في تأمّل تجربة الكتابة: منّك لله يا سهر... منّك لله!/ فراس حج محمد



نشرت صحيفة القدس العربي، عدد يوم الثلاثاء 23 شباط 2021 خبراً مقتضباً عن صدور كتاب "الإصحاح الأول لحرف الفاء- أسعدت صباحاً يا سيّدتي"، الخبر "مدحوش" مع كومة أخبار قصيرة تحت عنوان (أحوال الناس) في الصفحة الأخيرة تحت صورة للممثلة سهر الصايغ- بطلة مسلسل "الطاووس".

طريقة النشر أحزنتني، مع أنه ليس لي على المحررين "ضربة لازم"، فلو لم ينشروا لا أعترض. فمن حكم بماله ما ظلم، ومحررو الصحف في الحقيقة هم حكام ودكتاتوريون. أحزنتني لأنني تدحرجت من صفحة الثقافة كخبر مع صورة الغلاف كما يحدث في العادة إلى مجرد سطر تحت صورة امرأة مشهورة. للعلم فقط أنا لا أعرف هذه الممثلة، مع أنني أعرف ممثلاث كثيرات من كل الأجيال، عربيات وأجنبيات وتركيات. من سيقرأ "أحوال الناس" ويهتم بصدور كتاب كهذا وأمامهم صورة بهذا الحجم لامرأة تبدو متوسطة الجمال، ضحكتها تُظهر جميع أسنانها وأضراسها حتى الضرس الأخير الجواني. إذاً هي امرأة كبيرة الفم، هل يؤشّر هذا إلى شيء؟ ربما، هي أدرى بذلك، فهي صاحبة كل شيء فيها ولم أطلع على شيء، إنما كل ما في الأمر كتابي والخبر الذي ابتلعه هذا الفم الكبير بأسنانه المنظومة، فقد "ضرسته" بأنيابها على ما ذكر يوما سيدنا الشاعر الكبير "زهير بن أبي سلمى"، والحمد لله أن الكتاب إلى الآن وأنا كذلك لم نوطأ بمنسم! فهل سأصانع في أمور كثيرة كما يريد الحكيم الجاهليّ؟

تبدو المرأة ضاحكة بملء فيها، أتصورها للوهلة الأولى تضحك عليّ، وعلى هذه الطريقة المحزنة من النشر. شعرت أنها تشمت بي، ربما هو القدر الذي جمعها مع هذا الخبر لتؤدي الأقدار رسالتها البليغة. يبدو أن الكتاب ليس له حظ، كتاب يثير الضحك، أهمله كثير من المحررين في المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات، ولم يحفلوا به من قريب أو بعيد، والأصدقاء لم يقرأوه، وكان مآله سيئا عليّ. المرأة التي أهديتها إياه في "عيد الحب" قاطعتني، ولم تتحدث معي منذ ذلك اليوم إلى الآن. كم هو كتاب محزن. كتاب "فنستني" فيه أشياء كثيرة. للأسف كان كتاباً سيئ الحظّ، ربما لأنني أنا أيضا ذلك "العاشق السيّئ الحظّ". 

ربما يقول قائل إن خبرا صغيرا كهذا في صحيفة كهذه على الصفحة الأخيرة هو أهم من أن يكون مستقلا في صفحة الثقافة الداخلية التي لا يقرأها أحد أو لم ينتبه إليها أحد إلا النخبة من المثقفين وهم قلة على كل حال. أما في الصفحة الأخيرة فأنت تحتل الصدارة ولكن بشكل عكسي. تبدو العبارة مضحكة كوجود الخبر المضحك، لأنه لا أحد سيبحث بين السطور ليقرأ عن الكتاب لاسيما أن سهر الصايغ-رضي الله عنها وأرضاها- بنورها الوهاج وضحكته العريضة المنبسطة غطت على الصفحة كلها وعلى أحوال البلاد والعباد حتى غطت على صورة إلياس خوري ومقالته المركونة على الطرف المقابل للصورة. كل شيء بدا محزنا في الصفحة الأخيرة من الصحيفة ولا شيء يضحك سوى صورة الفنانة المتألقة شرهة الفرح والسرور سهر الصايغ.

في أمر الصورة أمران مهمان أيضا مصاحبان سياقيان، الأول سيصبح اسم الصايغ هو الضايع، لتنتقل النقطة من الغين إلى الصاد. هنا أتذكر كلام حكيم بلدتنا "أبو المهند" وجملته الشهيرة "أين النقطة". هذا النقل سيغدو ضرورة قدرية وجودية تتناسب والخبر الضائع بين ركام الضحكة ونور الصورة، والثاني هو أن "الطاووس" الذي تحتل بطولته سهر، وأمثّله أعظم تمثيل، لم يعد طاووساً وهو في هذه الحالة من الاختباء والخنس بين الركام. كنت طاووساً في الحقيقة عندما بعثت الخبر، كأنني أزفّه إلى العالم الثقافي ليفرح به، وإذا به يواجهني بضحكة سهر وصورتها لأخنس في سطر لا يكاد يرى، فكيف سيقرأ؟ 

منّك لله يا سهر... منّك لله!


عطرُ الرجالِ مُرُوءَةٌ وشهامةٌ/ الدكتور حاتم جوعيه


      

  لقد  أعجبني هذان البيتان من الشعر المنشوران على صفحةِ أحد الاصدقاء في الفيسبوك، وهما :

( عطرُ  الرِّجالِ  شهامةٌ   وَمُرُوءَةٌ  =  أمَّا     النّساءُ     فعطرُهُنَّ      حَيَاءُ

  وَمكارمُ  الأخلاقِ   أفضلُ   زينةٍ  =  يا   قُبْحَ   مَنْ  عنها    لهُ    استغناءُ)


فنظمتُ هذه الأبيات الشعريَّة ارتجالا ومعارضةً لهما ، وهي :

 

عطرُ   الرِّجالِ   مُرُوءَةٌ    ووفاءُ  =  وكذا     النساءُ    أريجهُنَّ     إباءُ 

دربُ  المبادىءِ   والكرامةِ   إنَّها  =   فخرٌ   لمنْ   سلكَ   العُلا   وَرُوَاءُ

دربُ  الإباءِ   لكلِّ   شهمٍ  صادقٍ  =  كلُّ  الخلائقِ   في   المثالِ   سَواءُ  

لا   فرق    بين   مذكَّرٍ    وَمُؤَنَّثٍ  =  إنَّ    المبادىءَ    عطرُهُمْ    وثناءُ 

بمكارمِ   الأخلاقِ  يزدانُ    الفتى  =  وبدونها     هٌوَ     والبهيمُ    سَواءُ 

لكنَّنا  في  عصرِ  سوءٍ  لم  نزلْ  =  ماتَ  الضَّميرُ   وزالَ    فيهِ   حَيَاءُ

وبقيتُ وحدي في المبادىءِ سالكًا  =  المجدُ     كلَّلَ      هامتي    وضياءُ

صرحُ  البلاغةِ  والفنونِ  جميعها  =  قد    تاهَ    من   إبداعيَ   العظماءُ

في   قمَّةِ  الإبداعِ  أرسمُ   عالمًا  =   فيهِ  الجمالُ    وليسَ    فيهِ   شقاءُ

أشدُو   أناشيدَ  الاماني  والهوى =   والكونُ   يشقى   طالَ   فيهِ    بلاءُ

للسِّلمِ   أشدُو  ..  للمحبَّةِ    دائمًا  =   والكونُ   يطغى   ليسَ  فيهِ  صفاءُ 

إنِّي  أنا الصَّوتُ الذي  بهرَ الدُّنى  =  يختالُ    من     أنغاميَ    الشرفاءُ


أستراليا: ثقافة التحرش والاستقواء/ عباس علي مراد



حسب دراسة لمكتب الإحصاء الأسترالي عن السلامة الشخصية في البلاد اجريت عام 2016، وجدت هذه الدراسة أن  148,000 امرأة و57,200 رجل تعرضوا لإعتداءات جنسية بشكل أو بآخر، وان معظم هذه الإعتداءات لم يتم إخبار البوليس بها، ومن أهم الأسباب لعدم تبليغ الشرطة هو الخوف من عدم تصديق أصحاب الشكوى.  

عقب ظهور الموظفة السابقة في مكتب وزيرة الدفاع  برينتي هيكنز على القناة العاشرة وزعمها أنها تعرضت لعملية اغتصاب من قبل زميل لها بعد  ان احتسيا المشروبات الروحية  في إحدى الحانات قبل العودة إلى مكتب وزيرة الدفاع ليندا رينولد حيث تمت عملية الإغتصاب المزعومة (أذار عام 2019) و كانت رينولد تشغل أنذاك منصب وزيرة الصناعات الدفاعية.

على أثر انتشار الخبر طغت أخبار قضايا الإغتصاب والتحرش الجنسي على ما عداها، وادخلت الحكومة الفيدرالية في أزمة قد لا تنتهي من دون تدحرج بعض الرؤوس المسؤولة والتي لم تعالج المسألة او لم تأخذها على محمل الجد.

رئيس الوزراء سكوت موريسن نفسه يقول انه لم يعلم بالقضية الا بعد ظهورها إلى الإعلام في 15 شباط ،2021 مع انه اصبح مؤكداً ان وزيرة الدفاع ووزير الداخلية وبعض موظفي مكتب رئيس الوزراء كانوا على إطلاع على تفاصيل الحادثة ولم يبلغوا رئيس الوزراء وكل منهم لسبب مختلف! 

حزب العمال من  جهته سخر من مقولة موريسن انه لم يعلم سابقا بالقضية ولكن ليس لدي الحزب أي دليل على عدم صحة كلام موريسن. 

تقول وزيرة الدفاع ليندا رينولد أنها لم تبلغ رئيس الوزراء بالقصة وذلك من اجل المحافظة على الخصوصية وقالت انها حاولت مساعدة هيكنز إذا ما ارادت ان تتقدم بشكوى للشرطة.

هناك من يعتقد انه تم التعامل مع قضية هكينز على انها اختراق أمني وليست جريمة اغتصاب، كأنها محاولة للفلفة القضية رغم انه تم تنظيف مكتب الوزيرة بالبخار مكان وقوع الجريمة المزعومة.

 وزير الداخلية بيتر داتون يقول انه قيّم الموضوع  ولم يريد ان يدخل في مسألة هو قال وهي قالت، ولم يجد من الضرورة ان يبلغ رئيس الوزراء مباشرة بالأمر لأنها مسألة حساسة وإجرائية ولا يريد التدخل في عمل الشرطة الفيدرالية التي تخضع لأمرته ! 

الإغتصاب جريمة يعاقب عليها القانون فكيف إذا وقعت هكذا جريمة داخل البرلمان وبمسافة تبعد عشرات الامتار فقط عن مكتب رئيس الوزراء!

السؤال الرئيسي والبديهي الذي يطرح نفسه وبقوة، اذا كان ليس من المهم ان يطلع رئيس الوزراء على المشاكل بسبب الخصوصية او الحساسية  أو لأي سبب آخر مهما صغر او عظم هذا السبب،  فكيف سيديررئيس الوزراء البلاد؟!

والأنكى من ذلك، ان رئيس الوزراء دافع عن تصرفات وزير داخليته، علماً ان موريسن كان قد وبّخ وزيرة الدفاع بقوة لأنه كان يجب عليها ابلاغه بعملية الإغتصاب المزعوم. 

اولاً، نحن كمواطنون من حقنا ان نعرف أين هي الحقيقة ومن كان يعرف وماذا كان يعرف ومتى عرف ولماذا لم يبلغ السلطات المختصة.

ثانياً، هل كان علينا ان ننتظر مفوّض الشرطة الفيدرالية  ريس كيرشو ليذكّر نواب الأمة وحكومتها بالإبلاغ مباشرة عن أي قضية حتى يتمكن من إجراء التحقيقات اللازمة قبل ضياع الأدلة!

ثالثاً، لماذا على الموظفين الذين يتعرضون لهكذا اعتداءات الخوف من تبليغ الشرطة وذلك من اجل المحافظة على وظيفتهم. هذا هو السبب الذي تحدثت عنه هيكنز.

رابعاً، على السياسيين الكفّ عن تسييس هكذا قضايا من أجل تحقيق مكاسب سياسية على حساب معاناة المواطنين وأمنهم الإجتماعي والنفسي، لأن كل الأحزاب لها مشاكلها الخاصة. هذا ما أظهره استطلاع نقابي لما يقرب من 100 موظف سياسي من مختلف الأطياف السياسية في ديسمبر أن واحدًا من كل ثمانية قد تعرض للتحرش الجنسي أو الإعتداء في مكان العمل في العام الماضي.

خامساً، اذا كانت هكذا جرائم منتشرة بهذه النسب العالية كما تقدم في دراسة مكتب الإحصاء، لماذا لم تبادر الحكومات المتعاقبة على الحد منها ان لم نقل إستئصالها؟ 

رئيس الوزراء بادر إلى تشكيل أربع لجان لدراسة الموضوع ولكن النائبة مادلين كينغ من حزب العمال طالبت بمراجعة مستقلة لثقافة مكان العمل في البرلمان التي أعلن عنها السيد موريسون، وطالبت بتوسيع عمل اللجنة للنظر في التهديدات التي تواجه النواب وموظفيهم من قبل الجمهور.

مع الإعلان عن المزيد من حالات الإغتصاب يبقى السؤال من سيكون كبش الفداء الحكومي لوضع حد لتفاقم الأزمة التي وبدون أدنى شك سوف تؤثر على شعبية الحكومة ورئيسها الذي يحتفظ بشعبية عالية على خلفية معالجته ازمة كوفيد 19. 

ولكن بنظر المواطنيين، هذا يوم أخر وموضوع لا يقل أهمية عن وباء كورونا خصوصاً بعد مزاعم إغتصاب جديدة يعود تاريخها لعام 1988تطال وزير في حكومة موريسن والتي تسربت أخبارها بعد ان ارسلت رسائل من جهة مجهولة الى كل من رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية في حكومة الظل(حزب العمال) باني وونغ والنائبة من حزب الخضر سارة هانسون يانغ.

يشار الى ان الضحية البالغة من العمر 49 عاماً انتحرت السنة الماضية.

فهل يقدم رئيس الوزراء على تعديل حكومي ويطيح بوزيرة دفاعه التي تواجه انتقادات من زملائها الذين تكلموا بشرط عدم الإفصاح عن أسمائهم كما سربت الصحافة. 

وحسب الصحفيتان روزي لويس (صحيفة الاستراليان) ولاناي سكار(وست أستراليان) قالتا على برنامج انسايدر الذي يقدمه ديفيد سبييرز على تلفزيون أي بي سي 28/2/2021  ان بعض زملاء وزيرة الدفاع يقولون اذا لم تستطع الوزيرة مواجهة نادي الصحافة فكيف لها ان تتخذ قررات على مستوى الاجهزة الامنية  وزارة الدفاع التي تأتمربأمرتها كارسال الجنود الى المعركة.

والجدير ذكره ان الوزيرة رينولد كانت قد دخلت الى المستشفى الاربعاء 24/2/2021 بعد نصيحة الاطباء لها بسبب معاناتها من مرض القلب وكان من المفترض ان تحاضر في نادي الصحافة ذلك اليوم وتجيب على أسئلة الصحافيين حول قضية الاغتصاب المزعوم لبريتني هيكنز.   

أخيراً، يجب وضع حد لثقافة التحرش والإستقواء والتنمّر ولثقافة لوم الضحايا ووضع القوى السياسية أمام مسؤولياتها.


Email:abbasmorad@hotmail.com 

 

أنا وأنتِ وثعبان المساء/ فراس حج محمد



الثعبانُ والوردة

كنتُ "في كلّ مساءٍ أدسّ ثعباني في وردة الأنثى"

ولم أقلقْ

ولم أفكّرْ في دمائي السائلات على بقايا اليومْ

ولم أتذكّرِ الفتياتِ غير فتاةِ "نخلةْ"

تطنّ في لغتي مسافرةً كنحلةْ 

سرعانَ ما تعصف بي وتسبحْ

وتُسلمني إلى هذا الفراغِ وتشرحْ

فأعود أدراجي ألطّخ ظلّ ظلّي

وليس لديّ غير ما تندّر بي فأفصَحْ

***

ها قد تحرّك الثعبان يسري نحوها

- هذا هو الثعبانُ لا بدّ أن يهدأ

- وكيف سيهدأ الثعبانُ وأنتِ كلّكِ "وردةْ"

- هدْهدْهُ... واضحك عليه بصورة أخرى 

ولا تمدّ قامته وخبّئه بجنبك واهدأ

ذاهبةٌ أنا لشيء غير شقاوة الثعبان

- عليّ أن أتفقّد الوردةَ مرّة أخرى، كيما أدسُّ ثعابني وأبدأْ

عليّ ألّا أتأملَ الأشياءَ أكثرْ

قد صبأتُ في هذا المساء وصار ثعباني كمنسأةٍ 

على لغتي وأحلامي تجرأْ

***

بقيت ليلي دون "وردةْ"

أعابث الثعبان وحدي

وأقلقُ بل أفكرُ بل أتذكّرْ

ولا شيءٌ لديّ غير ثعبانٍ تصلّبَ 

في دمائي يتقلبُ... بل يتكرّرْ

مثل قافيتي الوحيدة يهزأُ بي 

بأسمالي تدثّرْ

وصرت كقامة الثعبان أصغرَ ممّا تظنينْ 

وأطولَ من ظلّ على جسدي تبعثرْ


الكتابة على خليّة موسيقيّة

في نهايةِ كلّ مساءٍ 

قبل منتصف الليل بساعةْ

عند محاولة الانجرار وراء صوتكْ

هناك إذ تحضرين كما أنتِ

لا شيءَ يفصلنا

بعض هواء ساخنٍ 

متسرّب تحت الغطاءْ

تستقبلين قصيدة أخرى غراميّة

ليس فيها صورة مجازيّةٌ أو جملةُ تستعصي على التأويل

هناك وبين ما نودّ فعله على مهلٍ

أتيتِ من بعيدكِ الغيبيِّ وذبتِ بين أبيات المجاز 

وصرتِ خليّة أخرى موسيقيّة

وكعادتي المسائيّة

"أدسّ ثعباني في وردة الأنثى"

كأنّي أكتب شيئاً خاصّاً ووحدكِ تقرئين


حيّةٌ تسعى

كلّ خصلةٍ من شعرك المقصوص أفعى

تسافر في مدها الأنثويِّ في ذكَر التماثيل القديمةْ

تلتفّ في جزئك العضويّ عند مهابل الخصب وتصعد نحو قلبك

قلبك كان بجحر أفعى 

وكان متنك جسم أفعى 

موج بحر حامل في الشكل أفعى


عندما تخلع أفعى ثوبها 

جذرٌ وساق الشجرة

عندما تسكن أفعى في المياه تشبه نهر العالم السفليّ 

وتشبه دفقة الإغواء عند الوصل 

إن تعرّت حيّة من جلدها 

كنتِ تلك الشجرة

كنتِ تلك المدّة الأخرى 

تتلوّين تحت الماء مثل الأفعوان

وتلتفّين حول جسم الظلّ وتكتبين وصيّة الموتى


حوّاء تركب متن أفعى وآدم في الشركْ

يأكل تفّاحة الطردِ والطينِ البدائيِّ 

وكلنا من فعل أفعى

والعشق والموت والإحياءْ 

كل ذاك بمكر أفعى

والصلاة المستقيمة في معابد الهندوس و(اليوغا) 

ترتّل صمتها أسفار أفعى

وحرف الــ Z بالفعل أفعى وحرف اسمينا الغريبين كصورة الـ F فحيح أفعى

هذا الوجود بضدّه بتآلف مع ضدّه حيّ بأفعى

واكتمال دائرة لتقتل حرف O

وانتصاب العضو في الأحشاء طقس علامة الترقيمِ (!) أفعى

وقوّة السلطةِ أصل النشأة الأولى

والنعومة والسلاسة والجنون والاستكانة 

والخشونةُ

الصبرُ الإلهيُّ المعظّمُ دفق أفعى

واحتمال طول العمر 

والسير فيّ على خبط الطريق مسير أفعى

"هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى"

وأنا أرتّل تعويذة الموتى لأنجو

شباط 2021


كل الحلول بيد الزعيم/ بن يونس ماجن



من رحم الشوارع العربية البائسة

يخرج شعب مسربل بهزائم خانقة

الليل عندهم رتيب الخطوات

حتى الغراب يدخل في حداد كبير

ويرتدي أعلاما سوداء منكسة


شعب مل من الحروب الدونكشوطية

والصراعات الطائفية

وحفلات مصارعة الثيران

على مدرجات جامعة الدول العربية


شعب صار كرصاصة فارغة

مرمية في الشوارع الخلفية

في مواسم الزبالة السياسية

ومن فرط البلاغات العسكرية

والتهديدات النسفية

يدخل مرحلة الكوما المزمنة

ويندب حظه لكواكب المجموعة الشمسية


شعب يركض تحت شمس النهار

ثم يعتذر للظل عن  حصاره لفيئه

ويسأله الظل عن السر الكامن

 الذي جعل زعيمه المناضل

يحقق الانتصارات تلو الانتصارات

في جميع حروبه الوهمية 

مع "اسرائيل"  العاتية

منذ "الجاهلية" حتى عصر الكورونا الوبائية


كل الحلول بيد الزعيم                     

حين يضع وراء اذنه قلم الليزر                 

وقبل ان يجف الحبر البنفسجي                       

يتحول الشعب في حلقه         

الى  شوكة مستحيلة البلع

ما عاد يستطيع التواصل

الا وراء الميكروفونات البلاستيكية

وامام سخرية الملايين

 يتهجى في كتاب "الامير"

يقرأ ويمحص ويرتعش ويتطير فزعا

كأنه تناول التخدير بالابر الصينية

وداعاً يا شام/ عبدالقادر رالة



     كان لهرقل عاهل الروم علاقة مميّزة وخاصة بالدعوة الإسلامية ، وهذه العلاقة امتدت منذ حربه ضد الفرس ؛ هزيمته ثم انتصاره المدّوي والحاسم عليهم على أرض فلسطين ؛ وقد ورد ذّلك في القرآن الكريم  والتبشير بنصر البيزنطيين (الروم) قبل حدوث المعركة ببضع سنوات ، وكان ذلك من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وكان لذلك أيضا تأثير نفسي على المسلمين ومُضطهديهم من كفار قريش  إذ مالوا للفرس بينما مال المسلمون للبيزنطيين أهل الكتاب !

     وكانت المحطة الثانية لقاءات هرقل مع أبي سفيان في رحلاته التجارية الى بلاد الشام ، وأسئلته واستفساراته عن النبي محمد ودعوته ؛ وقد كان يتعجب منه كثيرا كيف يمدحه ويثني على خصاله ثم يُعاديه ويحاربه ويُضيق عليه وعلى أتباعه؟ !

     والمحطة الثالثة كانت رسائل الرسول الى ملوك العالم ، وكان من بينها رسالته الى هرقل دعاه فيها الى الإسلام  وقد اعترف هرقل بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وأكرم الوفد الّذي حمل  الرسالة عكس ملك الساسانيين  الّذي مزق  رسالة النبي اليه بغضب يُخالطه كبرياء واحتقار للعرب !

   وكانت معركة اليرموك المحطة الأخيرة إذ تقرر فيها على يد خالد بن الوليد نهاية الوجود البيزنطي في أرض الشام إذ أطلق هرقل عبارته الشهيرة التي استمرت تُدوي على مر التاريخ :

ـــــ وداعا يا شام ... وداعا ليس بعده لقاء ...


العرب الحالمون بصلاح باي-الدين الأمريكي/ أحمد سليمان العمري



اقتصرت مراسم التنصيب الأمريكية هذه المرّة كغير المعهود على حضور محدود، وذلك بسبب القيود المفروضة لمواجهة انتشار كورونا مؤطّرة بإجراءات أمنية مكثّفة لتأمينها في مبنى«كابيتول هيل» عقب اقتحام المقر من مؤيدي ترامب في 6 يناير/كانون الثاني، كذلك عدم الحضور المعيب لسلفه «دونالد ترامب» المتوقع، ليخالف بذلك التقليد الأمريكي.

كانت أول تصريحات «جو بايدن» بعد ساعات من أداء اليمين إبطال أبرز قرارات ترامب، وأهمّها تغيّر المناخ والهجرة وإعادة الإنضمام إلى «اتفاق باريس للمناخ» المبرم في 2015م، كما وتهدف حكومته - مثل البلدان الصناعية الأخرى - إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الصفر بحلول عام 2050م، وإلغاء التصريح الرئاسي لخط أنابيب «كيستون» المثير للجدل من كندا إلى أمريكا، والذي احتجت عليه الحكومة الكندية بشدّة، كما وأنهى حظراً على دخول مواطني عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، بالإضافة إلى المساواة بين الأعراق والأجناس، والعودة إلى منظمة الصحة العالمية، وما سيتمخّض عنها من تحسّن في فرص التعاون مع الدول الأخرى والتعامل مع كورونا والأوبئة المستقبلية، إلّا أنّ التغيّر الذي - قد يصفه البعض بـ «الجذري» - لن يعيد كثير القرارت إلى ما كانت عليه في سابق عهدها.

حاول دونالد ترامب حتى آخر 48 ساعة له كرئيس العبث بالقرارات لتعقيد المهمّة أمام خلفه، حيث أمر الأخير يوم الاثنين 18 يناير/كانون الثاني 2021م برفع حظر الدخول المتعلّق بكورونا للأجانب من معظم الدول الأوروبية والبرازيل الساري منذ مارس/آذار من العام الماضي، بدءاً من 26 يناير/كانون الثاني، إلّا أنّ المتحدّثة بإسم البيت الأبيض «جين بساكي» صرّحت أنّ قرارات الأخير لن يتم تنفيذها بسبب الوضع الوبائي الدراماتيكي، لا بل من المتوقّع تشديدها.

لقد فرضت إدارة ترامب يوم الثلاثاء 19 يناير/كانون الثاني 2021م عقوبات على مشروع خط الأنابيب الألماني الروسي «نورد ستريم 2» وبهذا نفّذ الرئيس المنتهية ولايته القرارات التشريعية التي أقرّها الكونجرس عام 2019م بأغلبية كبيرة من الحزبين. لذلك، لم يكن هناك اعتراض من جهة بايدن، بدلالة التصريحات السابقة للأخير ووزير خارجيته «أنتوني بلينكين» التي تشير إلى أنّ الحكومة الجديدة ستتّخذ إجراءات أكثر حسماً ضد مشروع خط الأنابيب، حيث تتهم الأخيرة ألمانيا بجعل أوروبا مع استكماله معتمدة بشكل كبير على إمدادات الطاقة الروسية، ممّا قد يؤدي إلى صراع مع حكومة «أنجيلا ميركل» المتمسّكة بالمشروع. من ناحية أخرى يتهم أنصار نورد ستريم 2 الولايات المتحدة بأنّها تريد جرّاء ذلك التسويق لغازها المسال بشكل أفضل في أوروبا.

وعود بايدن بحلّ الدولتين

ما إن تمّ تحديد بايدن كفائز في الانتخابات الرئاسية حتى فتحت السلطة الفلسطينية القنوات الدبلوماسية التي أغلقتها في ظلّ إدارة ترامب، فقد أجرت السلطة الاتصالات الأولى مع الإدارة الأمريكية، وزار الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأردن ومصر لإجراء محادثات تنسيقية، كما استأنفت حكومته التعاون مع إسرائيل الذي كانت قد علّقته في مايو/أيّار رداً على خطط الضّمّ الإسرائيلية.

يبدو أنّ بايدن سينفّذ بعض وعوده تجاه الفلسطينيين بما لا يتناقض ومصلحة إسرائيل، حيث عزم الأخير على استئناف تقديم مساعدات كان دونالد ترامب قد أوقفها، فضلاً عن استئناف نشاط البعثات الدبلوماسية، بالإضافة إلى تأييد بايدن «الشكلي» بحلّ الدولتين لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حسب تصريح «ريتشارد ميلز» القائم بأعمال السفير الأمريكي لدى الأممّ المتحدة.

وهذا ما صرّح به إبّان حملته الإنتخابية في لقاء افتراضي جمعه بمتبرعين يهود أمريكيين يوم الثلاثاء 19 مايو/أيّار، حيث بدا كثير الحنكة، فقد قال بأنّه سيعكس سياسات ترامب تجاه إسرائيل، والتي تضرّ وتقوّض بشكل كبير آلية السلام مع الفلسطينيين، ومعارضته «بنيامين نتنياهو» مشروع الضّمّ، متعهداً في ذات الوقت بالحفاظ على مذكّرة التفاهم لعام 2016م التي أُبرمت بين إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق «باراك أوباما» وإسرائيل، والتي تُخصّص لإسرائيل 38 مليار دولار لمدّة عشر سنوات، على الرغم من طرح بعض منافسي بايدن السابقين طيلة الإنتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي استخدام منع المساعدات كآلية لردع الحكومة الإسرائيلية عن تفعيل قرارات تضرّ بحلّ الدولتين.

بالمقابل كان قد نوّه الأخير أثناء حملته بأنّه لن يسعَ لإعادة السفارة إلى القدس لوضعها السابق كقنصلية، كما لم يتطرّق إلى العمل لمنع الضّمّ إذا قامت حكومة نتنياهو بإقرارها قبل انتخابات نوفمبر 2020م، وأنّه ملتزم بقانون «تايلور فورس»، الذي أُبرم عام 2018م وينص على حجب أجزاء من المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية واقتطاع دولة الإحتلال عائدات الضرائب «المقاصة» التي تصل إلى 2.6 مليار شيقل سنوياً، بسبب صرف حكومة عباس رواتب شهرية لأُسر الأسرى والشهداء الفلسطينيين.

الأكثر قرباً من الواقع ألّا تأخذ القضيّة الفلسطينية ومشروع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين مكانة مميّزة في القريب العاجل أو أنّ تكون واحدة من أولوليات الحكومة الأمريكية الجديدة، وتحديداً المصلحة الفلسطينية، وللمراقب أن يرى بجلاء الإهتمام الأول للرئيس وهو البيئة والمناخ تزامناً مع سياسته المقبلة مع روسيا والصين والإتفاق النووي مع إيران ودعمها الراسخ لإسرائيل على حدّ تعبير ميلز.

روسيا الخصم

سبق ووصف الرئيس الحالي روسيا بأنّها «الخصم الرئيس» للولايات المتحدة أثناء حملته الانتخابية، بينما كان ترامب دائمًا يعهد بهذا الدور إلى الصين. وعلى الرغم من اختلاف بايدن بالسياسة الخارجية لسلفه، فستتمثّل المناقضة في استمرار القيادة الأمريكية الجديدة في مختلف مجالات العلاقات الدولية والسياسية.

بصرف النظر عن الحقيقة التي يبدو بايدن من خلالها وبلينكين ونائبة الرئيس «كامالا هاريس» أكثر موضوعيّة ووديّة من سلفه، ستحاول حكومة الأخير تصحيح مسار سياسة ترامب جزئياً أو كلياً في بعض الإتجاهات، لكنّها ستستمر لا محال في مجالات أخرى كخلفها أو ستفاقمها وفقاً للمصلحة القومية الأمريكية. ولا يزال غير واضح كيف سيتوافق التزام بايدن وبلينكين بموضوع «التعدّدية» والتعاون الدولي مع مطالبهم المُصاغة بوضوح بدور قيادي عالمي. الأكثر وضوحاً هو الابتعاد عن سياسة ترامب ونهجه الفجّ الفظّ الغليظ.

الصراع الإيراني الصيني وحلف الناتو

من ناحية أخرى تطالب طهران الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة في عهد ترامب، وممّا قد يزيد الصراع تعقيداً هي الدعوات إلى الاتفاق النووي ليشمل قيوداً على الصواريخ التقليدية الإيرانية، فأهمية التوصّل إلى اتفاق هي ضرورة ملحّة، لأنّ قوة المتشدّدين في إيران تعزّزت بفعل سياسة ترامب المتمثّلة بالضغط الهائل على إيران.

ستلتزم حكومة بايدن بحلف شمال الأطلسي، الذي وصفه ترامب بالذي عفا عليه الزمن؛ وبمعزل عن جميع الخلافات الداخلية، إلّا أنّ الحلف لا يزال الأداة الأهم للولايات المتحدة لممارسة نفوذها وسيطرتها الجزئية على أوروبا، ومع ذلك سيزداد الضغط الذي تمارسه واشنطن على الحلفاء الأوروبيين وتحميلهم المزيد من الأعباء المالية والعسكرية.

أمضت إدارة أوباما بالإضافة إلى بايدن ثماني سنوات دون جدوى في مناقشة استراتيجية صحيحة تجاه الصين، تضمّنت مواجهات عسكرية من خلال تزايد القوات المسلحة الأمريكية في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي، أو اندماج الصين في اللوائح والتعاون مع المؤسسات الدولية. أمّا في عهد ترامب فكان أول إجراء رسمي لحكومته قبل أربع سنوات هو إعلان منطقة التجارة الحرّة - التي تم التفاوض عليها في عهد أوباما - بين الولايات المتحدة وجميع الدول ذات الصلة اقتصادياً في آسيا باستثناء الصين، بالإضافة إلى شنّ ترامب حرباً اقتصادية ضد الأخيرة، أدّت إلى إلحاق ضرر أكبر بالاقتصاد الأمريكي.

الولايات المتحدة مستمرّة بفقدان نفوذها

سيكون العامل الحاسم في السلوك المستقبلي للولايات المتحدة تجاه الصين هو ما إذا كانت الحكومة الحالية ستأخذ حقاً مطالبتها بدور قيادي عالمي على محمل الجدّ، أو ما إذا كانت عبارات الرئيس الحالي تسويقيّة فارغة جوفاء أو صيّغ لفظية رنانة، فبالنظر إلى الإطار السياسي العالمي اليوم، فإنّ هذا المطلب أو الاستحقاق الذي ترنو إليه الحكومة الأمريكية غير واقعي. أوروبا بالمقابل ناتجها القومي الإجمالي أكبر بالفعل من الناتج القومي الأمريكي، ومن المتوقّع تفوّق الصين على الولايات المتحدة في غضون أعوام في مجال العلوم والتكنولوجيا أيضاً، فقد وصلت القوة العالمية الصينية المستقبلية للمستوى الأمريكي، وربما تجاوزتها. أمّا روسيا فتقف متساوية معها كقوة نوويّة تقريباً، بالإضافة إلى الهند التي ستنضم في غضون سنوات قليلة إلى القوى العالمية الفاعلة.

نهاية، سؤال إلى العرب الحالمين بصلاح الدين الأمريكي عن حدود تبدّل القرارات الأمريكية حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهل سيقيم بايدن دولة فلسطينية ويخضِع إسرائيل للمطالب الفلسطينية؟ أم أنّ الأخير يدغدغ المشاعر العربية بوعود معسولة لا غير، لا تتجاوز حد الخطابة والتخدير؟

لن يتراجع بايدن عن قرارت ترامب، إنّما سيتحدّث خطابياً لا غير عن ضرورة حلّ الدولتين دون ممارسة أي نوع من الضغوطات على إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية أو لوقف التوسّع الإستيطاني على حساب الفلسطيني، هذا لإختراق إسرائيل النظام الأمريكي الواضح، بحيث تجدّ المفاوضين الأمريكيين يتذّرعون لإسرائيل ويدافعون ويخلقون مبرّرات بدل دورهم كوسيط نزيه، و«جاريد كوشنير» وصفقته «السلام من أجل الإزدهار» التي أثقلت وأثخنت بالقضية أكبر مثال، فقد تضمّنت الضّمّ الذي يؤرّق الجانب الفلسطيني وحده.

النظام الأمريكي بحزبيه الديمقراطي والجمهوري لا يقيم وزناً للعرب أو لحفائه من المطبّعين، لذلك لن تلعب الإدارة الأمريكية دور الوسيط النزيه أبداً إن لم يكن هناك كلفة تترتّب على الإستهتار بالمطالب الفلسطينية. وحدة الصف الفلسطيني بجميع فصائلها هي وحدها القادرة على تحقيق مطالبهم لإقامة دولة على حدود 1967م، وهي وحدها القادرة على إخضاع الإحتلال وإجلاسه معهم «النِّدّ بالنِّدّ» على طاولة المفاوضات، وإعادة قراءة الملف الفلسطيني من جديد. ما دون ذلك، فقد قفزت إسرائيل عن السلطة الفلسطينية وأقامت معاهدات إذلالية تطبيعية مع أخوتهم العرب الطامعين بتنفّذ وهمي في المنطقة.

هل يحلم عماد بالزنابق البيضاء/ جواد بولس



اعتليت سيارة زميلي أحمد ومضينا من حي بيت حنينا باتجاه محكمة العدل العليا. كان الفضاء فوقنا نقيًّا وسماء القدس زرقاء رمادية وبعيدة، وفي الجو برودة لاذعة لطالما خبرناها بعد سقوط الثلج الذي يزور المدينة أحيانًا ليذكّر ناسها أن للجنّة وجهين واحد أزرق مثل لون الأماني والآخر أبيض مثل لون الخوف.  

دس أحمد بيدي بضعة أوراق كانت نيابة الدولة العامة قد أرسلتها في الصباح عبر بريدنا. لم يكن فيها غير ما توقعت عندما قدمت الالتماس وطلبت تدخل المحكمة لالغاء أمر الاعتقال الاداري بحق الأسير عماد البرغوثي؛ فهو ليس كما تدعي الأوراق على لسان المخابرات العامة الاسرائيلية خطيرًا على الأمن وسلامة المواطنين، ولا حق لهم باعتقاله اداريًا وسلب حريته وابعاده عن عائلته وجامعته التي يعمل فيها محاضرًا في مادة الفيزياء.

حاول أحمد أن يستدرجني لأخرج عن صمتي الخانق، فهو يحس متى أكون غاضبًا حتى الحنق؛ كنت أجيبه باقتضاب وتعمدت اغفال سؤاله الاخير الذي وجهه الي قبل وصولنا الى ساحة المحكمة: كيف لم تيأس بعد هذه السنوات الطويلة وأنت تعرف انك اليوم ستخسر هذه القضية تمامًا كما خسرت المئات مثلها خلال مسيرة عملك أمامهم؟ كنت ألف رقبتي بالشال وألقي على ذراعي العباءة السوداء حين نظرت نحوه، فقرأ ما فيهما، وتبعني.

وصلت بهو المحكمة الفسيح في تمام الساعة الواحدة، نصف ساعة قبل ميعاد الجلسة المحدد. تقدمت نحو القاعة ببطء وعلى يساري ارتفع حائط من حجارة الصوان الضخمة التي قطعت من جبال القدس، وقبالتها نوافذ كبيرة من زجاج تكشف بعضًا من المدى. لا أعتقد أن مصممي هذه البناية اختاروا تلك الحجارة كرمز لرسوخ العدل ولعلوّه، بل، على الأغلب، لتكون تذكارات تنقر صمم التاريخ، كما قرأوه، وشهادات على جبروت شعب واصرار بنيه على زرع روايتهم في قلب الزمن. 

على مدخل القاعة يوجد يافطة مكتوبة باللغة العبرية تحذّر بأن عدد الحضور في الداخل يجب الا يتخطى الأربعة عشر شخصًا وعلى الجميع أن يحافظوا على لبس الكمامات. جلست على أحد المقاعد الشاغرة ومن حولي كل الوجوه مغطاة بكمامات، فبدا المشهد وكأنه مأخوذ من احتفال تنكري.

قرأ الحاجب اسم موكلي معلنًا بداية الجلسة. لم يُجلب عماد لحضورها، على الرغم من انني طلبت ذلك مسبقًا، لكن المحكمة رفضت طلبي بسبب انظمة الكورونا وموقف مصلحة السجون الاسرائيلية في هذه المسألة.

شعرت بانخباء حماس القضاة الذي كان ظاهرًا عليهم في الملف السابق؛ ولم أعرف اذا كان ذلك نتيجةً لتعبهم في نهاية يوم عمل طويل، أم لانهم بدأوا يمقتون النظر في ملفات الاسرى الفلسطينيين الاداريين، لأنها، ربما، بحكم عبثيتها الرتيبة ، حوّلتهم إلى ما يشبه الروبوتات التي تمضغ سوابق من كانوا قبلهم، وتلوك نفس التعابير والمواقف وتنتج قرارتها كمعلبات في خط انتاج سريع.

وقفت أمامهم وأنا في حالة تأهب يألفونها؛ فأحسست بنظراتهم تثقب صدري وأعناقهم تترقب ما عساني سأقول اليوم، وهل سأقصّ عليهم قصيدة أم حكمة وجع جديدة وأتركهم بعدها كي يسكروا، مرّة أخرى، في نبيذ نصرهم الرخيص. جلسَت الى يميني ممثلة النيابة العامة، وورائي، على مقاعد فارغة، أربعة من "شبيبة" الشاباك الذين يبدأون طريقهم كمتدربين في ساحات الغبار الفلسطيني ويكبرون في حضن احتلال منسي.

كنتت والحقّ وحيدين على هذا المسرح. 

تفضل سيد بولس، بادرني رئيس هيئة القضاة، سائلًا اذا كنت قد قرأت رد النيابة العامة على التماسي. طبعًا قرأته؛ أجبت، ثم أردفت أنني لا أصدق ما هو مكتوب ولا أومن بعدالة هذه الاجراءات مطلقًا؛ وأتوقع أن ترفضوا التماسي مثل ما فعلتم، انتم وغيركم من القضاة، طيلة أربعين عامًا مثّلت خلالها، أنا وزملائي المحامين، كما تعلمون، آلاف الأسرى الاداريين الفلسطينيين، ولم نفز ولا حتى بقضية واحدة. فهذه المسألة محسومة لديكم ولن تغيّرها تداعيات قضية عماد البرغوثي الفاضحة، كما ستسمعونها الآن كما جرت في المحكمة العسكرية في عوفر:  

فلقد قامت عناصر قوات الامن الاسرائيلي باعتقال الدكتور عماد من بيته في تاريخ 22/7/2020 وحققوا معه حول مجموعة ملصقات كان قد نشرها على صفحته في الفيس بوك. بعد انتهاء عملية التحقيق قامت النيابة العسكرية، في الثاني من آب/ أغسطس، بتقديم لائحة اتهام ضده عزت اليه فيها مخالفات التحريض ومؤازرة تنظيم محظور ونشر شاراته ورموزه.

مع تقديم لائحة الاتهام طلبت النيابة العسكرية ابقاءه في السجن حتى نهاية الاجراءات القضائية ضده. قرر قاضي محكمة عوفر العسكرية، بتاريخ 27/8/2020 ، وبعد سماع الأطراف، ومعاينة ملف البينات، الافراج عن الدكتور عماد بشروط مقيدة، وذلك لعدم اقتناعه بأن الدكتور وما عزي له من مخالفات وبينات، يشكل خطرًا على أمن المنطقة وعلى سلامة المواطنين. 

لم تستسلم النيابة العسكرية ولم ترض بذلك القرار؛ فقامت بتقديم استئناف عليه امام محكمة الاستئناف العسكرية. ومرة أخرى، بعد سماع الأطراف،  قرر قاضي محكمة الاستئناف العسكرية، في تاريخ 2/9/2020 ، رد طلب النيابة وابقاء قرار الافراج عن الدكتور بشروط مقيدة ساري المفعول.

لم تفرج سلطات الاحتلال عن الدكتور عماد على الرغم من حصولنا على قرارين صادرين عن قاضيين عسكريين؛ فبعد قرار محكمة الاستئناف اعلمتني النيابة العسكرية باصدار امر اعتقال اداري بحق عماد البرغوثي موقع من القائد العسكري للمنطقة وذلك لغاية تاريخ 6/11/2020؛ ثم الحقوه بأمر ثان قضى أن يبقى عماد رهن الاعتقال لغاية 28/2/2021 ؛ وكانت المحكمة العسكرية في عوفر قد صادقت على هذين الأمرين، وأما اليوم، في هذه الجلسة، فلقد اعلمونا عن نيتهم باصدار امر اعتقال جديد ثالث بحقه.

إنها اجراءات باطلة وممارسات قمع سياسية صارت ممكنة لأنكم أوجدتم في محاكمكم مسطرتين نقيضتين؛ فواحدة كالبلطة تهوي على حقوق الفلسطينيين وتقتلع احلامهم وتدمر حياتهم، والاخرى تسهمد للمواطنين اليهود دروب الليل على الهضاب حيث يفرخ الفزع يأسًا وقنابل. توقفت لألتقط نفسي، فحاول رئيس الهيئة أن يقاطعني ويلفت انتباهي الى ان موكلي ليس متهمًا بالتحريض فحسب، بل حسب ما يدّعى في امر الاعتقال الاداري فهو ناشط بارز في حركة حماس، ومتورط في عملية ترميم قيادة الحركة في الضفة، ويشارك في لقاءات تنظيمية مع نشطاء آخرين، وفي أنشطة تحريضية بما فيها على الفيس بوك. سمعته وتساءلت: ما شأن كل هذا والاعتقال الاداري؟  فحتى لو كان كل ذلك صحيحًا لا يجوز اعتقاله اداريًا، لان اللجوء للاعتقال الاداري يكون فقط في الحالات الاستثنائية والقصوى وليس في مثل هذه الحالات بالتأكيد.

رفع القاضي الذي كان يجلس على اليمين رأسه بعد أن أرخاه للاسفل منذ بداية الجلسة، وتوجه الي بصوت نعس وقال : " أنا احترمك سيد بولس منذ سنوات طويلة وليس مريحًا أن نسمع ما تقوله أمامنا، فانت تأتي الى هنا كي تشكك فينا، هذا امر يصم الآذان ..". أكملت حديثي من حيث توقف، فأنا  أقول هذا وأكتبه منذ سنوات طويلة وقبل تعيين حضرتك قاضيًا في المحكمة العليا ، لأنني شاهد على حكاية العبث التي قد بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال وبعد أن وافق، طوعًا، من سبقوكم على هذه المقاعد أن يكونوا جنودًا في أثواب قضاة، وأن يتمموا ما لم ينجز في أرض المعارك؛ فالفلسطينيون جاؤوكم ضحايا نكسة وموهومين ب"نور" احتلالكم ورأفتكم، فأدمنوا، مهزومين، ظلمكم بعد أن سدت عليهم جميع المعابر، وأنتم كقضاة أكملتم المشهد فاستمر العرض كما نرى والمصيبة بالخواتم.

شعرت انهم يغضبون مما أقول، فمضيت في حزني، الى أن أوصلتهم الى ذلك "الجندي" ، وليكن اسمه شلومو أو عماد، الذي يحلم بالزنابق البيضاء " ويريد قلبًا طيبًا ، لا حشو بندقية ويريد يومًا مشمسًا لا لحظة انتصار مجنونة فاشية، وطفلًا باسمًا يضحك للنهار لا قطعة في الآلة الحربية.." عندها أوقفني رئيس الجلسة وقال : "كنا سعداء لو رأينا حركة حماس تحلم بالزنابق.." . فقلت له : أرأيت يا سيدي أنها ليست محكمة وقانون وأنها معركة كانت ولما تزل سياسية ؟!

 قرأوا ملف عماد "السري" في دقائق، ثم رفع رئيس الجلسة رأسه وصوبه نحوي وقال، بنبرة الحاقن الساخر ، هكذا شعرت : "لقد صدقت يا سيد بولس"، وتوقف على طرف ابتسامة شامتة . "قصدك انني خسرت القضية" أجبته، وقد أحسست لغمًا في حلقي؛ فقال: نعم، ووقف ومثله فعل القاضيان الآخران وانسلوا بسرعة الى ما وراء السراب.

لم أشعرهم بما أخفته عيناي، ولم أعرف اذا سمعوني عندما قلت: "أعرف أنني الصادق". 

نظرت في عيني أحمد وكانتا مشرقتين. "لقد أغضبتهم" قال وصمت. فربتُّ على كتفه وسألته أتريد أن تعلم لماذا ما زلت آتيهم رغم أربعين سنة من عمر "الخسائر" .. لأنني أعرف أن فقدان الأمل هو عدو العدل الأكبر وان لكل باطل جولة ...  

علَى مَدْرَجٍ للهُبُوطِ/ الأب يوسف جزراوي

 


مِنْ ديوانِ (في البَدْءِ كَانَ العِراقُ).


(١) كَعْكَةُ التَّرْحَالِ 


....................... 


في هَذَا العَامِ 


أَعِدُّواْ لعِيدِ مِيـلاَدِي كَعْكَةً 


بِتَصْمِيمٍ مُمَيَّزٍ وَمُختَلِفٍ


وَهِيَ خَارِطةُ الْعِرَاقِ! 


وَضَعُوا فِي مُنتَصَفِهَا  


صُورَةً لْبَلَدَانِ تَرْحالِي!


حَيْنَ هَمَمتُ بقطِعِها 


اِستَوقَفَتني بِتَسَاؤُلٍ: 


أ تودُّني مُقطَّعةَ الأوْصالِ 


وَمَا كُلُّ هَذَا التَّرْحَالِ؟!. 


فَألْقَيْتُ عَنْ يَديّ عَصَا الرِّحَالِ!. 


******************************* 


(٢) يَخْتٌ وسَمَكةٌ 


............................ 


فِي يَخْتِ صَيْدٍ 


وسَطَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ 


والسَّماءُ لم يَزَلْ 


 ومِيضُ برقِها سَاكِنًا 


قَالَ الصَّيَّادُ للرُّبَّانِ: 


مَا بالُكَ مُضّطَرِبًا؟ 


مَا كُلُّ غَيْمَةٍ تَبْرُقُ تَجُودُ بِالمَطَرِ. 


ردَّ الرُّبَّانُ كلامَهُ بِالْقَوْلِ: 


لَا فُضَّ فُوكَ...


بَيْدَ أَنَّ الْعِبْرَةَ  


لَا تَكْمُنُ فِي هَذَا الأمْرِ 


فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَمسَكَ الصِّنَارَةَ صَيّادًا. 


قُلْتُ لَهُمَا: 


وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ سَمَكةٍ 


تَسْتَحِقُّ الْتضَّحِيَّةَ مِنْ أَجْلِهَا.


********************************** 


(٣) أَتْعَبَنِي ولَا يَتْعَبُ! 


................... 


أرْهَقني هَذَا الْقَلَمُ 


يُرَاقِبُني وَيُرَافقُني 


وكَالظِلِّ يُلازُمُني! 


أبْتَعِدُ عَنْهُ 


وَلَا يَنْصْرَفُ عَنّي 


أَلَيْسَ لِي لِبُرْهَةٍ أَنْ أُفَارِقَهُ؟! 


ألَا يسْتكِينُ؟


ألَا يمَرضُ  


كَما مرِضَ صَاحِبُهُ؟ 


فكُلَّما أمِيلُ بنَظَرِي عَنهُ 


أجِدُهُ يَقْتَفي أثَرَي وَيكتِّبُني! 


ومَا أَنْ أُبَارِحَ مَكْتَبِيِ 


 أُرَاهُ يَتَأَرْجَحُ عَلَى الوَرَقِ


يَلْعَبُ...يُدَخِّنُ...يُفَكِّرُ وَيَكْتُبُ


ثُمَّ يُشعِلُ الْحَرَائِقَ!


أَتْعَبَنِي هَذَا الْقَلَمُ ولَا يَتْعَبُ!!.


********************************** 


(٤) إِيَّاكَ مِنّي


.................


فِي سِيدني 


التَّي لَمْ تَسْتأْسَرَني


وَلَا انْشَّبَ قَلْبِي بِحُبِّهَا


 جَمعتني صَداقةٌ حمِيمةٌ مَعَ السِّيجارةِ


عَلَى الرَّغْمِ مِنْ غَلَاءِ ثَمَنِهَا!


فَكَم نَفَثتُ مَنْ نفْسُها


وأنَا أسبِرُ أَغْوَارَ الكلِمَةِ...


فمِنْ فرطِ صِدْقها


تُبَلِّغُكَ عُلْبَتُها


قَبْلَ أنْ تُدَخّنَها


بِحَجْمِ مضَرَّتِها!


لَكِنّهَا؛


يَوَمًا قَالت لِي عَنْ نَفْسِهَا


إِيَّاكَ مِنّي.


وََمَا فَطَمَتني


وَلَا فَطمتُها


وَلَا تَخَلَّيتُ عَنْ أنفاسِهَا!


فَإِذَا أقْلَعَتُ عَنْهَا


أفْتَقِدُ غمائِمَ دُخَانِهَا


وَلَن تعودَ البِحَارُ صَالِحَةً


 مُسوَدّةً لِمُؤَلَّفاتي


أو مُلاَئِمَةً لاِرْتِشَافَ قَهْوَتي


وَلَا اسْتَطيبُ لَيلَهُا!.


فللكِتَابةِ (مَهْنَةُ السَّهَرِ)


لَيْلٌ بهيّمٌ


فاحِمُ العَتَمَةِ


لَا يضيئهُ سِوَى


بَدْرُ الشّواطىءِ


وموسيقَى جيوفاني (Giovanni Marradi)


مَعَ كُوبِ قَهْوَةٍ بِالعَسَلِ!.


بَيْدَ أَنَّ قَمَرَ الإلهامِ لَا يَكْتَمِلُ


إلاَّ بِالسِّيجارةِ والتَأَمَّلِ...


 لِذَا مَا فَتِئَ القَلَمُ يُدَخِّنُ


وَعُصَارَةُ الفِكْرِ هُوَ مَا يَكْتُبُ.



*****************************


(٥) مِرْآةُ اليَرَاعِ 


................... 


فِي مَقهًى أَدبيٍّ بِبِلاَدِ الورودِ 


تَفُوحُ مِنْهُ نسائِمُ دَجْلَةَ 


 وَعَبِقُ الفُراتِ 


جَلَسَتُ أَكْتُبُ فِي دَفْتَرٍ  مَدْبُوغٍ 


بِالتَّبغِ وَالقَهْوةِ وَرِمالِ الْبِحارِ...


عَلَى حِينِ غِرَّةٍ 


هَروَلَ اليَرَاعُ 


مِنْ بَيْنِ الإبْهامِ وَالسَّبَّابَةِ 


نَحْو المِرْآةِ 


وَأطالَ النَّظرَ فِيهَا 


لَا لِغَرْضٍ تجْمِيّليٍّ 


وَإِنَّمَا لِيحَدِّثَ المَرَايا 


بِمَا عجِزَ عَنْ البَوْحِ بِهِ للقِرْطَاسِ! 


******************************* 


(٦) ضَوْءٌ مِنْ سَحَبٍ سَوْداءَ


...........................



 هُوَذَا ضَوْءٌ لَاحَ


مِنْ بَيْنِ سُحُبٍ سوداءَ 


وكَأَنَّ الشَّمْسَ تُصِرُّ عَلَى الظُّهورِ! 


ولَمَّا رَأَت دَجْلَةُ الفُراتُ


 الشَّمْسَ بَازِغَةً بِحَياءٍ 


 أَبْرَقَت لِي مَا يُبَشَّرُ بِهِ: 


-إنَّ صِغارَ النَّوْارَسِ 


 لَمْ تَزَلْ تُغنِّي فِي الأجْوَاءِ 


 حِينَها تَيَقّنتُ 


أنَّ العِراقَ لَدَيْهِ مَا يَقُولُهُ للْحَيَاةِ!.


************************** 


(٧) وَمْضَةٌ 


................ 


فِي رِحلةِ النُّزوحِ 


خبَّأَتُ بَلَدِي فِي قَلْبِي 


لِئلّا يَمُوتَ فِيَّ شَيءٌ مِنْهُ 


ولَكِنَّ الطّريقَ الَّذي سَلَكْنَاهُ 


لَمْ يسَعْنَا معًا!. 


************************* 


(٨) غَريبٌ أمْرُهُ 


...................... 


أَرّقني ذَلِكَ الوَطَنُ 


وأَضْرَمَ سُهَادَهُ فِي عَيِنَيّ!


يَسِيرُ وَلَا يَصِلُ 


أقْتَرِبُ مِنْهُ وَلَا أَدنُو


فكُلَّمَا جِئْتُهُ بِالوَصْولِ 


كَافَأني بِالتَّبَاعُدِ وَالْجَفَاءِ! 


وَكُلَّمَا أَقْدَمَ عَلَى المَجِيءِ 


إِمّا يَتِيهُ  عَنِّي


أوْ يتباطأ  إِلَيَّ


فيَضِلُّ الطّرِيقَ إِلَى مَحلِّ هِجْرَتِي!!.


فمَا لِي وَمَا للوَطَنِ؟ وَمَا للوطنِ وَمَا لِي؟


حَقًّا غَريبٌ أمْرُ  هَذَا الْعِرَاقِ


لَمْ أَنَلْ مِنْهُ مَنَالاً!!. 


**************************** 


(٩) عَلَى مَهِلكِ أَيَّتُهَا الْحَيَاةُ


.............. 


 مَضَى نَهْرُ العُمرِ مُسْرِعًا 


فَي دِيَارٍ بِلاَ نَخْلٍ 


لَا أَهْلٌ فِيِهَا ولَا دَيَّارٌ


وَمَا كُنْتُ سِوَى شِراعٍ مُتَزَلِّجٍ 


فَوقَ أَمْوَاجهِ 


رَغْمَ أَنَّ ريحَ النّهْرِ


لَمْ تَكُنْ يَوْمًا  


صَديقًا صِّدِّيقًا للشِّرَاعِ. 


***********************


(١٠) قَمَرٌ تَوَكَّأَ عَلَى صَدرِي


..............................


حصَلَ ذَاتَ غُرُوبٍ مَاطِرٍ 


 أنِّي تَوَكَّأَتُ عَلَى صَدرِ المَهْجَرِ    


فسَقَطتْ مِنْ عَينيّ دَمْعَةٌ عَزِيزةٌ 


 كَطِينَةٍ سَقَطَتْ مِنْ كَفِّ فَخّارٍ 


 وإذْ بِقَمَرِ السّمَاءِ 


يُلوّحُ إِلَيَّ بِعَلَمٍ 


خُيِّلَ لِي 


مَعرِفتي بِأَلْوَانهِ الْمَعْهُودةِ!!.


ثَمَّ رَاحَ يسابقُ زَخّاتِ المَطَرِ 


 لِيُكَفكَفَ دَمْعَي! 


 شَكرتُهُ وَسألَتُهُ: 


لِمَاذَا؟!.


اِرتَمَى بِحضْني


ومِنْ ثُمَّ سالَ دَمْعُهُ فبَكَى!


وعَرَّفَني بَعْدَ حِينٍ


أنّهُ قَمَرٌ عِراقيٌّ


كَانَتِ غَيْمَةُ الْأَحْزَابِ 


كَفِيلةً بِتَهْجِيرهِ مِنْ وَطنٍ 


 كُنَّا نسّكُنهُ يَوْمًا معًا


لِيُقِيمَ فِي بِلاَدِ الكنغر!.


فَكَيْفَ لَا يَبكِي العِراقيُّ وطَنًا


هاجَرَ مِنْهُ أو تهجَّر؟!.



**************************** 


(١١) رَمادٌ وغَليونٌ


.....................


فِي لَيْلَةٍ مَا 


مَرَضَ العِراقُ


فَخَضَعَ إِلَى عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ


وَأَرَسَّوا الدِّيمقراطيَّةَ فِي جَسَدِهِ...


 لَكِنَّهُ بَعْدَ مُضِيّ


عقْدٍ وََنيّفٍ مِنَ الزَّمانِ


ما تَزَالُ شَهِيَّتُهُ مَسْدُودةً


عَلَى السَّلامِ!


فَلَمْ يَزَلْ يَحشُو غَليونَهُ


بِرَمادِ الحُرُوبِ


وَ يُدخّنُهَا عَلَى الرِّيقِ!!


************************


(١٢) أحْلاَمٌ فِي زِنْزَانةِ الْكَوَابِيس


........................


الوِسَادَةُ مَهدُ الأحَلامِ


وزِنْزَانةُ الْكَوَابِيسِ


هَيَ كُرسيُّ اِعْتِرافٍ


وكَاتِمةٌ لأسْرَارٍ فَلَتَت 


مِنْ فَمِ مَنْ توسّدها إِبّانَ النَّوْمِ!


إِنَّها نَاقُوسُ الرّقيبِ 


وصَوْتُ الضَّمِيرِ!


فَالوِسَادَةُ ذَلِكَ الصُّندوقُ الأَبْيَضُ القُطْنيُّ


إِذْ ذوت 


فضَّت بَكارةَ الصَّمتِ


وغدَت مُحاوِرًا


 لَا يُنمّقُ الْكَلاَمَ!.


******************************


(١٣) عَلَى مَدْرَجٍ للهُبُوطِ 


.......................................



مِنَ منْفًى هُولَنْدِيٍّ


وَضَعتُ رِسالةً بِحَافِظةٍ زُجاجيّةٍ


وَشَحَنَتُها إِلَى ساسَةِ بِلَادِ الرَّافِدَيْنِ


عِبْرَ مَرْفأ روتردام (Port of Rotterdam)


كَرّتِ الأعوامُ وفرّتْ


ولَمْ أتَلَقَّ رَدًّا!


فقُلتُ لِنَفْسِي:


رُبَّما اِبتَلَعَتهَا الأمواجُ


أَوْ هَشّمَتهَا أَذْيالُ الحِيّتانِ


 لَحْظَةَ تَحَرَّتْ دُرُوبَهَا!.


رغْمَ هَذَا 


لَمْ يَغْزُ الْيَأْسُ عَزمي


فأعدتُ الكَرَّةَ


وأَرْسَلَتُ مَكْتوبًا آخَرَ


وَكانَتْ واسِطةُ الاتِّصالِ


هَذِهِ الْمَرَّةَ هِيَ:اللهُ.


وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ


لَا مِنْ سَمِيعٍ أو مُجِيبٍ!


 رُبَّما الرَّبُّ 


لَا يُجِيدُ لُغَتي!


أَخِيرًا رَدَّدَتُ فِي سِرِّي:


عَلاَمَ لَا تُجرِّبُ حَظّكَ بِالبَرِيدِ الجَوِّيِّ؟


وَهَكَذَا فَعَلتُ


وَلَمْ يَأتِ جَوَابٌ أَيْضًا!


فطائِرَةُ البَرِيدِ 


تَعَثَّرَ عَلَيْهِا العَثّورُ


عَلَى مَدْرَجٍ للهُبُوطِ 


فِي بَلدٍ تُقصَفُ مَطَاراتُهُ بِالجُمْلَةِ!!.

دراسَة لديوان "وَرثتُ عنكِ مقامَ النهاوند" للشَّاعر الكبير المرحوم نزيه خير/ الدكتور حاتم جوعيه

  (في  الذكرى  السنويَّةِ  على  وفاِتهِ)           

  

مُقدَّمة ٌ  :       الشاعرُ  والأديبُ  المرحوم  " نزيه  خير "  من  أهمِّ  وأبرزِ  شعراء الجيل الثاني داخل الخط  الأخضر ( عرب ال 48  )  حسب تقييم ورأي  جميعُ النقاد المحليِّن  وفي العالمِ  العربي ،  وكما  جاءَ  في  مُقدمةِ الديوان للهيئةِ  المصريَّةِ العامَّة  للكتاب  -  القاهرة – التي أصدرَتْ ديوانهُ  هذا  الذي  نحنُ  في  صددهِ  .  

 وأنا  ، بدوري  ، أعتبرُهُ في  طليعةِ  الشُّعراءِ  المحليِّين منذ ُ الجيل ِ  الأوَّل ِ إلى  الآن من  ناحيةِ المستوى والإبداع  الشِّعري .  ولكنهُ  لم  يحظ َ بالشُّهرةِ والإنتشارالكافي - عربيًّا وعالميًّا - ، فتوَحُّهُهُ وكتاباتهُ  لخدمةِ   شعبهِ  وقضاياهُ  المصيريَّة   وللأمَّةِ   العربيَّةِ   وللمواضيع ِ  الإنسانيَّةِ  والأمميَّةِ   شاملة ً وليستْ مُقتصِرةً  فقط  ومُرَكزةً  لجهةٍ   سياسيَّةٍ  أو لإطارٍ   مُعيَّنٍ  .  

         يتميَّزُ  شعرُ  " نزيه خير "  بالتجديد  والأصالةِ  الإبداعيَّةِ  والقدرةِ  على التوظيفِ الدَّلالي للموروثِ الفكري والتاريخي العربي... مع المحافظةِ والإلتزام ِ  في  خصوصيَّةِ  اللغةِ  وإيقاعِها  وجَرسِها الموسيقي  الداخلي مع  الإبتعادِ عن الإستغراقِ  في الغموض ِ والرُّموز ِالمُبهمةِ ، فيتوجَّهُ  ويخاطبُ  الأمَّة َ العربيَّة   ككل  ( الذهنيَّة  الجماهيريَّة  والمثقفة )  بالسهلِ  الممتنع   .          وكما  جاءَ  في مقدمةِ الديوان  :   هو حالةٌ   ثقافيَّةٌ   طليعيَّة خاصَّة  وشاهدٌ ثقافيٌّ  مميَّز ٌ  على  مُواجهةٍ   يوميَّة ٍ  يقفُ  إزاءَها  دائمًا   المُبدعُ  العربي  الفلسطيني  المُلتزمُ  داخل  فلسطين   48   ( الخط  الخضر  ) وأمام   ثقافة 

 أنجلو سكسونيَّة غازية  تعملُ بشتى الوسائلِ على طمس ِ وتذويب  ِالإبداع ِ الأدبي العربي المحلي بجميعِ   الطرق   (  المباشرة  والمُلتوية )   .  

  فنزيه خير هو  صوت ٌعروبيٌّ  وقوميٌّ   يُجَسِّدُ  وَيُمثّلُ  بحقٍّ وحقيقةٍ  المَدَّ  الثقافي  والأدبي  والفني  المحلي  المُلتزم   ويُمثلُ  الثقاففة  العربيَّة   التقدميَّة  الرائدةَ وقدرتها على مُواجهةِ الآخرين  في أوضاع  وظروفٍ شاذَّةٍ  وصعبةٍ  واستثنائيَّة  .                                                                           – مَدْخلٌ  : -   إنَّ  ديوان   " وَرثتُ عنكِ  مقامَ النهاوند "    يقعُ  في  132  صفحة  من الحجم  المتوسط  - إصدار ( الهيئة  المصريَّة  العامَّة  للكتاب )  يحوي مجموعة ً من القصائد المُختارة  نُشِرَ  بعضُها  في  دواوينهِ  السَّابقةِ   ،    وهذه  القصائدُ  تتمحورُ  في  مواضيع مُتعدَّدة  :  السياسيِّة  والوجدانيَّة  والقوميَّة  والغزليَّة  والإجتماعيَّة  ... إلخ .     

     لنبدأ  بالقصيدةِ  الأولى  من  الديوان  بعنوان  :   (   رسالة  شوق   - صفحة   5  )    فيها  يُحَدِّدُ  ويُوَضحُ  " نزيهُ  "   انتماءَهُ   القومي  وهويَّتهُ  العربيَّة  فهو  فلسطيني عربي  ينتمي للأمَّةِ  العربيَّة  قاطبية ً - من المحيط ِ  للخليج ِ   ،  حيثُ  يقولُ   : 

( "  مَسْكوُنٌ  بالعشق ِ الشَّرقيِّ  أنا   

       مُنذ ُ  تناهَى  بَصَري //    وَأطلُّ   على  بحر ٍ  ونخيلْ          

      وَيدي مرَّتْ في وطن ِ الليلكْ //  وانتزعَتْ شوكة َ عبَّادَ الشَّمس // ومالتْ 

      وَسبيلي ظلَّ  في غيرِ  سبيلْ  //    مَنْ   يشفي  عشقكَ  هذا      

      بَصَري  -  قلتُ  لها  -     

      يتكحَّلُ  في  صبح ِ  الهرم ِ الأكبرْ  

      ويدي  //  أغسلها  في  ماء ِ النيلْ  

ويقولُ  أيضًا :"  فصحتُ بأنَّ  الصحراءَ  تقاسمني جسَدَ  النخل ِ // ولونَ القمح  البني   

ويقولُ  أخيرًا : "  يتكىءُ  المَوَّالُ  العربيُّ  على   صيحة ِ  آه   

                     ولماذا يتكىءُ التاريخُ العربيُّ على صيحةِ ... واه  مُعتصماهْ ..؟؟ " .       

   إنَّ  الصحراءَ  هي  رمز ٌ  للقوميَّةِ  العربيَّة ِ  وللأمَّةِ العربيَّةِ العظيمةِ  التي  كانت  في  يوم ٍ  من  الأيام ِ  تحكمُ  معظمَ بقاعَ  الأرض ِ  وتنشرُ  النورَ  والعلمَ والحضارةَ   على  جميع ِ الأمم ِ  والشعوب ِ  الأخرى  .    وقد  عاشت هذه  الأمَّةُ   ولاقت  الكثيرَ  وعانتت من جحافل  الطغاةِ والمُستعمرين الأجانب  ،  فلهذا  يتساءلُ  نزيه  :   لماذا الموَّالُ  العربيُّ  حزينٌ  يتكىءُ  على  كلمة  (  نغمة )  آه  ،  والتاريخُ العربيُّ  دائما   تنعكسُ وتنبثقُ  منهُ  صيحة  " وا مُعتصماه "  -  رمزا ً للمساعدةِ والنخوةِ والإنقاذ ِ .      فالأمَّة ُ  العربيَّة  مرَّت  بالكثير ِ من  المآسي  والضيقات ِ  والنكساتِ   منذ ُ  كربلاء  إلى الآن   ،  مثل  :   غزو التتار  لبغداد   وللبلاد  العربيَّةِ  والإسلاميَّة  ،  والحروب  والغزوات الصَّليبيَّة  ، والإستعمار التركي ،  ثمَّ  الغربي فيما  بعد  ، ونكبة   فلسطين   ،   والهزائم   المتلاحقة  وحرب الخليج  ومأساة  الشعبِ  العراقي  وأطفالهِ  .. إلخ  .     ونزيه  هنا  يستجلي  الماضي  ويقرأ  الحاضرَ  ويأتي   ببعض ِ  العباراتِ  والجمل ِ الشعريَّةِ  المستوحاة  والمُستقاه  من  التاريخ  العربي  القديم    .     

      ولننتقل  إلى قصيدةٍ  أخرى   بعنوان  : ( الرَّعيل  -  صفحة  13  ) ،  وهي  عموديَّة على وزن ِ البسيط  كتِبَتْ  وأدرجَتْ جُملها على  سكل ِ شعرِ التفعيلة  ) ،  مهداة ٌ  إلى  الخرِّيجين  والخرِّيجات  في  نهايةِ  السنةِ  الدراسيَّةِ ،  يقولُ فيها  :   

( "  لا   تُوْصِدِ  البابَ  إني  عابرٌ  تَعِبُ      تنأى المسافاتُ في  وجهي  وتغتربُ   

      أكادُ  من  شجَني أبكي على  َشجَني      فهلْ    يعودُ   زمانٌ    طيِّبٌ    عذِبُ   

       فهلْ    أنامُ    قليلا    فوقَ   مقعدِنا      يا حاديَ العيسِ لا سارتْ  بكِ الرُّكبُ  ...ويقولُ: أمضي ونافذةُ المجهولِ ترقبني     وفسحة ُ  العمرِ   تنأى   ثمَّ    تقتربُ     

              والقصيدة ُ   جميلة ٌ  وعذبة ٌ   وفيها  بعض ُ  التجديدِ  بالرغم ِ  من  كون ِ شكلها  الخارجي  كلاسيكي  ( تقليدي  )  ،  وفيها   يظهر ُ  شوقُ  الطالبِ    وحنينه إلى أيام ِ التعليم ِ  ومقعدِ الدراسةِ  الذي قضى  سنينا  من حياتهِ  وعمرهِ  عليهِ  (  قبل  التخرُّج ِ )  ويتحدَّثُ  في القصيدةِ  على  لسان  الكثيرين  من الطلاب  الذين  تخرَّجوا   ومجهولٌ غدُهُم  ومستقبلهم العملي والمهني  بالرغم ِ  من  كونهم  تخرَّجُوا  ويحملونَ  الشهادات  ،  فمصيرُهم  مجهولٌ   وفسحةُ   الأمل  والنجاح  تذهبُ  وتجيىءُ  ، وكما  أنَّ  نزيه   يقتبسُ  بعضَ  المصطلحات  أحيانا  وبعضَ  العبارات  الشعريَّة  ويُوظفها  في قصيدتهِ  ليدعمَ  ويوضحَ  فكرة ً يُريدُها  فيأتينا  بما هو جديد ومُبتكر وحسن   .          فقد أخذ َ مقطعا ً  من موشَّح  (  قصيدة  لإبراهيم  طوقان ) وكتبَ على  نمطهِ  شطرةً  جميلة ً ً  وضعَها  على  شكل ِ تضمين  ،  والمقطع من  قصيدة  إبراهيم هو  :  

 " يا  تينُ  يا توتُ  يا رمَّانُ  يا عنَبُ  "  ،   ونزيهٌ   جاءنا  بكلماتٍ  جديدةٍ  ومعنى  جديد  ليدعمَ  فكرتهُ  حيثُ  يقولُ  : 

 "  هنا  تركتُ  كنوزَ  الأرضِ  بائسة ً        يا  دُرُّ  يا  آسُ  يا  ياقوتُ  يا  ذهبُ"  

 ..  أي  أنَّ  الطالبَ  تركَ  أعز َّ  ما  لديهِ  بعدَ  تخرُّجهِ  ...  تركَ  احلى  سنين عمرهِ  وذكرياته  وصباباته ومغامراتهُ  العاطفيَّة وغيرها.. وزملاءهُ  ورفاق َ دربهِ  وأترابه    فهم  أغلى من  الآس ِ  والياقوت ِ  والذهبِ  .  

         وفي  قصيدة (  توشيحة  عراقيَّة  من  ألف  ليلة وليلة  صفحة  31  )  يتحدَّثُ فيها  عن  هموم ِ  الإنسان ِ العربي والوضع  الرَّديىءِ  والمُزري الذي  وصلت  إليهِ  الأمَّة ُ  العربيَّة   من   ناحيةِ  الذلِّ  والخنوع ِ  وربط ِ  مصيرها  بالأجانب  والغرباء ِ   وفقدانها  كرامتها  ودورها  القيادي والتاريخي الهام  عالميًّا  ،  ويتطرَّق ُ  إلى  مأساةِ الشَّعبِ العراقي  ويُوظفُ  نزيهُ هنا  بعض َ الرموز ِ والإيحاءات التاريخيَّة   ،  ولكنهُ   في  توظيفهِ  هذا تبقى  معانيهِ واضحة ً جدًّا  ومفهومة ً ،  مفادُها  للهدفِ والموضوع  والفكرة ِ التي  يُريدُها   فهو  يستعملُ  السهلَ  المُمتنع  بالمعنى  الدَّقيق  ،  فيقولُ   في  قصيدتهِ مثلا ً   : 

 ( "  أنا  لستُ  مُتكئا ً  على  جرحي //    ولا  غردًا  ينوحُ   ببابِ  الطاق ْ   

أنا  عاتبٌ  يشكو إلى  زمن ٍ   يهونُ  بهِ  الوفاقْ   //  

هل عادَ أحفادُ البرامكةِ  الذينَ  تفرَّقوا  //   في عصر ِهارون ِ الرشيدِ إلى العراقْ    

فأينَ  نبيتُ  يا  بغدادُ  ليلتنا  //  وأينَ  لنا   لقاءْ  

ويقولُ :  أم أسْرَجَ الفضل بنُ الربيع  حصانهُ ... ؟  // أنا  لستُ مُتكئا ًعلى  جرحي // 

//  ولكن    كربلاءْ    //    

يا   ألفَ   ليلةٍ   إرجعي   //   ليلات عطرٍ   في  مجالس ِ شهرزادْ  

هل  في المدينةِ  من  يردُّ  لها  الصَّباحْ  // هل  في المدينةِ   َمن  يَرُدُّ  لها  المساءْ ")  

    هو  يتساءلُ  هل عادَ  أحفادُ البرامكةِ  إلى العراقِ   ... أي أنَّ الغرباءَ من  الأقوامم والشُّعوبِ  الأخرى  قد  دخلوا  شرقنا  وسيطروا  واستولوا على كلِّ  شيىء ٍ فيه  من ناحيةِ  الخيرات  والموارد  الطبيعيَّة  وعقول  ونفوس  المواطنين   ورقابهم  ،  وما  الحكام  العرب   سوى  دميةٍ   في  أيدي  الغرباء   والمستعمرين   وأصبحتْ  مجالسُ  شهرزاد  قفراءَ  فمن الذي  سيردُّ  لها المساءَ  والصباحَ  ويُعيدُ  لها  حرِّيَّتها وكرامتها .       ونحنُ  كعربٍ   تكثرُ  في   تاريخنا   المآسي  والنكباتُ  ،  حيتدثُ  يقولُ  شاعرُنا  :    "  ولكن  كربلاء ".  فكربلاءُ  هنا هي رمزٌ لكلِّ  مأساة ٍ يكونُ  فيها  الجاني والمجني عليهِ  من  العربِ  أنفسِهم  .     

    ويقولُ  في  القصيدةِ  أيضًا  :   

( " يا  أيُّها  العربُ الذينَ  تسمَّروأ  //     من أينَ أعطيكم  بقيَّة َ نخوةٍ 

وبقاءَ  عاطفة ٍ   ومسحةَ  كبرياءْ  //  

لم  يبقَ  إلا  أن  تعرينَ  العراقيَّاتُ  //  في وجهِ  البرابرةِ   الغزاةِ    صدورهنَّ  

وبعضكمُ ْ  يلغُو   //   وبعض ٌ   في   ُسبَاتْ  

يا  لأيُّها العربُ  الذينَ  تسمَّرُوا  

كانَ  الفراتُ   لكم  مداخلَ  جنَّةٍ   //   وسياجَ  نخل ٍ  يميلُ   على  الفراتْ " )... إلخ .

    إنَّ الوضعَ  العربي  اليوم   ( الإجتماعي والسياسي والإنساني  )   لا  يُحسدُ  عليهِ  ،  فالأمَّة ُ العربيَّةُ  في تفككٍ   وتشرذمٍ   وتراجع ٍ وتخاذل ٍ  وغير  مُباليةٍ  لما  يجري حولها من أحداثٍ  جسام ٍ ، وشاعرُنا  يتساءلُ : من أينِ  سأعطيكم  النخوةَ  والعاطفة    النقيَّة   ومسحَة   الكبرياء   والكرامة   لتثوروا   على  الوضع ِ  المُزري  الذي  أنتم  فيهِ ، لأنَّ  معظمَ ( القيادة  العربيَّة والأمة ككل )  في  سباتِ  ونوم ٍعميق ،  والبعض  يلغو ،  ولكنَّ  لغوَهم  وخطبَهمْ  مجرَّدُ  كلام ٍ عقيم ٍ  ليسَ  لهُ  أيُّ  رصيدٍ عمليٍّ على أرضِ   الواقع ِ  ( بعض القادة والمسؤولين العرب )  .    فالغربُ   بذ َكائهِ   ودهائهِ  يجتاحُ كلَّ  شيىءٍ   ويغزُو  الإنسانَ  العربي  والشرقَ  من  ناحيةٍ  فكريَّةٍ  واقتصاديَّةٍ  وتيكنيلوجيَّةٍ  وإنسانيَّةٍ   ويستغلُّ  خيرات  الشرق  ويضعُ  العراقيلَ  والحواجزَ  أمامَ  الإنسان  العربي  حتى   لا  يصل  ويتطوَّر  علميًّ   وتيكنيلوجيًّا  وحضاريًّا  والقيادةُ  العربيَّةُ  مجرَّدُ  دُمىً   في  أيدي  السياسةِ  الغربيَّةِ  الإستعماريَّة  الأمبرياليَّة  توجِّهها كما  تشاءُ  .    ومع   كلِّ  ما  يجري  من  مآسي  وكوارث  وعدوان  لبعض   البقاع  والمناطق  في الشرقِ  العربي  فالأمَّةُ  العربيَّة ُ والحكام  العرب لا  يحرِّكونَ  ساكنا  لأنَّ  الغربَ يطلبُ  منهم  ذلكَ  (  من  الحكام ِ  العرب )  .   فلم  يبق َ  - حسب قول ِ شاعرنا  نزيه  -   سوى  أن   ُتعَرِّي العراقيَّاتُ  صدورَهنَّ   وتكشفُ  عن  نهودَهنَّ  وعوراتهنَّ  ومفاتِنهنَّ الجسديَّة في  وجهِ البرابرةِ الغزاةِ  وفي وجهِ الإجتياح  والغزو  الأجنبي  على  جميع ِ  أنواعهِ    .     والعراقيَّاتُ    (( منذ ُ غزو هولاكو  لبغداد  ))     أصبحنَ كرمز ٍ لكلِّ  بلدٍ  وقطر ٍعربيٍّ  يتعرَّضُ  لاجتياحِ ولغزوٍ  واعتداءٍ  أجنبي  .       وفي هذه  القصيدةِ  نجدُ عند  نزيه الصورَ الشعريَّة َ الجميلة َ الخلابة َ حيثُ  يقولُ   :   

(  "  كانَ  العراق ُ  إليكم  مداخلَ  جَنَّةٍ   وسياجُهُ  نخلٌ يميلُ  على الفراتْ  " )  

 أي كانَ  الفراتُ  وما  زالَ  جنة ً  للقلوبِ والنخيلُ  يحيطهُ  كسياج ٍ  من  كلِّ  جانب ٍ   قد  تعرَّضَ  للقصفِ  والعدوان ِ   .     وفي  نهاية ِ  القصيدةِ  يقولُ   :

( "   ورأيتُ    بيض َ   الهندِ    ُترفعُ   تارة ً  

       وتردُّ  في  أخرى إلى  العربِ  الجوارْ  

       كانتْ  منازلهُمْ   تصيحُ ... وخيلهُم   ترغُو ... 

       كأنَّ  مَخاضَهُمْ  آتٍ... وأَنَّ محمَّدَ العربيَّ عادْ //  

       كانت فوارسُهُمْ  تقاتلُ  بعضَهَا  //   وملوكهُم ْ//  كانت  ُتحَاكِمُ  شهرزادْ //  " ) 

 ففي  نهايةِ  القصيدةِ   نرى  صبغة  التفاؤل والأمل  وأنَّ  المخاضَ  سيأتي  وترجعُ  للعروبةِ  الكرامة  والعزَّة  والحقوق  الكاملة  ،   وكانَّ  النبيَّ " محمد " رجعَ   وعادَ  (  بُعِثَ  من  جديد )   ليعيدَ   للأمَّةِ  العربيَّةِ    الوحدةَ   واللحمة   القوميَّة   والسُّؤدُدَ  والمجدَ  والقوَّةَ   والقيمَ  والأخلاقَ   والإلتزامَ  والإيمانَ    . 

   ولننتقل  إلى  قصيدة ٍ  أخرى   وهي  بعنوان  :  (  تصويغٌ  جديد ٌ لنشيدِ الإنشاد  -  صفحة  60   - على  بحر  المتدارك   "  الخبب "  )   ،     نظمَ  نزيهُ هذه  القصيدة  على نمط  نشيدِ  الإنشاد  الذي  لسليمان  الحكيم   ،  ولكن  بصيغة ٍ  وبأسلوب ٍ  جديدٍ  وبتوجُّهٍ  وبرُؤيا  جديدة   .    ويُدخلُ  إلى هذهِ  القصيدةِ  بعضَ  التعابير ِ والمُرادفات  والمواضع الجديدة  غير الموجودة   في  نشيدِ  سليمان  .  وهو  يتحدَّثُ  عن القضايا  العربيَّةٍ والقضيَّةِ  الفلسطينيَّة ،  ويظهرُ  تأثُّرُ  نزيهٍ  هنا بوضوح ٍ  بالكتابِ المقدَّس  .   وهذه   القصيدة ُ رائعة ٌ من  ناحيةِ  البُعدِ  الفني  والمعاني العميقة  والأسلوب الرَّشيق  الجميل  والكلمات  العذبة   الحلوة ،  وتحملُ  الكثيرَ  من الأبعادِ  والأهدافِ  الإنسانيَّة  والفكريَّة  والفلسفيَّة   والقوميَّة   .  

يقولُ  فيها : ( " أكرمني    بنشيدِ    العشق  //    وسَامِرْني   في  ليلِ  العِطرْ  // 

                 قالتْ واحملني فوقَ ذراعِكَ الرَّاحمتين //  فأنا عذراءٌ يأخُذها السِّحرْ  //       ويقولُ فيها : ( "  فأنا  سلطانةُ   أرضِ  العشقِ   وسوسنةُ   الوديانْ  // 

                   َمنْ  يأكل  شهدي مع  عسلي  //  لا  يضرب  في  سيفِ  السُّلطانْ  //  

                   بلْ   يضرب  لي عُنق َ السُّلطانْ  //   " )  

  نحنُ  نلمسُ هنا  ونستشفُّ  روحَ المُقاومةِ  والتصَدِّي  للظلم ِ والطغيان  والثورة على  كلَّ  شرٍّ  وإثم ٍ  وعدوان  .         ويُنهي  القصيدة َ  بهذه  الكلمات   :   

( "   هنا  الحرسُ  الطائفُ  في  ساحاتِ  مدينتنا     

       لا  يعشقُ   وردَ  عصا  الرَّاعي  //   لا  يعرفُ  إلا َّ ضربَ  عصا  الرَّاعي    

       فتعَلّمْ  من  قلبِ  الإنشادِ  ومن   فرح ِ الأحزانْ   //      

       ما  يجهلُ هذا الملكُ الجالسُ في عرش ِالسلطانْ    

      مِنْ أنَّ جنوبَ الكرةِ الأرضيَّةِ // لن يرمز بعدَ اليوم إلى الفقرِ القاتل والحرمانْ // 

      وبأنَّ   كراسي  المدرسة   الشرقيَّة  //   تبدأ  من ألفِ  جنوبٍ  في  لبنانْ  // " )    

  نجدُ  هنا   بوضوح ٍ البعدَ  الفكري  والقومي  والإنساني    ،  وأنَّ  العربَ  والشرقَ هم  أوَّلُ من  وضعوُا  الأبجديَّة  وعلموا   الناسَ  والأممَ   وأعطوا  النورَ والحضارةَ  والعلمَ والرّقيَّ للبشر أجمعين  وأنَّ  لبنانَ  يُعتبرُ أوّلَ  مدرسةٍ للأبجديَّةِ  في  الشَّرق  .   

         وفي  قصيدة ِ  (  مراثي  مدن  الشَّرق -  صفحة 47  -  )  يتحدَّثُ   فيها  عن  مآسي  معظم ِ الكتابِ والشعراءِ العربِ  وقضيَّة  هروبهم  من  وطنهم  وبلادِهم   إلى الدول    الغربيَّةِ  خوفا ً  من  سوطِ  الحاكم  وعقابِهِ  ،  مثل  الشعراء  الكبار  العمالقة   :  كالجواهري   والبياتي   وبلند  الحيدري   ومُضفر النوَّاب   ونزار  قباني   طالبين حقّ اللجوء  السياسي  ...   وبعض  هؤلاء الشعراء  كانت  تربطهُم  صداقة ٌ وعلاقة ٌ  وطيدة  ٌ مع  الشاعر المرحوم  "  نزيه  خير "    ويقول   نزيه  في   قصيدتهِ  : 

( " أنا   الشاعرُ  الهاربُ بلندُ  الحيدري  // المولودُ  في العراق والمُقيمُ  في  لندن //  

   أتلفتُ   حولي ألفَ  مرَّةٍ وأنا  أسيرُ بينَ  بيتي  وبينَ   محطَّة ِ القطارْ  " ) 

 ويقولُ  أيضًا  : ( "  وأنا  الشاعرُ  المنفيُّ  مجازا   نزار قبَّاني    

                          المولودُ في سوريَّا  والمُتنقلُ  بينَ   جينيف   ولندن  

                          تركتُ    لكمْ   دمَ   بلقيس على   حائطِ    بيروت !   

ويقولُ  :   ( "  وأنا الشاعرُ  المنفيُّ  إراديًّا  صديقكم  أبوعلي عبد الوهاب البياتي   

                   أتمنى  ليلة ً أجلسُ   فيها على  الفراتِ  ولا  يأتي  أحدٌ  ببيان ٍ جاهز ٍ    

                    لكي  أوقع    عليهِ  " )    ...   إلخ ...  .                                      وهذه   القصيدة ُ   كتبتْ  بأسلوبٍ   تهكميٍّ   وحزين ٍ  للوضع  ِ العربي  قاطبة ً  وما  يعانيهِ    خيرة ُ   الكتاب  والشعراء    من    ظلم    وإجحاف ٍ   لمعارضتهم    وعدم رضائهم  للوضع  القائم ِ هناك  في ظلِّ الأنظمةِ  الرجعيَّة  القمعيَّةِ  ،  ولهذا   اضطرَّ  العديدُ  من  خيرة ِ  الشعراء  والكتاب والمفكرين والعباقرة العرب  المذكورين  أعلاه  للهجرةِ تاركين  وطنهم  ومسقط  رأسهم   طلبا ً  للتنفس ِ  وللحريَّة ِ   وللتعبير ِ  عمَّا  يجيشُ  في وجدانِهِم  وأحاسيسِهِم  من  هموم ٍ  وآمال ٍ  وأحلام ٍ وطموحات  ولواعج  إنسانيَّة    .  لقد  تأثَّرَ  " نزيه خير " شعريًّا  بالكثير ِ من الأفكار ِ التقدميَّة ِ  وبالكتبِ  المقدسةِ   ،  وتأثَّرَ  بشكل ٍ  خاص   بالديانة  التوحيديَّةِ  الدرزيَّةِ  وبالفلسفةِ   اليونانيَّةِ  والأفلاطونيَّةِ  الحديثةِ  التي   استمدَّت   الديانةُ   الدرزيَّةُ   منها  الكثيرَ   من   الآراءِ   والنظريَّات أسوةً  بالعديدِ  منَ المذاهب والفرق التي خرجت من الشيعة  ِالإسلاميَّة  .       وكما   أنَّ   " نزيه "  يأخذُ   بعضَ المفردات  والتعابير  والأمثلة  القديمة  ويوظفها  بشكل ٍ جيِّدٍ  في  قصائدهِ   ،  مثلا ً :    هنالك  البيت الشعري  القديم   لطرفةِ  ابن  العبد  البكري  من  معلقتهِ وهو :                                                                       (  وظلمُ  ذوي  القربى أشدُّ  مضَاضةً         على المرءِ من  وقع  الحسامِ   المهنَّدِ   )  

وأما  نزيه  فيقولُ  في  قصيدةٍ   لهُ  مُخاطِبًا  وطنهُ   : 

( "  فالسيفُ  المرفوعُ   إلى  ظهرك  //  في  كهفِ  الأهلِ  وفي  كفِّ الأحبابْ 

      أقسى من  طعنةِ  سيفٍ  في  صدرك   من   كفِّ  الأعداءْ  " )  . 

   وهنا  ، بالطبع   ،   فنزيه  جاءنا   بشكلٍ   وبشيىءٍ  جديد  وبرؤيا   جديدة  مبتكرة   ،  وهو  يعرف  كيفَ  يستفيدُ  من  الأمثلةِ  والمرادفاتِ أو المعاني  والصور  القديمةِ  والمألوفةِ والقوالبِ الشعريَّةِ الجاهزةِ وكيف يعملُ على تطويرها ويصوغها  ويصقلها  من   جديد  ويضيفُ  عليها  من  عنده   ،  من  خيالهِ  ،  وعبقريَّتِهِ   بما  يتلاءمُ  مع   الموضوع ِ  والهدفِ الذي   يريدُهُ   ومقتضيات  وأصول    التجديد   والابتكار  الفني  والأدبي  في العصر ِ الحديث    .     ومثالٌ   على  ذلك  قصيدته    "  تصويغ  جديد  لنشيد ِ الإنشاد  "   .     وقد   لفتَ  انتباهي  قصيدتهُ  "  مديح  الشِّعر العالي "   التي  فيها   يكيلُ ويلقي  اللومَ  والإنتقادَ  الشديدَ  على  الذين  يكتبونَ  شعرًا  عقيمًا   سخيفا   دونما  معنى  وطعم ٍ  ولون ٍ فيصفّونَ  ويرصُّونَ الكلمات  والجملَ والتعابيرَ المُبهمة  ادِّعاءً ( منهم )  في التجديدِ والحداثةِ  ويغرقونَ  ويتوغَّلونَ  في السَّخافةِ   والتخبيصِ  والدَّجل ِ والخزعبلاتِ  فتكونُ  كتاباتهُم  مُجَرَّدَ  هذيان   ولإضاعةِ  الوقتِ ... وتعقيدا  وتخريبًا  للأجيالِ   الجديدة   الواعدةِ  ، لأنها  لا  تحملُ   (  كتاباتهم  وتخبيصاتهم )  أيَّةَ  رسالةٍ إنسانيَّة ٍ  أو  أدبيَّةٍ  أو  فكريَّة ٍ  للناسِ  ،  فيقولُ  نزيهُ  في هذهِ القصيدةٍ   :    

("  واسعة ٌ جدًّا  يا  خيمتنا  الفضفاضة   //   يا خيمتنا  الممتدَّةُ  في  ليل ِ العباسيَّين  

 إلى  مطلع  ِهذا العصر//   يدخلكِ  الخِسَّة ُ والدجالون  //    واصحابُ   اللحن  //    وأتباعُ   العُهْرْ //  لم  يبقَ  لدينا جمهورٌ يهتفُ  للشعراء //  فأينَ جماهيرُ الشِّعرْ  // 

 لم  يبقَ  لدينا  دجَّالٌ  موتورٌ    //   إلاَّ  واغتصبَ  الشِّعرْ 

ويقولُ أيضًا :(" لكنكَ لا تفتحُ  في هذا الزمن السَّيِّىءِ بابا ً// إلاَّ وترَى مُتَّهَمًا بالشِّعر// 

//  لا يعرفُ  كيفَ  الفعلُ  الماضي  //    ويكونُ   الأمرْ   // 

 ويُعلّمُ  جيلا ً  منَ  رُوَّادِ  الأمَّةِ   كيفَ  يكونُ الشِّعرْ  //  " )...  إلخ ...    

       هو  يتحدَّ ثُ عن الشعر ِ العربي عامَّة ً  ومراحل تطورهِ منذ   العصر ِ العباسي  إلى الآن  ،  وكيفَ   في  عصرنا  أصبحَ   الكثيرونَ  من  الدَّجالين   والدخلاءِ  على  الشِّعر ِ والأدبِ  ولا  يعرفونَ  الفعلَ الماضي  من   المُضارع ِ  والأمر يدَّعونَ  أنهم  شعراء   كبار  ويشوشون   ويعرقلون  المسيرة  الأدبيَّة   والشعريَّة  َ  العربيَّة َ   في   ادَّعاءاتِهم  وتعاليمِهم  العقيمةِ  ومفاهيمهم  الخاطئة  المُسِيئة   للأجيال   القادمة  عن  الكتابة   والشِّعر  والأدبِ  ،  لأنَّهُ  من  جَرَّاء ِ  ذلكَ  تتخرَّجُ    لدينا  أجيالٌ  مُشوَّهَة ٌ  فكريًّا  وأدبيًّا  وثقافيًّا  وفنيًّا   لا  تعرفُ  جوهرَ  وقيمة َ الشِّعر   الحقيقي   ومُقوِّماتهُ  الجماليَّة  والفنيَّة  والبلاغيَّة  وفلسفته  وجوهره الأساسي .... وحتى الناس - جماهير  الشعب  ( وهم  الحكام  الحقيقيُّون )  للشَّعرِ   والأدب   بدؤُوا    يبتعدونَ  ويتلاشونَ  ويختفونَ  عن  منصَّاتِ  ومهرجاناتِ  وندوات الشِّعر   والأدبِ   لأنَّ   الشِّعرَ  نزلَ  مُستواهُ  كثيرًا   (( إلى  الدَّرك ِ الأسفل ))     والكثيرونَ  من  الدجَّالين  والمُتطفلين  ودُعاة ِ الأدبِ    صاروا  شعراءً جهابذة ً   اليوم   ،   وبالكاد  ونادرًا  نسمعُ  صوتا ً شعريًّا  صادقا ً  مُبدِعًا    من   بين  آلافِ  الأصواتِ  النشازيَّةِ  ،  والناسُ   صاروا  يعتقدونَ  أنَّ  معظمَ  الشِّعر   العربي الآن  في انحطاطٍ   ورداءةِ  مستوى  .   

 ويُنهي   نزيه  خير  قصيدتهُ  اللتي  نحنُ  في  صَدَدِهَا   بهذه  الكلمات   :  

( "  اللهمَّ   اجعلني   جَوَّالا ً   //   تتحَدَّى  مُهرتهُ   الجامِحَةُ   كفَّارَ  الشِّعرْ   //  

لستُ  نبيًّا  كي  آمرَ  في الناس ِ  ولكنْ  //   منْ   حقِّي  أن  أرفعَ   سيفي   // 

كي  أحمي  مُدنَ  السِّحر ِ الممنوعةِ  من  مملكة ِ  الشَّعرْ   //    "  ) 

        ونزيه  في  نهايةِ   قصيدتهِ  وقفلِهَا  يذكرنا  بنهاياتِ   قصائد  الشاعر ِ العربي   الكبير  " عبد  الوهاب  البياتي  "  وكلاهما  يستعملان  الرموز الجديدة   والواضحةَ والمفهومة َ   لكثير ٍ  من  الناس ِ   .      ولننتقل  إلى  قصيدة ٍ  أخرى  صفحة  119  بعنوان  :  " وراءكم  بيروت  "  فيظهرُ  هنا  تأثُّرُ  نزيه  الكبير  بالكتاب ِ المقدس ِ ،  فيقولُ  مثلا ً  :   

( " يا  مريمَ  العذراء ألفُ  مرَّةٍ  ظهرت منازلُ المُعذ َّبين  //  َتمْسَحينَ   جرحَهم  //   

    وتمنحينهم   دربَ  الصُّعود  //   أقبِّلُ  المسيحَ  في  يديكِ  ألفَ  مرَّةٍٍ   // 

    أن  ُترجعِي  مُشرَّدًا  وتنطِقي  مكبُوتْ   // 

    أن تظهري في معبر ِالدمع ِ في بيروت ساعة ً // أن تظهري وُتنقذي  بيروتْ // )  

                 وممَّا   يميِّزُ   نزيه   خير  عن   الكثيرين  غيره  من  الشعراء ِ  محليًّا  وعربيًّا   أنَّ  قصائدَهُ   قويَّة  متكاسكة   بعباراتها  وصورها الشعريَّة   ، وكل  كلمة ٍ  وعبارة ٍ  جاءت  في  مكانها  الطبيعي  الملائم  فمن  الصعبِ  أن  نحذفَ كلمة ً  من جملة ٍ  وبيتٍ   لهُ  ونضع  مكانها  كلمة ً  مُرادِفة  اخرى  لأنهُ  سيحدُثُ  تصدُّعٌ   في  البيتِ  وفي القصيدةِ  وهنا  َيكمُنُ   سِرُّ   قوَّة ِ وعبقريَّةِ الشاعر  ،   وهو  من  أفضل  الشعراءِ   العربِ  الذين   تميَّزوا  وتفننوا   بتوظِيفهم   الدَّلالي  للموروثِ   التاريخي  والشَّعبي  والأدبي   في  تجربتهم  الشِّعريَّة ِ    .   كما أنَّ  بعضَ  القصائد  عند  نزيه  نراها  قصائد   دائريَّة   ...  أي  أنهُ  يبتدأ ُ القصيدةَ   بمعنى  وبجملة   وفكرة   مُعيَّنة  ويقفلُ  القصيدة َ  وينهيها   بنفس ِ المعنى  أو العبارة  أو  ما  يُشابهها    ،  مثالٌ  على  ذلك  في  قصيدته ِ  :  "   الطريق  إلى  أبنود  -   صفحة   52  "    ،   وهي  مُهداةٌ   إلى الشَّاعر ِ العربي  الكبير    " عبد  الرحمن  الأبنودي  "   ،  ومطلعها  : 

 ( "   يأتي   قطارُكَ   في   الصَّباح ِ  إلى   الصَّعيدْ  

       ويعودُ مُحترقا ًعلى شوق ِالرُّجوع ِإلى الصَّعيدْ  //  

      هيَ  غيمة ٌ  تأتي ...  ويحتضنُها   الندى  //  فتعودُ  أبنودُ  القديمة ُ من جديدْ //   

ويُنهي القصيدة َ على هذا الشكل  :

( "    إنِّي   أراكَ   بكلِّ   حلم    عائد ٍ //  يأتي على شوق ِ الرُّجوع ِ إلى الصَّعيدْ //   

       هيَ غيمة ٌ تأتي ويحضنها الندى  //  وتعودُ   أبنودُ   القديمة ُ  من جديدْ   // " )  

     ومن  قصائدهِ  الجميلةِ  في  هذا الديوان  أيضًا : قصيدة   (  ثلج  على  كنعان   -    صفحة 103 ) وهي مهداة ٌ إلى الشاعرِ الكبير المرحوم  محمود  درويش ،  ويتحدَّثُ  نزيه  فيها  عن  الغربة ِ والحنين  إلى  الوطن  ،  ويُخاطبُ  محمود درويش  مباشرة ً   ،   كما  أنَّهُ  يأخذ ُ  بعضَ المفردات والعبارات  من  قصيدة  محمود   (  مديح  الظل  العالي  )  ويدخلها  إلى  قصيدتهِ  كتضمين  ٍ ليدعمَ  فكرتهُ  والهدفَ  الذي  يُريدُهُ   ،  فيقولُ  مثلا   :  

( "  من  أينَ  يأخُذكَ  الحنينُ  إلى منازل ِ شهرزادْ   

      قلْ  لي ... واركضْ  حافيًا  //   حتى  اقيمَ  لكَ البلادَ على  البلادْ 

       ثلجٌ على الدنيا... يَمُرُّ منَ الجليل ِ وأنتَ بي // خيط  تعلقَ في شرايين ِالفؤادْ //  

لا الوردَ  كانَ  أقلَّ حينَ  َلمَستهُ  //  كانَ الأملُ هو الوقوف على منازلِ  شهرزادْ // )       ويقصدُ   بالثلج ِ  هنا  الجُمودَ  والقهرَ والألمَ  والظلمَ  المُحدقَ  بالشعبِ  الفلسطيني  ،   وأما  الوردُ  فهو  الأمل  ،  ويوجدُ   ديوان  شعر  للمرحومِ  محمود  درويش  اسمهُ   "  وردٌ  أقل  "    فأخذ َ  نزيه  هذا  العنوان  ووظفهُ  كتوريَةٍ   مُستحدثةٍ  ليرمز  إلى  فكرتهِ  وموضوعهِ  الذي   يُريدُهُ    ،    والقصيدة ُ  بشكل ٍ  عام  رائعة ٌ  في  معانيها  ومستواها   الفكري  والأدبي  والفني   تغذيها  الصورُ   الشعريَّة   وتترعُها   الصورُ  الشعريَّةُ   المُبتكرةُ  الخلابةُ   .   ومن  أجملِ  قصائد هذا الديوان قصيدة ٌ بعنوان  :  

((  وجهُ  أسماء . ..  عرس  شجرة  الدُّر  -  صفحة  79  ))      يتحدَّثُ   فيها   عن  الإنسان  الفلسطيني المقاوم  والمناضل  الذي   صنعَ  المستحيل   وحققَ إرادتهُ  رغمَ  الظروفِ   والأوضاع ِ   التي   كانت   دائمًا   ضدَّهُ  ...   ( محليًّا  وعربيًّا   وعالميًّا  واستراتيجيًّا  وعسكريًّا ) ،  والقصيدةُ  على وزن  الكامل  ، يشُوبُها الطابعُ  الخطابي  المنبري  والمباشر  نوعا  ما  ،   فهي  حماسيَّة ٌ  إلا  أنها  عميقة ٌ  جدًّا  في  معانييها  وتوجُّهها وأهدافها ، غنيَّةٌ   بالرموز  والتعابيرِ البلاغيَّة  الجميلة والجديدة  وبالصور ِ  الشعريَّة ِ  المُكثفة  والمُستحدثة ِ     ،    ونزيه   دائمًا   يستجلي  التاريخَ   ويستقرؤُهُ  ويصيغُهُ  من  جديد   ويُوظفُ  رموزَهُ  وأسماءَهُ   وأحداثهُ    بشكل ٍ   جديد ٍ  مُلائِمًا  لطبيعة   العصِر  الحديث   وبرؤيا   تقدميَّةٍ   إنسانيَّة   قشيبة  تتواكبُ   وتتناغمُ  مع  موكبِ  الإبداع  والمَدِّ  الثقافي  الحضاري  والشِّعري  والفني  المُعاصر  ،  وهذا  ما  يُميِّزُهُ   فنيًّا   وإبداعيًّا  عن  جميع   الشعراءِ  المحليِّين  ...  وحتى   الشعراء  العربِ  قاطبة ً  .   ويقولُ   في  القصيدة ِ  :  

( "  إبدَأ   بما  اختارَ  العديّ  فأوجعَكْ  //   واقرَأ  على  الزمنِ  الرَّديءِ   وصيَّتكْ //   

      لا  أنتَ  من  سقطِ  المتاع ِ  ولمْ  تهُنْ  يومًا  لغدر ٍ  أفجَعَكْ   // 

      أنتَ  العديُّ  إذا  النوازلُ  أقبلتْ  //  ورؤاكَ  أغنيةٌ  ووردٌ  أطلعَكْ  //  

      إنْ  غبتَ   عن    مُدُنِ   الحمامِ    //  أتى     الجنوبُ      وأرجعَكْ   //     " )    

ويقولُ :  يا أيُّها البطلُ الفلسطينيُّ مُدَّ لها يدَكْ // يا أيُّها البطلُ الفلسطينيُّ مُدَّ لها يدَك// 

            تمشي    خيولُ    الشام ِ    خلفكَ    //    وتُسلُّ   بيض ُ   الهندِ   عندكَ    // 

            والنواهلُ  أسرجتْ  كي  تسمَعَكْ    // 

            تأتي  قريشٌ  وأهلُ  مكة َ   بعدها  //  وَترى ابنَ  ثابتَ  شدَّ حولكَ  سيفهُ  //  

            ورَمى   ببردتِهِ   عليكَ   وبايعَكْ   //  

            ما   كنتَ   من   سقط   ِالمتاع ِ     //  ولم  تهن   يومًا   لغدر ٍ أفجعَكْ    //  

            فبأيِّ     عصر ٍ    خبَّؤوكَ     //        وبأيِّ       عصرٍ      أيقضَكْ      //  

            وبأيِّ     ليل ٍ    غيَّبوكَ     //              وأيُّ     صُبح ٍ        أطلعَكْ      //  

            حَجَرٌ على  حجرٍ  يُشَيِّدُ  دولتكْ  //   

             في  ساحة ِ  الدنيا   تراوحُ  ضجَّةً    //  وجميعُ   ما   فيها   معَكْ         //     

             والعادياتُ        نواصبٌ            //     وأنا  معَكْ ... وأنا    معَكْ   //  ))   

 فالقصيدةُ  رائعةٌ  تجسِّدُ  قضيَّة َالشعبِ الفلسطيني  ونضالَ  الإنسان الفلسطيني  ضدَّ الظلم المُحدق بهِ وكفاحه الدَّؤُوب لأجل  قيام  دولته العتيدة بالحقِّ والصَّبر والحجر ِ .  

وفي  هذه  القصيدة   يوجدُ   كلُّ  مقوِّمات  الشعر  الرائع  الخالد   من   وزن وإيقاع ٍ جميل ٍ  منسابٍ  ولغة ٍ راقيةٍ   جزلةٍ   متينةٍ   وصور شعرية  غنيَّةٍ  وجديدةٍ   وتعابير  ومصطلحات بلاغيَّة جديدة  ،  وصور  ورموز  وأسماء وتعابير مستمدَّة  ومستوحاة  من التاريخ  العربي المشرق  ،  حيث  وظفها   بشكل ٍ  صحيح ورائع ٍ لدعم ِ  الفكرة ِ والموضوع وتسلسله للوصول ِ بالقصيدةِ إلى  قمَّةِ  العمل ِالفني المُتطور والإبداعي .   

     لقد   تأثَّرَ  " نزيه  خير "   نوعًا  ما  ببعض   الشعراءِ العرب  الكبار ،  مثل :  عبد  الوهاب  البياتي  والسيَّاب  وبلند  اليدري ، وبالشاعر والناقد  الفلسطيني الكبير  الدكتور  " عز الدين  المناصرَه "  ،  وخاصّة  في  قصائد   جفرا  وفي  كنعانيَّتهِ  ،  وربما   قليلا ً بمحمود  درويش ...  ولكنهُ  استطاعَ  أن يستفيدَ  من  تجربتهِ الشعريَّةِ وثقافتهِ   الواسعةِ    (  الأدبيَّة  والعلميَّة  والحياتيَّة  )    وأن    يشقَّ    لنفسهِ  طريقا  مستقلا ً جديدًا رائدًا  في عالمِ الشعر  مُمَيَّزًا عن  جميع  الشعراءِ المحليَّين قاطبة   .   ولستُ  أبالغُ إذا  قلتُ   أنَّ  نزيه  هو  صاحبُ  مدرسةٍ  مستقلةٍ   في  الشعر   مميزةٍ  متطورة  لها  أسسها  وأهدافها  وسحرها  ونكهتها  وطابعها  الفني الخاص  والمنفرد  والمميَّز ..   وخاصَّة ً  في  صددِ  استجلاء  التراث  التراث  وقراءة  التاريخ  العرب  وإدخال  رموزهُ  وعناوينهُ  وحوادثهُ  وتوظيفها  في  شعرهِ  وقصائدهِ  بالشكل ِ الفني التكتيكي  الرائع    .   وكما  اننا   نجدُ  عند  نزيه  خير الموسيقى  الشعريَّة  الداخليَّة   الأخَّاذة َ والحادَّة  أحيانا ً   السَّاحرة  للنفوس  والمطربة للقلوبِ  والآذان  والمُهج  ...  إضافة ً  إلى الوزنِ  الشعري الخارجي  الكلاسيكي  (  عروض  الخليل  المعروفة  )  فهو  متبحِّرٌ  في  اللغة ِ  العربيَّةِ   والصَّرفِ  والنحو  وفي  الأوزان  بالإضافة ِ  إلى  ثقافتهِ  الواسعةِ  في  جميع  المواضيع   والميادين  :  السياسيَّة  والأدبيَّة والإجتماعيَّة   والفكريَّة  والفنيَّة   ،   فكلُّ  هذهِ  الأشياء  مُجتمعة ٌ  مع   موهبتهِ  الشعريَّة   المتميَّزة  المتوقدة  الأصيلة  والفذة  صقلت  موهبتهُ  أكثر وأكثر وارتقت  بهِ إلى  قمَّة ِ الإبداع ِ والتجديد  والحداثة ِ .    وفي  قصائدهِ   الحديثة ِ   (  التفعيليَّة  )  نراهُ  كثيرًا  يستعملُ   الإيقاعات  والقوافي المنتظمة ،  وهذا يُعطي  قصائدَهُ  جمالا ً  فوقَ جمال ٍ  ،  وحتى  إذا   نوَّعَ   وعدَّدَ   ولوَّنَ  في  شكل ِ  القوافي  فيكون  بشكل   متقن   مُنتظم   مُنسابٍ  يتناغمُ   مع  الأذن  وذوقها    ومع  نفحات ِ ولواعج  النفس  والفكر  والوجدان   .         وديوان   نزيه  الأخير  هذا  (  ورثتُ  عنكِ  مقام  النهاوند  )  مثل   جميع   دواوينهِ  السابقة  ظلَّ  الهمُّ  العربي  هو  همَّهُ  والجرحُ  العربي  أينما  وُجدَ  وفي  كلِّ   مكان ٍ  هو  جرحهُ  النازف   .      ونراهُ  يحذو  ويخطو  بمنحى  واتجاهٍ  جديدٍ   وهو  التأثُّر والأستفادة   من   تعاليم ِ  وفلسفة ِ  مذهب ِ التوحيد  الدرزي   وتوظيفها   في   شعرهِ    وإثراء الفكر والأدب  بهذهِ الفلسفة الروحانيَّة العميقة   المُستمدَّة  من الفلسفة ِ اليونانيَّةِ  الأفلاطونيَّةِ  والتي  تعتبرُ  خطوة ً متقدِّمة ً  من الفكر ِ الديني الصُّوفي      . 

   ونزيه  في  تجاربهِ الشعريَّةِ  استطاعَ  أن   يُطوِّرَ  المفردات   ويُعطيها  ويمنحها  أبعادًا  غير  المعروفة   والمألوفة    ،    هذا  إضافة ً أيضًا   إلى   المحافظة ِ  على  وحدةِ  الوزن  واستخدام  القافية  الداخليَّة  وبتسكين القافية   والتكرار  اللفظي  الفني الجميل  المُمَوْسَق  لبعض   العبارات      .    ونجدُ  عندهُ  دائمًا    ،   في  شعرهِ   ،  الرَّغبة َ   في  الإلتحام   الفلسطيني   والمشاركة   في  العمليَّة   الثوريَّةِ   الفلسطينيَّة   والشعور القومي  العربي  والرَّبط  بين  القضايا  العربيَّة  والعالميَّة  والبُعد  الإنساني  في العديد  من الأمور   .     واهتمَّ  أيضًا  بالتزام  القافية  ،  ونرى  في هذا الإلتزام  أثرَ البياتي والسيَّاب  ونزار   قباني  ،  فيعطي  القصيدةَ   جمالا ً  وسحرًا  خاصًّا   .   والإلتزام   في  القافيةِ   لا  يعني  نفس  القافية   مُكرَّرة  دائمًا   ،   بل  وجود   قافية  حتى  لو  تنوَّعت  وتلوَّنت  ...   واهتمَّ  نزيه   بالتوزيع ِ  المقطعي  للقصيدة   بحيث  يُتيحُ  الحريَّة  للشاعر   لتوزيع   أفكارِهِ    وصورهِ   الفنيَّة  ...  وبعدها  العمل  على  جمعها  وصياغتها   كلها  في   قصيدةٍ  واحدةٍ    فتضمُّ  كلَّ  المقاطع  وتخرجُ    في  حُلّةٍ   جميلةٍ   مُتكاملةٍ   مُتألقة    فنيًّا  ومعنويًّا    .  

        وفي  شعرهِ  الإبداعي  يُضاهي   الشعراءَ  العرب  الكبار     مُستوًى  وتجديدًا  وحداثةً   وبعدًا  فنيًّا   ،  وهو  من  الشعراءِ   الأوائل   في  الشرق  الأوسطِ   بأجمعهِ  ،  ويحقُّ  لإنتاجهِ أن  يُترجمَ  إلى  لغاتٍ  عالميَّةٍ  عديدة  فمستواهُ  عالميٌّ  لأنهُ  خرجَ وتحرَّرَ من دائرة ِ الذاتيَّةِ  والإنغلاقيَّةِ  والمحدوديَّة  . ويُخاطبُ   في  معظم   أشعارهِ  ،  في  دواوينهِ  الأخيرة  ،   الإنسان  بشكل  عام   أينما  وُجدَ  ،  في  كلِّ  بقعةٍ   من  بقاع  الأرضِ  فشعرُه  وكتاباتهُ   لم   يُكرِّسْهَا  لنفسهِ   فقط   ولحبيبتهِ     أو  لمحيطهِ الضيِّق   ،  بل   تجاوزَ  حدودَ   المكان  والزمان  ليُحلقَ   إلى   قمَّةِ   القمم   ويتخذ   بعدًا  ميتافيزيقيًّا  وإنسانيًّا وأمميًّا  شاملا  ،  فشعرهُ  خالدٌ  يتواكبُ  مع المدِّ  والتطوُّر ِ  الإبداعي الأدبي  ..  خالدٌ  لجميع  الأجيال   ويصلحُ  في  كلِّ  زمان   ووقتٍ  ومكان    وفي  كلِّ  ظرفٍ  ووضع  وحالة    مهما  كانت  ميزاتُها  ونوعيَّتُها   ،    وهذه  هي   مواصفات ُ  وميزات ُ الشعر  العالمي   ،   وإضافةً  إلى  هذه  الأشياء    يَتَّسِمُ   شعرُ نزيه  خير  ويتحلى  بالجمال  اللفظي  والبعد  الفكري   وبالقيمةِ  الأدبيَّةِ   والبلاغيَّةِ  والمعنويَّة وبالمعاني العميقةِ  والمصطلاحاتِ  والتعابير والرموز والمفردات الأدبيَّة والبلاغيَّةِ  المستحدثة وبإدخالِ  التاريخ  بمواكبهِ  وأحداثِهِ  ورموزهِ  وعناوينهِ الهامَّة وشخصيَّاتهِ  ومشاهيرهِ  وتوظيفهِ   ،   برؤيا   جديدةٍ   فلسفيَّةٍ    في   شعرهِ   وعملهِ   الفني  الرائدِ  والرَّاقي  والخالدِ      .