكنات المدينة في شققهن الخاصة وماذا عن زميلات الدراسة والحياة المشتركة في قسم داخلي واحد متجاورين على طابق واحد أو على طابقين مختلفين في نفس البناية ؟ أين سأجد الصديق القديم النبيل دكتور ( سلام علي شهباز ... أبو سمير ) ؟ أين سأجد إبن المسيب  دكتور فلاح حسن عبود ؟ وأين سأجد المدرسة السيدة ( زويا ) الأولى و طالبة جامعة موسكو ( زويا ) الثانية ؟ أين سأجد فلانا ً وفلانا ً

 وفلانة وفلانة من الزميلات والصديقات ؟ من رحل منهم ومنهن َّ ومَن بقي على قيد الحياة ؟ أسئلة كثيرة محيرة أحاول أن أجد لها حلولاً عاجلة لكي أُشفي غليلي المتعطش لمعرفة أحوال وظروف هؤلاء الناس . غريب شوق الإنسان ! يأتي بغتة ً ويزول سريعاً . قلت سأتريث في موضوع الأصدقاء وأعطي الأولوية لتعريف صاحبي بأهم معالم المدينة الجديدة التي ما تغيرت كثيراً منذ أن غادرتها أوائل شهر أيلول عام 1968 . تمشينا في شارع ( كوركي / غوركي ) الشهير فعادت لي ذكريات وذكريات فيه. كنت أقول للمتنبي أنظر : هنا تناولت مرات ٍ كثيرة طعاماً شرقياً نوعاً وإعداداً في مطعم كان هنا يٌسمى ( مطعم باكو ) . الرز والدجاج المشوي المخمّر بعصير الثوم ... ثم تشريب لحم الغنم المُعد في تنور خاص . أنظر : هنا جلست مراتٍ لا حصرَ لها في هذا المقهى لتناول الآيس كريم أو النبيذ الحلو الأحمر مع فلان أو فلانة . هنا دعوت ضيوفاً تعرفت عليهم صدفة ً جاءوا من الأردن أو سوريا أو مصر أو العراق  للمشاركة في بعض المؤتمرات الحزبية أو غيرها من المناسبات الهامة . ومن هذا المخزن إبتعت للأهل في العراق أجود أنواع الكهرب كحلي للنساء أو مسبحات للرجال . هذا مطعم ( بيكين ) يقف تمثال الشاعر 

( ماياكوفسكي ) شامخاً أمامه وليس بعيداً منه تمثال الشاعر ( بوشكين ) الذي قتله دبلوماسي عسكري فرنسي في مبارزة بإطلاق النار غير عادلة . وكانت غيرة بوشكين على زوجه من هذا الفرنسي هي سبب هذه المبارزة التي قضت عليه وبقيت زوجه أرملة ً بعده . قتل ( ماياكوفسكي ) نفسه بإطلاق النار وليس بمبارزة ولا بسبب الغيرة فما كان الرجل متزوجاً أبداً. شائعات قالت إن سبب إنتحار هذا الشاعرهو فقدانه لصوته نتيجة إصابته بمرض السفلس وكان يعشق قراءة أشعاره على الجماهير في الساحات العامة . ما كان المتنبي مسروراً من سماع أخبار هذين الشاعرين المؤسفة... لا غرابة ، فهما مثله شاعران ، وهو نفسه مات إغتيالاً عام 354 هجرية في دير العاقول بين النعمانية وبغداد في طريق أوبته من سفرته لأيران . كان شديد الوجوم ولم ينفك عن تكرير قوله : أهكذا يموت الشعراء أبداً ؟ أهذا هو مصير كبار الشعراء ؟ ما ذنبهم إن أبدعوا وخلقوا فتميزوا عما سواهم من سائر البشر ؟ هل الموت المبكر هو ثمن الموهبة ؟ أضفت لمعلوماته أن َّ الكثير من الشعراء قضوا وهم في سن الشباب . ذكرت له إسم طَرَفة بن العبد الشاعر الجاهلي صاحب المعلقة المعروفة ثم الشاعر التونسي أبا القاسم الشابي ثم العراقي [ بدر شاكر السياب ] وغيرهم من مشاهير شعراء العالم مثل ( كيتس وشللي وبايرون ) من شعراء الإنجليز من بين مّن أعرف . كلهم ماتوا في سن تتراوح بين العشرينيات ودون سن الأربعين(( 27 ـ 38 )) . سألني ونحن نقترب من فندق موسكو العملاق : في أي عمر مات الشاعر النجفي عبد الأمير الحُصري ؟ قلت لا أعرف ، ربما بين الثلاثين والأربعين ... حدود أعمار عباقرة الشعراء !! كان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في أوائل ستينيات القرن الماضي يفضل الجلوس في أحد مقاهي هذا الفندق محاطاً دوماً بعدد من الطلبة العراقيين المعجبين بشعره وربما بعض العرب من السودان والأردن وسوريا . تجاوزنا فندق موسكو فوصلنا الساحة الحمراء فلم يصدق المتنبي عينيه . أحقاً أنا في موسكو وفي الساحة الحمراء قريباً من ضريح لينين أمام الكرملين مقر الحكومة والحزب سابقاً ؟ قلت له أتود زيارة جثمان هذا الرجل المحنط بعناية ولأكثر من ثمانين عاماً ؟  دُهشَ صاحبي من قولي ... قال أوَلم يزل الرجل محنطاً حتى هذا اليوم بحيث يمكنني رؤية جثمانه كما كان يفعل فراعنة مصر القديمة ؟ قلت بلى ، وإنْ تباينت طرائق ومستلزمات التحنيط فالفكرة واحدة لا تتغير... مقاومة الموت وأسباب البلى الجسدي في مسعى للخلود الأبدي ... وهذا ما حاوله قبل الفراعنة الملك الأسطوري العراقي السومري ( جلجامش ) كما تعلم  ... حاول العثور على نوع من الطب بشكل أعشاب بحرية قالوا له إنها تطيل عمر الإنسان فلا يموت ولا يبلى كما مات صديقه الحميم ( أنكيدو ) وتفسخ لحمه وعاث به الدود فجزع جلجامش ولم يطق مرآى جسد صديقه يتفسخ أمام عينيه . الخلود الخلود يا أبا الطيب ... إنه حلم البشر منذ أقدم الأزمان . ثم أضفتُ : إنك يا متنبي قد عالجت هذا الموضوع في بعض أشعارك إذ فرّقتَ بين النفس والجسد فأقررت بموت وفناء الجسد لكنك لم تقطع في أمر النفس البشرية . قال أتعني البيت :


فقيلَ تخلُص ُ نفس ُ المرءِ سالمة ً 

وقيلَ تَشركُ جسمَ المرءِ في العطب ِ


قلت أجل ، هذا ما عنيتُ . قال وما زال هذا الأمر يحيرني كثيراً . لا أعرف مصير النفس أو الروح بعد الموت .... ما مآلها وأين تنتهي وكيف تنتهي ... أسئلة كثيرة في رأسي لم تزل غامضة مستعصية دون أجوبة شافية .

من هنا ، قلت ، كانت تمر القطع العسكرية الجبارة في أعياد ثورة أكتوبر ليستعرضها  كبار المسؤولين الحزبيين والحكوميين الواقفين فوق ضريح لينين المرمري الأحمر . وهنا يجلس كبار الضيوف المدعوين ورجال السلك الدبلوماسي . وهنا جلست أنا مرةً واحدة عام 1962 مدعواً من قبل لجنة الطاقة الذرية السوفياتية [ وكان يمثلها السيد إيفان إيفانوفيج كوراكين ]  مع مجموعة من علماء نايجيريا الذين كانوا يومذاك في موسكو للتدريب على تكنولوجيا العلوم الذرية والتعرف على المفاعلات النووية وبعض معجلاّت النيوترون الحديثة . كان الجو بارداً وكان ( خروشوف ) ، رئيس الوزراء يومذاك ، يقف وسط كبار رفاقه يُحيي القوات العسكرية المارة في الساحة الحمراء وإلى يمينه وزير الدفاع ( مالينوفسكي ) أو غيره ...على ما أتذكر . 

شعر المتنبي بالتعب فإقترح الرجوع إلى مقر إقامتنا وما كان بعيداً عنا لأخذ قسط من الراحة ثم تناول طعام الغداء فوافقت في الحال ... كنت أكثر تعباً منه . 

ما هو برنامج هذا المساء ؟ سأل المتنبي . فكّرت طويلاُ قبل أن أُجيب . ولكي أمنح نفسي فُرصة كافية لإعداد الجواب المناسب قلت لصاحبي سنزور صباح غد جامعة موسكو ، سأريك القسم العلمي الذي أكملت فيه دراستي وأبحاثي . وسنزور القسم الداخلي الذي أمضيت فيه أكثر من خمسة أعوام . سأريك آخر غرفة قضيت فيها عامي الدراسي الأخير والتي تحمل رقم 833 في البناية المخصصة لطلبة وطالبات كلية الكيمياء في جامعة موسكو . سنتناول طعام الغداء في مطعم الأساتذة لا في مطاعم الطلبة . ثم سنقوم بجولة تمشي بين الحدائق الغناء في هضبات لينين حتى المكان العالي الذي يشرف على نهر موسكو . كان صديقي يتابع ما أقول بدون حماس أو فضول . لم يسأل ولم يستفسر ولم يعترض . سلم أمره بيدي َّ واثقاً طائعاً فأنا لا هو مَن أمضى هنا ستة أعوام كاملة . أصبحت فكرة الجواب عن سؤال المتنبي جاهزة تقريباً . نصفها لي والنصف الآخر له . سأحاول معرفة أماكن إقامة أصدقائي القدماء من الروس والعراقيين . أريد أن أعرف أين تسكن ( زويا ) وأين تسكن ( نتاشا ) و ( سلام ) و 

( فلاح ) ؟ في شهر آذار عام 1988 وفي العاصمة السويدية ستوكهولم أردت لقاء صديق وزميل سابق في جامعة السليمانية ... سألت مدير الفندق كيف السبيل إلى معرفة عنوان سكن أو رقم تلفون هذا الصديق ؟ قال إبحث عنهما في دليل التلفونات ... تجده في غرفتك .  بحثت فلم أعثر على إسمه . عدتُ أسأل المدير فقال أعطني إسم صديقك وعنوانه في العراق وعمله السابق ومتى وصل السويد ثم لا تنسَ تثبيت إسمك كاملاً ودرجة معرفتك وعلاقتك به . قال إن هذا الموضوع شديد الحساسية طالما أن صديقك لاجئ في السويد . أخبرني صباح اليوم التالي أن السلطات المختصة تمتنع عن تزويده بأية معلومات تخص صديقي !! اليوم أنا في موسكو ، مع مَن سأفتح موضوعاً مماثلاً وهل أجد مَن يتعاون معي للإهتداء إلى عناوين وأرقام تلفونات أصدقائي ... مَن بقيَ منهم على قيد الحياة ؟ كان دكتور سلام يعمل مذيعاً في راديو موسكو / القسم العربي ... فهل ينفعني الذهاب إلى هناك والسؤال عنه ؟ ربما . سأحاول . وماذا عن الصديقات القديمات الروسيات ... أما زلن على قيد الحياة أو يعشن في مدينة موسكو أو يرغبن في اللقاء معي أو تسمح لهن ظروفهن العائلية بمثل هذا اللقاء ؟ لا أدري . الرغبة كبيرة لكن َّ السبل والوسائل شحيحة إنْ لم تكن معدومة أصلاً . سأظل أفكر في هذا الأمر ولأنصرف إلى الشق الثاني من برنامج هذا اليوم ... الشق المكرّس لصاحبي أو ضيفي في موسكو الذي خلع جلابيته وكوفيته البيضاء وإرتدى بدلة أوربية أنيقة سماوية اللون مع ربطة عنق صفراء من الحرير وحذاء إيطالي أسود . سألته أهو معافى وقوي لأريه جوانب من المدينة الهائلة على أن نزور الجامعة صباح غد ؟ قال كما تحب ... أنا مجرد خاتم في يدك . ركبنا سيارة تاكسي متجهين نحو إذاعة موسكو في محاولة لمعرفة عنوان الصديق د. سلام علي شهباز . قالوا إنه منذ فترة طويلة ترك عمله هناك لكنه لم يترك لهم عنوانه ولا رقم تلفون بيته . رجعنا أدراجنا إلى قلب مدينة موسكو . ما رأيك في جولة نهرية على ظهر يخت نجوب خلالها نهر موسكو ونتعرف على بعض معالم المدينة من جانبي النهر ؟ قال فكرة جيدة ... لم أرَ نهراً ولا بحراً  منذ أن غادرت إيطاليا شهر حزيران الماضي . قلت له إنْ أعجبتك هذه السفرة فسوف نقوم بأخرى أكبر منها على ظهر زورق سريع يسمونه راكيتا ( صاروخا ً ) يأخذنا في إحدى القنوات خارج موسكو لمسافات بعيدة . سنستمتع بالموسيقى الحية وما يتوفر على ظهر الزورق من أطعمة ومشروبات... هل تشرب شيئاً من الفودكا الروسية الشهيرة ؟ قال أعوذ بالله منها ومنك !! أنا دوماً سكران من غير المُدام !! هل نسيتَ ما قلتُ يوماً ؟ وماذا قلتَ يا أبا الطيب ؟


أفيقا ، خُمارُ الهم ِّ علّمني السُكرا

وسُكري من الأيامِ جنبني الخمرا

 

دع فودكا ماركة ( كورباتشوف ) لك وحدك !! إنما أشرب الماء المعدني وعصير البرتقال الطبيعي الخالي من السكّر . كما تحب يا متنبي .

أعجبت السفرة النهرية صاحبي حتى إنه شرع يتعجل مجئ صباح الغد لنقوم بالسفرة النهرية الأخرى الطويلة . تناولنا غداءنا في الفندق ثم تمتعنا بقيلولة قصيرة . هل تود زيارة مسرح ( البلشوي تياتر ) الشهير ؟ قال نعم، وماذا سنرى في هذا المسرح ؟ سأحاول الحصول على بطاقتين لمشاهدة أوبرا كارمن . من هي كارمن ؟ سأل المتنبي ؟ إنها غجرية إسبانية لعوب كانت تعمل في مصنع للتبغ والسجائر في مدينة إشبيلية الإسبانية . أحبت جندياً فخانته . أوقعت ضابطاً في حبها فقتله الجندي [ دون خوزيه ] غيرةً منه . ثم وقعت في غرام مصارع ثيران شجاع لم يستطع الجندي من قتله فقتلها هي ساعة أن كانت تنتظر حبيبها المصارع خارج أسوار حلبة المصارعة ... ثم ... يقتل الثورُ الخصمُ مصارعه حبيب كارمن . قال إنها قصة حزينة ثقيلة . أجلْ ، إنها لكذلك ولكنْ ، تمثيلها بالغ الروعة وموسيقاها من أبدع ما تكون الألحان . القصة إسبانية لكن مؤلف الأوبرا موسيقار فرنسي إسمه { بيزيه }، لذا فالكلام يجري باللغة الفرنسية عادة ً. إذا أحببتها فسوف أُريك إياها مراراً في بيتي إذ ْ لدي تسجيلان لها مختلفان . قال المتنبي سنرى .

خرجنا نتجول في قلب مدينة موسكو ... يا للعجائب !! يا لعجائب المصادفات !! هذه ( نتاشا ) أمامي ، إحدى الصديقات السابقات، بوجهها الجميل وشعر رأسها الحالك السواد . تعرفت عليها عام 1965 حين كانت في العشرين من عمرها . رأيت في وجهها [ سهام ] ، صديقة الأميرة الحمدانية [ خولة ] إذ ْ قضينا شهر حزيران المنصرم  في إيطاليا . لم تكبرْ أبداً . ما زالت في العشرين فتانة رشيقة شديدة الجاذبية بعينين زرقاوين لا أجمل منهما ولا أكثر سحراً . كيف أحوالك يا نتاشا ؟ بخير ، وأنت ؟ لا بأس بها . كيف وقعتَ أخيراً في موسكو ؟ هذا صاحبي المتنبي مَن أوقعني ... أحب زيارة عاصمتكم فإصطحبني معه وتحمل كافة نفقاتي.

قالت أظن أني رأيته فوجهه ليس بالغريب علي َّ .  محتمل ، فالرجل دائم التنقل والأسفار ، يقرأ أشعاره هنا ويحاضر هناك ويلبّي دعواتٍ كثيرة ًمن جامعات وجمعيات ونوادٍ عالمية . قالت وهل مُنح جراء ذلك جائزة نوبل في الأداب ؟ كلا ، مثلُه لا يُمنح مثل هذه الجائزة . يقول إنها كثيرة عليه ولا يطمع بأكثر من جائزة (( البابطين )) الكويتية . سألتُ نتاشا هل تعرف مصير  زويا التي أصبحت بعدها صديقتي  ورأتها معي مرة ً حين كنا نتمشى  في شارع كوركي ؟ قالت إنها غادرت موسكو إلى موطنها الأصل في جمهورية ( أوكرانيا ) حيث قبر والدها ، أحد ضحايا ستالين ، وحيث تمتلك والدتها بيتاً ومزرعة ً صغيرة . ثم ـ أضافت نتاشا ـ سمعت أنها تعمل أستاذة لعلوم الحياة في جامعة ( خاركوف ) . هل لديك عنوانها أو رقم تلفونها ؟ كلا ، لشديد الأسف ... ثم أضافت : أفلم تستطع نسيانها بعد ُ ؟ لا أنسى أصدقائي أبداً ... وهل نسيتك يا نتاشا ؟ قالت لكنك تركتني وإنصرفتَ لغيري وها إنك تسألني عن زويا !! كان الشأن مع زويا غير الشأن معك يا نتاشا ... أعذريني ... أنا كبرتُ لكنك لم تكبري ولم تتكبري. هل ترافقيننا لنشرب بعض النبيذ في مقهى أو نتناول بعض المرطبات ونواصل أحاديثنا ونتذكر ماضينا ؟ قالت آسفة ... ينتظرني زوجي  وأطفالي  في البيت ... وهل تزوجتَ أنت َ ؟ نعم ، ولي ولد ٌ وبنت .

طلب المتنبي مني أن أترجم َ له ما دار من حديث بيني وبين صديقتي الروسية السابقة نتاشا . ترجمت له بإقتضاب . قال ولماذا تركتها وإنصرفت إلى غيرها من بنات جنسها ؟ لأنها كذبت عليَّ ... قالت في بدء تعارفنا إنها طالبة في معهد الطب الثاني في موسكو وما كانت كذلك . ما كانت في حقيقة أمرها إذا ً ؟ كانت مجرد فنية مختبر طبي . لا أطيق الكذب والكذابين يا متنبي . لم أحتمل بقاءها معي بعد ذلك . إحتقرتها وشكوتها لوالدتها فدافعتْ عنها وبررتْ كذبتها الكبيرة تبريراً سخيفاً  فضاعفتْ من  إحتقاري لكلتيهما . قال فلننسَ الموضوع جملة ً وتفصيلاً فوافقته في الحال . عاد صاحبي فسال : كيف سنقضي هذا اليوم ؟ سنقضي بعضه في التعرف على موسكو ... مخازنها وشوارعها ومحلاتها الأخرى التي ما كان لها من وجود في زماني . قال مثلا ؟ محلات الهامبركر ، مكدونالد ، محلات بيع الكولا والجينز والأسماء الأخرى المعروفة في عالم الملابس والأحذية المستوردة جاهزة ً والساعات والأجهزة الألكترونية الأمريكية واليابانية والأوربية ومن جنوب شرق آسيا من سيارات وكاميرات وكومبيوترات وسواها الكثير والكثير. تلكم ثورة داهمت موسكو بعد إنهيار النظام الشيوعي ... ثورة جلبت معها الخير والشر ... الجيد والرديء  من السلوك والعادات وأتت معها  البطالة والجريمة والدعارة ومافيات السرقات والجرائم الكبرى ونوادي قمار الروليه الأمريكي ومكائن ( بلاك جاك ) وغيرها . قال ببرود لا حاجة بنا إلى هذه السلع ولا إلى المقامرة بالطرق الأمريكية فلا أنا فريد الأطرش ولا عمر الشريف . ثم لديكم في الغرب منها الكثير المألوف ، أليس كذلك ؟ بلى يا متنبي ، بل ولدينا منها الأكثر . جاءت هذه الأمور موسكو متأخرة كثيراً ... سبقهم الغرب بعقود من السنين . الفرق أن سواهم يصنعها لكنهم هنا يستوردونها والفارق جد َّ كبير . قال هيا إذا ً ... هيا نشرع في مشروعك للتعرف على معالم موسكو .

تعب كلانا من الجولات المكثفة فقررنا العودة إلى فندقنا لتناول وجبة طعام قبل الإستعداد لزيارة مسرح البلشوي تياتر . كانت أوبرا ( كارمن ) كما وعدتُ صاحبي اليوم الفائت . ذهلَ صاحبي وهو يتابع قصة الغجرية كارمن والموسيقى المرافقة . أدهشه أداء الممثلين ولا سيما تلك التي مثلت فأبدعت دور كارمن . إنتهت الأوبرا وأضيئت أنوار المسرح وسط تصفيق حاد متواصل فإستيقظ المتنبي من إغفاءته التي غط َّ فيها فجأة ً لفرط ما أصابه من تعب التمشيات وجولات المخازن . قال هل فاتني الكثير من أحداث الأوبرا ؟ قلت كلا ، فاتتك الأجزاء الأخيرة منها ، تلك التي تخص مقتل كارمن على يد أول مَن أحبها الجندي ( دون خوزيه )  الذي ترك خطيبته من أجلها فخانته . ومصرع حبيبها بنطحة قاتلة من قرني خصمه الثور الهائج المثخن بالجراح . ثم سقوط هذا الثور المنتصر على الإنسان قتيلاً جراءَ ما لحقه من طعنات قاتلة من سيف خصمه . تثاءب المتنبي وهو يقول : لم يبقَ أخيراً على قيد الحياة إلا ّ العسكر ، الجندي !! ما مغزى ذلك وما كان مقصد مؤلف القصة من هذه النهاية ؟؟ سقطت الحبيبة الصادقة في حبها لآخر من أحبت ... وسقط هذا في أوج تألقه وتحديه لقوة الطبيعة الوحشية متمثلة في قوة وبطش ثور ... ثم سقط هذا الثور ممثل الطبيعة ولم تنجُ إلا قوة الجيش ممثلة ً بالجندي ( دون خوزيه ) . العسكر هو الغالب . قوة الجيوش تتغلب على قوى الطبيعة . العقل البشري المُصنِع يتفوق على عفوية الطبيعة ... يستغلها ...  يطوّعها لكي تلائم حاجاته وأغراضه . يستخرج منها وسائل عيشه وتطوره وآلات حروبه ومستلزماتها الضرورية . يقهرها ويجعلها خادمة ً له بعد أن كان الإنسان تابعا ً وعبداً لها .  قلت قد يكون تفسيرك سليماً يا متنبي . قال هذا رأيي ولا أنتظر منك موافقة عليه . 

جلسنا في مقهى قريب من مسرح البلشوي فطلب المتنبي زجاجة ماء معدني ( برجومي ) قاعدي المفعول وطلبت أنا زجاجة نبيذ أحمر جاف أي لا من طعم حلو ٍ فيه . كان صاحبي في غاية السرور والإنسجام وسط جو المقهى الراقي حيث العاملات الجميلات الشقراوات والرواد والمرتادات من بنات موسكو . أعجبه البقاء طويلاً فحاولت إغراءه بشرب قليل من النبيذ فأبى بشدة . طلب المزيد من المياه المعدنية فكان له ما أراد. سألته مداعبا ً أيودُ التعرفَ على فتاة {  مسقوفية } شقراء في ريعان شبابها ؟ قال على الفور نعم ، ولكن بأية لغة سأتفاهم معها ؟ قلت إنها تتكلم العربية. قال كيف ؟ الدعارة يا متنبي ... أصبحت الدعارة مؤسسة ومعاهد ومصالح راقية عالمية تتخرج في مدارسها فتيات يتقنَّ الكثير من المهارت كالرقص وهز البطون وقراءة الكف وتعلم لغات أجنبية ومرافقة الزبائن حيثما يشاءون يقدن سيارات حديثة . قال لا أريد مومسا ًً ، إنما أريد فتاة شريفة تجاذبني بالعربية أطراف الحديث لا أكثر . ضحكتُ ، ضحكت فأغضبت ُ المتنبي ثم قلت له جادا ً : وأين أجد لك مثل هذه الفتاة الشريفة ؟ لو عشتَ في موسكو فترة زمنية طويلة لإهتديتَ لا ريبَ إليها ، أما والحال كما تعلم فلا مجال لذلك . جئنا لنبقى هنا كسياح  مدة أسبوع واحد يا صاحبي . قال لا خيرَ فيك !! لنعد ْ إلى فندقنا فالنوم في هذه الحالة أفضل.

ركبنا صباح اليوم التالي الحافلة رقم 57 لكي أري المتنبي قسم الكيمياء الراديومية وجامعة موسكو وأقسامها الداخلية . لم يصدق المتنبي عينيه !! مبنى شاهق هائل تم بناؤه زمن ستالين بعد الحرب العالمية الثانية . أخذته لمختبرات الكيمياء النووية والإشعاعية حيث أنجزت أبحاثي ومتطلبات الحصول على شهادة الدكتوراه في الكيمياء [[ 1964 ـ 1968 ]]  ... بناية من ثلاثة طوابق معزولة عن باقي الأبنية . دخلنا فسألتُ بعض من لاقيتُ في مدخل البناية  عن أساتذتي وزملائي السابقين فقال إنه لا يعرفهم.  توجهنا نحو الطابق الأول حيث كنت أجري أبحاثي فسألت شاغل أول مختبر في الممر على جهة الشمال ، قال لم يبقَ منهم أحد ٌ في هذا المختبر . رحلوا جميعاً إما إلى العالم الآخر أو أحيلوا على التقاعد أو وجدوا وظائف أخرَ في جامعات ومعاهد ومناطق أُخرَ . سألني عمن أكون فشرحت له مَن أكون . أخذتني موجة حزن غامض فإقترحت على صاحبي أن نغادر المكان على عجل . قدته إلى القسم الداخلي الذي يحمل رمز ( J )

الخاص بطلبة كلية الكيمياء في جامعة موسكو . أخذنا المصعد الكهربائي حتى الطابق الثامن فدلفنا في الممر الواقع إلى شمال المصعد ... هذه الغرفة التي تحمل رقم 833 ... آخرغرفة شغلتها أثناء دراستي هناك . شرحت لصاحبي مطولاً بعض تفاصيل أيامي في هذه الغرفة من دراسة وكتابات وحفلات مع الأصدقاء . شعرت بغصة ولوعة عميقتين وأنا أتذكر أيامي السالفة ... أيام الشباب والدراسة بعيداً عن الأهل والوطن . تركنا البناية لنتناول طعام الغداء في مطعم الأساتذة الذي يُفتح عادة في الساعة الثانية عشرة ظهراً . تجولنا بعد الغداء هنا وهناك ما بين القاعات الشاسعة ثم مخازن الجامعة وقاعات الرياضة وحوض السباحة فيها . تعب المتنبي من التجوال فأراد الرجوع إلى مركز المدينة . ركبنا القطار التحت ـ أرضي / قطار الأنفاق (( المترو )) بدل الحافلة البطيئة . 

بقيت طوال الوقت أسيرَ هاجس ورغبة أن أرى بعض أصدقائي وصديقاتي القدامى والقديمات . أين القاهم يا ترى وقد تبدل كل شئ على أرض وأجواء موسكو ؟ أين أجد معلمة الرقص ( لاريسا نزاروفا ) ؟ هل وافها الأجل ومنذ متى ؟ أين أجد معلمات اللغة الروسية اللواتي ربطتني بهن َّ علاقات إنسانية  متينة ، بلكوفا وسركوفا ؟ أين الباحثة في القسم والمسؤولة الثانية عن أبحاثي ( يلينا أفدونينا ) ؟ هل كلهم قد غادروا الحياة ؟ أيها الراقدون تحت التراب ... تذكرتُ أغنية محمد عبد الوهاب .

كنت ُ أحياناً أترك صاحبي في الفندق لينام مرة وليستريح أخرى لأهيمَ  على وجهي أذرع الشوارع والطرقات مراراً وأجوب محطات المترو دونما هدف واضح . أدخل المخازن لعلي أعثر صدفة على أحدهم أو إحداهن َّ . أتكلم كثيراً مع الناس بائعاتٍ وغير بائعات لكي أدفع عني بعض حزني وبعض خيبتي الكبيرة ... أتفرس في الوجوه عسى أن أجد فيها بعض ملامح من أحببتُ ومن صادقتُ ومن آخيتُ أيام الدراسة والبحث العلمي . كل الوجوه غريبة ... كل الوجوه شاحبة وغير ودودة . ليس فيها من تأريخي شئ يشبهني أو يشبه أصدقائي الغائبين . أين طالبة كلية الكيمياء ( شورا / ألكساندرا ) وأين ( أيما ) رئيسة ( الكمسومول / إتحاد الشباب الشيوعي ) في كلية الكيمياء التي زارتني مرة واحدة في حجرتي وإقترحت أن نمارس رياضة التزلج على الجليد في أمسيات الشتاء فإعتذرت . قلت لها إني أخشى السقوط فأخسر دراستي . شدَّما ندمتُ فيما بعد . ضيّعت ُعلى نفسي  فرصة نادرة لتعميق صلاتي بهذه الفتاة النادرة الجمال والذكاء وأصالة العائلة . شعرت كأني أنا الغائب عن موسكو . أنا الميت . ضاع مني تأريخي وأصدقائي وبقيت موسكو لكنها ليست موسكو التي عرفت . كأني لم أعشْ فيها ستة أعوام كاملة . كيف يمر الزمن وما مغزى مروره ؟ الزمن يتحرك ولا يتغير ،  لكن البشر هم المتغيرون .

تتعمق مأساتي مع كل خطوة أخطوها في شوارع موسكو . غريب ... جد َّ غريب ... غريب في مدينة غريبة ، تلفظني طرقاتها ومحلاتها ووسائل النقل فيها . ثقلت عليَّ وطأة هذه المشاعر والأفكار فهربت النفسُ وعادت القهقرى إلى بلدي ومقر إقامتي الدائم حتى لقد لمتُ نفسي أني رافقت المتنبي في هذه السفرة . ليتني لم أقمْ بها مهما قال المتنبي عني . 

أمضينا معاً بقية الأيام بين تمشيات طويلة لا هدفَ لها أو جلسات طويلة في المقاهي والمطاعم أو بعض السفرات النهرية هنا وهناك تزجيةً للوقت الذي أخذ يمر بطيئاً مملا ً كئيباً ثقيلاً فغياب الهدف في الحياة معضلة حقيقية وسرطان يقضم الروح والجسد . 

تأهبت وصاحبي المتنبي بعد الفطور مباشرة للسفر ومغادرة موسكو . وصلنا مطار ( شريميتوفو ) بتاكسي إستدعاه لنا مدير الفندق . أقلعت الطائرة بنا بعد مضي ساعتين تقريباً من وصولنا إلى المطار فألقى كلانا من خلال شباك الطائرة الدائري الصغير نظرة وداع حزينة على موسكو وضواحيها ومزارعها المترامية الأطراف وهي آخذة بالتضاؤل مع كل إرتفاع تحققه الطائرة في الجو حتى أخذت مستوى واحداً للطيران فقالت المضيّفة : الآن تستطيعون فك الأحزمة والمباشرة بالتدخين !!.

وداعاً موسكو...

Dosvedania Moskva


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق