غِيرةُ النهدينِ تُشكِلُ شفاهَ السيول/ كريم عبدالله

غِيرةٌ ترفرفُ فوقَ قصائدي الجريئاتِ متباهية ٌ مثقلة ٌ تخطو منعشة ً أجنحتها على أرصفةِ التلهّف تروي خوفَ مخدعها يتلاشى تسوّرهُ ظنون الأفتراءاتِ تحتَ فضاءاتِ الفوانيسِ الراعشةِ ظلالُ الجسدِ أكثرُ عُرياً يخترقُ العيونَ المغلقةِ ضوء عنفوانها تمشي في الزمنِ النافق زهوه مراكبها تخلعُ الصواري البيضاءَ تترجّلُ تتمسّحُ بـ خوفِ قدميها الطفوليتين يهبطُ صوتها يقلّمُ أظافرَ الأشتياقِ السكرى يدفعها الهمس تهمهمُ تجنحُ يخطفُ رشاقةَ محاراتها بئرُ لهفتي فـ تذوبُ منتشيةً تحرقُ زينة َ العوز المتبخترِ الأمطار تستلقي يراودها شفقٌ يُخبّىءُ إصفرارَ طعمَ قرنفلاتها يُزيّنُ التأوّه أظافرها الحالمة تنبشُ فراغات أزمنتي لـ تُزهرَ مِنْ جديدٍ تستيقظ ُ بساتينها العامرة تجمعُ الوجعَ تُلقمهُ وجهَ النسيان يُفتتُ العتمة فجر نهديها الأكثرَ إقلاعاً في سيولي تستشعرُ تماوجَ الطمأنينة متورّدةَ الشفاهِ تمطرُ بينَ أضلاعي المرتعدةِ نبيذ ُ طفولتها تغمرُ عطشَ أنفاسي تبتكرُ علاجاً يزيدُ مِنْ إدمانِ فردوسِ السريرِ الضاجَّ يتأوّهُ آخرِ الليل حينَ تبزغُ أقمارها تتلوّى تضيءُ عتمةَ جسدي المسكون لذّةَ ابتكارِ الارتواء لـ نشفى فـ أُحيّي أنهارها المهمومةِ الضفاف تغسلُ إضطرابَ دموعِ الأشتياقِ بـ كلِّ نظرةٍ حانيةٍ تشتهي أطيافها بينَ جوانحي شفّافة ترتمي تزعزعُ كآبةَ الانتظار المملَّ .

بغداد
العراق

المثقف والسياسي .. وصاية أم انفلات .. مقاربة غير متأنية/ حسن العاصي

على الدوام كانت علاقة المثقفين بالسلطات السياسية تحكمها معايير مركبة وشائكة ومزدوجة وملتبسة في جوهرها وباطنها، وفي أوجهها المتباينة ومستوياتها المتعددة.
إذ أن قطاع المثقفين يشهد تنوعا قزحياً وانتماءات متعارضة. فتجد المثقف الذي يقف بجانب السلطة الحاكمة ويبرر شرعيتها، ويستميت في الدفاع عن قرارات ومواقف السلطة السياسية، ويغالي في تجميل صور الطغاة. وهناك مثقف من نوع آخر ينتقد النظام السياسي ويدافع عن مصالح الشعوب ويتبنى مطالبها. وبينهما نجد أنواع ونماذج متعددة من المثقفين، المثقف المناضل والحزبي والمحايد والمسالم والمستشار والمداهن. المثقف الموضوعي، المثقف المدجن، المثقف الحالم، المثقف المشروع، المثقف الانتهازي، المثقف النموذج.

في مفهوم المثقف
الثقافي في اللغة هو كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية ملكة النقد عند الإنسان. والمثقف في الدلالات الاصطلاحية هو ناقد اجتماعي يسعى إلى تحديد الظواهر وتحليلها ووضع تصورات لمعالجة المشكلات بهدف الوصول إلى مجتمع أفضل. إن تحديد دلالة مفهوم المثقف ما زالت موضع تباين نظراً لصعوبة حصر المفهوم وضبطه بدقة. إذا كانت غالبية التعريفات منحت صفة المثقف لكل من يشتغل في مجال الثقافة عموماً إنتاجاً ونشراً وترويجاً واستهلاكاً، خاصة بعد أن شهدت المجتمعات البشرية تطوراً كبيراً.
المثقف هو كل من ينتمي إلى شريحة أهل الفكر والمعرفة. هم المنتجين للأدب والفنون والعلوم والفلسفة، ولا يمكن حصرهم في قطاع من الكتّاب والصحفيين والعلماء والفنانين والإعلاميين. إذ يعتبر المثقفين أنهم عقول الأمم النيّرة على مدى التاريخ وضمائرها الحية. حيث يتم من خلالهم نشر الوعي في المجتمعات وبهم تتجسد معاني وقيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية. المثقفين هم أول من ينخرط في مراقبة الشأن العام ومحاولة تصويبه عبر إثارة قضايا المجتمع التي تشغل الناس وتتصل بمصائرهم على الصعيد الوطني، وهم المنشغلين أيضاً بهموم البشرية حيث يتشابك المحلي مع الإقليمي والوطني مع العالمي في هذا الكوكب الصغير.
إن تمعنت جيداً في الأدوار البليغة التي يضطلع بها المثقفون لتيقنت أنهم أصحاب سلطة فكرية وأخلاقية ومجتمعية تضعهم في مواجهات متواصلة مع أصحاب السلطة السياسية.
عبر التاريخ كانت الثقافة تعني الحكمة أو الفلسفة أو الدين أحياناً، وكان المثقفين هم الحكماء او الفلاسفة أو الأنبياء أو الأدباء. وكان الملوك والسلاطين فيما مضى يختارون لأولادهم معلمين مثقفين ومربيين يعلمونهم مختلف أنواع العلوم والفنون والآداب ليصبحوا فيما بعد قادة المستقبل.
مفهوم المثقف من التعابير الشائكة، حيث يصعب تحديد تعريف وإطار وحيد له. وقد تبلور هذا المفهوم في القرن التاسع عشر من خلال الدعوات إلى وضع تصورات مستقبلية تبشر بولادة نظام جديد في روسيا عبر مصطلح "الأنتلجنسيا" التي هي في الأصل كلمة بولندية.
 منذ ظهور هذا المصطلح -المثقف- بمعناه المنتشر أول مرة في باريس العام 1894 على أثر إصدار حكم بالنفي على ضابط فرنسي اتهم بالتجسس لصالح ألمانيا، وتدخل الرأي العام في قضيته التي أدى إلى تخفيف الحكم، منذ ذلك الحين طرأت على هذا المفهوم تغيرات كثيرة اتسعت أحياناً وضاقت أحياناً أخرى حسب المرحلة والمكان والظروف المحيطة بالمفهوم.
ذكر الدكتور محمد عابد الجابري أن المثقف إنسان يفكر ويعمل بعقله من خلال معطيات وأفكار لها مرجعية يدور فيها وينطلق من خلالها في أعماله وأفكاره.
وصاغ المفكر الإيطالي غرامشي مفهومه الشهير عن المثقف العضوي في السجن من خلال كتاب دفاتر السجن. وطرح المفكر المعروف ادوارد سعيد
أسئلته حول تعريف المثقفين إذا ما كانوا فئة بالغة الكثرة أو فئة ضئيلة العدد ومنتقون بعناية.
لكن الثابت على مر العصور ان ارتباط النظرية والأفكار بالمواقف والممارسة، ومناصرة المضطهدين والانتصار لقيم العدالة والحرية هي من أهم صفات المثقف أينما وجد.

موقع المثقف
المثقف ضمير الأمة وصوتها. إن الثقافة هي انعكاس للوعي الاجتماعي، وأحد المؤشرات المهمة على مدى تقدم وتطور المجتمعات البشرية. ولأن المثقف يساهم في التنوير من خلال إنتاجه وإبداعاته، وهو بذلك يشارك في التأثير على المجتمع وتحديد خياراته. بهذا المفهوم إن المثقف هو فاعل سياسي بامتياز. 
إن كانت السياسة هي طريقة إدارة شؤون البلاد والعباد، فإن الثقافة بمعناها الشامل هي أهم محرك رئيسي للمجتمع، وهي أبرز أدوات هذه الإدارة، وبالتالي فإن المثقف لا يمكن أن يكون خارج هذه المعادلة لارتباطه الوثيق بالضمير الجمعي، ولا يمكن أن يكون لإبداع المثقف أية معان ولا اية مفاعيل إن اختار أن يكون خارج المجال الحيوي السياسي لمجتمعه، بالرغم من أن السياسي يسعى إلى أن يتكيّف المثقف والإنتاج الثقافي الإبداعي مع توجهاته خدمة لنظامه القائم.
بظني أن المثقفين في البلدان المتطورة اقتصاديا وسياسياً ينعمون برفاهية الاختيار والانخراط أكثر كثيراً من المثقفين في البلدان النامية. ثم أن المثقف المشهور أينما وجد يتحمل أعباء أكبر من بقية أقرانه مما يجعله الأكثر عرضة إلى ملاحقة الأجهزة الأمنية التابعة للسياسي، أو أن تكون هذه الشهرة بمثابة درع للمثقف يحميه من عسف السياسي في بلدان أخرى.
إن تم تهميش المثقف فهذا لأنه لم يتمكن من استنباط أدواته الثقافية التي تجعل منه قادراً على التأثير والتغيير، وربما نستطيع بسهولة إيجاد ساسة كبار ليسوا مبدعين، لكن من الصعوبة أن تجد مثقفاً عظيماً دون أن يكون سياسياً.
منذ سقراط مروراً بالجاحظ إلى ادوارد سعيد وتشومسكي وما بينهما آلاف من المبدعين الذين كانوا فاعلين في الشأن السياسي كل بأسلوبه وأدواته.
بعض المثقفين يشتبكون مع مجمل القضايا الساخنة لمجتمعاتهم، وبعضهم يفضل أن يكون خاملاً في الظل، والبعض الآخر يظن أنه حيادي، لكن لا يجب ان يصاب المثقف بوهم الحياد فيما يتعلق بالقضايا الكبرى وبمصالح الأوطان والشعوب. وأن رأيتم مثقفاً من هذا النوع فكونوا على ثقة إما أنه لا يدرك شأنه ومقدرته، أو أنه ينتظر اتضاح المسارات النهائية كي يحصل على رزقه وحصته من الكعكة. وهذا أسوأ أنواع المثقفين وهو الذي يضع رأسه في الرمال ليخرجه بعد مرور العاصفة. فما هي فائدة الإنتاج الإبداعي لهؤلاء إذ لم تكن هموم العباد والبلاد في أهم أولوياتهم؟

موقع السياسي
إن السياسة هي فن إدارة مصالح الناس والدول من خلال جلب المنفعة ودرء المضرة. السياسي يتعامل مع ذات الواقع الذي يتعامل معه الثقافي، لكن السياسي ينخرط في العمل اليومي بينما المثقف يتعامل مع الواقع والمستقبل، مع الكلي والجزئي في ذات الوقت.
 السياسي مهتم بشكل مباشر في تحويل إنتاج المثقف وتصوراته وافكاره إلى واقع معاش ما أمكن ذلك، وهنا ينخرط بعض المثقفين في النشاط السياسي المباشر، والبعض يحجم عن ذلك.
جدلية ومتلازمة وضرورية، قائمة على تبادل المنفعة، هي علاقة الثقافة بالسياسة، فلا وجود لأحدهما دون الآخر. إن كل من السياسة والثقافة يستثمران في بعضهما، فالثقافة تستثمر في السياسة بهدف تحقيق بعض المكاسب العامة، والسياسة تستثمر في الثقافة لأجل تمرير خطابات سياسية ومواقف محددة.
وكلاهما – السياسي والمثقف – يجتهدان في سعيهما للتوظيف الأكثر جدوى لقنوات العلاقة فيما بينهما. قد يتقدم أحدهما على حساب الآخر، وقد تحدث قطيعة مؤقتة بينهما.
إن المثقف يمارس دوره عبر إنتاجه الإبداعي المختلف، وعبر هذا الإنتاج فإن المثقف يعبر عن رؤيته للعالم كما يراه، وهو بهذا يكون عاكساً للواقع المعاش.
لكن دور المثقف لا يتوقف عند هذه الحدود، إذ عليه أن يقدم تفسير وتحليل فكري وفلسفي وإنساني واجتماعي للواقع، وسبل تطويره وتقدمه.
ينبغي ان نلاحظ أن هناك أداءًا سياسياً منظماً ومؤسساً ضمن أطر وأحزاب وهيئات، وفعلاً سياسياً منفلتاً حراً لا يرتبط بأية منظومة. ولا بد من التفريق بين المثقف السياسي والسياسي المثقف. إن الممارسة السياسية المنظمة تفرض رؤية الجماعة ومفاهيم الحزب بشكل مسبق، في حين أن الفعل السياسي المستقل فهو لا يتقيد بأية مواثيق حزبية. وبظني أن المثقف يكون فاعلاً بقدر ابتعاده من الحزبية وتحرره من الأيديولوجيا والمواقف والمفاهيم التي تفرضها الأحزاب السياسية عادة على أعضاءها. خاصة في الوضع العربي الذي لم يتلمس بعد دربه نحو الديمقراطية الحقيقية، إذ أن الأحزاب يضيق صدرها -على اعتبارها إطار بنيوي فكري سياسي – على الآراء المخالفة مما يؤدي إلى تقليص مساحة الحرية التي يحتاجها المثقف والمبدع للإنتاج الثقافي والفكري، ويشل من قدرتهما، ويحاصر افكارهما وخيالهما، وهم كل ما يملكانه. إذ أن ما يحصل غالباً في العالم العربي أن يقوم السياسي بإجبار المثقف على التمسك بموقف ما دون تغيير، وهذا لا يتلاءم مع دور المثقف. هناك العديد من الأمثلة لمثقفين عرباً انخرطوا في الأحزاب السياسية وتحولوا – يا سبحان الله- إلى أبواق لهذه الأحزاب. وحتى لا يساء فهمنا، نحن هنا لا ندعوا أن يبتعد المثقف تماماً عن الأحزاب، لكن عليه أن يظل محافظاً على استقلاليته وحرية تفكيره لأنهما الوسيلة الأسلم لتحريض مخيلته وذاكرته وبصيرته، ومما يمكنه من المشاركة السياسية عبر إنتاجه الإبداعي الأدبي أو الفني أو الفلسفي الذي يمكن أن يحمل المواقف السياسية في صورة مختلفة عن السياقات التي يمارس فيها السياسي نشاطه. وهكذا يمكن للمثقف أن يمتلك تلك المقدرة التي تمكنه من مقاربة الواقع بكافة مكوناته، فيظهر موقفه السياسي – عبر إنتاجه - واضحاً معبراً عن رؤية سياسية ضمن ارتباطها وتأثرها بالاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والثقافي.

الواقع العربي – حصار مر
في الواقع العربي الحدود غير واضحة بين ما هو مثقف وما هو مبدع، وعادة ما يتم دمج الجميع بصيغة المثقفين. ويتميز المثقفين العرب غالباً بسمة موسوعية وتعدد الاهتمامات وشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، الأمر الذي يؤدي أحياناً انخراط المثقف العربي في السياسة حيث يظن أن المجتمع يحميه، وأنه قادر على أن يصبح منبراً لتمرير الخطابات السياسية في ظل افتقاد معظم الدول العربية إلى مؤسسات المجتمع المدني.
لم يشهد العالم العربي ما شهدته أوروبا من تحولات اجتماعية وفكرية رافقها تغير في تحديد مفاهيم المثقف. فلم يحصل في العالم لا ثورات بورجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة، ولا حدثت فيه ثورات صناعية ولا علمية، ولم يشهد عصور تنويرية.
على مر العصور بقيت ثنائية المثقف والسياسي والعلاقة التي تجمعهما قضية ملتبسة ومتباينة. في الراهن العربي تأخذ هذه العلاقة أبعاداً متصادمة بشكل تصاعدي في كثير من الحالات. وما زالت إشكاليات العلاقة بين المثقف والسياسي، والحدود بينهما، وأدوات كل منهما، وموقع كل منهما ودرجة تأثيره في المجتمع قائمة، ولا زال الجدل والنقاش حولهما يستحوذ على اهتمام المنخرطين بالشأن العام، يخبو أحياناً، ليتوهج هذا الحوار الفكري بين المنشغلين بالثقافة والسياسة.
رغم أن المثقف العربي كان وما زال في معمعة حياة المجتمعات وجزء لا ينفصل من مكوناتها، بل هو – أحياناً - الجزء المتورط في العمل على إحداث تغيرات تؤدي إلى تطور المجتمعات، وهو بهذا المعنى في قلب الحراك السياسي، فيما ينظر له السياسي بارتياب على أنه خطر متوقع يقوض مصالح السياسي.
والتجربة العربية هنا تشير إلى أن معظم الساسة العرب سعوا دوماً بإصرار على إقصاء المثقف العربي من المشاركة في وضع الاستراتيجيات المختلفة للأنظمة العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وكذلك إقصاءه من المساهمة في اختيار آليات إنجاز وتحقيق تلك الاستراتيجيات، بل حتى منعه من تقييمها وإبداء الراي بشأنها. كما كان لمعظم الساسة العرب موقفاً مهيناً من المثقف العربي ومن إنتاجه الفكري، ولم نسمع في عالمنا العربي أن الساسة ومؤسساتهم قد كانت يوماُ حريصة على مشاركة المثقف والمفكر والعالم في وضع تصور حول مشروع وطني وما شابه. ونادراً ما نلاحظ وجود مفكرين ومثقفين متخصصين موجودين كمستشارين في دوائر السياسي، وإن وجدوا فهم للديكور والتزين أكثر منهم للعمل والاستشارة. وعادة ما يتعامل السياسي العربي مع المثقف بخوف وحذر وتجاهل وعدوانية قد تصل إلى سجنه وربما قتله. إذ ان معظم الساسة العرب يتمتعون بخصال منها العنجهية والغرور والتكبر والتعظم والجفاء، لا يقيمون وزناً ولا قيمة للثقافة ولا للمعرفة ولا للفكر ولا البحث العلمي إلا بمقدار ما يخدم مصالحهم ويثبت حكمهم.
لكن وجود المثقف في العملية السياسية هو وجود حتمي وليس اختيارياً، ومن العبث أن يتصور كلاُ من السياسي والمثقف وجود الأخير خارج المشهد، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى أن يفقد المثقف صفته وموقعه، وهو ما يمهد لظهور الوصوليين والانتهازيين والأشباه والأنصاف مما يحاصر الإبداع والكفاءة والنزاهة والفكر، ولنا أن نتصور الأثر المدمر لصعود الغث على حساب النافع للمجتمع.
إذا كانت الأفكار والنظريات يبتدعها الفلاسفة والمفكرين، إلا أن تحويل هذه الأفكار الخصبة إلى واقع عملي يحتاج إلى عقول سياسية عملية تحول الفكرة إلى حلول ناجعة، ذلك أن المثقفين حين يعتزمون التغيير فإنهم غالباً يحتكمون إلى الأيديولوجيا والطوباوية. لذلك عادة المثقف غير مؤهل لهذه المهمة، حيث الأفكار والنظريات تخضع لقوانين التغيير والتعديل والتحول في سياق تطورها وامتحانها في الواقع المحدد. لذلك فإن هذه الأفكار لا تكون بصيغتها الأولى حين ترتقي من مستوى لآخر، وحين تنتقل من مكان لآخر. لا يمكن تعليب وتغليف الأفكار وشحنها ونقلها من واقع إلى واقع آخر، لكن يمكن إعادة تصنيعها وإعادة إنتاجها بصيغ جديدة موائمة لواقعها الجديد. وإن تعاملنا مع الأفكار على أنها هوية ثابتة – دون النظر إلى صيرورتها وقدرتها على التحول- فإنها سوف تفشل.

في المثقف العربي
ما حصل في العالم العربي ومنذ الحملة الفرنسية العام 1789 للآن هو ظهور اتجاهات إصلاحية توفيقية انشغلت بنبش التراث أو الاستعارة من الثقافة الغربية حيناً آخر، مما أدى إلى هزالة ثقافية وولادة مدارس فكرية تقلد الغرب.
في التجربة العربية نجد مفهوم المثقف لا يتوافق تماماً مع المفهوم الأوروبي بعمق التزام "الأنتلجنسيا"، لكننا نجد مثقفين على قدر من مسؤولية الالتزام المجتمعي، ولا نتجاهل أن المثقف العربي يعاني من أنظمة سياسية في معظمها أنظمة قمعية متخلفة تحارب الوعي والثقافة.
على المثقف المساهمة بفعالية في إنتاج وتطوير وترشيد استعمال الأفكار التي تشكل ثقافة المجتمع، يحافظ على قيم وعناصر هذه الثقافة ويعمل على إيصالها وإعادة إنتاجها، ووضعها تحت مجهر السؤال والنقد والبحث.
إن عملية النقد والبحث لتطوير الصيغ هي عملية شاقة جداً تقتضي صياغة خطاب ومفاهيم مختلفة مع ما هو سائد، لكنها تظل أفكاراً تحتاج إلى شروط موضوعية للتحقق لأن المثقف يفتقد الآليات العملية التي يمتلكها السياسي. ومن هنا ضرورة عدم تبعية المثقف للسياسي التي تتناقض غالباً مع ثوابته، لكن من الأهمية قيام تعاون وتنسيق بين الجانبين من خلال أطر نقابية وثقافية مختلفة بما يحقق خدمة أهداف المجتمع.
هذه الرؤية ما زالت بعيدة المنال في الواقع العربي لأسباب متعددة لعل أهمها أن معظم القادة السياسيين العرب لا يعون دورهم التاريخي الذي يتمثل في وعي إرادة الأمة وشرط نهوضها، بل هي قيادة أفرزتها الظروف الطارئة التي مرت بها الشعوب العربية. كما أنها قيادة لا تكن للثقافة والمثقفين أي احترام وتقدير، وتعمل على إخراج المثقفين من المعركة وتحولهم إلى تفاصيل وأدوات في اللعبة السياسية.
ومعظم الرموز والعقول الفكرية والثقافية العربية لا تجد دورها في السياق المجتمعي، لذلك فهي عاجزة عن المساهمة في المشروع الحضاري العربي.
من أبرز المعيقات التي تحول دون ممارسة المثقف العربي لدوره هي نخبوية الثقافة والمثقفين والتي تشكل قطيعة بين المثقف والناس، ثانياً عدم تحديد الأولويات، فعلي سبيل الذكر لا الحصر فإنه منذ عصر النهضة قد أولى المثقفين العرب القضية الوطنية والعمق القومي والوحدة الاهتمام الأكبر على حساب القضايا الاجتماعية.
في الحياة يرتبط الفكر بالواقع المعاش ارتباط جدلي تبادلي وثيق، وهو القاعدة الرئيسية لكل معرفة، وبالتالي فإن هذا الواقع هو المكان الطبيعي الذي تمتحن فيه الأفكار عبر وحدتها مع العمل، إذا أن صيرورة العالم لا تدركها المعرفة الإنسانية إلا عبر الممارسة التاريخية. وبالتالي فإن رؤية الواقع وملامسة عناصره شرط ضروري لفهمه، وامتحان الأفكار من خلاله أهم مقومات تغييره.

هل هذه الشروط متاحة في الواقع العربي؟
لا أظن أنه من اليسير على المثقف العربي تغيير واقعه لأسباب متعددة لعل أبرزها أن معظم المثقفين العرب مازالوا يتعاملون مع أفكارهم على أنها عقائد مقدسة وكشعارات طوباوية وألواح أيديولوجية وإن شئت فلدي البعض هي مستحاثات وخطاب خشبي.
فالتطورات السريعة التي تحصل باستمرار في المشهد العالمي بعد ثورة المعلومات الكبيرة تجاوزت ثنائية المثقف والسياسي بعد أن ظهر لاعبون جدد لهم قدرة مهمة وبارزة في التغيير مثل أصحاب الشركات العملاقة " آبل، مايكروسوفت، فيسبوك، وغيرهم".
ولك أن تتساءل اليوم عمن يؤثر في الواقع أكثر، بيل جيتس ومارك زوكربيرغ وأمثالهم أو جون بول سارتر أو نعوم تشومسكي وادوارد سعيد وغيرهم من كبار المفكرين الإنسانيين؟
مازال المفكرين التقليديين – العرب منهم خاصة - يتحدثون عن الواقع بخطاب يقيني مثالي، بينما هذا الواقع ذاته لا يكف عن مفاجأتهم ويكشف هشاشة أفكارهم وأوهامهم، بينما نلاحظ أن العاملين في الوسائل والأدوات الثقافية الحديثة فإنهم يخلقون واقعاً جديداً. فهل نشهد انقلاباً في المفاهيم الثقافية والاجتماعية يؤدي إلى إعادة صياغة وتحديد المصطلحات الفلسفية؟

الألم بوصفه مرتبة عليا في الرّؤية الشّعريّة: قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي يوسف الهمّامي/ مادونا عسكر

- النّصّ:

الغيمة الغامضة تسند 
عبقها إلى صحراء غصن كسير
..
الأرض تتثاءب
بين ذراعين ووشم
..
بكاء الرّحيق يتعالى
في النّاي عبر الثقوب
..
الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه

- القراءة:

يمكث الشّاعر بين الأرض والسّماء. يهتمّ لما فوق ويحمل أثقال الأرض. لكنّه بلغ مقاماً رفيعاً من الألم. فالاهتمام بالعلو كشف تفاصيل العمق.
الغيمة الغامضة/ رؤى الشّاعر الّتي تبلسم الضّعف الإنسانيّ وتداوي جرحه. إلّا أنّ الشّاعر يتألّم بصمت الشّعراء القدّيسين حاملاً حزن الكون في قلبه وبهجة العلا في آن. ليس الغموض هنا دليل التباس وإنّما دليل إعجاز الغيمة، وهي الحاملة الحياة تواجه الموت.
الغيمة الغامضة أو رؤى الشّاعر غطّت العالم. وهي أشبه بخيمة نُصبت من أجله ليتطلّع على هذا العالم من عمق شعره ويداوي بنور الشّعر آلام الإنسانيّة. (الغيمة الغامضة تسند // عبقها إلى صحراء غصن كسير). الغيمة المهيّأة للفيض تقابلها صحراء غصن كسير. وإن دلّ الغصن على أمر فهو يدل على ضعف ووهن وألم وظمأ وربّما فراغ أشبه بالموت أشارت إليه (الصّحراء). ولئن كانت الغيمة  قد سندت عبقها إلى الظّمأ والألم والفراغ المحزن تبيّنت عين الشّاعر الحاضنة لهذا الألم/ الموت. لكنّ العين لا تملك ذراعين يحتضنان بل هي تحتوي بما ستفيض به من ماء. ولو تعمّق القارئ في المعنى المحتجب في قلب الشّاعر لوجده متألّماً حدّ فيض الدّمع المحتوي لا المشفق وحسب. ما يعني أنّ الشّاعر يحتوي الكون بالقوّة بالدّمع ويحتويه بالقوّة بعالمه الشّعريّ الرؤيويّ.
لكنّ الأرض مسلوبة الإرادة غير مبالية ولا تستجيب لهذا الاحتواء (الأرض تتثاءب// بين ذراعين ووشم). وما تكاسلها إلّا دلالة على الألم المكثّف الّذي سلب إرادتها فخارت قواها وباتت غير قادرة على المقاومة. والشّاعر المقيم في رؤاه مجروح في محبّته لهذا الكون، متألم في عمق إنسانيّته. إنّه ألم الوعي وألم الحبّ.
الوعي الممزوج بألم المعرفة والحبّ الفيض الّذي يغرق فيه الشّاعر ويهفو إلى إغراق الأرض به. وامتداداً للألم المعبّر عنه في السّطور السّابقة، يتوسّع الشّاعر في وصف حاله وما يسبغه عليه الألم فيدخل في محاكاة تثاقفيّة تفاعليّة مع جلال الدّين الرّومي وقصيدته (النّاي الحزين) وما كان فيه من حزن:

"أنصت إلى النّاي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته:
مذ قطعت من الغاب، والرّجال والنّساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكلّ من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل
أشدو للسّعداء، وأنوح للبائسين 
وكلٌّ يظنّ أنّني له رفيق..."

ويتماهى حزن ناي الرّومي مع حزن ناي الشّاعر، إلّا أنّ حزن الهمامي يشدو بكاء ورحيقاً، ما لم يطله الرّومي في قصيدته. فرحيق البكاء ممزوج ببهجة السّماء وألم الأرض و(الأخضر الغافي يخافت في الصّدر). الأخضر/ الحياة العائد إلى الشّاعر المتغلغل في ذاته يثق بالغيمة المسندة عبقها إلى صحراء الغصن الكسير حتّى وإن غامر الموت في تحدّي الحياة.

الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه.

إنّ الدّخول إلى عمق الأشياء صعب، ولكنّ الأصعب منه ملامسة كنه الحقيقة والأشدّ صعوبة هو الإقامة هناك بوعي رؤيويّ يطلّ على العالم من خلال هذه النّافذة المفتوحة والمتّقدة من الرّؤى، هذا ما يعمل الهمّامي عليه دوماً في نصوصه الّتي تنحو نحو الباطن الإنسانيّ الغنيّ بالأفكار والمتشبّع بالبصيرة.

القائمة المشتركة و"المثلية الجنسية" في الكنيست/ جواد بولس


عرفت المجتمعات البشرية ظاهرة "المثلية الجنسية" منذ بداية تكوّناتها الاجتماعية، بيد أن شعوب الأرض لم تتفق على موقف موحّد إزاءها؛ فشواهد التاريخ تظهر تباين مكانتها واختلاف طرق استيعابها وتعريفها.
 فهل هي مرض ؟ أم نزعة مكتسبة؟ أم حالة/ جينات مولودة مع صاحبها، تمامًا كلون العيون او لون البشرة؟ 
قد يكون الخوف على انقطاع النسل، منذ البدايات، سببًا لاستعداء الظاهرة واحتسابها "شذوذًا" ؛ مع أن البشرية عرفت حقبًا استساغت مجتمعاتها وضع المثليين والمثليات كمعطى اجتماعي مقبول، فخلّدت أدابُها وفنونُها قصصَ هؤلاء العشاق لمعشوقيهم والعاشقات للمعشوقات، ومنهم الأميرات والمغنيات والشاعرات والابطال والفلاسفة وكبار القادة وأشهر الحكام.    
في الماضي وقبل التاريخ حرّمت الديانة اليهودية " الجماع المثليّ" وأثّمت من يمارسه، ثم تبعتها الديانة المسيحية فأبقت على ذلك التحريم، مع أننا شهدنا مؤخرًا تبديلًا طفيفًا في موقف البابوية في هذا الشأن . وتلاهما الاسلام، رغم تباين مواقف الفقهاء حول مصير من يضبط متورّطًا بهذه "الخطيئة".
لن نعالج في هذه المقالة كيف ولماذا حاربت بعض المجتمعات هذا "الشذوذ" وكيف، بالمقابل، تكيّفت، أحيانًا، معه وتساهلت مؤسساتها مع من يمارسه؛ لا سيّما  إذا عرفنا أن حجم انتشار الظاهرة، في عصور عديدة، واختراقها لمجتمعات الشرق والغرب على حد سواء كان كبيراً؛ وكذلك إذا قرأنا ما توصل إليه علماء اليوم ونتائج أبحاثهم التي ينزع معظمها، من دون تأكيد علمي قاطع،  إلى أن الإنسان لا يختار "شذوذه" المثلي إراديًا، إنما يولد معه، سواء مع جينات خاصة أو عن طريق أي تفاعل فيسيولوجي دماغي أو غيره.
البعض لا تثيره الدراسات الغزيرة التي شهدها عصرنا رغم مسعاها  إلى سبر غور الظاهرة وتشخيصها علميًا وكشف مسببات حدوثها ؛ ويصرّ هؤلاء أن لا فائدة من وراء التفتيش عن "مسبب حصول الحالة"  لأن من حق المثليّ/ة في عصرنا أن ينادي ويقول : "من حقي بأن أكون مثليّاً، سواء وُلدت هكذا أو صرت هكذا بعد ولادتي".
بهدي هذا النداء وبروح عصر الحرّيات الفردية، بادر النائب الجبهوي دوف حنين إلى سن قانون يحظر التمييز على أساس "الهوية الجندرية" أو "المثلية الجنسية".  مع هذا وباستثناء رفاقة نواب الجبهة الديمقراطية لم يوافقه شركاؤه في القائمة المشتركة ولم يصوّتوا معه.    
لم تكن مبادرة النائب حنين الأولى من نوعها; فقبل أعوام نجح بتمرير قانون حظرت بموجبه التفرقة ضد الطلاب في مدارس الدولة على أساس "الهوية الجندرية"  أو "الميول الجنسية المثلية" ، أما اليوم فيطمح مشروع قانونه  إلى حظر  هذا النوع من التمييز  لا في المدارس فقط، بل في جميع مناحي الحياة ومؤسسات الدولة والمجتمع.
لم يصوّت نوّاب القائمة المشتركة مع مشروع قانون زميلهم رغم محاولات اقناعهم بأن القضية هي قضية حقوق ومبدأ ، "فجميع بني البشر سواء رغم اختلافاتهم .."  كما أكدت لهم النائب عايدة سليمان توما مضيفةً، ربما في إشارة إلى مواقف زملائها في القائمة قائلة "أنا اعتز بهذا الموقف وأستغرب وأستهجن التساؤلات والجدل الذي يدور حول المفهوم ضمنًا بنظري أن يحصل الناس على حقوقهم وفرصهم بشكل متساوٍ وعادل". 
بعكس نواب الجبهة فانّ الشريعة الاسلامية وتعاليمها تحدد موقف نواب الحركة الاسلامية من قضية المثليين، ولذلك فقد عارضوا المبادرة ولم يصوتوا معها.  
كلا الموقفين متوقعان, فنوّاب الجبهة كانوا أمينين على مبادئهم من قضايا   "الأقليات المضطهدة "وقضايا" المختلفين الآخرين "وعلى ضرورة دعم مساواتهم" كما أكد  النائب حنين، حين صرّح بأن حظر التمييز ضدهم "يجب أن يكون مطلقًا وبدهيًا عند كل انسان يسعى للعيش في مجتمع سليم ويعامل أفراده باحترام كبني البشر" . وبالمقابل متح موقف الحركات الإسلامية ، كما قلنا، من عقيدتهم وايمانهم بأن المثلية، الذكورية والأنثوية، هي حالة شذوذ مرفوضة، أو كما عبر عن ذلك النائب مسعود غنايم موضحًا:  "نحن ضد هذه الظواهر والمظاهر، ولا نؤيدها بأي شكل من الأشكال" .  
غاب موقف الحركة العربية للتغيير عن المشهد، ويبدو أن قادتها آثروا الاستجارة بخيمة الصمت أو "الجلوس على السياج"  في موقف ضعيف يفيض "ديبلوماسية مزركشة" وهشّة, لكنه حتمًا سيحسب عليهم. بينما لم يكتف نوّاب حزب التجمع بالامتناع  عن التصويت، بل حاولوا تبرير قرارهم بما يعتبره كثيرون "كعذر  أقبح من ذنب" ، وذلك بعد أن  أوضح رئيس الحزب النائب جمال زحالقة في موقف هلامي ، أنهم "ليسوا مع القانون وليسوا ضده" !! فهذه المسألة "ليست من أولوياتنا".
قد يعتقد البعض فعلًا أننا في صدد مسألة هامشية، خاصة إذا عدّدنا أصناف  المخاطر الجسيمة التي يواجهها المواطنون العرب في إسرائيل؛  لكنني، لا أوافق هؤلاء بل أرى أن الاختلاف حول هذه المسألة، كما مارسته القائمة المشتركة،  والنظر في خلفياته ومبرراته، كما أعلنت أو كما أخفيت، يعكس، كما قلت مرارًا، استحالة تحول هذه القائمة المشتركة إلى قوة سياسية مؤثرة وقادرة على الدفاع عن حقوق المواطنين العرب في إسرائيل، وهي إذا لم تتغير جوهريًا ،كما اقترحنا مرارًا، ستبقى عاجزة عن حماية المجتمع وانقاذه من سوء المصير .
الدفاع عن الحريات الانسانية الأساسية لا يتجزأ؛ ومن يبرر رفض وقوفه ضد  التمييز بين مجموعات من البشر بتحسس مفرط وخضوع لذهنيات وتقاليد موروثة، لن يكون قادرً ا على الدفاع عن حريات الجماهير المستضعفة، ومن يهادن جيوبًا يحسبها من مصوتيه في المستقبل قد تنزعج من قضية ما زالت تعتبر ملتبسة الجذور  بعد أن قيّدتها محابر الزمن الأغبر ، في سجل " التابوهات" المحظورة، سيجد نفسه حبيس تلك "الجيوب" وأسيرًا في عراها; ومن لا يقف إلى جانب "المختلف" و"الآخر" في محنته ومن أجل حريّته على جسده وأحلامه،  سيبقى هو "الآخر المختلف" المهزوم على أرصفة العجز  والأوهام.
يصرّ البعض أن يبقي قضية الجندرية والمثلية في أقبية الخيام وعلى الاسرّة في غرف النوم، وآخرون يسوّقون حروبهم الطاحنة ضدها بذريعة كونها سلعة غربية امتهنها الاعداء عبر الزمن السالف، ويمارسها اليوم الكفار؛ وعلى الرغم من رواج دعاياتهم وطغيانها في بعض المساحات، ستبقى الحقائق نزيلة في خزائن الأدب ومحفورة في بطون التاريخ؛ فقوائم الكتب العربية التي تعاطت مع تاريخ معاشرة الذكور للذكور وفنون حب السحاقيات والغزل في الغلمان  والجواري، لا يعد ولا يحصى .
كما بدأنا سنختم ونقول: تاريخ البشرية مليء بقصص المثليين والسحاقيات وبانتشار الظاهرة في بعض المجتمعات وبملاحقتها في أزمنة أخرى. لن نعود الى زمن الفراعنة ويكفي أن نتذكر عهد افلاطون وجميع فلاسفة الإغريق ثم الاسكندر المقدوني، ومرورًا بعهد الرومان وفارس حتى شيوعها  في قصور بني امية وبني العباس والفاطميين والموحدين والمرابطين وغيرهم؛  فمن امبراطورية لأخرى أضحى حب الغلمان إسرافًا في الترف وعلامة من علامات المجتمع المخملي وازدهاره في قصور الأغنياء والأمراء وقصائد الشعراء.
لم تعد أخبار تلك الليالي والأيام مكتومة لأنها  تملأ صفحات الكتب والمجلدات وذلك من "زمن التبر"  حتى زمن " الخبز الحافي" .
المثلية الجنسية ليست مرضًا ولا شذوذًا، وهكذا يجب أن يتعامل معها كل من لا تملي عليه عقيدته الدينية موقفاً مغايراً. وهي ليست من أمور "السلطان" ولا من شأن الأفراد ، وإذا قبلنا ذلك سيصبح تخيّلنا لما يقوله لنا  المثلي/ة  سهلًا؛  فهو مختلف عنا  ولا يريد منا حسنة أو قناعًا ولا أن ننمطه في خانة من الخانات، بل يطالبنا وبكل بساطة بأن ندعه / ندعها يعيش/ تعيش وأن لا نقرر عنه ومن أجله؛ فالمثليون يعيشون بيننا ومثلنا، وكثيرون منهم عاشوا ويعيشون كأصدقاء لنا، فرحنا لأفراحهم وبكينا لأوجاعهم وحزنّا عندما فارقونا ورحلوا.
فلماذا عندما تصيرون قادة  و"سياسيين"  تتنكرون لذواتكم ؟      

خَريفٌ مَدِيد/ محمود شباط


يا مَوطِناً أَبْـعَدْتَـنـي 
أوقَعتَـنِـي
بَينَ الـمَـنَافِـي والفَيَافِـي
والرَّغِـيـفْ
بَينَ إِعصارِ الـمُحيطِ
 والحَفِيفْ
فاسْتَـرسَلَ وَحشُ الغِيَابْ 
واسْـتَــغْــلَـــــقَ دَربُ الإيَـــــابْ
ما أعْجَفَ 
ما أجْحَفَ 
ما أنْشَـفَ 
ما أطْوَلَ هَذا الخَرِيـفْ؟؟! 

محاولة شفاء فاشلة/ سماح خليفة

يبدو أن الزمان والمكان قد دخلا في هدنة مع الإنسان هذا الصباح، لم تفزعني اليوم أي نداءات استغاثة، لا من مكان ولا من حيوان ولا من إنسان!!، نسمات باردة لذيذة داعبت جسدي حتى أيقظتني من حلمي الجميل إلى صباح رائق أجمل، لا صرخة من جسد أرض تغتصب، لا "جعير" لتلك البقرات التي يتركها صاحبها جائعة تطلب قوتها للحياة، لا صرخة لطفل يخرج من بيت الجيران وقد نهشت أظافر الجوع معدته حتى شق الفجر يستنجد بأمه؛ لتسكت عصافير معدته المستنفرة. فقط هي عصافير الدوري تدور في فلك الصباح ترسل تغريداتها العذبة النابضة بالفرح، تسبح الإله في معزوفة فطرية تفوق تشيلو بتهوفن بعقود؛ فتغنيني عن تغريدات التويتر الباهتة.

أكتفي بفنجان قهوة، ونسمات الهواء التي تحتضنني بحنو، وموسيقا الدوري، وشاشة اللاب التي تبقي أصابعي وذاكرتي حية، قوتي اليوم مائز زاخر بالأمل.

شخصيات روايتي تقودني من جديد، تسافر اليوم خارج حدود الوطن، تحاول افتعال الفرح كطقس من طقوس الحياة، ولتطيل عمر الرواية، هذا ما تعتقده هي، ولكن لا أعرف إن كان علي أن أتدخل لأدس في طريقها حدثا مأساويا يعبث في خارطة الوجود الشكليّ لديها، فتصرخ عناصر الرواية مستنجدة لأعيد ترتيب أحداثها فلا تفقد شغفها للبقاء؟!

لا...يبدو أنني سأتركها ترتب أفكارها بهدوء وتصالح أبجديات الحياة؛ لتنهض بحرف راق يرتدي لون البقاء.

ألجأ برفقة أشيائي لشاشة معا، أحاول أن أجد مكانا لي في هذا العالم الذي يضج بالأحداث، ماذا أجد؟ صفقة القرن تجرد العرب من كرامتهم، فتاة تقتل والدتها بدم بارد، ثلاثة شبان يُعتقلوا على حاجز زعترة، روايات عن مرارة الأسر، وليمة الموت غزة ومباحثات من قبل سفاحيها، تنوع للمارثونات، ماراثونات للتبرع بالموت وأخرى للتبرع بالحياة،.......الخ

يتجدد الأمس باليوم في المواقع الإخبارية!! لا عناوين جديدة، لا أمل ولا حياة جديدة تنبض من الشاشة، ألتفت إلى فنجاني أجده قد فرغ، أهجره وألتفت إلى عصافيري الدوري لأكمل معها ما بدأناه من طقوس الحياة، أجدها قد هجرتني؛ فقد أفزعها ما أريق من دم على أصابعي وأنا أحاول البحث عن حياة وسط الموت.

ها أنذا الآن وحيدة من جديد، أمارس طقس الكتابة الذي لا يبارحني، وأصب جام وحدتي في حروفي اللا لون لها!!!

هل في الحرق حضارة؟/ لطيف شاكر

حرق  الانسان

يقول ساويرس بن المقفع المجلد الاول :كان العرب يستخدموا اسلوب احراق المتمردين او العاجزين عن سداد الضرائب وكان شعارهم سددوا مالهم واعفوا من الحريق.

حرق المدن

يقول ساويري بن المقفع :والمدن التي شرعت في المقاومة كان عمرو بن العاص ينشب النار في اسوارها وبيوتها وطرقها وزروعها مثلما فعل بدمياط وللمدينة ذات النهرين

يقول النيقوسي  :فانه لم يدخر عمروبن العاص وسعا لتحقيق هدفه واستخدام كل وسائل الحرب في عصره ,كما يقتضي منطق الغزو لاخضاع البلد المطلوب ربما كان الحرق او التهديد بالحرق اكثروسائل عمرو بن العاص .

حرق الكتب

  يقول المفكر د.احمد البغدادي :حرق أو إتلاف الكتب في التراث العربي الإسلامي تفردت به الحضارة العربية الإسلامية، وهو إتلاف إما أن يكون قصدياً متعمداً، على نوعين: إتلاف السلطة للكتب، سواء أكانت هذه السلطة حاكماً، أو مجتمعاً، أو فرداً، أو العادات والتقاليد. وإتلاف شخصي للكتب، لأسباب علمية، أو اعتقادية، أو نفسية، وهو كثير في تراثنا العربي الإسلامي، بخلاف الإتلاف غير المقصود في الحروب، أو الحرائق، أو الكوارث الطبيعية.

ويقول الكاتب  ناصر  الحزيمي: "تعددت طرق إتلاف الكتب في تراثنا، إلا أنها لم تخرج عن أربع طرق معروفة ومعهودة وهي:

أولاً: إتلاف الكتب بالحرق.

ثانياً: إتلاف الكتب بالدفن.

ثالثاً: إتلاف الكتب بالغسل بالماء والإغراق.

رابعاً: إتلاف الكتب بالتقطيع والتخريق.

. يقول العلامة ابن خلدون فى كتابه ( مقدمة ابن خلدون ) كاشفاً الستارعن خصال العرب ...
" العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب والسبب فى ذلك إنهم امة وحشية باستكمال عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلة ... "
و يقول ايضا :
 العربي لا يطيق أن يرى حضارة مزدهرة وانه يميل إلى تخريبها كلما سنحت له الفرصة , وكان الجنود الذين صحبهم عمرو بن العاص فى فتوحاته فى مصر من البدو القح الذين لم تهذبهم الحضارة والمدنية بعد , ومن ثم فإنهم لم يقدروا الكتب والمكتبات حق قدرها ".
و يكشف عن سابقة للعرب فى حرق الكتب فيقول:.
 أن للعرب سابقة حرق جميع كتب الفرس بإلقائها فى الماء والنار  الأمر الذى يؤكد وصمة العاص فى حرق مكتبة الاسكندرية

كانت السلطات تمارس العنف نحو العلماء أنفسهم لهاذا كانوا يحرقون كتبهم بأيديهم بدءً من (أبو ذرا الحافظ) ثم (أبو السعود) و (الزاهد) و (الدارمي) و (الطائي) و (ابن جبير) و (الربعي) و (التوحيدي) و (القرطبي) وغيرهم من العلماء والمفكرين.

 حرق المكتباات

حرقت في العهود الاسلامية مكتبات عديدة نذكر منها علي سبيل المثال الآتي:,

اولا مكتبة الاسكندرية :عندما غزا العرب المسلمون مصر في عام 641م وقف عمرو بن العاص أمام مكتبة الإسكندرية العملاقة محتاراً  .فبعث الى عمر بن الخطاب يسأله ماذا يفعل بها, فكان جواب عمربن الخطاب : أنه إذا كان فيها ما يخالف شرع الله أن يحرقها، فماكان من عمرو بن العاص إلا أن أحرق مكتبة الإسكندرية بكل ما تحتويه من أعظم المؤلفات والنفائس العلمية في العالم القديم و كانت هذه نهاية أعظم مكتبة في تاريخ البشرية على يد الغزاة العرب

كان أول من تعرض لحرق العرب لمكتبة الإسكندرية هو الرحالة الفارسى والطبيب المشهور عبد اللطيف البغدادى الذى عاش فى الفترة ما بين ( 557 - 622 هـ. ) ... وقد زار هذا الرحالة مصر فى نهاية القرن السادس الهجرى , وكتب عن أثار مصر وحوادثها فى كتاب أسماه ( الإفادة والإعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة فى مصر ) ففى ص 28 من هذا الكتاب , كتب هذا الرحالة ويقول:

  وأرى أنه كان الرواق الذى يدرس فيه أرسطو طاليس وشيعته من بعده ,وانه دار العلم التى بناها الإسكندر حين بنى مدينته وفيها كانت خزانة الكتب التى أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر..

 ثم يأتى ابن القفطى وهو مؤرخ مسلم مصرى عاصر البغدادى , وقد ولد فى مصر بمدينة قفط وعاش فى الفترة ما بين

 ( 565 – 646 هـ. ) وقد تعرض ابن القفطى للحادث بشىء من التفصيل فى كتابه ( أخبار العلماء فى أخيار العلماء ) وهو ما ذكره جورجى زيدان فى كتابه ( التمدن الإسلامى).

 قال يحى النحوى يعمرو بن العاص:  ...فأما ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه , وأما ما لا نفع لكم به فنحن أولى به , فأمر بالإفراج عنه

 فقال عمرو :وما الذى تحتاج إليه ؟ " , قال ... " كتب الحكمة فى الخزائن الملوكية , وقد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها  فقال عمرو " لا يمكننى أن أمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين " , وكتب إلى عمر , فورد عليه كتاب عمر يقول فيه ... " وأما الكتب التى ذكرتها فإن كان ما فيها ما يوافق كتاب الله ففى كتاب الله عنه غنى , وان كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها . فتقدم بإعدامها " , فشرع عمرو بن العاص فى تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها فى مواقدها , وذكرت عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا أنها استنفذت فى مدة ستة أشهر .

ثانيا مكتبة فارس: إن المسلمين عندما فتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم , كتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فى شأنها فكتب إليه عمر:

  اطرحوها فى الماء فإن يكن بها هدى فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله تعالى فاطرحوها فى الماء أو فى النار فذهبت علوم الفرس فيها ادراج الرياح..

ثالثا مكتبة بغداد : في العام 1171 قام صلاح الدين الأيوبي بحرق مكتبة دار الحكمة الفاطمية في القاهرة التي كانت بدورها أهم منارات العالم الإسلامي في ذلك الوقت, وأمر بنزع أغلفة الكتب و أن تصنع منها أحذية لجنوده ... وبذلك كانت نهاية الفكر الفاطمي ,الذي كان احياء للفكر اليوناني المصري الذي تم إحراقه أيام عمرو بن العاص.

و قيل أن عدد الكتب التى تم تدميرها قد بلغت فى مصر والشام نحو أربعة ملايين مجلد.

رابعا مكتبة المجمع العلمي :في يوم 18\12\2011 قام مجموعة من الغوغاء المصريين بميدان التحرير بحرق المجمع العلمي الذي يحوي على أنفس المخطوطات في الشرق ,ومن بين الكتب التي أحرقت النسخة الأصلية لكتاب "وصف مصر" الذي يعتبر أهم كتاب وصفي لمصر على الاطلاق والذي تم وضعه بأمر من نابليون بونابرت الذي أغرم بمصر وحضارتها وجلب معه من ضمن حملته الشهيرة أكثر من 300 عالم ليعملوا على وضع هذا الكتاب. إضافة إلى أغلب مخطوطاته التي يزيد عمرها على مائتي عام، وتضم نوادر المطبوعات الأوروبية التي لا توجد منها سوى بضع نسخ نادرة على مستوى العالم.


يقول د. شعبان خليفة فى كتابه ( مكتبة الإسكندرية الحريق والإحياء)

" إن عمر بن الخطاب يمكن أن يكون فعلاً قد أصدر تعليماته المذكورة بحرق المكتبة والكتب باعتبارها من تراث الوثني

  وقال ايضا :تردد فى المصادر المختلفة حالات إحراق المكتبات على يد المسلمين فى بلاد أخرى غير مصر ..   

  كما قال :إن سلوك المنتصر فى كل العصور بعد الانتصار العسكرى أن يأخذ فى تدمير فكر المهزوم حتى لا تقوم له قائمة بعد ذلك أبداً ويكون ذلك إما بإحراق وسحق الكتب والمكتبات أو نقل تلك الكتب إلى بلد المنتصر..

  يقول لنا عبد الخالق سيد أبو رابية فى كتابه ( عمرو بن العاص بين يدى التاريخ ) -

إن إحراق الكتب كان أمراً معروفاً وشائعاً , لكل مخالف ممن خالفه فى رأيه .

 وذكر بأن عبد الله بن طاهر أتلف فى سنة 213 هـ. كتباً فارسية من مؤلفات المجوس

  ويقول حاجى خليفة فى كتابه ( كشف الظنون فى أسامى الكتب والفنون)  

" أن العرب فى صدر الإسلام لتعلقهم وخوفهم من تسلط العلوم الأجنبية على عقولهم كانوا يحرقون الكتب التى يعثرون عليها فى البلاد التى يفتحونها

 كتب ناصر بن رجب من تونس مقالا عن (تدمير الآثار جريمة في حقّ ذاكرة الإنسانية) ذكر ان ( حرق الكتب والمكتبات سنّة غير حميدة سار عليها إثنان من الخلفاء الراشدين. فقد أحرق عمر بن الخطاب صُحُفا جُمعت فيها أحاديث الرسول على ما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى

 إن العرب فى صدر الإسلام لم يقنعوا بشىء من العلوم إلا بلغتهم وشريعتهم و

  وكما هو معلوم للجميع بأن عثمان بن عفان قام بحرق جميع نسخ القرآن من قبل , وانه استبقى نسخة واحدة

وماذكرته عن المكتبات العامة, اما المكتبات الخاصة فلاحصر لها منها مكتبة ابن رشد, ثم تدمير مكتبة المنصور في قرطبة في عام 1000. مكتبة الفقيه داود الطائي الذي يسميه (تاج الأئمة) الذي ألقى بكتبه في البحر.

وسفيان الثوري الذي نثر كتبه في الريح بعد تمزيقها وقال (ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفاً)، وأبي سعيد السيرافي الذي أوصى ابنه أن يُطعم كتبه النار. 
وهذا غيض من فيض والمقال لايسمح اكثر مماذكر

إذا فاضَتِ النفسُ الأبيَّةُ بالأسَى/ حاتم جوعيه

   
نظمتُ  هذه  القصيدة  الشعريَّة   ارتجالا  وتعقيبا  على  بيت  شعر  مشهور للشاعر العباسي الكبير  حبيب بن أوس الطائي ( أبو تمام ) وهو :
( شَكوتُ  وما الشَّكوى  لِمثليَ عادة     ولكن  تفيضُ  النفسُ  عندَ  امتلائِهَا )
.. وأما أبياتي الشعريَّة التي أعارضهُ فيها  فهي :
حياةٌ     تجرَّعْنا    سُمُومَ     بلائِهَا       وَما   كانَ   حَظّ  في  نعيمِ   رَخائِهَا 
وَقد   تُقبِلُ  الحاجاتُ  وَهْيَ   بعيدةٌ       وَتسوَدُّ    أجواءٌ     بُعَيْدَ     صَفائِهَا
إذا  فاضَتِ  النفسُ  الابيَّةُ   بالأسَى       فليسَ     لهَا   غيرُ    الإلهِ    لِدائِهَا
إلهٌ    مُحِبٌّ    لا     يُخَيِّبُ    عبدَهُ       وفي الضِّيقِ  والأهوالِ  كلُّ  رجائِهَا 
إلهٌ   يُنجِّي  النفسَ  من  كلِّ  مَازق ٍ      تنالُ   المُنى   واليُسرَ   بعدَ   شقائِهَا
ويرجعُ    للقلبِ   الكئيبِ   صفاؤُهُ       وَللأوْجُهِ   الحَيْرَى   جمالُ    بَهائِهَا
وليسَ    لنا   غيرُ   الإلهِ   لِضيقةٍ        بهِ  سَوفَ  تلقى النفسُ  شهدَ  شفائِهَا 
وَبالبِرِّ   والإيمانِ   فجرُ  خلاصِهَا       وفي  خالص ِ الأعمالِ  نورُ  سَنائِهَا 
بإيمانيَ  اجتزتُ  الصِّعَابَ  وَإنَّني       لثمتُ  شموسًا   شَعشعَتْ  في سمائِهَا
وَقرَّتْ عيوني  بَعدَ  خطبٍ  مُؤَرِّق ٍ     وَنفسيَ    في   صفو ٍ   بُعَيْدَ   عَنائِهَا 
وَمَنْ    يجعل   اللهَ   منارًا   لِدربهِ       سينجو  مِنَ  الضّيقاتِ  رغمَ   بلائِهَا

معادلة الفرزدق بين عدالة القضية الفلسطينية ومصالح روسيا وصفقة القرن/ د. عبير عبد الرحمن ثابت

تقتصر صفقة القرن فى مضمونها على إنهاء لب الصراع  العربى الاسرائيلى؛ ألا وهى القضية الفلسطينية، ولكن أبعاد تلك الصفقة بالتأكيد تشمل العالم بأسره نظرا لأن منطقة الشرق الأوسط هى تاريخيا المحرك السياسى للعالم كونها تحوى المخزون العقائدى له وكذلك مخزون الطاقة العالمى فى أراضيها، وعليه فإن صفقة القرن لن تمر دون إشراك القوى العظمى إن لم يكن فى رسم معالمها فليس أقل من جني مكاسب من تمريرها، ونظرا لطبيعة الصفقة الشاذ والمشبوه من منظور محايد كمنظور الأمم المتحدة التى أقرت آلية مختلفة تماما لحل الصراع؛ فمن البديهي أن تجد الإدارة الأمريكية نفسها مضطرة لتقديم تنازلات لتلك القوة لتمرير صفقة من هذا القبيل ومنحها تأشيرة المرور.

ان ملف التسوية للصراع العربى الإسرائيلى والفلسطينى الإسرائيلى تحديدا هو ضمن ملفات الصراعات الدولية التى تحتكر الولايات المتحدة إدارته منذ قرابة النصف قرن بحكم وقوع الصراع فى منطقة خاضعة لنفوذها السياسى والعسكرى؛ وضمن خارطة المصالح الاستراتيجية الإمبراطورية للقوى الكبرى، وبرغم محاولات قوى إمبراطورية أخرى مثل روسيا تلمس موطئ قدم لها فى المنطقة إلا أن ميزان القوى الامبراطورية المائل لصالح الولايات المتحدة لا زال بمقدوره الحد من طموحات تلك القوى وإبقاءها فى أدنى حدوده. فالسياسة الدولية محكومة بموازين القوى على الأرض وطبقا لمصالح أصحاب تلك القوى ترسم السياسات بعيدا عن منطق العدل والأخلاق .

ومن هذا المنطلق فإن تمرير صفقة القرن وحصولها على تأشيرة المرور دوليا لن يكون ممكنا إلا بموافقة تلك القوى؛ وخاصة ذات الصلة منها، وفى ظل إصرار الإدارة الأمريكية الحالية على تمرير صفقتها المشبوهة سيكون عليها تقديم تنازلات مستحقة لتلك القوى الدولية ذات الصلة، ولكن تلك التنازلات محددة بموازين القوة القائم على الأرض، وأول تلك القوى هى روسيا الاتحادية والتى استعادت موطئ قدم لها فى سوريا، والتى هى أحد أطراف الصراع العربى مع إسرائيل و التى تستهدف الصفقة إنهائه.

والسؤال الذى يدور فى الأذهان ما هى التنازلات التى قدمتها الولايات المتحدة والتى ستقدمها  مستقبلا لروسيا نظير تمرير الصفقة طبقا لموازين القوة سالفة الذكر؛ وأى تنازلات من هذا النوع من البديهى أن تكون فى أزمة الملف النووى الإيرانى وفى سوريا وسوريا فقط؛ والتى تظهر الأحداث المتلاحقة فيها خلال العام الماضى والحالى كيف تقلص الدور الأمريكى ودور حلفائه فى الأزمة السورية وكيف تفردت روسيا  بإدارة الأزمة السورية بعيدا عن الأمم المتحدة وعن كل اللاعبين الدوليين والإقليميين؛ وكيف استطاعت فرض نظام الرئيس السورى مجددا على الجميع بتنسيق واضح مع الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الثلاث الوازنة فى المنطقة الممثلة فى إسرائيل وتركيا وايران؛ وكيف حولت حالة الصدام مع تركيا إلى علاقة تحالف دافئ؛ وكيف استثمرت ذلك فى تعزبز نفوذها العسكرى فى الشمال السورى، وكيف استطاعت نزع فتيل المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل فى هضبة الجولان، وكيف استثمرت ذلك فى تقليص النفوذ العسكرى لحليفتها إيران نحو تعزيز نفوذها العسكرى فى سوريا وتعميق دورها ونفوذها السياسى إقليميا ودوليا على اعتبارها المايسترو الدبلوماسى القادرعلى موائمة وجهات نظر الفرقاء والخروج بحلول توافقية، واستمراراً لهذا الدور الروسى الجديد والمتنامى تأتى دعوة الرئيس بوتن لكلا من الرئيس الفلسطينى ورئيس الوزراء الاسرائيلى لحضور مباراة نهائى كأس العالم؛ وفى ذات السياق اتت دعوة وفد من المكتب السياسى لحركة حماس لزيارة موسكو مطلع الأسبوع الحالى، وفى المقابل على الجميع وخاصة نحن الفلسطينيون أن لانرى جانبا من الصورة  ونتجاهل  الصورة البانورامية للجغرافيا السياسية الدولية والإقليمية؛ والتى تشي بوضوح إلى محدودية الدور الروسى فى التأثير فى الملف الفلسطينى؛ وأن هذه المحدودية لن تسمح لروسيا إلا بلعب دور المايسترو الدبلوماسى؛ والذى ستكون مهمته إقناع الجميع وخاصة نحن الفلسطينيون أنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان أو ما سيكون، أما الدور الروسى الحقيقى والفاعل فسيأتى لاحقا عندما يفتح ملف الوضع النهائى لهضبة الجولان بعد تمرير صفقة القرن وتوقيع اتفاق الحل النهائى للأزمة السورية؛ والتى بات ملفها بحوزة الروس ضمن ترتيبات النفوذ والمصالح  للقوى العظمى .

ان العالم بأسره يدرك حجم الظلم الواقع على الشعب الفلسطينى منذ ما يزيد عن سبعين عام، ويدرك أن صفقة ترامب التى بدأت بإعطاء القدس بشطريها لإسرائيل على طبق من ذهب هى إمعان فى هذا الظلم وتكريس له، والعرب والعجم يدركون حجم عدالة القضية الفلسطينية وأن تصفيتها بصفقة كتلك يجعل من العالم مكانا أقل أخلاقية وأكثر ظلما وقهر؛ وما قرارات الجمعية العامة الأخير والتصريحات الدولية والعربية عن رفض الخطوات الأمريكية الممهدة للصفقة إلا خير دليل على ذلك.

ولكن واقع الحال هو كما رواه الفرزدق للحسين عندما التقاه فى الطريق إلى الكوفة؛ وقد كان الفرزدق قد غادرها لتوه فسأله الحسين عن أوضاعها فرسم الفرزدق له المعادلة الحقيقة بين الواقع والأمنيات؛ وبين الأقوال والأفعال والتى تجاهلها الإمام الحسين رضى الله عنه عندما واصل المسير لاحقا الى الكوفة؛ فقال الفرزدق للحسين ( إن قلوب القوم معك لكن سيوفهم مع بنى أمية وما النصر إلا من عند الله) وهذا هو حالنا اليوم إن قلوب العجم والعرب معنا نحن الفلسطينيون لكن مصالحهم مع السيد ترامب ويبقى النصر من عند الله.

على عتبة نظام عالمي جديد/ صبحي غندور

يبدو أنّ نظاماً دولياً جديداً بدأ يتبلور الآن، بعدما عاش العالم في العقود الثلاثة الماضية نظاماً محكوماً بنتائج سقوط الاتحاد السوفييتي، وبانتهاء مرحلة الصراع العالمي لنصف قرنٍ من الزمن بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. فمنذ تحطيم "حائط برلين"، وعلى مدار ثلاثين سنة تقريباً، استمرّ "حلف الناتو" كرمزٍ للمنتصر في "الحرب الباردة"، رغم سقوط "حلف وارسو"، وكتعبير عن التوافق ووحدة المصالح بين ضفتيْ الأطلسي: أوروبا والولايات المتّحدة.
معطياتٌ كثيرة وجديدة تتفاعل الآن بسبب السياسة التي تقودها الإدارة الأميركية الحالية منذ وصول ترامب للرئاسة في مطلع العام الماضي، هذه السياسة التي أوجدت شروخاً عميقة في علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين، ومع جارها الكندي في الشمال، ومع جارها المكسيكي في الجنوب. ولم يشهد "حلف الناتو" في السابق هذا الحجم من الخلافات بين أعضائه كما هو الحال الآن. فدونالد ترامب كان واضحاً خلال حملته الانتخابية في العام 2016 بأنّه لا يدعم فكرة الاتّحاد الأوروبي وأشاد بخروج بريطانيا منه، وبأنّه ضدّ اتفاقية المناخ، وضدّ الاتفاق الدولي مع إيران بشأن ملفّها النووي، وضدّ اتفاقية "نافتا" مع كندا والمكسيك، وبأنّ لديه ملاحظاتٍ كثيرة على "حلف الناتو" وكيفية تمويله، وكذلك على مؤسّسات الأمم المتّحدة. وهذه نقاط خلاف كلّها مع حلفاء أميركا الغربيين.
وما حصل ويحصل هذا العام هو تعبيرٌ عن جدّية تعهّدات ترامب الانتخابية، وبأنّ هذه التعهّدات كانت أجندةً للتنفيذ وليس للاستهلاك الانتخابي فقط. فترامب حريصٌ جدّاً على الوفاء بما وعد به قاعدته الشعبية، ذات الطابع المحافظ، من انقلابٍ على معظم السياسات التي جرت في فترتيْ باراك أوباما الليبرالي، بوجهيها الداخلي والخارجي، وهو فعلاً يقوم بذلك، حتّى أيضاً فيما يتّصل بالملفّ الفلسطيني، حيث بدأ الرئيس السابق أوباما أسبوعه الأوّل في "البيت الأبيض" مطلع العام 2009 بالتركيز على مسألة الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وأنهى أوباما فترته الثانية بتشجيع مجلس الأمن الدولي على اتّخاذ قرارٍ بإدانة الإستيطان في ديسمبر 2016، بينما عمل ترامب على تحسين العلاقة مع نتنياهو والتغاضي عن مسألة الإستيطان، وعلى نقل السفارة الأميركية للقدس المحتلّة والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، وعلى تقليص الدعم الأميركي للمؤسّسات الدولية الراعية لشؤون اللاجئين الفلسطينيين. 
وقد أضيف "الملفّ الفلسطيني" وموضوع القدس وخروج أميركا من منظمّة "اليونسكو" ومجلس حقوق الإنسان إلى قائمة الخلافات الطويلة الجارية الآن بين واشنطن وحلفائها الغربيين، ثمّ قام ترامب بإعلان سلسلة من الرسوم الجمركية على هؤلاء الحلفاء، وإلى الخلاف معهم في قمّة مجموعة الدول الصناعية السبع التي انعقدت مؤخّراً في كندا، وإلى انسحاب ترامب من البيان الختامي للقمّة وانتقاد مضيفها رئيس الوزراء الكندي.
هذا الحجم الكبير من القضايا موضع الخلاف بين واشنطن ودول الاتّحاد الأوروبي جعل هذه الدول تتّجه نحو الصين لتعزيز التبادل التجاري معها، وإلى اتّخاذ إجراءاتٍ مضادّة على رسوم ترامب الجمركية ممّا يؤشّر بأنّ الأزمة التجارية مع أميركا مفتوحة، كما هي الأزمات الأخرى بين ضفتيْ الأطلسي، وبأنّ فرنسا وألمانيا تحديداً يريدان تعزيز الإستقلالية الأوروبية عن السياسة الأميركية التي يقودها ترامب الآن، فهي سياسة تستهدف تفكيك الاتّحاد الأوروبي والتعامل الأميركي مع دوله بشكلٍ ثنائي، لا ككتلة أوروبية واحدة، وبالتالي توقيع اتفاقيات معها من موقع ضعيف لا يفرض شروطاً على واشنطن. لذلك لم يكن مستغرباً ما قاله الأمين العام لحلف "الناتو" بأن لا ضمانة لاستمرار الحلف في ظلّ التوتّر الحاصل بين أميركا وأوروبا.
هناك خياران الآن أمام الاتّحاد الأوروبي: إمّا التمسّك بالمواقف الأوروبية لكن مع ضبطٍ لحجم الخلافات مع واشنطن إلى حين مجيء إدارة أميركية جديدة، كما حصل بعد حقبة جورج بوش الابن ومجيء إدارة أوباما التي انسجمت بشكلٍ كامل مع سياسات الاتّحاد الأوروبي، أو الخيار الآخر الذي قد يدفع إليه ترامب نفسه وهو مزيدٌ من التأزّم في العلاقات مع الأوروبيين وممّا قد يؤدّي بأوروبا إلى تعميق علاقاتها مع الشرق الأقرب الروسي ومع الشرق الأقصى الصيني. أمّا الرئيس الأميركي ترامب فهو لن يتراجع عن مجمل هذه السياسات، وحتماً لن يفعل ذلك قبل الانتخابات الأميركية في نوفمر القادم، حيث يراهن ترامب على أنّ وفاءه للتعهّدات التي أطلقها قي حملته الانتخابية ستعزّز من فرص نجاح المرشّحين الجمهوريين المؤيّدين له، كما ستحافظ على تأييد ودعم قاعدته الشعبية التي هي الآن صمّام الأمان له في عدم قبول الأعضاء الجمهوريين بالكونغرس لفكرة عزله عن الرئاسة.
على ضوء ذلك كلّه، فإنّ العالم هو الآن على عتبة "نظام دولي جديد" يطيح بما حاولت واشنطن تكريسه منذ مطلع حقبة التسعينات، بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وبما اصطلح على تسميته بنظام القطبية الواحدة. الواقع الدولي الراهن يؤكّد هذه الخلاصة في سمات وأماكن مختلفة. فالاتّحاد الروسي يزداد قوةً وتأثيراً في كثيرٍ من الأزمات والقضايا الدولية، وهو جدّد الرئاسة الآن لبوتين لسنواتٍ ست قادمة، والصين يتضاعف تأثيرها الدولي من خلال قوّة اقتصادها وعلاقاتها التجارية والمالية الواسعة مع معظم دول العالم، والتي يرافقها تطوير للقدرات العسكرية الصينية كمّاً ونوعاً، وفرنسا وألمانيا حريصتان على التمسّك بتجربة الاتّحاد الأوروبي وعلى تفعيل قدراته الاقتصادية ودوره السياسي المستقل عن الولايات المتّحدة، وهذه مؤشّرات هامّة عن وجود تعدّدية قطبية في عالم اليوم لكن من دون ترتيب لنوع العلاقات بين هذه الأقطاب الأربعة ولا لمدى إمكانية ضبط الخلافات بينها.
المشكلة الأكبر في عالم اليوم أنّ التعدّدية القطبية تحصل في مناخٍ انقسامي كبير وسط المجتمعات الغربية وعلى رأسها الولايات المتّحدة، وهي انقسامات ناتجة عن نموّ التيّارات العنصرية ضدّ "الآخر"، إن كان مهاجراً أو منتمياً لدينٍ آخر أو من أصول عرقية وإثنية مختلفة. وهذه الانقسامات لا تهدّد وحدة مجتمعات الدول الغربية فقط، بل هي تهدّد السلام العالمي بأسره، كما حصل في القرن الماضي داخل أوروبا من تعاظم القوميات العنصرية، كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، والذي أدّى إلى اشتعال حربٍ عالمية.
ربّما الوصف الصحيح لما هو قادمٌ في عالم اليوم، وتحت القيادة الترامبية لأميركا، أنّنا على عتبة "فوضى عالمية جديدة"!

دندنات صوتية/ د. عدنان الظاهر

             
                 
1 ـ ( فَلَنْ )
لا بُدَّ وَلَنْ
حرفٌ يتشوّقُ لفظةَ لَنْ
لو مسَّ الغُضروفَ لهانَ المنُّ وهانَ السلوى طيرا
وتساقطَ جحفلُ سيناءَ وموسى الممسوسِ 
فهو الأوّلُ والآخرُ مفتاحا
لنْ لنْ لنْ
فتّشتُ وجدتُ العلّةَ في حرفٍ مهموسِ
أعربَ عن أسفٍ حتّى ضاقتْ أنفاسي
صدّتهُ النونُ فنونُ التوبةِ في النكبةِ تسكينُ
حجرٌ يتدحرجُ كالمِغزلِ ملفوفا
لَنْ لنْ لنْ !
2 ـ الثقوب السود
الشوقُ الشاردُ أغراني
يُغري ويُضاعفُ خلطاتِ الصبرِ المُصفرِّ
جرَّدَني من قُدرةِ ميزاني
أركبني صوتَ غيابِ النجمةِ في بُرجِ الأقمارِ
فَلَكاً منحوساً دوّارا
كسّرَ مقياسَ الجذوةِ في قنديلِ النارِ
فاعتوتمَ نِبراساً نِبراسا
في منجمِ أحجارِ الفحمِ
يمضي ما شاءَ المِعولُ في الباطنِ حَفْرا
يبحثُ عن نورٍ أسودَ في رُكنِ الأركانِ
أحرقَ سَعْفاتِ النخلةِ في أشفارِ الجفنِ
ضاءَ فأعمى شَبَكاتِ المِخيالِ الدُرّي
طرَّ الفجرُ وشقَّ عمودَ اللألاءِ
طيفاً نوريّاً يتوهجُّ ماسيّا
في دورةِ مفتاحِ وصيدِ الأبوابِ
ناءَ الناعورُ بدلوٍ صَدئٍ دوّارٍ خوّارِ
يعزفُ مزماراً للسحرِ
يتوسّلُ مَرقاةً حبلا
كالعقربِ في المجرى مرميّاً مكسورا
كوني حمّالَ بريدِ النهرِ من السرِّ إلى الجسرِ
آآآآآآهٍ من طعمِ الرملِ !
3 ـ بابل
أتقصّى درباً
للربعِ الخالي ملويّا
أسحبُ نفسي وأُجرجِرُ أقدامي
أقرأُ صفحةَ أعمالي
ألفيتُ البابَ عصيّا موصودا
بالشمعِ الأحمرِ والدمعِ القاني مختوما
أسألُ عن أبوابٍ أخرى
عن ماءٍ في نهرٍ يجري
أتسقّطُ في دربِ الموكبِ أخبارا
لم أسمعْ صوتا
(( ودّعتها والدمعْ منها يسيلْ // من أغنية عراقية قديمة ))
ختم الرمّانُ الأحمرُ فاها لونا
ضمّتها أُطرٌ حالكةٌ سودُ
ما كنتُ أرى ممشاها .. حتّى
ساءلتُ النهجَ المُتعرِّجَ أضعافاً أخفاها
السقفُ مشى والحُجرةُ فوقي
الحائطُ أبكى مَنْ حَولي 
دَثَّرَني بدقيقِ تُراب الكافورِ المسحونِ
ناحتْ حُجُراتُ الدارِ الأخرى !
4 ـ آثارٌ من بابل
أَثَرٌ باقٍ ..
يسحَبُني لمواقعَ أخرى
يمضي بي حتّى قاعدةِ العَبَقِ المسحورِ 
يَمهلُني بضعَ ثوانٍ :
هل كُنتَ هناكَ وهلْ ؟
كنتُ هناكَ ، أَجَلْ
كنتُ هناكَ وما كانوا
كادوا أو لاذوا
طفّوا شمعاتِ طقوسِ العُرسِ بناري
يا نجماً في بابِ النُدبةِ محروقا
كنتَ الحاضرَ لا تشهدْ زورا
كنتَ الراصدَ آنَ خسوفِ الأقمارِ .

قراءة استشرافية لصفقة القرن/ د. عبير عبد الرحمن ثابت

طبقا للتسريبات المتعاقبة عن ما بات بعرف بصفقة القرن، ومن خلال المتابعة لكل التصريحات التى تصدر هنا وهناك، فنحن أمام مشروع تسوية بالمعالم التالية:

أولا: قضية القدس: ستضم إسرائيل جغرافياً لها مساحة 70 كم من الضفة الغربية وهى المساحة التى كانت قد أعلنت عن ضمها مطلع الثمانينات من القرن الماضى؛ ضمن ما عرفته بمدينة القدس الموحدة؛ وهذه المساحة تتضمن كل الحدود البلدية لمدينة القدس الشرقية أبان الحكم الأردنى عشية الرابع من حزيران 1967، والتى كانت قرابة 70كم، ومن المعروف أن المدينة القديمة التى تضم المسجد الأقصى تقع ضمن تلك الحدود؛ وتقترح الخطة أيضا أن تتخلى إسرائيل عن بعض المناطق محدودة المساحة وذات الكثافة السكانية العالية داخل 70 كم آنفة الذكر كمخيم شعفاط فى الشمال وجبل المكبر فى الجنوب لتم يضمهما لمدينة جديدة شرق حدود ال70 كم تسمى القدس الفلسطينية وتكون هى عاصمة الكيان الفلسطبنى الناتج عن هذه التسوية مع العلم أن تلك المناطق داخل 70كم لن تكون ذات تواصل جغرافى مع القدس الفلسطينية المقترحة.

ستقع المدينة القديمة بمقدساتها المسيحية والاسلامية ضمن الحدود السيادية لدولة إسرائيل؛ ولكن الأماكن المقدسة فيها ستحظى بوضع خاص متفق عليه؛ وستتكفل المملكة الأردنية الهاشمية برعاية الأماكن المقدسة فيها طبقا للواقع السائد منذ العام 67؛ ويمنح الفلسطينيون الحق بالوصول للأماكن المقدسة للصلاة ومن ثم العودة من حيث أتوا سالمين آمنين فلا مقام لهم فى أرض لم تعد أرضهم طبقا للتسوية المقترحة.

ثانياً: قضية الحدود: لن يكون للكيان الفلسطينى الناتج عن التسوية فى الضفة الغربية أى حدود شرقا مع الأردن على الأقل فى المدى المنظور؛ وهو ما يعنى أن منطقة الغور ستنتقل من التصنيف ج إلى ب وليس أكثر، وأما شمالا وغربا وجنوبا فقد رسم الجدار العازل سلفا تلك الحدود؛ وما تبقى من مستوطنات وبؤر استيطانية خارجه فستكون محل للتفاوض بين الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى.

ثالثاً: قضية اللاجئين هم أكثر الخاسرين من هذه التسوية بشطب حقهم فى العودة وإلغاء صفة اللاجئ عنهم  عبر تصفية وكالة الغوث؛ والاستعاضة عنها بهيئة أخرى تتولى تنمية مناطق تواجدهم وتعويضهم ماليا عن حقهم المسلوب بعد أن يتحولوا إلى مواطنين فى الكيان الفلسطينى الناتج أو مواطنين للدول التى يقيمون فيها حيثما أمكن ذلك .

رابعا: مستقبل قطاع غزة: ثمة محددات تحكم شكل قطاع غزة فى التسوية، أولها أن يتم تعقيم غزة عسكريا  إما بالجزرة أو بالعصى، ولكن وضع غزة المأساوى إضافة إلى اللحظة السياسية الراهنة يضع كثيرا من العقبات أمام خيار العصى؛ ويبدو خيار الجزرة الأقرب للواقع، وهو ما بدأ التهيؤ له عمليا عبر خطة الإنقاذ للوضع الانسانى فى القطاع، ومن الواضح أن ثمة نجاحات غير معلنة تتحقق فى هذا الصدد وكذلك وضع قطاع غزة الدائم فى هذه الصفقة سيكون أفضل بكثير من وضع الضفة من حيث مستوى السيادة للكيان الفلسطينى الناتج من التسوية، وهذا التباين ذو دلالات عميقة فى رسم علاقة الضفة بغزة  فى هذه الصفقة؛ والتى من الواضح أنها ترسم شكلا ما من الكنفدرالية السياسية بين شطرى الوطن والذى يدعمه واقع الانقسام الفلسطينى على الأرض بحيث تكون غزه أقرب إلى مصر منها إلى الضفة.

خامساً: السيادة والشكل السياسى للكيان الفلسطينى: سيكون أقرب لدولة كنفدرالية فى الضفة والقطاع معترف بها ولكنها تحت الانتداب الاسرائيلى خاصة فى الضفة الغربية؛ أما قطاع غزة فسيكون أكثر تعبيرا عن مفهوم السيادة والاستقلال بحكم موقعه الجغرافى والديمغرافى، وكذلك بحكم موقعه المتدنى استراتيجيا فى خارطة المصالح الأمنية والعسكرية الحيوية لإسرائيل ونظرا لأنه يمتلك حدود خارجية برية لا تتحكم فيها إسرائيل عسكريا وحدودا بحرية على ضفاف المتوسط؛ وسيكون من مصلحة إسرائيل أن تكون مفتوحة مع العالم الخارجى طبقا لاتفاق موقع مع من يحكم القطاع من الفلسطينيين مدعمة برقابة دولية وإقليمية تضمن بأن لا تستخدم فى الإضرار بها، وفى نهاية المطاف سنكون أمام كيان سياسى فلسطينى كنفدرالى مقسم جغرافيا؛ وما يربط شطريه بدولتى الجوار(الأردن ومصر) أكبر من روابطه الكنفدرالية.

سادساً : حوافز الصفقة سيصاغ إلى الدعوة لمؤتمر دولى فور إنجاز التسوية لتتدفق المليارات لدعم السلام وانعاش الاقتصاد الفلسطينى الذى يقبع قى بطن الاقتصاد الاسرائيلى؛ وستصبح إسرائيل دولة طبيعية وطليعية فى الشرق الأوسط يَأُمها ملايين العرب والمسلمين للسياحة بأنواعها ولعمارة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة،  وستغزوا المنتجات الاسرائيلية الأسواق العربية والاسلامية، وستدفق المليارات العربية عليها نتاج المشاريع الاقتصادية المشتركة والتحالف السياسى العربى الاسرائيلى الأمريكى؛ والذى سيظهر للعلن بعد طول انتظار ولا يستبعد قط أن تحظى إسرائيل بمقعد دولة مراقب إن لم يكن دائم فى الجامعة العربية نظرا لأن ربع سكانها بعد التسوية سيكونون عرب فلسطينيين.

إن مشروع صفقة القرن هو ببساطة شرعنة للواقع القائم على الأرض فلسطينيا وعربيا ليس إلا؛ وعليه فإن التصدى للصفقة فعليا وليس نظريا منوط بالبدء فورا فى تغيير هذا الواقع فلسطينيا على الأرض؛ وأول هذا التغيير يبدأ بإنهاء الانقسام الفلسطينى لأنه أحد أهم الأعمدة الواقعية القائمة التى تبنى عليها الصفقة والشروع فورا فى إجراء انتخابات رئاسية ومجلس وطنى فى الداخل والشتات يعقبه تنظيم استفتاء على استقلال دولة فلسطين فى الضفة وغزة؛ ويكون توطئة لإعلان تحول مؤسسات السلطة إلى مؤسسات الدولة استنادا لقرارات الشرعية الدولية.

إن هذه الخطوة هى بمقدور الفلسطينيين لإيقاف صفقة القرن ولو مؤقتا وهى الرد العملى الممكن الذى يستند لإرادة شعبية ديمقراطية؛ وهى ستضع أصحاب صفقة القرن وجها لوجه أمام الشعب الفلسطينى برمته ليعرضوا عليه صفقتهم؛ وليقول الشعب رأيه فيها عبر استفتاء ديمقراطى عليها، وجل المواقف الدولية والإقليمية من تسريبات الصفقة لا تعبر بالضرورة عن حقائق الأمور ما دامت لا تستند لفعل على الأرض؛ فالصفقة ترسى دعائمها وتنفذ نصوصها على الأرض يوم بعد يوم. ومن المؤكد أن استمرار هذا الواقع سيؤدى فى نهاية المطاف إلى تمرير الصفقة وانتزاع التوقيع الفلسطينى عليها، ومنطقيا ليس بوسع أى قيادة مواجهة حجم الضغوط الذى يمارس فى الوضع الطبيعى؛ فكيف الحال فى وضع كوضع الشعب الفلسطينى المنقسم والقابع تحت الاحتلال .

إن الذين وضعوا أسس هذه التسوية أعلاه هم أشخاص واقعيون حتى الثمالة؛ والذين يستمدون زخمهم من واقع قوتهم وسيطرتهم والتى جعلتهم يغرقون فى واقع لحظة تاريخية شاذة أعمتهم عن رؤية قرون من التاريخ؛ وإدراك حجم فاعليتها فى توجيه دفة الصراعات الانسانية العادية؛ فكيف الحال فى صراع هو قائم فى الأساس على مصداقية الرواية التاريخية والعقائدية لطرفيه.

إن إنهاء الصراع بتسوية كتلك ليس استسلاما فلسطينيا وحسب بل هى استسلام مذل لأمة بأكملها لرواية تضحد وتسفه تاريخها وعقيدتها؛ وهى ببساطة أول الخطوات فى طريق سيعبد فى نهاية المطاف بدماء ملايين البشر فى حرب دينية لن تتوقف إلا بقضاء طرف على الآخر، إنهم يعبدون الطريق إلى هرماجدون أو معركة آخرالزمان وهو ما يشي بعقائدية مهووسة بالقوة وراء ستار تلك الواقعية الثملة.

إننا أمام عقائديون يريدون أن يشكلوا مصير العالم طبقا لنبوءات عقائدية؛ ولسنا أمام ساسة يدركون الأبعاد الاستراتيجية العميقة للصراعات الدولية، ومن الواضح أن العالم سيبقى فى خطر ما بقى أولئك يديرون من وراء الستار عبر دمى متحركة؛ وكذاك الشعبوى الذى اعتلى سدة البيت الأبيض ويدير بمنطق القوة دفة السياسة  الدولية، وعلى قادة العالم ومفكريه أن يدركوا خطورة ما يجرى قبل فوات الأوان.

Political2009@outlook.com

قصة إيفان بونين*/ ترجمها عن النص الروسي جودت هوشيار

مضى عليًّ وقت طويل وانا أقرأ مستلقيا على كومة من التبن في البيدر . وعلى حين غرة تملكتني موجة من السخط على نفسي . ها أنا أقرأ مرة اخرى منذ الصباح الباكر . مرة اخرى الكتاب لا يفارق يدي . وهكذا يوماً بعد يوم منذ طفولتي . أمضيت نصف عمري في عالم وهمي بين أناس لم يكن لهم وجود قط . أناس أشاطرهم مصائرهم وافراحهم واحزانهم ، كما لو كانت هي مصائري وافراحي واحزاني انا بالذات . ربطت مصيري حتى آخر يوم في حياتي بمصائر ابراهيم واسحاق ، وبالبيلازكيين (1) ، والأوتراسكيين ( 2)  وسقراط ويوليوس قيصر وهاملت ودانتي وجريتشين (3) وتشادسكى ( 4) وسوباكيفيتش (5 ) واوفيليا ( 6) وبيجورين ( 7) وناتاشا راستوفا ( 8) . .

وانّى لي الان ان اميّز بين الحقيقيين منهم والوهميين من أصحابي في وجودي الارضي ؟ كيف امّيز الواحد عن الاخر ، وكيف أحدد درجة تاثري بكل واحد منهم ؟

عشت في عوالم ابتدعتها خيالات اناس اخرين غرباء عني ، وفي غضون الزمن الذي امضيته في القراءة ، كان الحقل والدار والقرية والفلاحون والخيول والذباب والنحل والطيور والغيوم  تعيش حياتها الخاصة ، حياتها الحقيقية . .

وها انا أحس بذلك  بغتة . افقت من سحر الكتب ، والقيت بالكتاب الذي كان في يدي الى كومة التبن ، واخذت في دهشة وسرورغامر انظر فيما حولي نظرة جديدة ، وبعيون جديدة . ارى بجلاء وحدة ، واسمع ، وأشمّ . والاهم من ذلك أشعر بشيء ما بسيط للغاية وجد معقد في الوقت ذاته ، ذلك العميق الرائع الذي لا يمكن التعبير عنه ، الموجود في الحياة وفيّ أنا بالذات ، والذي لا يعبر عنه الكتّاب كما ينبغي ابدا .

و في الوقت الذي كنت فيه أقرأ ، حدثت في الطبيعة تحولات خفية : كان الجو رائقا وبهيجا ، اما الان فقد تغير كل شيء . ساد الهدؤ والظلام ، وتجمعت الغيوم شيئا فشيئا في السماء . ولا تزال  في الناحية الجنوبية مناطق مضيئة وجميلة . واما الى الغرب ، وراء الباب وخلف أشجار الصقصاف فالجو ممطر وكئيب ومشوب بالزرقة . ومن بعيد تأتي رائحة الامطار دافئة وناعمة من الحقول . وثمة في الحديقة صفارية وحيدة تغني ، وعلى أمتداد الطريق الأرجواني الجاف ، الذي يفصل كومة التبن عن الحديقة ، هناك فلاح  في طريق عودته من المقبرة ، يحمل على كتفه مجرفة ما زالت بقايا التراب الاسود عالقة بها ، وجهه متورد ومشرق مثل  شخص أستعاد شبابه ، القبعة منحرفة عن جبهته التي تتفصدعرقاً . ابتدرني بحيوية قائلاً :

- طاب نهارك . زرعت شجيرة ياسمين على قبر ابنتي ، اما زلت طوال هذا الوقت تقرأ وتؤلف الكتب ؟

 انه سعيد ولكن لماذا ؟ فقط لأنه يحيا في هذه الدنيا، أي انه يقوم بما هو الأكثرغموضا في العالم ، والذي لا يمكن ادراكه .

 الصفارية تشدو في الحديقة ,ما عدا ذلك فكل شيء يلفه السكون ، حتى الديكة صمتت ، ولا يسمع صياحها . الصفارية وحدها تغني وفي هدؤ تطلق زغاريد غنج ودلال .

لماذا ؟ ولمن ؟ لنفسها ، او لتلك الحياة التي تحياها الحديقة والمنزل الريفي منذ مائة عام ؟  ولكن ربما كان المنزل الريفي هو الذي يحيا من أجل غنائها الفلوتي ؟

 " زرعت شجيرة ياسمين على قبر ابنتي " . ولكن هل البنت تعرف ذلك ؟ الفلاح يعتقد انها تعرف ذلك ، ربما كان على حق . الفلاح سينسى أمر هذه الشجيرة بحلول المساء . لمن تزدهر الشجيرة اذن . ولكن لِمً يبدو ذلك عبثا . انها تزدهر لشخص ما ولسبب ما .

اما زالت طوال الوقت تقرأ . اما زلت تلفق الكتب , ولكن لم التلفيق ؟  لم الابطال والبطلات ؟ لم كتابة الرواية والاقصوصة  ذات العقدة والحل . الخوف الازلي من ان لا تظهر بمظهر الكتبي بما فيه الكفاية ، الخوف من ان لا تكون شبيها بالمؤلفين المشهورين بما فيه الكفاية .والعذاب الأبدي، والصمت الأبدي عن ذلك الذي يعود لك شخصيا وفعلا , ذلك الحقيقي الوحيد الذي يطلب التعبير الأكثر مشروعية ،أي الاثر المجسد والمحفوظ في الكلمة على الأقل .

ملاحظات المترجم :

* ايفان بونين ( 1870 – 1953 ) كاتب كلاسيكي بارز ، نال جائزة نوبل في الأدب عام 1933 عن روايته الرائعة " حياة أرسينيف " . وكان أول كاتب روسي ينال هذه الجائزة .

1- الاسم الذي أطلقه المؤلفون اليونانيون القدماء على الشعب الذي سكن اليونان قبل الحضارة الميسينية (في فترة ما يسمى فترة هيلاس في التاريخ اليوناني) ، كما كانت موجودة لبعض الوقت بعد وصول الإغريق .

2- اتروسكي ، هو الاسم الحديث لحضارة عاشت في إيطاليا القديمة ( حوالي الف سنة قبل الميلاد ) في منطقة توسكانا الحالية تقريباً 

3- قصة حب فاوست وجريتشين في مسرحية " فاوست " لغوته

 4- الكسندر أندريفيتش شاتسكي - الشخصية الرئيسية للكوميديا الشعرية التي كتبها ألكسندر غريبوييدوف "ويل من العقل" .

5- الإقطاعي  سوباكيفيتش هو واحد من أكثر الشخوص إثارة في الرواية الملحمية الساخرة ، التي كتبها الكاتب الروسي نيقولاي غوغول في 1842

6 - أوفيليا، إحدى الشخصيّات الرئيسة في مسرحية «هاملت " لشكسبير" .

7- بيجورين ، بطل رواية ميخائيل ليرمنتوف " بطل من هذا الزمان "

8 – ناتاشا روستوفا – إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية " الحرب والسلام " لتولستوي .

خربَشات على الرّصيف/ صالح أحمد

هنا السّاحاتُ أوسَعُ من شَهيقِ الوَردِ، لكنّا 
أبينا أن نكونَ سوى ارتِجالِ الصّمتِ 
حينَ اختَصَّنا عمرُ الحقيقَةِ بالتّعاويذِ.
***
فيا زَلّاتِ عمرِ الشَّوقِ كَم كُنّا تَحاشَيناكِ لو أنّا...
أبَينا أن نُكَلِّلَ خَطوَنا بالسِّرِّ؛ فامتَدّت 
أيادينا إلى خِلٍّ، لأنّ الخِلَّ خالَفَنا ولم يَقبَل..
بأن يبقى لنا ظِلًا، ولم يَسلُك مَهاوينا..
***
ويا رِمشًا بوَجهِ مَدينَةٍ حَنَّت إلى شَرقٍ 
أوى غَربًا، وسارَ بليلِ مَرتَعِهِ بلا لُغَةٍ 
يُراوِدُ كلَّ مأساةٍ بدَت عَن حظِّهِ فيها.
***
أخافُ على عُيونِ السِّرِّ مِن عَدوى تَوَحُّدِنا
وكلُّ عناصِرِ الهِندامِ ديدَنُنا.. 
وكلُّ مراتِعِ الأحلامِ تَجذِبُنا..
وكلُّ مظاهِرِ الأوهامِ تَفتِنُنا..
ومن كلِّ اللغاتِ قَبَستُ ما يَحتاجُ مفتونٌ
ليصرُخَ: "ما أنا لأنا"!
***
يطولُ بنا رصيفُ العُذرِ؛ منّا يبتدي.. وبنا 
تضيعُ خطوطُ وُجهَتِهِ، ووُجهَتنا 
تُكَلِّلُ بُؤسَها غَضَبًا مرايانا 
فينضِجُ بُرعُمُ الإشفاقِ أمنِيَةً؛
تَطَهَّرَ من مَدامِعِها هَوايَ، فصارَ بي قَدَرًا؛
فأصرُخُ قاتِلي وتَري.
***
جنونُ الوقتِ يُنكِرُني ليَكبُرَ بي...
ضجيجُ السّكرَةِ الماضي إلى أفُقٍ مِنَ الضّجَرِ
كأسرابٍ منَ الحَسونِ تُنسيها مَفازِعُها 
جَمالَ الوَقتِ ممتَدًّا على شَفَةِ المدى.. لكن؛
عيونُ الهجرِ لا تعبأ.
***
لكم عِشنا –هُروبًا من مواجِعِنا- 
نؤلّفُ الفَ أغنِيَةٍ، ونبتَزُّ الأساطيرا؛
ليحبَلَ ليلُنا صبحًا، ويُلقِمَ خَوفَنا غَيثا...
يُبلّلَ عودَ فُرقَتِنا، ويَسقينا وُعودًا زَمهريريّة،
تُبَشِّرُنا: مضى زَمَنُ الجَفا وَهَوَت صحارى عُمرِهِ فينا..
فما معنى تَلاقينا؟
***
قوافِلُ عُمرِنا تَمضي إلى شَفَةٍ؛
تناسى الصوتُ أن يُعنى بأحرُفها...
مَضَت أنفاسُها المَخدوشَةُ الحيرى؛
تُراوِدُها زوايا مَضجَعِ الأسرارِ عَن لونٍ يُمَثِّلُها؛
فتأبى غيرَ أن تَبقى بقَوقَعَةِ الضَّياعِ تمُرُّ..
كالأخبارِ أغراها جُنونُ الرّملِ...
راحَ يُقلِّدُ الإعصارَ، يلوي أذرُعَ النّخلاتِ كالملدوغِ..
يُلقِمُهُ جنونُ الرّيحِ قَيْءَ جنونِهِ... وَدُوار.
***
بصَمتٍ رَعشَةُ الأيامِ تَعبُرُ أفقَنا ثَكلى؛
يُناجيها المَدى فَتروحُ، تَكسوا عُذرَها شَكلا،
وتَرقُبُ غَرسَها المَفتونِ مصفَرًا... وما غلَّ.
***
كأجمَلِ صورَةٍ تاقَت لِحِضنِ إطارِها المَكسورِ..
تَمضي بَسمَةُ المَقهورِ، تَبحَثُ عن صدى يَومٍ؛
تَجَرَّدَ مِن عَناصِرِهِ، ليَسكُنَ وَحدَهُ أفُقًا بلا شَفَقٍ، بلا لُغَةٍ...
بلا أسطورَةٍ تحويهِ، أو عُنوان.
***
ودارَت دَورَةُ الأحزان...
وَصِيَّتُنا تَضِجُّ بغاضِبِ الخُطَبِ..
على رَملِ الصّحارى نبتَني صَرحًا يناجي عابِرَ السُّحُبِ
يحاذِرُ راعِشَ الصَّخَبِ...
بلا شَغَفٍ يناجي جرحَهُ عَبَثَا:
أنا أودَعتُ مَن في الدّارِ ما استَلهَمتُ...
عينُ خرافَةِ الشّكوى؛ تبَشّرهم..
كذلكَ تَهطُلُ الأسرار..
***
قديمٌ حلمُ رِقَّتِنا بأن تَغدو انتِصارَ النّشوَةِ الكُبرى...
على المَفروغِ مِن عَبَثِه.
***
تُجَلجِلُ فَرحَةً عَينا مُهاجِرَةٍ تَخَلَّت عَن بَراءَتِها؛
لتَردَعَ قسوَةَ الحِرمانِ، وانتَعَلَت مَزاياها؛
لتَكتَشِفَ انحِناءاتِ الرّصيفِ المُنتَهي...
لعُروقِ كَفٍّ زَيَّنَ الياقوتُ عَرقَتَها...
وطارَ بها ليَمنَحَها نَزاهَتَها...
وتبقى الشَّمسُ مبعَدَةً بِسِرِّ وُضوحِها القاسي.
***
تعاطَينا أمانينا لتُنسينا مواجِعَ خيمَةٍ أوتادُها فينا..
تَسابَقنا رفاهِيَةَ الصّدى الرّعناءَ، 
أوتارَ الهوى المشدودِ للموجاتِ..
أُنسينا نشيدًا دَشَّنتهُ الرّيحُ.. 
ذُكِّرنا حَديثَ الإفكِ..
صفّقنا لِكِسرى في خَريفِ العارِ... 
أبعِدنا، وأدنينا، وأغوينا...
ليَفنى بأسُنا فينا.
***
كذا تتأرجَحُ الرّاياتُ عابِثَةً..
كما تتأرجَحُ الأمثالُ في الأفواهِ غابِرَةً..
لنَغنَمَ رِحلَةً للغَيبِ؛ حيثُ الصَّوتُ "ديكورٌ" ،
تُزَركِشُهُ مَواقيتُ الهروبِ إلى شواطِئَ لم تَلِد لُغَتي..
تَضِجُّ بِقِصَّةِ البَعثِ التي انهارَت...
ولم يَشفَع لفارِسِها جُنونُ الرّيحِ من أحوالِ سُنبُلَةٍ..
تَموجُ بثابِتِ البُشرى...
وتَفضَحُ سَكرَةَ الناسِك!
::::: صالح أحمد (كناعنة) :::::