غصات شامية وفلسطينية، فتوحات متخيّلة وأمان تنتظر الحصاد/ جواد بولس

 


ما زالت أحداث سوريا تملأ الدنيا وتشغل الناس في جميع أنحاء المعمورة؛ وتغطي تداعياتها، للأسف، على أخبار الفظائع التي يمارسها جيش الاحتلال الاسرائيلي في قطاع غزة وفي الضفة الغربية المحتلة وفي داخل اسرائيل نفسها. ففي تقرير مفصل نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية يوم الاربعاء الفائت، تحت عنوان: "شهادات مقاتلين: في الغرب المتوحش، على محور نتساريم، لا يوجد قوانين وكل شخص محكوم بالموت"، كشفت الصحيفة عن سلسلة من عمليات القتل العشوائي المروّعة التي نفذتها مجموعات من الجنود والضباط، خاصة في منطقة "محوَر نتساريم"، راح ضحيّتها مئات الفلسطينيين المدنيين من بينهم أطفال ومواطنون كانوا يحملون الاعلام البيضاء أو مشاة عُزّل تم قصفهم بصواريخ من مروحيات عسكرية، وكيف كانت تترك جثث بعض القتلى على الشوارع لتنهشها الكلاب الضالة، أو تطمرها بولدوزورات الجيش بالرمال بدون علامة أو شاهد. في جميع تلك العمليات، كان مكتب المتحدث باسم الجيش يعلن عن أعداد القتلى ويصفهم كاذبا، بالارهابيين.   


لقد انتابني شعور بالاختناق وأنا أقرأ التفاصيل التي وردت في تقرير "هآرتس"؛ فالوقائع، كما وردت، تصف عمليا كيف تحوّل هؤلاء الجنود إلى وحوش مفترسة تتربص بكل فلسطيني يقوده مصيره أو حاجته إلى منطقة قريبة من مرمى بنادقهم أو دباباتهم، وكيف كان هؤلاء الجنود يمارسون ما أسماه أحدهم عمليات "القتل العادي" ، وهي أحط المراحل التي يمكن أن يصلها الانسان في المجتمعات المدنية.


قد لا يستفز ما ورد في هذا التقرير البعض لقناعتهم بأن أباء وجدود هؤلاء الجنود تصرفوا هكذا من  قبلهم، منذ اليوم الأول الذي حملوا فيها البنادق وقاتلوا أهل البلاد الأصليين، لا بل واصلوا طبيعة القتل هذه في جميع حروبهم ضد العرب والفلسطينيين وغيرهم منذ ايام يهوشع بن نون والى اليوم. ولئن كان في هذا الادّعاء بعض مما يشهد له التاريخ، يبقى جديدا هذا التقرير بما احتواه من وصف وتوثيق لعمليات قتل واسعة تمت بدم بارد ومن غير وجود أي مبرر ميداني أو داع وقائي، وليس خلال مواجهات مع مسلحين فلسطينيين أو اقتحامات لمواقع فلسطينية أو عمليات تمشيط احترازية.  يحتوي التقرير على شهادات مفصلة وأسماء بعض منفذي تلك الجرائم وتشخيص دقيق لشيوع حالة من الانحلال الاخلاقي الكامل داخل تلك الوحدات العسكرية، وتخلي جميع  عناصرها عن قواعد  الانضباط العسكري وعدم الالتزام ولا حتى بأبهت صورها وأضعفها، أو بتلك التي كانت مقبولة في حالات تم التعرض فيها لقتل المدنيين الفلسطينيين العزّل.فحسب ما جاء في التقرير كان يكفي أن يكون قائد احدى تلك الكتائب مستوطنا محموما حتى تصبح عقيدته الدموية أوامر تقضي "بقتل كل من يمر أمامكم. فهنا، في غزة، لا يوجد أبرياء ولا مدنيون؛ كلهم ارهابيون ومخربون ويستحقون الموت". يصف التقرير حالة لمثل هذا القائد الذي  يسكن في مستوطنة كريات أربع؛ بيد أن الأمر لا يتوقف على انحراف جندي بعينه أو ضابط مستوطن، بل هي حالة من "العدمية المرَضيّة" أصابت معظم الجنود الاسرائيليين الذين شاركوا في هذه الحرب وما زالوا يقاتلون، والأصح يقتُلون، أهل غزة، وتحوَلوا إلى روبوتات للقتل العشوائي تتسابق بينها على قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، أو كما قال أحد الجنود في شهادته : "لقد أدّت بيانات الناطق الرسمي للجيش حول أعداد القتلى الفلسطينيين التي نجحت كل وحدة من وحدات الجيش بقتلهم، الى تحويل الوضع الى مباراة بين الوحدات وللمنافسة فيما بينها؛ فاذا قتل جنود وحدة المشاة "99"،  مائة وخمسين شخصا، فستحاول الوحدة الثانية أن تقتل مائتين". انها شهادات مروّعة ودامغة على تتفيذ عمليات ابادة وارتكاب جرائم الحرب.


قد لا يحظى، للأسف، هذا التقرير، رغم خطورته وأهميته، بما يستحقه من اهتمام ومتابعة في المنابر العالمية والمحلية، بسبب ما تشهده منطقتنا ومناطق ساخنة أخرى في العالم، من تداعيات لأحداث جسام، وآخرها الأخبار الواردة من "الجبهة السورية"؛ أخبار غطّت على ما تقوم به حكومة اسرائيل على جبهات صراعها الاخرى، هذا اذا اعتبرنا ان إسرائيل قد سجّلت نصرا على الجبهة اللبنانية، يعتقد البعض أنه مؤقت بالرغم من وضوحه واقرار من يفكر بعقل سليم وبحس واقعي به وكما تشهد عليه الخواتيم على الساحة اللبنانية. 


لقد تصدّرت أخبار الاطاحة بنظام عائلة الأسد المواقع الاخبارية المنتشرة بيننا، وانشغل بها المواطنون العرب في إسرائيل وتفاعلوا معها وحللوا مشاهدها وقيّموا ريوعها فانقسمت آراؤهم، كما في معظم الساحات العربية والاسلامية، بين مؤيدين لعملية الاطاحة بنظام الديكتاتور والتخلص من بطشه، وبين متأسفين وباكين عليه؛ وفريق ثالث ينتظر ليرى نهايات ما يجري على ضفاف "بردى"، معتبرين أن مياه ذاك السيل وما ستجرفه من لواحق معها، قد تصل الى آبارنا وتصب في حقولنا.  


يتمنى نتنياهو وحكومته أن تبقى أخبار الساحة السورية متصدرة لشاشات الفضائيات العالمية وشاغلة لهواجس العرب والمسلمين، ليمضي هو في تنفيذ ما يضمره لغزة وللضفة الغربية ولينجز مع حكومته مشروع بنائهم لمملكة اسرائيل الجديدة.   يتصارع الفرقاء بيننا ويتمترسون خلف مواقفهم وعقائدهم، فيجزم معسكر منهم ان العرب المسلمين والعالم معهم يعيشون في هذه الأيام مرحلة شبيهة بزمن "فتوحات الشام" إيّاها، ويعدوننا بأن الدولة الاسلامية أصبحت حقيقة ناجزة وهي أقرب للحقيقة من غفوة. لفتت انتباهي هذه "النبوءة"ورأيت فيها مقاربة مثيرة كنت أتمنى أن تحث المؤرخين ليأخذوا دورهم ويدلون بأرائهم حولها، ومقارنتها مع أحداث ذلك التاريخ في زمن خلافة الراشدين، خاصة وأننا نعيش زمنا لا يخلو من صراع الامبراطوريات حتى لو اختلفت عناوينه وهي مازالت تقحم اسم "بيزنطة" وهي تزاحم رايات "فارس"، ورايات الشاميين تتجاذبها رايات العربان ورماح القبائل وايلافات الأعراق والاجناس التي ورثت عن أجدادها وعاشت، أو تلك التي استجدت على المنطقة خلال الاربعة عشر قرنا الماضية. 


يعرف نتنياهو ان اسرائيل تعيش في عهد صراع الامبراطوريات؛ فهذه الصراعات لا تختفي بل تتبدل جيوشها ومصالحها؛ وهو يراهِن ،كما راهن أسلافه، على تحالفه مع الامبراطورية الكبرى وهي في أيامنا الامبراطورية الامريكية التي قد نقارب تفاعلاتها، كيما نفهم مجريات الأحداث الحالية واختلافها عمّا كان، بتفاعلات الامبراطورية البيزنطية عندما كانت في قمة قوتها وبأسها. يراهن نتنياهو عليها موقنا انها صاحبة القوة المتاحة والمصلحة الواضحة والعقيدة الصارمة. ويعرف أن غيرها من الامبراطوريات ، الفارسية المغولية/الصينية والروسية والعثمانية وغيرها، تتزاحم على تثبيت مواقعا في منطقتنا، لكن الغلبة، وهو متأكد من ذلك، ستكون في النهاية، من نصيب من يملك القوة والعزم والخطة ويقف مع  المعسكر الصحيح وأمام العدو الضعيف. 


سأدع التعاطي مع من يجزم أننا نعيش عصر فتوحات شامية جديدة، لخبراء التأريخ والعلوم الاجتماعية، وسأعود الى بواطن خوفي مما نحن مقبلون عليه، ليس لأن اذرع الامبراطورية الامريكية/الاسرائيلية هي التي تضبط ايقاع "الثورة " الجارية على الأرض السورية وهي التي سيكون لها دور "المخرج الأول" في تحديد معالم مشاهدها ومآلاتها ووجهاتها المقبلة وحسب، بل لخوفي مما قرأنا في تقرير صحيفة هآرتس المذكور وحالة التدهور المستمر التي يعيش في ظلّها المجتمع الاسرائيلي وقياداته ونخبه الحالية، العسكرية منها والمدنية.   


لا يمكننا ألّا نأخذ شهادات هؤلاء الجنود على محمل الجد وتحت طائل المسؤولية، فهم، أي الجنود، يقرّون بأنهم يقتلون الفلسطينيين عشوائيا، لكنهم يشعرون بأنهم فقدوا انسانيتهم ويعودون الى بلداتهم بعد أن قُتلت أرواحهم أيضا ! إنّهم الاستثناءات التي تثبت طبيعة المجتمع الاسرائيلي "وقيمه" ومحرّكات قادة جيشه وقياداته المدنية.


لن أراهن على ما سيحدث في سوريا، فمصيرها سيبقى رهينة لنزاع الامبراطوريات، العاتية منها والكسيحة؛ ولن يبقى امامنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، إلا أن نتعظ قبل فوات الأوان وألا نراهن فقط على عدل "محكمة إسرائيل العليا" الآيلة بدورها الى السقوط قريبا، ولا على يوم اضراب عام للمجتمع العربي تعلنه مؤسساتنا من باب اجترار المواقف وحسب؛ فهذا لا ينجينا من شر ما يحدث أمامنا ولا من مخططات هذه الحكومة، التي تعيش في هذه الأيام، نشوة نصرها الكبير وتشعر انها صاحبة الدور الأكبر في تغيير معالم المنطقة أو ، إن شئنا، في تركيع من كانوا رعاة "محور الممانعة والمقاومة" وحيّدوا أو تشتتوا وضاعوا على دروب امبراطوريات مهزوزة تتلمس نجاة أنظمتها أو تراوغ لضمان حصصها من ريوع "حروب الشام" الواهية.   


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق