إلى العَامِ الجَدِيد/ الدكتور حاتم جوعيه

  



 ( " بمناسبةِ  عيد  رأس السَّنةِ  الميلاديَّةِ   ")  

  

أيُّهَا   العامُ  الجَديدْ 

أيُّ   بُشْرَى ... أيُّ  خير ٍ وَحُبُور ٍ وَهَناءْ

تحملُ الأنسامُ  من ندٍّ  ومن نفح ِ عبير ٍ وشَذاءْ  

أيقظِ  الآمالَ   فينا  والرَّجاءْ  

أيُّها   العامُ   الجديدْ  

أعطِنا  حُبًّا  ودِفئًا   وَسُكونا   وسَلامَا   

وحَنانا   وَوئامَا  

كيْ   نُعِيدْ    // 

بسمة َ الأطفالِ  للكونِ  الوَطِيدْ 

فعلى وقع ِ خطاكْ // يرقصُ القلبُ التياعًا وهيامَا 

لنغنِّ   فجْرَنا  المَنَنشُودَ   دومًا  ولِنزدَدْ   التِحَامَا  

أعطِنا  حُبًّا   لنجتازَ  الوهادَ  المُدْلهِمَّهْ 

نرسُمُ الأحلامَ ... ُنعلِي راية الأمجادِ في ذروةِ  قِمَّهْ 

فلنحَلّقْ  ما  وراءَ  المُنتهى  واللاوُجُود

ولنُحَرِّرْ روحَنا من عتمةِ  السِّجنِ  وأعباءِ القيودْ  

فلنُوَدِّعْ  عامَنا الماضي  ونخطُو  لِلقائِكْ  

قادِمٌ  أنتَ  إلينا ... ألفُ  مَرْحًى  لعِناقِكْ  

فعلى أعتابِكَ الوَسْنى شغافُ القلبِ تصبُو لِضِيَائِكْ   

ما الذي تحملهُ من فرح ِ الدنيا وألحانِ السَّعادهْ 

أيُّها المجهولُ فينا لكَ دومًا في حنايا الرُّوح ِ حُبٌّ وعبادَهْ  

هلْ  يعمُّ  السِّلمُ ... يخطو في  رُبَى الشَّرق ِ  الحبيبْ  

تشرقُ الشَّمسُ علينا ... يتهادى النورُ تيهًا ، بعدَ أن حَلَّ المَغيبْ  

سنغنِّي  للسَّلامْ  //  كلَّ  إطلالةِ   صُبْح ٍ  ومساءْ  

إنَّ فجرَ السِّلمِ  يأتي ... سوفَ  يأتي  ،  والضياءْ 

يغمرُ  الدنيا  وأركانَ  الفضاءْ  

 تبسمُ الزهارُ والأطيارُ والأقمارُ ... تزدادُ  سَناءْ  

ندفنُ  الآهاتِ   والحُزنَ   وأهوالَ  الشَّقاءْ 

فلنُغنِّ ولنصَلِّ  مع  خُطى العامِ  الجديدْ 

ولنوَدِّعْ عالمَ الماضي  وأطيافَ الشَّجَنْ    

إنّما  الهمُّ سرابٌ سوفَ يمضي  وَيُولِّي  ...                                                                                          

... يتلاشَى   في   متاهاتِ    الزَّمَنْ  

أترعُوا  الكأسَ   فهذا  اليومُ   عيدْ   //

أيُّ عيدٍ //  إيُّ  بُشرَى  //  إنَّهُ  أروعُ  عيدْ 

واشربُوها ، في سُمُوِّ الروح ِ ، مع عذبِ الأغاني والنشيدْ 

فلنعَلِّ  رايةَ َ الحبِّ  الوَطِيدَهْ  

ولنغنِّ فرحة َ العيدِ  السَّعيدَهْ 

أيُّها   العامُ  الجديدْ  

أيُّ   بُشْرَى  ... أيُّ   حُبٍّ  وحُبور ٍ   وَهَناءْ 

تحملُ الأنسامُ من ندٍّ ومن نفح ِ عبيرٍ وشَذاءْ  

أيقظِ  الآمالَ  فينا  والرَّجَاءْ      

أيُّهَا  العامُ  الحديدْ

أيُّها  العامُ  الجديدْ


ملامح عصر الأنوار عند عمانويل كانط ، مقاربة نقدية/ د زهير الخويلدي



ولدت حركة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر. وقد حصلت على اسم التنوير في إنجلترا و الأنوار Aufklärung في ألمانيا. وأشهر ممثليها، بالإضافة إلى عمانويل كانط، ومونتسكيو، وفولتير، ودينيس ديدرو، وجان لورون دالمبر، وجان جاك روسو، وباروخ سبينوزا وجون لوك وتوماس هوبز وديفيد هيوم. تتميز هذه الفترة، التي نسميها "عصر التنوير"، بالرغبة في التقدم في جميع المجالات: السياسية: التشكيك في الملكية المطلقة بالحق الإلهي، الدينية: انتقاد الخرافات والتعصب، الثقافية: الاهتمام المتجدد بالمعارف والعلوم. التكنولوجيا والقضايا الاجتماعية: تراجع الطبقة الأرستقراطية، وصعود البرجوازية. ويمكن تلخيص "برنامج" التنوير على النحو التالي: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع؛ وزيادة الثروة من خلال تطوير الزراعة والصناعة والحرف والمهن والتقنيات والأدوات والوسائل والفنون؛ العقل بديل للخرافة. الطبيعة والانسان مكان اللاهوت. ضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين؛ جعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين؛ رفض الاستسلام لما يسمى بمراسيم العناية الإلهية. فكيف أجاب كانط عن سؤال ما الأنوار؟ والى أي مدى ترجم الجواب الذي اقترحه روح عصر الأنوار؟


  "ما هو التنوير؟ خروج الإنسان من أقليته التي هو مسؤول عنها. أقلية، أي عدم القدرة على استخدام فهمه (القدرة على التفكير) دون توجيه من الآخرين، أقلية هو مسؤول عنها، لأن السبب لا يكمن في خلل في الفهم بل في عدم القدرة على اتخاذ القرار والشجاعة في استخدامه دون توجيه من الآخرين (الجرأة في التفكير). تحلى بالشجاعة لاستخدام فهمك الخاص. هذا هو شعار التنوير. الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران لماذا هذا العدد الكبير من البشر، بعد أن حررتهم الطبيعة لفترة طويلة من (أي) اتجاه أجنبي، يظلون رغم ذلك عن طيب خاطر، طوال حياتهم، قاصرين، وأنه قد يكون من السهل على الآخرين أن يتظاهروا بأنهم قاصرون حراس السابقين. من السهل جدًا أن تكون قاصرًا! إذا كان لدي كتاب يخدم فهمي، ومدير يخدم ضميري، وطبيب يقرر نظامي الغذائي، وما إلى ذلك، فأنا حقًا لا أحتاج إلى الخوض في أي مشكلة بنفسي - حتى لا أحتاج إلى التفكير طالما أستطيع الدفع؛ سوف يعتني الآخرون بهذا العمل الممل جيدًا. أن الغالبية العظمى من البشر (بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله) يعتبرون أيضًا هذه الخطوة للأمام نحو أغلبيتهم خطيرة جدًا، بصرف النظر عن كونها أمرًا مؤلمًا، فهذا ما يعمل الأوصياء بشكل جيد جدًا لتحقيقه (من باب اللطف) أخذوا على عاتقهم ممارسة القيادة العليا على البشرية. بعد أن جعلوا ماشيتهم غبية جدًا وحرصوا بعناية على عدم السماح لهذه المخلوقات المسالمة بالجرأة على اتخاذ أدنى خطوة خارج الحديقة حيث حبسوها. ويوضحون لهم المخاطر التي تهددهم إذا حاولوا المغامرة بالخارج بمفردهم. لكن، هذا الخطر ليس كبيرًا حقًا، لأنهم سيتعلمون المشي أخيرًا، بعد بضع مرات من السقوط؛ لكن حادثًا من هذا النوع يجعل المرء خجولًا، والخوف الناتج عنه عادة لا يشجع على المحاولة مرة أخرى. ولذلك يصعب على كل فرد على حدة أن يهرب من الأقلية التي تكاد تصبح طبيعة بالنسبة له. لقد استمتع بها جيدًا، وفي هذه اللحظة هو حقًا غير قادر على استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يُسمح له أبدًا بتجربته. المؤسسات (المبادئ) والصيغ، هذه الأدوات الميكانيكية لاستخدام الكلام أو بالأحرى إساءة استخدام المواهب الطبيعية، هذه هي الأجراس التي تم لصقها على أقدام الأقلية التي تستمر. وحتى أي شخص يرفضها لن يتمكن إلا من القيام بقفزة غير ثابتة فوق أضيق الخنادق، لأنه غير معتاد على تحريك ساقيه بحرية. لذلك هناك عدد قليل جدًا ممن تمكنوا، من خلال عملهم الفكري، من الانفصال عن الأقلية والتمكن من السير بخطوة واثقة. لكن لكي يقوم الجمهور بتنوير نفسه، والدخول أكثر في عالم الإمكانية، فهذا أمر ممكن حتى طالما أعطيناه الحرية للقيام بذلك، وهو أمر لا مفر منه تقريبًا. لأننا سنجد دائمًا عددًا قليلًا من البشر الذين يفكرون بمفردهم، من بين الأوصياء المعتمدين (المعينين) للجماهير والذين، بعد أن تخلصوا من نير الأقلية (الخاصة بهم)، سوف ينشرون روح التقدير المعقول لذاتهم قيمة ودعوة كل انسان للتفكير بنفسه. دعونا نلاحظ على وجه الخصوص أن الجمهور الذي سبق أن وضعوه تحت هذا النير، يجبرهم على وضع أنفسهم تحته، بمجرد أن يتم تحريضهم على التمرد من قبل بعض حراسهم غير القادرين أنفسهم، فغرس التحيزات أمر ضار جدًا لأنهم في النهاية ينتقمون من مؤلفي الكتاب أو من أسلافهم. لذلك لا يمكن للجمهور الوصول إلى الأنوار إلا ببطء. قد تؤدي الثورة إلى سقوط الاستبداد الشخصي والقمع المهتم أو الطموح (الجشع والاستبدادي) ولكنها لا تؤدي أبدًا إلى إصلاح حقيقي لطريقة التفكير؛ بل على العكس من ذلك، ستظهر أحكام مسبقة جديدة من شأنها أن تخدم، بالإضافة إلى الأحكام المسبقة القديمة، الجماهير الغفيرة المحرومة من الفكر..." فماهي الأفكار التنويرية الجديدة التي تضمنها هذا المقال؟


يأخذ نص كانط جزءًا من هذا البرنامج: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع، واستبدال الخرافات بالعقل ، وضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين، وجعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين. مفاهيمها الأساسية هي: "الجرأة"، "الإنسانية"، "الحرية"، "عدم التحيز"، "الثورة"، "الاستبداد"، "الإصلاح"، "الحرية"، العقل، "الاستخدام الخاص للعقل"، "الاستخدام العام للعقل". "، "العلمي"، "التقدم"، "الحقوق المقدسة للإنسانية"، "الإرادة العامة"، "الاستبداد الديني"، "النقد". لذلك يعرّف كانط عصر التنوير بأنه "خروج الإنسان من أقليته"، وبالتالي انضمامه إلى الأغلبية. يشبّه كانط الإنسانية بالطفل الذي يُمنع من النضوج أو الذي يمنع نفسه من النضوج. يتمتع معظم الناس "بالقدرة على التفكير". يؤكد رينيه ديكارت، الذي يمكن اعتباره مع سبينوزا رائدًا لعصر التنوير، في خطاب حول المنهج أن الفطرة السليمة هي الشيء الأكثر انتشارًا في العالم. بالنسبة لكانط، ليست القدرة على التفكير هي ما هو محل شك (عجز العقل)، ولكن الشجاعة في استخدامه. من الأسهل أن أتصرف كقاصر بدلاً من أن أتصرف كشخص بالغ، لأن هذه الحالة لا تتطلب أي جهد خاص: كل ما علي فعله هو أن أترك نفسي تسترشد بالآخرين (نقول اليوم "الخبراء") الذين يعرفون أفضل مني ما أقوم به. يجب أن أفكر وماذا يجب أن أفعل. في الفقرة الثانية، يستخدم كانط صيغو عملية غالبًا ما توجد في كتابات مفكري التنوير: المفارقة: "أن الغالبية العظمى من البشر (بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله)، يعتبرون أيضًا أن هذه الخطوة للأمام نحو أغلبيتهم خطيرة جدًا، بصرف النظر عن ذلك". وحقيقة أنه أمر مؤلم، هو ما أخذه الأوصياء الذين بلطف شديد (بدافع اللطف) على عاتقهم لممارسة التوجيه العالي لـ "السخرية، أو "مضاد العبارات" هو صيغة (عملية) بلاغية تتكون من قول عكس ما يعتقده المرء من خلال الإشارة ضمنًا إلى أنه لا يعني ما يقوله. على عكس الكذبة التي تعمل على إخفاء الحقيقة، فإن العبارة المضادة تعمل على كشفها بشكل أفضل من خلال التواطؤ مع القارئ "المستنير" الذي يعرف جيدًا أن حراس الإنسانية لا يستخدمونه بأي حال من الأحوال "من باب اللطف" للتخفيف عنه بجهد التفكير، ولكن، كما سيقول نيتشه، عن طريق "روح الاستياء" وممارسة "إرادتهم في السلطة". ويمكن أيضًا تفسير عبارة "بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله" بطريقة إيجابية، باعتبارها انتقادًا للولاية التي يمارسها الرجال على النساء. إن النوع البشري بأكمله، وليس البشر فقط، هم الذين يجب أن يبلغوا سن الرشد. هذا ما فكر فيه وقال أوليمب دي غوج، الذي كان أول من طالب بـ”حقوق المرأة”. يمكننا أن نرى في اللوحة التي تمثل غرفة معيشة مدام جوفرين عددًا قليلاً من النساء (أربع في المجموع، وهو ليس كثيرًا، لكنه ليس شيئًا) من بين ممثلي عصر التنوير. يُظهر كانط، مثل إتيان دو لا بويتي، أن العبودية لا يعاني منها البشر فقط (بالمعنى العام للمصطلح)، ولكنها طوعية وأنها لن تستمر لفترة طويلة إذا لم يوافق الناس على ذلك . وبعد مقارنة البشر بالأطفال (القاصرين)، يقدم كانط مقارنة ثانية في الفقرة الثانية: بين البشر والحيوانات الأليفة. يحتوي هذا المقطع أيضًا على علامات سخرية: "بعد أن جعلوا ماشيتهم (المحلية) غبية للغاية، وبعد أن حرصوا بعناية على عدم السماح لهذه المخلوقات المسالمة بالجرأة على اتخاذ أدنى خطوة، خارج الحديقة حيث حبسوها، يظهرون لهم الأخطار التي تهددهم إذا حاولوا المغامرة بالذهاب الى الخارج بمفردهم..." هنا يتناول كانط الأطروحة التي قدمها في بداية النص: ليس بسبب ضعف اذهانهم أن البشر لا يجرؤون على استخدامها، ولكن بسبب الخوف. ويعمل أولياء أمورهم على تعزيز هذا الخوف. يوضح كانط أن البشر يبالغون في المخاطر التي يعرضون أنفسهم لها من خلال "الخروج من محيطهم". الأطفال أنفسهم، عندما يتعلمون المشي، غالباً ما يتعرضون لسقوط ليس له عواقب خطيرة. كما يصر كانط هنا على أهمية التجربة الشخصية: لا يمكن لأحد أن يفكر أو يسير في مكاننا. الحرية لها ثمن ولا يمكن لأحد أن يعفي الآخرين منه. لذلك يجب علينا أن نتغلب على الخوف من التفكير بأنفسنا وألا نسمح لأنفسنا بالإحباط بسبب "السقوط". ولا ينبغي للخوف الناتج أن يثنينا عن المحاولة مرة أخرى. ومن الصعب على كل فرد منفرداً أن يهرب من الأقلية لسببين:


أ) تميل حالة القاصر إلى أن تصبح عادة، "طبيعة ثانية"، لدرجة أنه أصبح غير قادر على استخدام فهمه الخاص.


ب) لم يسمح له أحد بتجربته. يؤكد كانط على حقيقة أن المؤسسات الإنسانية، والصيغ والمبادئ التي تنبثق عنها، تميل إلى معارضة استخدام الحرية الفردية، بنوع من الجاذبية الطبيعية. هذه المؤسسات وهذه الصيغ تأتي من الاستخدام السيئ للعقل. يمكننا مقارنة الفقرة الثالثة من النص برمز كهف أفلاطون، في الجمهورية، الكتاب السابع: الناس أسرى قيود الرأي ويجب عليهم بذل جهود مضنية لتحرير أنفسهم منها. لقد أوضح أفلاطون، كما يفعل كانط، أنهم راضون عن حالتهم لأنهم اعتادوا عليها وأن أي تغيير فيها هو مصدر إزعاج. وبالتالي فإن البشر الذين انتزعوا أنفسهم من حالة القصور (الذين حرروا أنفسهم) هم قليلون بالنسبة لكانط مثل أولئك الذين، في أسطورة الكهف، ابتعدوا عن الرأي (doxa) ليتجهوا نحو الأفكار والمثل والحقائق والمبادىء. ان الأسباب الداخلية للعبودية: هي الخوف، العادة، الامتثال... تجتمع عند كانط، كما عند أفلاطون، مع الأسباب الخارجية والمؤسسات والمبادئ، والأسباب الخارجية لعبودية الإنسان التي تعزز الأسباب الداخلية (اليوم سنتحدث عن "التغذية الراجعة" " كعملية تدجين). ان المؤسسات والمبادئ هي "أدوات ميكانيكية لاستخدام الكلام". كلمة "آلية" تعني عكس كلمة "مدروس"، حرة، شخصية. إن التصرف بطريقة ميكانيكية يعني تقليد الآخرين (عدم السعي إلى معرفة الذات)، وهو يعني الاستعباد للمؤسسات والمبادئ (سيتحدث فرويد عن جمود "الأنا العليا")، وهو يعني التكرار مثل الببغاء للأشياء. التعاليم، دون أن نتحمل عناء فحصها (اشتقاقيًا لتمريرها عبر منخل العقل). إن البشر الذين انتزعوا أنفسهم من حالة القاصرين قليلون العدد، ولكن يجب أن يكونوا، وفقًا لكانط، المرشدين الحقيقيين للإنسانية: "لأننا سنلتقي دائمًا بعدد قليل من البشر الذين يفكرون بمفردهم بين الأوصياء المرخصين (المعينين) ) من الجماهير والذين، بعد أن يتخلصوا من نير الأقلية، سينشرون روح التقدير المعقول لقيمتهم الخاصة ودعوة كل إنسان إلى التفكير بنفسه" (فقرة 4). فكما يجب أن نعلم الطفل المشي، فمن غير الممكن أن نفكر بأنفسنا؛ يجب أن نساعد، ليس من قبل المعلمين الذين يسعون إلى استعبادنا، ولكن من قبل المرشدين الذين يرغبون في تنويرنا. لقد تم تنوير هؤلاء المعلمين منطقيًا من قبل آخرين، ولا شك أن كانط يفكر في سلسلة طويلة من المفكرين الذين ميزوا تاريخ الفكر منذ بداياته في اليونان القديمة: فلاسفة مثل أفلاطون، ولكن أيضًا علماء الرياضيات وعلماء الهندسة مثل إقليدس أو فيثاغورس الذين سوف يستحضرهم في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص. ولذلك فإن المفكرين والفلاسفة والعلماء لديهم مسؤولية داخل المجتمع، بل ومهمة تتمثل في مكافحة الخرافات والأحكام المسبقة، وتنوير الآخرين ومساعدتهم على الهروب من العبودية. لكن كانط كان حريصًا على الإشارة إلى أن تقدم عصر التنوير لا يحدث في يوم واحد، وأنه ثمرة تاريخ طويل وجهود متجددة باستمرار: "كما أن الجمهور لا يمكنه الوصول إلى الأنوار إلا ببطء". لا شك أن كانط، الذي كان معاصرًا للثورة الفرنسية، شعر بأن أحداثًا تاريخية مهمة كانت جارية، لكنه اعتقد أن الثورة السياسية لا تؤدي بالضرورة إلى تطور فكري وأخلاقي (إلى "إصلاح حقيقي لطريقة التفكير"). هكذا يقدم القسم 5 مفهومًا جديدًا: مفهوم الحرية: “الآن، بالنسبة لهذه التنويرات، لا يوجد شيء مطلوب سوى الحرية؛ وفي الواقع، الحرية الأكثر ضررًا من بين كل ما يمكن أن يحمل هذا الاسم، أي استخدام المرء لعقله بشكل عام  في المناطق." وسوف يميز أيضًا بين استخدامين للعقل: "الاستخدام الخاص" و"الاستخدام العام". "هناك سيد واحد فقط في العالم يقول: "فكر بقدر ما تريد وفي كل ما تريد، ولكن أطع!": يلمح كانط إلى "الاستبداد المستنير لفردريك الثاني ملك بروسيا ويذهب إلى حد تسمية عصر التنوير "قرن فريدريك". وسيشرح هذه الإشارة التي سنعود إليها في نهاية النص. يُجري كانط تمييزًا مهمًا للغاية ضمن مفهوم الحرية المُعرّف على أنه استخدام العقل، بين "الاستخدام الخاص" و"الاستخدام العام": "أنا أفهم من خلال الاستخدام العام لعقلنا ما نعتبره باحثًا أمامنا". لجمهور القراءة (المثقف) بأكمله... أنا أسمي الاستخدام الخاص هو ما يحق للمرء أن يفعله بعقله في منصب مدني أو وظيفة محددة موكلة إليه." يجب أن يكون الاستخدام العام لعقلنا حرًا، وهذه الحرية مفيدة لأنها "وحدها قادرة على جلب التنوير بين البشر". الاستخدام الخاص للعقل محدود بالضرورة بالضروريات المرتبطة بعمل المجتمع (الحفاظ على النظام الاجتماعي). «هنا لا يجوز العقل، بل هي مسألة طاعة». لا يجب على البشر، وفقًا لكانط، التشكيك في النظام الاجتماعي من خلال رفض الطاعة، لأن المجتمع يعمل كآلة يكون كل عضو فيها ترسًا. يتطلب أداء المجتمع "الإجماع المصطنع" وسلبية أعضائه (أو على الأقل جزء منهم) في الاستخدام الخاص لعقولهم. ومع ذلك، فإن نفس الشخص، بشرط أن يفعل ذلك بطريقة مناسبة ومدروسة، يمكنه الإدلاء بملاحظات علنية حول الاختلالات في المجتمع. يأخذ كانط مثال المواطن الذي يعتقد أن الضريبة غير عادلة. باعتباره شخصًا عاديًا، لا يحق له عدم دفع الضريبة، لكنه يستطيع أن ينتقد علنًا "الحماقة أو حتى الظلم الذي يترتب على مثل هذه الإملاءات". ويذكر أيضًا حالة الضابط الذي يجب عليه، أثناء ممارسة وظيفته، أن يطيع الأوامر الصادرة إليه، ولكن يمكنه، بصفته خبيرًا، أن ينتقد علنًا، كتابيًا أو بأي طريقة أخرى، أي خطأ في القيادة. سوف يتناول هنري ديفيد ثورو هذه المشكلة بعد قرن من الزمان، في أطروحته حول العصيان المدني التي يرفض فيها (دون أن يذكر كانط) التمييز الكانطي بين الاستخدام العام والاستخدام الخاص للعقل: للمواطن الحق، بل واجب، ألا يفعل ذلك. دفع الضرائب حتى تقوم دولة المرء بإلغاء الممارسة التي يختلف معها الشخص بشدة (في هذه الحالة العبودية). ويأخذ أيضًا مثال الكاهن الذي، كشخص عادي، ملزم بتعليم حقائق الكنيسة التي تم قبوله فيها، ولكن كعالم، "يتمتع بالحرية الكاملة، بل وأكثر من ذلك مهمة إيصال جميع أفكاره المدروسة وحسنة النية للجمهور حول ما هو غير صحيح في هذا الرمز وتقديم مشاريعه إليه بهدف تنظيم أفضل للأمر الديني والكنسي. كما استخدم كانط كلمة "رمز" وليس كلمة "الحقيقة" لاستحضار الحقائق الدينية. وفي الديانة الكاثوليكية، تسمى هذه العقيدة "عقيدة الرسل". نرى مدى ابتعاده عن فكرة الاعتقاد الأعمى أو حتى عن فكرة أن الفلسفة (العقل) يجب أن تكون بمثابة المساعد أو الخادم للاهوت. وفي كتيب آخر: الدين في حدود العقل، سوف يفضح كانط الفرضية التي بموجبها لا يمكن إجبار أي شخص على الإيمان بـ "الحقائق" التي تتعارض مع العقل. ان "المجتمع الكنسي"  ليس له ما يبرره قانونًا في أداء القسم على رمز ثابت لأنه، بالنسبة لكانط، لا توجد "حقائق أبدية". ويضيف كانط، أنها ستكون "جريمة ضد الطبيعة البشرية" هدفها الأصلي هو تقدم التنوير، أي إمكانية اكتشاف أن ما نعتبره حقيقة في الوقت الحاضر يمكن اعتباره لاحقًا خطأ. إن "محك" كل ما يمكن أن يقرره شعب على شكل قانون يكمن في السؤال التالي: "هل يوافق الشعب على أن يمنح لنفسه مثل هذا القانون؟" وبعبارة أخرى، هل يوافق الشعب على أن يمنح لنفسه بحرية قانونًا يلزمه بالإيمان بحقيقة ثابتة؟ يجيب كانط بالنفي، وإلا "لفترة محددة وقصيرة، في انتظار قانون أفضل، بهدف إدخال نظام معين". وهنا نجد حرص كانط على التوفيق بين الحرية والنظام، ولكن الحرية هي التي يجب أن تسود. ان السلطة التشريعية للملك لا تأتي من الله (الملكية بالحق الإلهي)، ولكن من حقيقة أن "الملك يجمع الإرادة العامة للشعب في إرادة خاصة به". يقع "الاستبداد المستنير" في المنتصف بين ملكية الحق الإلهي التي نظر إليها بوسويه والنظام الجمهوري (أو الديمقراطي) الذي تكون فيه السيادة للشعب كما نظر إليها روسو في "العقد الاجتماعي". ليس على الملك التدخل في الشؤون الدينية: "شريطة أن يضمن أن أي تحسن حقيقي أو مفترض يتوافق مع النظام المدني، يمكنه بالنسبة للباقي أن يسمح لرعاياه بأن يفعلوا بمحض إرادتهم ما يجدون أنه من الضروري تحقيقه من أجلهم". إن خلاص نفوسهم ليس من شأنه، بل من شأنه أن يضمن ألا يمنع البعض بالقوة الآخرين من العمل لتحقيق هذا الخلاص والإسراع به بكل ما في وسعهم من قوة. هنا يضع كانط أسس ما نسميه اليوم "العلمانية"، أي مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة. ولذلك يرفض كانط مفهوم الملكية المطلقة للحق الإلهي كما تم تجسيده في فرنسا في القرن السابع عشر على يد الملك لويس الرابع عشر. «إن قيصر ليس فوق النحويين». : على الملك أن يثق بالمؤمنين والعلماء والفلاسفة والفنانين، وأن يمتنع عن التدخل في هذه المجالات التي، رغم أنه يملك السلطة العليا فيها، فإنه ليس بكفاءة أكبر منهم." إن الحرية الدينية، التي تشكل اهتماما أساسيا عند كانط، تتوافق، حسب رأيه، مع "الاستمرارية العامة" و"وحدة الشيء المشترك"، بمعنى آخر، يجب ألا نبني النظام الاجتماعي على الدين؛ يجب ألا يكون هناك "دين الدولة". إلى جانب الدين، هناك مجالات أخرى يمكن ويجب على البشر أن يمارسوا فيها حريتهم في الحكم وهي الفنون والعلوم. يجب على الملك أن يتدخل في هذين المجالين بشكل أقل من تدخله في الدين، تحت طائلة "إهانة" نفسه. ويمكن أن تمتد حرية الحكم إلى مجال تشريعات الدولة. "فقط من هو مستنير، لا يخاف الظل (الأشباح)، في حين أن لديه جيش كبير ومنضبط لضمان الهدوء العام، يمكنه أن يقول ما لا يمكن أن تجرؤ عليه دولة حرة: "فكر بقدر ما تريد وعلى أي شيء". "الرعايا الذين تحبهم، لكن تطيعهم!" إن الإشارة إلى "الجيش الكثير والمنضبط" تتيح لنا أن نفهم أنه من الواضح أنه فريدريك الثاني بروسيا، النموذج البارع لـ "الطاغية المستنير". "كل شيء تقريبًا متناقض في النظام الاجتماعي الذي يُنظر إليه ككل: فالدرجة الأعلى من الحرية المدنية تبدو مفيدة لحرية روح الشعب ومع ذلك تفرض عليها حدودًا لا يمكن التغلب عليها." "فكر بقدر ما تريد وفي أي موضوع تريده، ولكن أطع!" : حرية العقل للناس محدودة بواجب إطاعة القوانين. ان "الاستبداد المستنير": يتم تكثيف التناقض في هذا التناقض، لأنه الاستبداد: الحد من الحرية الخارجية، وواجب الانصياع للقوانين المعقولة التي يصدرها الملك "يجمع الإرادة العامة للشعب في إرادة خاصة به" وهو ما يسمح بالحرية الفكرية مع الحفاظ على النظام الاجتماعي. إن إمكانية التفكير الحر تنمي بذرة الفكر الحر وتؤثر تدريجياً على قدرة الناس على التصرف بحرية. ومن هذه اللحظة فصاعدا، لا يصبح الإنسان أكثر من مجرد ترس في الآلة الاجتماعية، وتجد الحكومة أنه من المربح أكثر أن تعامله بالكرامة التي يستحقها. لقد ميز أرسطو الوجود الممكن (أو النواة) عن الوجود الفعلي. البلوط، على سبيل المثال، هو البلوط "في الإمكانات" (أو البذرة"). لقد أطلقت الطبيعة (وليس الله) في الإنسان بذرة الفكر الحر. وتهدف هذه النواة إلى تجاوز آليات الغرائز، ثم الآليات الاجتماعية التي تميل إلى إبقاء الإنسان في حالة الطفولة والحيوانية. "هل نعيش حاليا في قرن مستنير؟" يسأل كانط. فيجيب: «لا، ولكن في قرن يتجه نحو التنوير». فكرة الوجهة الطبيعية للإنسان موجودة في كتاب آخر من عام 1784 بعنوان التاريخ العالمي من وجهة نظر سياسية عالمية: "أرادت الطبيعة أن يستمد الإنسان بالكامل من نفسه كل ما يتجاوز الترتيب الميكانيكي لوجوده الحيواني وأن يشارك فيه". ولا سعادة ولا كمال آخر غير تلك التي خلقها لنفسه، متحررًا من الغريزة، بعقله الخاص. كما عرّف كانط التنوير بأنه "خروج" للإنسان من أقليته، وباعتباره ممارسة حرة للعقل. وستكون شروط هذا التمرين موضوعا لثلاثة اشكال من النقد (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم) تجيب على الأسئلة الأساسية الثلاثة (الأسئلة التي تتلخص، عند كانط، في سؤال واحد: " ما هو الإنسان؟): ماذا يمكنني أن أعرف؟ (حدود العقل والشروط الشرعية لاستخدامه)، فماذا يجب علي أفعل – المبادئ العقلية للفعل الاخلاقي ؟ ماذا يجوز لي أن آمل- الدين العقلاني والرجاء؟

الإعــــلام الموجّـــه رأس الحربة في ملاعب السياسة/ صبحة بغورة



  بين السياسة والإعلام سجال قائم وجدال جاري ولعبة شد ومد لا تنتهي أحابيلها أبدا.. في السياسة من الكلام ما هو لمسة بسيطة يمكنها إزاحة الغبار عن ما يؤرق النفس ويجرح الوجدان ، وفي الإعلام ليس هناك ما هو أنجع من الإرادة من أجل الاستمرار وما هو أجدى من قوة الإيمان للتخلص من متاعب المهنة وآهات المتابعات، كلاهما يدّعي امتلاك الحقيقة، كلاهما في سباق محموم لامتلاك ناصية تسويق الأفكار لتشكيل الرأي العام وتحريكه وصولا إلى توجيه السلوك نحو التأثيرفي اتجاهات دوائر النفود ومراكز صنع القرار، ومع كل ذلك لا غنى لأي منهما عن الآخر .

                   

السياسة مادة دسمة لوسائل الإعلام، فهي منجم الأخبار، والأوساط السياسية النشطة هي مصادر معلومات تغري بالتقرب منها والتودد إليها، ففيها يجد رجال الإعلام ضالتهم للانطلاق في توسع النشر وعرض الأفكار وتبادل الآراء، ونشر التعليقات والاجتهادات الصائبة أحيانا، والمضللة أحيانا أخرى في استعراض وتحليل المعلومات، إنه مناخ الحق لازدهار العمل الإعلامي، ولكن قد يحدث أن تنفلت الأمور وتنحرف نحو عملية تراشق لفظي متبادل بالنقد والانتقاد الجارح بين مؤيدين ومعارضين وصولا إلى كيل الاتهامات، فالسياسة منطق يخضع دائما لسلطان المصلحة، وتناقض المصالح يخلق أزمة ثقة، وهذه تؤثر سلبا في العلاقات.. والحقيقة أن المشهد كله سيتحمل عبأه مؤسسات العمل الإعلامي كمنابر للسياسيين وأبواق لخصومهم المعارضين. 

وبقدر طواعية وسائل الإعلام للدوائر السياسية الفاعلة والمؤثرة بقدر ما تنال الرضا السياسي الذي معه وبه تُفتح الأبواب الموصدة وتّحل مغاليق الأمور،فالسياسيون يدركون جيدا أن حاجة أي وسيلة إعلامية في الدنيا تتمثل أساسا في الخبر الحصري "سكووب" أي يكون على سبيل الانفراد والسبق المتميز ، كذلك في حاجتها الماسة للدعم المالي المنتظم الذي يحقق لها المزيد من التوسع والانتشاركسيل من الاعلانات مثلا  لا ينقطع، وهذان هما من أوراق الضغط المهمة والمؤثرة جدا في نشاط الصحف والقنوات التلفزيونية سواء الحكومية أو الخاصة لارتباطهما بضمان استمرار وجودهما، وعلى ذلك يُفهم أن الغاية المستهدفة بالنسبة للإعلام هي تحقيق السبق في كشف المستور عن ما خفي في دهاليز السلطة وأركان نظامها وزواياه المظلمة، وهذا ما يُسمى بالإنجاز، وسيكون الأمر نفسه هو مصدر سعادة خصوم السلطة ومعارضيها، ولا يهم هنا كثيرا إن كانت تلك النهايات من صلب إرادة الإعلام أو ان وساطة سياسية ساقته إليها عن عمد ، فهناك من يدفعهم شغف التميز إلى اتباع كل السبل ولو كانت بعيدة عن التحفظ .

الإعلام حقل ألغام مضاد للبشر والشجر والحجر ، لا صديق يمكن دوما أن يأتمنه ، ولا حليف صادق يتبعه، كما لا عدو دائم يترصده، الإعلام خبر يعتبر تأكيده إثباتا أو نفيا مسؤولية ، ويُعد تبليغه وإيصاله أمانة، وقراءته ثقة ، وعلى قدر خطورته تُقدّر السلطة مدى ما يمكنها أن تروضه وفق ما تعلمه إلى حين . فالإعلام يبقى سبيلها لجموع المواطنين وعموم الشعب لنشر توجهاتها والترويج لمشاريعها السياسية وللمساهمة في إنجاح الحشد الجماهيري للانتصار للقضايا الوطنية، إن الإعلام بالنسبة للسلطة أو لقوى سياسية معينة هو وسيلة إثبات موقف فقط ، فهو لا يملك في الحقيقة قدرة التأثير في مجريات الأحداث، ونجد كذلك الاعتراض وهو موقف سياسي يمثل عقبة أمام تمرير مبادرة أو لائحة أو مشروع سياسي، ويكون حائلا في بداية طريق التفكير لوضعه موضع التنفيذ، وقد يُخفي وراءه حرصا على عدم تضرر مصلحة معينة بسببه أو إن شئنا أن نضعه في مكانة أعلى سموا فإنه يجوز الاعتراض على قرار يكرس هيمنة استعمارية أو مسعى يهدد السلم والأمن مثلا ، ويلاحظ أن الاعتراض يكون في مرحلة الدراسة والنقاش، وعندما نتحدث عن المرحلة العملية فسنواجه موقفا يتميز بأنه أكثر تفصيلا ووضوحا ويتمثل في الرفض وهو يتجاوز في مضمونه ومعناه المداولات داخل قاعات الجلسات حيث سيتعلق بعدم التجاوب النهائي مع أي التزامات ستترتب لتنفيذ قرار سياسي ما ، كما لا يمكن انتظار أن يستشعر أصحاب هذا الموقف أي واجب من أجل المشاركة في النهوض بمسؤوليات محددة مرتبطة بما سبق الإعلان عن الاعتراض عليه سواء كانت ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو عسكري، ومثل ذلك الاعلان عن رفض السماح بشن اعتداءات مسلحة لقوات أجنبية انطلاقا من الأراضي الوطنية ضد دولة أخرى، أو السماح بفتح المجال الجوي لمرور اسراب طائرات صديقة للإغارة على دولة أخرى مجاورة ، أو الموافقة على تقديم معونات لوجستية لقوات صديقة ، وقد يتطور رد الفعل السياسي إلى حد التنديد الذي ينصرف إلى إعلان موقف عدائي صريح من   طرف أو أطراف اتخذت موقفا سياسيا معينا تصل انعكاساته إلى حد التهديد بمخاطر جمة على حالة السلم والأمن أو المساس بالاستقرار في منطقة معينة ، ومثل هذا الموقف يلامس حدود الاستنكار أيضا ومعه يمكن توقع ردود فعل ذات طابع مناهض، مثل عدم التردد في الموافقة على قرارات بفرض عقوبات دولية قد تأخذ أشكالا عقابية أو ردعية وبعضها كما يحدثنا التاريخ السياسي المعاصر كانت ذات طابع انتقامي.

 يحدث في إطار المناورات السياسية أن تطلق السلطة أو أحد الأطراف السياسية ما يطلق عليه " بالونات اختبار" وتتمثل في تسريب أخبار غير مكتملة وبطريقة غير رسمية عبر وسائل إعلام غير حكومية تتعلق بمشروع أو مبادرة سياسية تتضمن شعرة من حقيقة تبرر تسريبها  وسط معلومات مضللة ، والهدف منها معرفة رد الفعل السياسي أو الحزبي والنقابي.. والشعبي تجاه ما تضمنته الأخبار، ثم قياس الرأي العام منها والحقيقة أنها حيلة تستبق بها السلطات معرفة رد الفعل تجاه الحدث الحقيقي لو أنه تم إعلانه بأبعاده وجوانبه الكاملة بإطلاق ما يمكن أن يثير الاهتمام حوله ، وفي مثل هذه الحالة يبرز رد الفعل قبل حدوث الفعل الأساسي ،والحقيقة أن مثل هذه الأمور ليست بخافية عن الطبقة السياسية الخبيرة بشؤون الحكم والتي سرعان ما ستدرك بحكم التجربة العملية الطويلة أبعاد الحيلة ، لذلك فإنها بعد عملية تقييم سريعة ستعمد إلى إحدى الطريقتين : إما أن تعلن ترحيبها بما تناهى إلى علمها وتدفع نحو الترويج الإعلامي له وفي هذا تشجيع للسلطة للمضي قدما ودون إبطاء للشروع فيما أرادته، أو أن تناهضه بشكل عنيف يحمل ما يحمل من تجاوزات سيبررها غياب الطابع الرسمي للخبر مما يدخله في تصورها في إطار الإشاعةالصحفية المغرضة التي ترفع عن أصحاب المواقف المناهضة ومعارضي السلطة الحرج أمام السلطات ، وتأخذ المناهضة طابعايوحي على الاعتقاد بتعمد إظهار شيء من الصرامة في الرفض التي تقطع الطريق أمام مروجي هذه الأخبار لعدم العودة إليها مستقبلا .

كثير ما يحدث أن يكون للفاصل الزمني بين حدوث الفعل ورد الفعل تأثيره على العلاقة بين طرفيها ، بمعنى أن قصر المدة الزمنية بينهما أو طولها يمكن قراءته سياسيا على أمرين : فالفورية في رد الفعل يمكن افتراض أنها من قبيل الدراية المسبقة بطبيعة الفعل حيث يكون قد تمت  دراسته الجادة والشاملة وتقييم أبعاده بعمق وبالتالي كان الجواب جاهزا سواء بالتأييد الذي لا يستبعد  معه وجود اتصالات مسبقة من باب تنسيق المواقف، أو بالرفض الذي قد يخفي مصلحة ستتضرر أو نفع سيعود على الآخر ، كما أن بعض ردود الفعل قد تتمهل في الإعلان عن طبيعتها وذلك عندما تفضل بعض الأطراف السياسية التريث في إبداء موقفها  بصراحة لحرج تستشعره تجاه أحد الأطراف، أو لحساسية الموضوع ذاته ، وغالباما يُفقد التريث الأكثر من اللازم في اتخاذ المواقف السياسية الصريحة والشجاعة الكثير من المكانة السياسية للطرف المتريث ويضعف من وزنه الدولي حيث سينظر إليه على أن تردده يستهلك قدرته ليكون طرفا فاعلا وأساسيا في العلاقات السياسية الدولية وبالتالي يفقد شيئا فشيئا من اعتباره .

غالبا ما تأخذ الأفعال السياسية على المستوى الدولي شكل بيانات، ولوائح، وتوجيهات أو نداءات موجهة بين طرفي علاقة أو أكثر، وهي إما أن تكون معلنةكتابيا في صيغة أوامر أو قرارات من أعلى هرم السلطة في بلد ما ، أو من أعلى مجلس في المنظمات العالمية ، ويتم الرد عليها بالإيجاب أو بالسلب، بالموافقة أو الرفض أو بالمعارضة والتحفظ .. عن طريق الأشكال نفسها وبالصيغ المذكورة، وقد تكون وسيلة التبليغ مباشرة بالطرق الدبلوماسية المعروفة ، أي عن طريق القنوات الرسمية والسفارات المعتمدة ، أو في صورة خطابات بين المسؤولين النظراءفي كل دولة، أو في صورة مذكرات وتعميمات ، أي تلك الكتابات الموجهة لجميع الأطراف، فيما يمكن أن تكون أيضا غير مباشرة عن طريق التصريحات الصحفية لوسائل الإعلام  المختلفة التي ترمي في الغالب إلى توضيح أولي للمواقف، أو أن تكون معلنة شفهيا عن طريق توجيه خطاب جماهيري للإعلان عن قرار مهم  نابع من إرادة الشعب يتم حشد جمع غفير من المواطنين المتحمسين خصيصا لذلك .

إن الفعل مهما كانت طبيعته إذا لم يترك أثرا فلم يحرك ساكنا أ ولم يسكن متحركا سيكون عديم الجدوى ولا طائل منه لأنه لم يحدث تأثيره في مجريات الأحداث سواء بالتعديل أو بالتغيير الكلي أو الجزئي ففقد دوره كمؤثر ، أي أنه لم يحدث رد الفعل الذي يكسب العلاقات الحركية المطلوبة والحيوية المنشودة والتواصل المأمول، وفي المقابل لن يكون بإمكاننا ترقب رد فعل ما تجاه لا شيء، فلا دافع يجعلنا ننتظر نتيجة ما دون أن تتوفر أسباب وقوع الفعل، على أن ثمة ما تكتسبه بعض الأفعال من أهمية بالغة ومع ذلك يحجم البعض عن إبداء أي رد تجاهها ، وهذا في الحقيقة تغييب عمدي أو قصري لدور كان يمكن أن يمنح الصامتين عن التعبير مكانة لائقة فليس دائما في الصمت حكمة  أو بلاغة، ولذلك فالفعل ورد الفعل مهما كان مجالهما سياسيا أواقتصاديا ، اجتماعيا او ثقافيا هما الحدثان المعبران عن حقيقة وقوع الاتصال وعن طبيعة حدوث التواصل بين الأفراد والأمم . 

في "دار الحرب" وفي "دار السلم"، محنة شجرة الميلاد باقية/ جواد بولس

 


انتشر على مواقع الاخبار وشبكات التواصل الاجتماعي مقطع ڤيديو يظهر فيه عدد من المسلحين وهم يضرمون النار بشجرة عيد الميلاد في مدينة "السقيلبية"، ذات الاغلبية السكانية المسيحية الارثوذكسية، في محافظة حلب السورية. أدّت هذه الحادثة إلى خروج المواطنين السوريين المسيحيين في دمشق وفي مناطق أخرى، في تظاهرات احتجاجية، مندّدين بالاعتداء ومطالبين بحماية حقوقهم وطقوسهم الدينية.


يأتي هذا الاعتداء وسوريا تواجه مخاضات مرحلة انتقالية حرجة؛ تبذل فيها "هيئة تحرير الشام"، بكونها الفصيل الأبرز في تبوّء مشهد الإطاحة بنظام بشار الأسد، جهودا كبيرة لاسترضاء دول العالم، خاصة أمريكا والمجموعة الأوروبية، على أمل أن يتم الاعتراف بها كبديل "شرعي" مقبول على الغرب  وحلفائه، وقادر على تسلّم الحكم في سوريا. وكي يتم لها، ولزعيمها ابو محمد الجولاني او أحمد الشرع وفق الاسم الجديد، ذلك، كان عليه أن يبدأ باجراء التعديلات الضرورية لمحو مستحقات ومخلّفات السنين الماضية بهدف اخراجه، هو وتنظيمه، من قائمة "الارهابيين" المطلوبين، وفق اعلان سابق للادارة الأمريكية. لقد بدأت عملية التغيير لديه منذ الأيام الأولى لتصدر اسمه واسم تنظيمه مشاهد الأحداث السورية. عندها لاحظ العالم تغييرَ لباس المجاهد الشرعي واستبداله بالبدلات الغربية والكرفتات، وتهذيبَ لحيته، وتبنيه لخطابات خالية من المضامين الجهادية، ولجوءه الى لغة سياسية مهادنة للغرب، وتساهلَه مع اسرائيل على الرغم من قيام جيشها باحتلال مناطق سورية جديدة، واستمرار طيرانها بقصف عدة مواقع في العمق السوري وموانئه. كذلك لوحظ تبنيه للغة تؤكد على احترامه للحريات عامة ولحقوق غير المسلمين، المدنية والدينية، سواء كانوا مواطنين سوريين أم لم يكونوا.


لم يتأخر رد ممثلي "هيئة تحرير الشام" على حادثة احراق شجرة الميلاد؛ فقد أدان رجل دين يمثلها، الحدث معلنا أن من نفذه ليسوا سوريين، وتعهد بمعاقبتهم. وأكّد، وهو يقف إلى جانب رجال دين مسيحيين، أن الشجرة سيتم نصبها وانارتها بحلول الصباح، كما جاء في الأخبار. وقد نشرت لاحقا بعض الجهات على أن المسلحين الذين أحرقوا الشجرة كانوا مسلمين أجانب ينتمون إلى فصيل يدعى "أنصار التوحيد"؛ في حين أكدّت المصادر أن أولئك كانوا مسلحين من أوزبكستان، انخرطوا، إلى جانب مسلحين من طاجكستان وقرغيزستان، في صفوف تنظيم " داعش"، ولعب بعضهم أدوارا قيادية ضمن فصائل مختلفة أبرزها "كتائب الامام البخاري"، التي كانت لها ارتباطات بتنظيم "هيئة تحرير الشام"، كما كان نشر.


لا يوجد سبب لعدم تصديق ما نشر باسم "هيئة تحرير الشام" وتأكيد ممثلهم أن محرقي الشجرة ليسوا مسلحين سوريين؛ بيد أن هذا التوضيح لا ولن يُطمئن المسيحيين السوريين ولا السوريين ممن ليسوا من أنصار تلك الفرق الاسلامية ومجاهديها. "فالسورية"، أي الانتماء للهوية السورية نفسها، لم تكن مرة، لا في عهد نظام عائلة الأسد ولا قبله، ولن تكون، محركًا للاعتداء المذهبي على مسيحيي سوريا وطقوسهم، بل كانت تاريخيا درعا يحميهم ويحمي مقدساتهم. كان التطيّف مسؤولا، والأصوليات الدينية في جميع الديانات، هي المسؤولة عن استعداء الآخر المختلف عنهم؛ وفي حالتنا كانت الأصولية الاسلامية، محرّكًا للملاحقات وللاعتداءات على "الشجرة" وتكفير أصحابها المسيحيين، وعلى غيرها من "الشجرات" التي لم تُقبل "كزرع شرعي" في "بساتين" أولئك الأصوليين.


لقد هبّ أولئك الجهاديون غير السوريين وتركوا أوطانهم والتحقوا كاخوة بأبي محمد الجولاني وبصحبه في العراق بداية، وفي سوريا لاحقا؛ وبقوا معه بهدف "انقاذ "سوريا، وقبلها العراق، وتحريرها من حكم الكفرة وترسيخ حكم اسلامي أصولي سيتم "إقناع" من يبقى تحته بضرورة الالتزام بالشرائع والانظمة كما يفرضها اسلام تنظيم "داعش" ومثيلاتها من الفصائل، سواء كان مجاهدوها يحملون الجنسية السورية أم الطاجيكية ام الشيشانية أم الأوزبكية أم غيرها.


 لا أحد يستطيع أن يتكهن كيف ستنتهي الأزمة السورية، ومن سيرث نظام عائلة الأسد المخلوع وكيف ستُحكم سوريا، إن بقيت موحّدة؛ بيد أن بوادر ترجيح تأسيس حكم يرأسه أحمد الشرع "المعدّل"، على الأقل في المرحلة الانتقالية، يبدو حلا ممكنا؛ خاصة بعد قيام الشرع بحل معظم الفصائل المسلحة التي نشطت على الساحة السورية خلال العهد السابق، في مسعى منه لتوحيدهم "بوزارة دفاع" أعلن أنه سيقيمها قريبا.


ما يجري على الساحة السورية يبدو كمشروع تُرسم حدوده وتنفّذ بالتوافق مع عدة جهات مؤثرة وذات مصالح استراتيجية في المنطقة. هذا ما يمكن أن نستشفه من تلميحات ممثلي الادارة الأمريكية ومن رد الفعل الاسرائيلي المتأني والحذر، رغم تقدم الجولاني الجهادي صفّ القيادي الأول. ونستشفه كذلك من مواقف مسؤولي بعض الدول الاوروبية والأنظمة العربية والاسلامية، خاصة موقف تركيا التي تتحرك دبلوماسيتها بنية وبشهية بارزتين للتدخل وحسم عدة مسائل تهمها ومن بينها: المسألة الكردية، وأزمة اللاجئين السوريين المتواجدين على اراضيها، ومحاولة السيطرة على الأسواق السورية.   


لم يكن الاعتداء على شجرة الميلاد في مدينة "السقيلبية" وحيدا من نوعه ويتيما؛ فقد استنكرت بيانات أصدرتها منظمات لحقوق الانسان سلسلة من الاعتداءات التي تعرّضت لها مزارات تابعة للطائفة العلوية ومواقع دينية مسيحية في مدينة حماة وغيرها؛ ورُصدت كذلك مظاهر انفلاتات أمنيّة تمت على خلفيات طائفية واضحة.


قد  تكون بعض تلك الحوادث/الاعتداءات مفتعلة وتقف وراءها مجموعات مغرضة تهدف الى زرع الفتنة وقلقلة أمن المجتمع السوري والتشكيك بنوايا "هيئة تحرير الشام" وبقدراتها على ضبط الوضع؛ وقد تكون نية قادة "هيئة تحرير الشام" تعديل فكرهم الجهادي صادقة، وقرارهم الانتقال الى مرحلة بناء دولة مختلفة، لا نعرف اليوم ما هي مؤسساتها ولا بأي شكل حكم ستحكم، حقيقيا ؛ ولكن، لا ذاك التخمين ولا ذاك الافتراض قادران في الحالة التي تعيشها الشعوب العربية على اعادة مكانة العقل الى وظيفته كعضو متمرد ومنتج  فكريا؛ ولا على تغيير عقائد أبناء أمة تشكّلت قناعات معظمهم بتأثير مجموعة موروثات ثقافية ودينية واجتماعية تقليدية، استغلتها، في بعض المراحل، حركات سياسية متزمتة، مثل حركات الاخوان المسلمين والحركات الوهابية والسلفية والطائفية وحولتها الى "تربة "ينبت عليها الجهل والتخلف وعقائد تدفع أصحابها الى تقسيم أرض المعمورة بين "دار السلام" "ودار الحرب/ دار الكفر"، وتأمر أتباعها بالجهاد ضد أعدائهم وفق احكام القواعد الشرعية وما ينطبق منها على عامة المسلمين وعلى اهل الذمة ومعتقداتهم، خاصة.


محنة شجرة الميلاد في حلب مثل محنة تماثيل بوذا التي فجرها الجهاديون في افغانستان عام 2001، ومثل محنة نواقيس القبطي وكنائسه في مصر. كل المفجّرين يشربون من نفس البئر، وهي ذات البئر التي شرب منها جهاديو "دولة العراق الاسلامية" عام 2010 وفجّروا كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد وقتلوا العشرات من مسيحييها وهم يؤدون طقوس صلاتهم داخل الكنيسة. وهي نفس المحنة التي دفعت بأكثر من مليون ونصف مسيحي سوري للهجرة بعد اندلاع المواجهات مع نظام الأسد، وكان قد سبقهم ملايين من مسيحيي العراق الى المهاجر.


 ما يجري في سوريا يعلمنا أننا  في الشرق نعيش زمن المحن الكبرى والتشرذم، والرهان على مستقبل المنطقة هو أمر مستحيل؛ أمّا الرهان، في المقابل، على مستقبل المسيحيين العرب فهو أمر سهل وواضح، ولنا في تبخر اعدادهم المؤلم الجواب.


جميع الذين عارضوا نظام الأسد فرحوا بسبب سقوطه. بعضهم يقف اليوم عند حافة القدر ينتظرون متوجّسين غدهم الآتي؛ وبعضهم فرحوا وما زالوا على قناعة أن "شباب الاسلام" هم أبطال هذا النصر ولديهم الثقة حيال المستقبل وأنه سيكون كلّه حتما اسلاميا. جميع هؤلاء وبينهم بعض المسلمين والشيوخ المواطنين في اسرائيل يرون بشعار" الاسلام هو الحل" ترياق حياتهم، وباقامة دولة الشريعة الاسلامية خلاصة أمانيهم؛ وهم على ثقة أن هذا الحل قريب وقادم. 


أما أنا فأقول أن كل الخيارات ما زالت متاحة؛ أقول عن سوريا وأتذكر، بخوف وبأسى، كيف افترت أمريكا وحلفاؤها الغربيون والعرب والمسلمون على النظام العراقي وشنوا عليه حربا شارك فيها "جنود الفرنجة / الصليبيون" إلى جانب جند المسلمين، فهدموا العراق وحوّلوه إلى "محظيات" ما زالت تتقاتل على لحمها القبائل والشرائع. وأتذكر ماذا حصل في ليبيا والسودان واليمن.. وفي أفغانستان ومن تآمر مع من، ومن وقف مع "طالبانها" ومن دعم "كرزايها"، وأيّ نظام حكم يسود فيها اليوم؟


هكذا تسأل الشجرة !   

يَسُوع ُ خَلاصُ البَشَر/ الدكتور حاتم جوعيه



( " قصيدة  نظمتها  بمناسبةِ عيد الميلاد المجيد على نمطِ  وأسلوب المُوَشَّح " )      


يا إلهَ السِّلم ِ تبقى البَلسَمَا       وَشِفاءً    لجَميع ِ    الأنفس ِ  

جئتَ  تتلُوها  ترانيمَ  السَّمَا       تُشعلُ   الفكرَ   بأسْمَى   قبَسِ 


أيُّهَا النورُ إلى كلِّ  الدُّنى       جِئتَ  للخلقِ  عَزاءً وَسَلامْ   

أنتَ  فجرٌ  وَسَناءٌ  وَسَنا        وَمَنارُ الكونِ  حُبٌّ   وَوِئامْ  

تغفرُ الآثامَ مهما قد جَنَى      كلُّ جان ٍمن شُرُور وَخِصَامْ   

تَبْرَأ  الأسقامَ فينا  والعَنا     وَتُزيلُ الهَمَّ في صَمتِ الظلامْ   

توقظ ُ الروحَ وفيمَنْ جَثمَا     والذي  يَحْيَا   بذلٍّ   مُنكس ِ  

كلُّ  مَأسوُر ٍ غدا  مُبتسما     لانعِتاق ٍ من  قيودِ   الحُبُس ِ  


يومَ  ميلادِكَ  كلٌّ   رَنَّمَا       كم  ملاكٍ  مع نجومٍ  نُعَّس ِ   

وَرُعاةٍ شاهَدُوا جُندَ السَّما     نزلوا الأرضَ بأبهى ملبس ِ   

رَنَّموا:"قدُّوسُ..قدُّوسُ.. وقدُّ   وسُ"..غنُّوا بنشيدٍ مُؤنِس ِ  

كلُّ طير ٍ ..كلُّ نهر ٍ رَنَّمَا     كلُّ  نبتٍ  بشَجيِّ   الجَرَس ِ  

وَوُرُدُ الحُبُّ غنتْ  بعدمَا      لفهَا الصَّمتُ وَعتمُ الحِندَس ِ  

والرَّوابي جُرِّعَتْ ماءَ السَّما   بَلَّلَ الوَسْمِيُّ ثغرَ النرجس ِ      


وَمَجُوس ٍقد أتوا من مَشرقِ   معهمْ    تِبْرٌ   وَمُرٌ   وَلُبَانْ 

وَبنجمٍ   في  السَّما   مُؤتَلقِ    عرفوا الدَّربَ إلى  بَرِّ الأمانْ 

كم َطوَوْا من َفدْفَدٍ في الغَسَق ِ    ليروا المولودَ في ذاكَ الزَّمانْ  

فرأوا   الطفلَ   قُبَيْلَ  الشَّفّق ِ    نائمًا في مِذوَدٍ ..لا  صَوْلجَانْ  

مَجَّدُوا الرَّبَّ بصمتٍ مُطبقِ       قبَّلوهُ      بخُشوع ٍ     وَحَنانْ   

كبرَ الطفلُ وأضحَى العَلمَا     وَمَنَارًا   وَعَزاءَ    البُؤَّس ِ  

ذكرتهُ  كلُّ  أسفارِ   السَّمَا     وَنبوءاتُ   العُهُودِ  الدُّرُس ِ    


جاءَ  للأرضِ شِفاءً وَسَلامْ      خَلفهُ العُميُ اهتدَوا والبائسُونْ  

جاءَ  حُبًّا  وَخَلاصًا وَوِئامْ      شُفِيَ الصُّمُّ وَعُميٌ  يُبصِرُونْ  

كم شَفى البُرصَ ومَنْ فيهمْ جَذامْ      فرَؤوا  الأنوارَ والحَقَّ المُبينْ  

وَالمساكين تعَزَّوا.. لا اغتِمامْ     بخلاصِ الروح ِكانوا يحلمُونْ   

يا  إلهَ السِّلمِ  تبقى البلسَمَا      وَشِفاءً    لِجميع ِ   الأنفس ِ   

جئتَ تتلوهَا ترانيمَ السَّمَا       توقظ ُ الكونَ  بأسْمَى قَبَس ِ           

 

ثابتٌ  ما   قُلتُهُ   للمُنتهى      لانقِضَاءِ الكونِ  يبقى خالِدَا  

فيكَ كلُّ المُبتغَى والمُرتجَى       لم   نجِدْ  إلاكَ   ربًّا   سيِّدَا  

لكَ قد طابَ سُجُودي وازْدَهَى       وَلغيرِ الحَقِّ لا... لنْ أسْجُدَا   

فأسيرُ الروح ِ كم  فيكَ انتشى       حُلَّة ُ  التجديدِ   َنهْجًا  ارتدَا   

كلُّ ثوبٍ سوفَ  يَبْلوُ  قبلَ  ما       يَتلاشى  كالرُّسُوم ِ  الدُّرُس ِ   

إنَّما الأرواحُ تمضي  للسَّمَا      وَجُسُومٌ  تختَفي في الرَّمَس ِ  

 

أنتَ  أسكتَّ  الذينَ  انتهَجُوا     زُخرُفَ القول ِوَزيفَ الحُكماءْ  

دربُ  إبليسَ عليهَا  ابتهَجُوا    خَدَعُوا الحَمْقىَ وَبعضَ التعساءْ  

حكمة ُ الأرض ِ بخبثٍ أوْلجُوا     أدخلوهَا  في  رؤوس ِ البُسَطاءْ    

لدَعِيٍّ  زائف ٍ  كم   عَرَّجُوا     خَلفهُ   تمشي   جُموع ٌ   بُلهَاءْ    

يا يسُوعُ الحَقِّ تبقى البَلسَمَا      وَشِفاءً    لجَمِيع ِ    الأنفس ِ   

جِئتَ تتلوهَا ترانيمَ السَّمَا      تُوقِظ ُ الفكرَ  بأسْمَى   قبَس ِ   

  

لمْ  نجِدْ إلاكَ  ملكًا  عادِلاً      كلُّه ُ  حبٌّ    ونورٌ   وَبَهَاءْ    

يا مَسيحَ الحَقِّ تبقى الأمَلا     لخَلاصِ الخَلقِ من كلِّ بَلاءْ   

حكمَة ُالأرض ِالتي قد أبطَلا     حكمةُ الحقِّ علتهَا  في السَّماءْ   

ليسَ   شَرُّ  قادِرٌ  أنْ   يُبْدِلَ       أحرفَ النورِ  وألحانَ الضِّياءْ  

يا مَسيحَ الحَقِّ  تبقى الكامِلا       مَنهَلَ  الحُبِّ  وَيُنبوعَ  الوَفاءْ   

مَالِكٌ  أنتَ  مفاتيحَ  السَّمَا      ترسِلُ الخيرَ لنا  لم َتحْبس ِ  

أنتَ تروي النفسَ من نارِ الظمى    مثلمَا  الغيثُ  لزرع ٍ يَبِس ِ   

 

حكمة ُ  اللهِ  كنوزٌ  للمَدَى      وَمَنارٌ  لانطِلاقِ   البائسِينْ   

فتُساوي العبدَ  فيهَا السَّيِّدَا      للذي في الرَّبِّ في الحَقِّ  المُبينْ     

وَيَسُوعُ  الحقَّ يبقى الأوْحَدَا       نورُه ُ شّعَّ   لكلِّ   العالمينْ     

مَنْ  بإيمان ٍ  يَهزُّ الفرقَدَا      سَيَنالُ المُرتَجَى لو بعدَ حينْ   

وَيَسُوع ٌبيننا لو في السَّما      هُوَ  يُحْيينا   بأذكى    َنفس ِ           

كلما خَطبٌ عَتا  أو أظلمَا      َفيُعَزِّينا     بروح ِ   القدُس ِ  

 

يا  إلهًا  جاءَ  من أجلِ الخَلاصْ      يَمنَحُ  الحُبَّ  إلى  كلِّ  البَشَرْ  

جِئتَ للرَّحمَةِ لا تبغي القِصَاصْ      كلُّ    ذنبٍ   بيَسوُع ٍ   مُغتفَرْ   

أنتَ مَنْ أحبَبتنا دونَ اختِصاصْ      يَتسَاوى الكلُّ  في جَني ِ الثمَرْ   

وَغَدًا دَيْنوُنةٌ .. أنَّى احتِراصْ     شافِع ٌ فينا   لدى  الآبِ  الأبَرْ  

فَيَسُوعٌ  كاملٌ  دونَ  انتِقاصْ     وَلديهِ    كلُّ    شَيىءٍ    مُقَتدَرْ  

أيُّهَا  الفادي  الذي قد عَلَّمَا    أنْ نضَحِّي بالنَّفيسِ الأنفس ِ  

وَنُحِبُّ الناسَ ، ُطرًّا، إنَّمَا    دُونَ شَرْطٍ  أو لِمَالٍ  مُكْدَس ِ      

                                       

كم دُمُوع ٍ وَهْيَ تهْمِي عَندَمَا     عِندَما سارُوا بهِ نحوَ الصَّليبْ   

وَسَّدُوا   الرَّبَّ   عليهِ  بعدَمَا     عَذبُوهُ   وهوَ   فادينا   الحَبيبْ  

لمْ   يُعانِدْهُمْ   وَكانَ  الأبكمَا      ليَتِمَّ  القولُ  في  كلِّ  الشُّعُوبْ   

بالذي  خَطَّتهُ   أسفارُ  السَّمَا     عن فِدَاءِ الرَّبِّ في اليومِ العَصِيبْ  

إدْلهَمَّ   الكونُ  ،  ليلٌ   خَيَّمَا      أطبّقَ الصَّمتُ  وكم  زادَ النَّحيبْ  

يا  إلهَ   الحَقِّ   ذُقتَ  الألمَا      قد تجَرَّعتَ  الأسى في الغَلس ِ

وَصَليبُ العارِ  أضحَى عَلمَا     وَشِعارًا     لخَلاصِ   الأنفس ِ


يا  إلهًا  عهدُهُ   لنْ   ينكثَا      مَلكٌ  أنتَ على كلِّ الوُجُودْ  

مثلَ شاةٍ سِيقَ نحوَ الجُلجُثَهْ     ذقتَ هَوْلَ الصَّلبِ والخَطبَ الشَّديدْ  

وليومٍ    رابع ٍ   لن    تمكُثا      وَإلهًا   قُمْتَ  من  بينِ  اللحُودْ  

وَهَزَمتَ الموتَ .. إبليسُ جَثا     دُحِرَ الشَّيطانُ والخصمُ العَنيدْ   

دَمُكَ    الطاهِرُ   نورًا   بُعِثا      حَرَّرَ الإنسانَ من نِيرِ  القيودْ   

قد  طوَى  عَهدًا  قديمًا حُرِثا      َواستنارَ الكونُ في عَهدٍ جَديدْ   

 

يا  إلهَ الكونِ تبقى البَلسَمَا      وَشِفاءً    وَعَزاءَ    البُؤَّس ِ   

جِئتَ تتلوُهَا  ترانيمَ  السَّمَا      توقظ ُ  الكونَ  بأسْمَى   قبَس ِ

 وَصَليبُ  العَارِ أضحَى  عَلمَا              ورَجاءً   لخلاصِ   الأنفس ِ 


المتنبي والرحالة إبن بطوطة/ د. عدنان الظاهر



طلب أبو الطيب المتنبي مني أنْ أصطحبه لزيارة إسبانيا ( فردوس العرب المفقود ) كما يصر على تسمية هذه البلاد . قال سمعتُ أنَّ الرحالة المغربي الشهير إبن بطوطة في زيارة دبلوماسية قصيرة للعاصمة الإسبانية مدريد وإنها لمناسبة نادرة الوقوع أن نلتقيه هناك ، ولربما ننجح في ترتيب لقاء إستثنائي يجمعنا جميعاً والشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي . قلتُ لصاحبي إنها لاريبَ فكرة رائعة يا أبا الطيب ولكن ، من قال لك أنَّ وقت الدبلوماسي إبن بطوطة يسمح له بلقاء آخرين طارئين على مدريد ؟ ثم من قالَ لك إنَّ المرحوم البياتي ما زال مقيماً هناك موظفاً في المركز الثقافي العراقي ؟ قال أما الأولى فلا من ضمان لديَّ عليها وحولها ، أما الثانية فإني أؤكد لك أنَّ الشاعر المرحوم ما زال هناك يرتاد مقاهيها ولا سيما مقهى [ مانيلا ] الغاصّة بمخبري وشرطة السفارة العراقية من عراقيين وعرب رجالاً ونساءً . سألته هل يعرف عنوان إقامة إبن بطوطة في العاصمة مدريد ؟ قال إنه مقيم في كل زاوية ومكان فيها . سوف نجده أينما ذهبنا فإنه رجل معروف هناك بل وصاحب سطوة وسلطان . لقد عينته حكومته سفيراً لها فوق العادة بعد أن وجدت فيه كافة متطلبات العمل الدبلوماسي من لغة ولباقة ومعرفة دقيقة بتأريخ الشعوب والأمم فضلاً عن الجغرافية . أصبح الرجل موسوعة ثابتة ومتحركة بعد أن أنفق ربع قرن من حياته متجوِّلاً في شتى أصقاع العالم ولا سيما الأجزاء الشرقية من المعمورة كالهند وآسيا الوسطى ثم الصين. سألته : وهل سيتقبل فكرة أن نجتمع أربعتنا في مقهى مانيلا ، أنت وهو والبياتي وأنا ؟ قال ولِمَ لا يتقبلها ؟ إنها لفرصة نادرة الوقوع في تأريخ البشر أن نلتقي نحن الأربعة في مدريد . قلت إنما أقصد إنكم ثلاثة رجال معروفين لكن َّ رابعكم رجل مغمور مجهول الهوية والوطن !! قال لا عليك ، لا تكنْ سوداوي المزاج ... ستكون بعد تمام هذا اللقاء رجلاً مثلنا معروفاً إذ ستكتب الصحف عنك كما دأبت أنْ تكتب عنا ، نحن الثلاثة الباقين . ستكتب عن هذا اللقاء صحف بغداد ولندن والقاهرة ودمشق وعمان . ستتبارى كبريات الصحف في نشر أخباره وأخبارنا . لقد أضعتَ ـ واصل صاحبي كلامه ـ الكثير من الفُرص الجيدة في حياتك فلا تدعْ هذه الفُرصة تفلت منك . كنْ { براغماتياً } ... كنْ { علمانياً } ... كن لُب { رالياً } ... كنْ { مسقفاً متأمركاً } كأولئك الذين أعرف وتعرف ممن إنتهزوا وتسلقوا سريعاً وأكلوا الحرام في كافة الموائد والذين يكثرون الثرثرة والكلام الفارغ في أي شأن وأمر يخطف سريعاً في سماوات العراق اليوم . كنْ مرناً بعض الشئ ... جاملْ وإصطنع المداراة ... هل نسيتَ شعري الذي قلتُ فيه :


ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أنْ يرى

عدوَّاً له ما من صداقته بدُّ ؟؟


لا لم أنسَ قولك هذا يا أبا الطيب لكنه مخالف جذرياً لما أحمل من خُلق وتواضع . وقد سبق وأن لامك عليه عدد من نقادك والكثير من خصومك .


وصلنا مدريد على متن إحدى طائرات خطوط برلين

Air Berlin 

المخفضّة جداً جداً فوجدنا إبن بطوطة في إستقبالنا على أرض المطار . أدخلنا في القسم الخاص بحملة جوازات السفر الدبلوماسية وجاءت حقائبنا خلفنا يحملها بعض موظفي مطار مدريد . بعد الإستراحة وتناول القهوة وبعض المرطبات أخذنا الرحالة الشهير في سيارة المانية سوداء مغطاة النوافذ إلى مقر إقامته في ضواحي العاصمة . فيلا أنيقة محاطة بغاب كثيف الشجر لا يحرسها أحد سوى كلب ضخم مدرّب . قال ما رأيكما في قيلولة قصيرة يليها حمام ماء ساخن ووجبة طعام سريعة مختصرة مع القهوة ثم نتجّه جميعاً نحو مركز مدينة مدريد حيث مقهى ( مانيلا ) لنتمتع بلقاء نادر مع الشاعر المرحوم عبد الوهاب البياتي ؟  وافقتُ على الفكرة لكنَّ صاحبي المتنبي تحفظ عليها بكل جديّة . قال فلنرجئ النزول لقلب المدينة إلى الغد . ما زلنا تعابى وقد أنهكنا السفرُ والبياتي قد غدا في متناول أيدينا نطاله متى وكيف شئنا . سألته معترضاً : وماذا عسانا فاعلين بأنفسنا ووقتنا خلال ما تبقى من يومنا هذا ؟ قال سنمكث الليلة مع الرحالة العظيم في قصره المنيف الذي لا تضاهيه قصور خلفاء المنطقة الخضراء في قلب بغداد . أجلْ ، سنمضّي الليلة نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث خاصةً ولديَّ سؤال يقلقني كثيراً أودُّ أن أوجهه لسيد الرحالة والمرتحلين والمترحلين ... المهجّرين والمهاجرين والمتهجرين من أصحاب الهجير . ما سؤالك يا متنبي ؟ سأل إبن بطوطة . أجاب المتنبي : ما دمتَ يا صديقنا ودولة إبن بطوطة قد زرت الهند والسند والصين وبلاد الترك والمغول والتتر والمسقوف ... فلا بدَّ وأنك خلال أسفارك هذه قد سمعت بقصة ذلك الرجل الذي شاء حظه أن يكمل دراسته في جامعة  موسكو ، ثم يغادر موسكو عائداً إلى بلاده البعيدة . وعُرف عنه فيما بعد أنه كان كثيراً ما يتمنى أن يموت في بلد شيوعي أو إشتراكي . كان إبن بطوطة مصغياً لحديث أبي الطيب . مرّت فترة صمت قصيرة فبادر المترحل الشهير إلى القول : نعمْ ، سمعت هذه القصة ونسيتها لكنك الآن جعلتني أتذكرها . إنها لقصة عجيبة لا يصدقها إنسانٌ عاقل . نعمْ ، ما دمتَ تعرف أولياتها فسأقص عليك خاتمتها الأغرب من كل خيال . قالوا إنَّ هذا الشخص الذي أتم دراسته في بعض الجامعات الروسية كان قد حاول مراراً أن يزورَ موسكو لكنه لم يستطع الحصول على تأشيرة دخول [ فيزا ]  الأراضي الروسية . قال له القنصل الروسي في السفارة إنَّ ذلك ممكن في حالة واحدة فقط . أنْ يوجه له أستاذه المشرف على دراسته أو رئاسة القسم الذي أنجز أبحاثه فيه ... أن يوجّه َ أحدهما له دعوة رسمية لزيارة القسم والجامعة للإطلاع على آخر منجزات العلم والتكنولوجيا وما نُشر من كتب وبحوث في مجال إختصاصه . قلت معلقاً على عجل : إذا ً قد حلوا له المشكلة . قال إبن بطوطة لا تكنْ عجولا ، إنتظرْ قليلاً . كتب المسكين رسائلَ  لرئاسة القسم وللبروفسور الذي كان مسؤولا ً عنه وعن أبحاثه ينقل للجميع موقف السفارة الروسية من هذا الأمر . كيف كان الرد ؟ لم يجبْ رئيس القسم فقد كان طريح الفراش في غيبوبة طويلة . أجاب البروفسور ((  ولكن عن طريق إحدى الباحثات العلميات )) إنه لا يرى أية مشكلة في الموضوع وأنَّ بإمكان تلميذه السابق زيارة موسكو متى ما يشاء بدون الحاجة لتوجيه دعوة رسمية !! عرب وين طنبورة وين ؟ علّق أبو الطيب المتنبي في حين كنت غائباً لا أدري أين ، غير مصدق لما يحدث أمامي من قصص . وأخيراً ماذا جرى لهذا الشخص الذي وضع نصب عينيه أن لا يموت إلا في بلد إشتراكي أو شيوعي بعد أن حُرمَ من زيارة البلد الذي درس فيه ونشأ وتربى وتثقف ؟؟ سأل المتنبي . إقترح إبن بطوطة فترة إستراحة قصيرة قبل أن يجيب عن هذا السؤال . تناولنا كؤوس الشاي وملحقاته مما تيسر من حلويات إسبانبا مع فاكهة التين والرمان السكري والبطيخ الأصفر فائق الحلاوة . دخنَّ المتنبي وتخفف إبن بطوطة من بعض ملابسه فقد إرتفعت حرارة الجو وتعالت الإنفعالات والفضول . قال إبن بطوطة الرحالة : سمعت أخيراً أنَّ هذا الشخص العجيب الوفاء النقي السريرة قرر أن يزور العاصمة الجيكية [ براغ ] بعد أن عجز عن زيارة موسكو في سالف الزمان وزهد من ثم َّ في رؤيتها بعد أن هانت وذلت وتبدلت وصارت تستقبل كل من هبَّ ودبَّ من سياح البشر وكل من يحمل في جيبه دولاراً أمريكياً . زهد فيها فقال فلآجرب غيرها فعزم على زيارة عاصمة أخرى كانت في يومٍ ما إشتراكية . وهل نفذَ عزمه ومشروعه يا ترى يا إبن بطوطة ؟ سألتُ . قال نعم ْ ، قد نفذَّ  رغبته ولكن يا  للعجب !! إشرأبت أعناقنا صوب محدثنا نروم معرفة ما حصل لهذا الرجل الغريب الأطوار الذي طردته عاصمة شيوعية حياً {{ لم تستقبله }} فآثر أن يموت في عاصمة كانت إشتراكية !! صمت إبن بطوطة طويلاً مفكراً منقبض الجبين لا يرفع رأسه لكأنَّ في الأمر الكثير من الحرج . ما تجرّأنا أن نحثه على مواصلة الكلام . دخلنا معه في لجّة عميقة غيبية متلهفين لسماع نهاية القصة الشديدة الغرابة . رفع الرحالة أخيراً رأسه وشرع يتكلم ببطء فقال : كان وحيداً في مدينة ( براغ ) يجوب الشوارع ويزور المخازن ويرتاد المقاهي والمطاعم ويقوم بجولات طويلة على ظهر يخوت تمخر نهر ( فولتافا ) . يكرر ذات البرنامج نهار كل يوم حتى تسرب إليه الملل فقرر أن يحدث تغييراً في مجرى حياته هناك . راودته نفسه أنْ يدخل ذات مساء واحداً من نوادي قمار الروليت الأمريكي وما أكثرها في ( براغ ) . إختار نادياً يقع في أحد فنادق النجوم الخمس في قلب المدينة . سجلوا إسمه في جهاز الكومبيوتر وإلتقطوا له صورةً ثبتوها بإزاء إسمه ورقم جواز سفره . وجد الصالة الواسعة جميلة أخاذة ً جذابةً تدور فتيات ٌ في عمر الصِبى بين الضيوف لتوزيع شتى أنواع المشروبات دون مقابل . وقع نظره على إحدى مناضد الروليت يتحلق حولها عدد كبير من المقامرين والمقامرات أكثرهم وأكثرهن من جنوب شرق آسيا ... الصين ؟ كوريا ؟ تايلاند ؟ الفليبين ؟ صعب الفرز ومعرفة الجواب . بدأ اللعب بالمقامرة على الأرقام الدائرة مع العجلة الدوّارة . ربح من ربح وخسر من خسر وكان حظه بادئ الأمر مع الرابحين . إنسحب من خسر وتبقى من ربح . وكانت كؤوس المشروبات تترى على اللاعبين . تناول كأسين من البيرة القوية ثم طلب عصير برتقال تلاه كأس ماءٍ معدني فأتاه هاجس غريب يشبه الوحي الخفي ينصحه لأن يقامر ثقيلاً على ( الصفر ) لا على سواه . وضع بالفعل مائة (  يورو ) على الرقم صفر ودارت العجلة الدوّارة ومعها الكرة البيضاء الصغيرة تخالف إتجاه دورانها وفيها كل أسرار اللعبة الخبيثة . بعد فترة لم تطل وقعت الكرة البيضاء على الرقم (( صفر )) فربح صاحبنا مبلغاً مقداره 100 مضروباً في 35 كما تقتضي أصول اللعبة ، أي أنه ربح ( 3500 يورو ) . أورا أورا صاح بعض جيرانه من اللاعبين مهنئين . لم يتحرك ...ظلَّ مُسمَّراً في مكانه وعيناه مثبتتان على الرقم صفر في العجلة...  لم يجبْ ولم يتجاوبْ ... بعد لحظة سقط على الأرض ميتاً !!

سادت فترة صمت مهيبة طويلة . قرأ المتنبي الفاتحة ثم دخّن سيجارة . أترع إبن بطوطة كأس شاي ثقيل آخر . أما أنا فقد غرقت في حالة صمت لم أعهدها من قبلُ . كيف تحققت نبوءة هذا الرجل ؟ كيف أراد أن يموت في عاصمة إشتراكية أو كانت يوماً ما إشتراكية ولماذا الموت في آثار وبقايا إشتراكية درست في مهودها ومواطنها ومنابتها الأولى ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ مات رابحاً في منطقة الصفر . مات في عاصمة بديلة لموسكو التي حرموه من رؤيتها فانتقم منهم فاختار عاصمةً آخرى بديلة ً ليموتَ فيها كانت يوماً أختاً أو نظيراً وظهيراً لموسكو .


الكل في سوريا تعكسه مرايا/ مصطفى منيغ



سوريا تشق طريقها رغم مضايقات بعض الأنظمة بزعامة مصر السيسي وليس الشعب المصري ، طبعا وجب التوضيح ما دام هناك حاكم وضع نفسه على قمة السلطة بواسطة انقلاب غادر بمساعدة إسرائيل ، حاكم يعتقد أن وراءه شعب وهو واهم جملة وتفصيلاً ، وشعب ليس أمامه رئيس بل متصرِّف عن قوة ذاتها مغلوب على أمرها مطوقة باختراقات صهيونية تجعل منها طائعة على مضض (تظهر ما لا تخفي لغاية وصول توقيت معلوم لا شك في ذلك)  تحميه ، لذا هناك فرق بين موقف ما يعتقد أنه الرأس المدبرة كلمته تشريع يجب نقلها قرارا للتنفيذ ، وموقف آخر للشعب المصري الذي يعتبر نفسه منطلقاً و امتداداً للأمة العربية الكائنة الوجود بين المحيط والخليج ، على لغة واحدة ودين واحد وهدف أوحد التخلص مما هي "فيه" ، والجميع أعلم بكنه "فيه" ذاك ، القابع بلا حراك منذ عقود ، عكس مَن حوله يتجدَّد إلا هو ،متجمِّد يظل في مكانه ، إلى أن وصل حال نفس الأمة لدرجات من اليأس لا تُحسد عليها . ومتى جاء بصيص الأمل لإنجاح  ثورة وصلت لفرض التغيير بدخولها دمشق في هدوء وسلام ، وتلك علامة بارزة أن العقل السوري وصل من النضج ما يستطيع به تحرير دولته  تدريجياً بكامل جغرافيتها المعترف بها دوليا ، من سلاسل القهر والحرمان ، المكبلة بها منذ ظهور عائلة الأسد على مسرح الاستبداد ليركب فوق رؤوس أهالي الشام قاطبة ، ويصنع بسوريا ما هو صانع بها كل فاقد ضمير بلا عقيدة ولا ملة ، هدفه فقط العيش في بحبوحة غير عابئ بحقوق إنسانية ولا مواثيق دولية ولا حدود لا يمكن تجاوزها . 


... تحاول مصر إقحام ما جعلتها ثوابت السياسة الخارجية اتجاه سوريا لتبرير موقفها غير الموفَّق أصلاً من القضية برمتها ، علما أن الثوابت تلك جعل منها السيسي مجرد نظريات مُتداولة عبر لقاءات دعائية فلكلوريا مظهرها شيء وجوهرها آخر معاكس ، لدر الكحول على عيون مختارة لتكون مع عمشها لا ترى إلاَّ بقدر ما تسمع لتصفق وينتهي المهرجان كما بدا ولا أحد من المشاركين فيه قد فهم أمرا ، نظريات جعلها السيسي  تتحرك على ضوئها الأجهزة الدبلوماسية المصرية لإيهام المختصين بانشغال مصر الرسمية بما يدور في سوريا عن كثب ، وأنها الأقرب للانخراط في تدبير ما يقرِّب وجهات النظر بين جهات وحركات وطوائف لها نفس الهدف بأخذ زمام الأمور طوع أرادتها ولو بأساليب متباينة ، تلك قاعدة المعروف عن مصر الرسمية الانطلاق معها المؤدية إلى تغطية الواضح بثقب غربال ممزَّقِ الجلد حلزوني الشكل الخشبي المرقع ببقايا أسلاك غطَّاها الصدأ ، كما جرى ولا زال يجري مع القضية الفلسطينية التي ما زادها التدخل المصري على طول عقود إلا ما وصلت إلية من نفق مسدود يهدِّد وجودها ، لهذا وانطلاقا للتجربة ومتابعة تلك السياسة الخارجية المصرية وبخاصة المعنية منها بقضايا العالم العربي ، من المفروض أن تواجه بحزم هذه المرة ، ليس بمبادلة الثرثرة وتأليف دراسات عن أفكار منقولة من "هناك وهنا و قل هذا إنتاجنا" تجاوزتها مضامين وحدة القضايا المطروحة ،  أو انتقاء المفردات لتكوين جمل غير عاكسة للحقائق على الأرض ، المفروض أن تُواجه هذه السياسة الخارجية المصرية ، التي زادها السيسي بتدخلاته المستعجلة وغير المواتية تمييعاُ على تمييع ، بما تستحق من تعرية كفيلة بإظهار تلك العقول المخفية خلفها المنحازة لما يطبع القضايا المصيرية العربية بطابع الفشل الدائم والانتهاء لما حصده هذا العالم من خيبة كبيرة جعلت التفكُّك ينخر كيانه ، وإنها سياسة يُشمُّ منها رائحة الصهاينة الذين وجدوا في النظام المصري الحالي مفتاح مزلاج باب ليلجوا داخل أجزاء من الديار العربية انجازا لدولة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.


... من قرارات السيسي منع علم الثورة السورية اعتلاء سطح السفارة السورية بمصر ، ممَّا يؤكد ما سجلناه عن السياسة الخارجية المصرية التي أبعدها السيسي من معالجة الأمور بدبلوماسية لها مرتكزات لا يمكن تجاوزها ، منها احترام إرادات  دول داخل مقراتها التمثيلية الكائنة أينما كانت عبر العالم ، وسوريا إحدى هذه الدول أكان قائد نظامها الحالي من الثوار أو سواه مختار من طرف الشعب السوري ، لكن ما العمل مع المتخيل نفسه حاكم ضيعة كل ما فيها ملكية خاصة به يفعل بها ما يشاء ولا حول ولا قوى إلا بالله العلي القدير . وليعلم السيسي أن تصرفاته اتجاه سوريا بعد الأسد تعكسها مرآة صوب سجل يدوِّن خطاياه المتكررة منذ الثامن من ديسمبر في حق شعب سوري عربي مسلم حرر نفسه من دكتاتور لا يستحق ما يقوم به السيسي من أجل تبييض صورته الحالكة السواد  .

المنعطف البراجماتي في الفلسفة المعاصرة والالتزامات التفاعلية بين الفكر التحليلي والفكر القاري/ د زهير الخويلدي



نقدم كتاب ويليام إيجينتون ومايك ساندبوت ، التحول البراجماتي في الفلسفة: التفاعلات المعاصرة بين الفكر التحليلي والقاري، مطبعة جامعة ولاية نيويورك، 2004، 262 صفحة.إن أغلب المقالات في هذا المجلد جُمعت سابقاً في كتاب ساندبوت "نهضة البراجماتية" (2001). وقد تُرجمت هذه المقالات أو أعيد طبعها الآن، وفي بعض الحالات عدلها المؤلفون استجابةً للنوع نفسه من التبادل الذي حفز المجلد الأصلي والذي يأمل المجلد الحالي أن يستمر. ووفقاً لمقدمة المحررين فإن الكثير على المحك في التأكيد المتجدد الحالي على البراجماتية. فهي تبني جسوراً بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، وكذلك بين الفلسفة والنظرية الأدبية. كما أنها تطور حججاً ضد نظرية المعرفة التمثيلية، وفي القيام بذلك تبحث عن لغة مشتركة يمكن أن تخدم "فلسفة القرن القادم" "المسكونية" و"العابرة للقارات" وعابرة للتخصصات. إن الإمكانات المسكونية للبراجماتية الجديدة مبالغ فيها، كما يوضح هذا المجلد نفسه. إن بعض المزاعم الأساسية التي تطرحها هذه البراجماتية الجديدة قد تثير اهتمام عمداء الجامعات، وقد تزعج طلاب الدراسات العليا الذين يبدو أنهم مضطرون إلى الاختيار بين قراءة هيجل وهيدجر أو إتقان المنطق الرمزي. ومن غير المعقول أن يهتم المرء بالقيام بكلا الأمرين، حتى بالنسبة لهؤلاء الكتاب الجدد المسكونيين. ذلك أنهم يعترفون في النهاية بأنه على الرغم من كل الحديث عن بناء الجسور، فإن الانقسام بين الفلسفة "القارية" و"التحليلية" من غير المرجح أن يلتئم. ولكن ما يبرز هنا هو نقاش مثير للاهتمام ودقيق حول التوترات الداخلية والاتجاه المستقبلي للنقد البراجماتي للتمثيلية. إن الرؤية الموحدة في الخلفية هي رؤية ريتشارد رورتي، وفكره وجاذبيته الحالية بين الفلاسفة في ألمانيا يشكل العمود الفقري لهذه المجموعة. وباستثناء مساهمات هيلاري بوتنام، وآرثر فاين، وأنتيج جيملر، فإن كل المقالات الأخرى في هذا المجلد عبارة عن تعليقات متعاطفة إلى حد ما على أفكار رورتي. ويستعرض مقال رورتي نفسه انتقاداته المألوفة للفلسفة التحليلية ويحدد آماله في يوم يتم فيه التخلي عنها. ولن يتحقق ذلك اليوم من خلال حجة جديدة ضمن برامج البحث التي أنشأتها الفلسفة التحليلية؛ ولن تتمكن أي كمية من التأمل الدقيق والمفصل في وضع ادعاءات الواقعية العلمية، على سبيل المثال، من إنتاج "المآثر الخيالية العظيمة" المطلوبة للتقدم الفلسفي. وبدلاً من ذلك، فإن الفلاسفة "ينتظرون معلماً روحياً"، وهو ما يصر رورتي على أنه "أمر محترم تماماً". ولكن هذا ليس كل ما يفعلونه. إننا نستطيع أن نجد بالفعل إشارات إلى هذا المعلم الروحي في أعمال آرثر فاين، وروبرت براندون، ودونالد ديفيدسون. فهم يتفقون على أننا "لا ينبغي لنا أن نكون واقعيين ولا مناهضين للواقعية"، وبالنسبة لرورتي فإن هذا الإجماع يمثل "اختراقاً إلى عالم فلسفي جديد". بطبيعة الحال فإن العالم الفلسفي بالنسبة لفاين وبراندون وديفيدسون لا يتألف من الرفض السلبي المحض للمناقشات التقليدية حول الواقعية. بل إن كلاً من هؤلاء الفلاسفة يبين لنا، كل بطريقته الخاصة، كيف يمكننا أن نتصور التزاماتنا المعيارية تجاه عالم من الأشياء الموجودة دون الوقوع في النمط الديكارتي في وصف علاقتنا بهذا العالم. إن المعايير التي تحكم صحة ادعاءاتنا، بما في ذلك الادعاءات الوجودية، في العلم بقدر ما هي في اللاهوت، تنبع من الالتزامات المادية المتأصلة في ممارساتنا اللغوية، أو في التوافق الشامل لشبكة معتقداتنا. أو كما يزعم آرثر فاين في خطابه الرئاسي للجمعية الأميركية للطب النفسي، والذي أعيد طبعه في هذا المجلد، يمكننا أن نجد هذه المعايير في الموضوعية الضمنية في إجراءاتنا للتعامل مع منتجات الاستقصاء. وفي كل حالة، نستغني عن مشاكل نظرية المعرفة الديكارتية، حتى نتمكن من التخلص من الانشغال بتلك الأسماء الفلسفية التي يحب رورتي استخدامها بأحرف كبيرة من أجل التنديد بوضعها شبه الصوفي: الحقيقة، العالم، الواقع، الطريقة التي تكون عليها الأشياء حقًا، وما إلى ذلك. إن رورتي يحاول في كثير من الأحيان استخدام نقده البراجماتي للفلسفة التحليلية ليقترح ما يبدو وكأنه تغيير بسيط في الموضوع. فبدلاً من الحقيقة أو الواقعية، ينبغي للفلاسفة أن يهتموا أكثر بالليبرالية السياسية أو الضمائر المعذبة. ويوضح هذا المجلد أن قِلة من زملائه البراجماتيين الجدد على استعداد للتخلي عن انتقاد الموضوعات القديمة. ويوضح باري ألين السبب وراء ذلك. فهو يشير إلى أن الأمل ليس نقيض المعرفة ولا بديلاً عنها؛ بل على العكس من ذلك، فهو يحتاج إلى دعم المعرفة. ويشير ألين إلى أن اقتراح رورتي بالتخلي عن الأخيرة والتحول إلى الأولى يرتكز على انكماشيته العدوانية المفرطة فيما يتصل بموضوعات نظرية المعرفة التقليدية. وربما يكون ألين قد قرأ الكثير في المبالغة البلاغية، كما يشير لودفيج ناجل. ويشرح ناجل الانتقال من العقل إلى الأمل في كتاب رورتي وجيمس. ومن خلال التأكيد على "أولوية العملي"، تعمل البراجماتية على نقل البعد الموجه نحو المستقبل من التجربة الإنسانية إلى دائرة الضوء الفلسفية. إن النقطة هنا ليست أننا يجب أن نتوقف عن الحديث عن العقل وما يمكننا أن نعرفه، وأن نتحدث بدلاً من ذلك عن الأمل وما ينبغي لنا أن نفعله. بل إن البراجماتية تهدف إلى إظهار أن العقل والمعرفة يستندان إلى السلوك العملي، وبالتالي فإنهما يوجهان المستقبل بطبيعتهما ولا يمكن اختزالهما؛ وإذا فهمنا الأمر على النحو الصحيح فإننا نعتبرهما قريبين من الأمل. وبالتالي، وبصراحة شديدة، لا يمكننا أن نسعى إلى المعرفة دون وجود تصور ما لليوتوبيا في الخلفية. ولعل أولوية الجانب العملي تشكل الرابط الأعمق بين البراجماتية الأميركية وظاهراتية هيدجر التأويلية، لذا فإن مقال ناجل يفتح آفاق بناء جسر إلى القارة. وهو واحد من ثلاثة مقالات فقط في هذا المجلد تقوم بهذا على نحو فعال. إن جوهر ادعاء ألين، بأن البراجماتية الجديدة لابد وأن تبذل المزيد من الجهد لتبرير مواقفها الانكماشية إذا كانت تريد أن تكسب الحق في قلب الفلسفة الأنجلوفونية التقليدية رأساً على عقب، قد تطور بشكل أكثر دقة في المقالات التي كتبها ألبرشت ويلمر، وولفجانج ويلش، وجوزيف مارغوليس، وهيلاري بوتنام. فقد أعادوا الحقيقة والمعايير والتمثيلات والواقعية إلى مسرح البراجماتية الجديدة، وبالتالي سلطوا الضوء على مدى صعوبة قبول حتى أكثر المطالبات المركزية للبراجماتية الرورتية. في هذا الصدد يشير ويلمر، على غرار البراجماتيين المتعاليين الألمان مثل يورجن هابرماس وكارل أوتو آبل، إلى أن الحقيقة تشكل نقطة محورية في التحليل الفلسفي حتى بدون استخدام حرف كبير. ويهدف البراجماتيون إلى تحويل الأسئلة حول حقيقة الادعاء إلى أسئلة حول تبرير الادعاء، أو، على حد تعبير سيلارز وبراندون، إلى أسئلة حول الفضاء الاجتماعي للأسباب. وفي القيام بذلك، يؤيدون نظرية انكماشية للحقيقة. فالمحتوى المزعوم يكون صادقًا على وجه التحديد عندما يتم تأكيد هذا المحتوى وبالتالي يتم تبنيه في ممارسة تقديم وطلب الأسباب. وفي مواجهة هذا الموقف، يزعم ويلمر أن فكرة معايير التبرير تشير ضمناً إلى "ادعاءات حقيقة متجاوزة للسياق وعابرة للذات". ويشير ويلمر، مستعينًا بفيتجنشتاين، إلى أن بعض الادعاءات يجب أن تظل ثابتة حتى يتمكن مجتمع الباحثين من التساؤل أو الشك أو التبرير. إن هذا الثبات هو معياري، ولكن ليس بنفس الطريقة التي تحكم بها المعايير التي تحكم التبريرات داخل الإطار. إن بعض معايير الحقيقة المعصومة من الخطأ والمستقلة عن السياق تعمل كشرط لإمكانية وجود مساحة الأسباب، وبالتالي يجب أن تفترضها البراجماتية المتسقة. تفترض الانكماشية هذه المعايير، لكنها لا تستطيع التعبير عنها. في هذه الحجة، قد يقلل ويلمر من تقدير مرونة قابلية الخطأ الجزئية لرورتي ديفيدسون؛ في حين أن جميع معتقداتنا عرضة لإعادة نسج شبكة المعتقدات باستمرار، لا يمكننا تغييرها كلها دفعة واحدة. كما زعم فيتجنشتاين، لا يوجد شيء في المعتقد نفسه يحدد أنه ثابت؛ ما هي المعتقدات التي تصادف أنها ثابتة بالنسبة لثقافة ما تخبرنا بالكثير عن الثقافة، وليس المعتقدات. ومع ذلك، تُظهر ورقة ويلمر أن المشاكل التي تحاول البراجماتية تركها وراءها برفضها لنظريات المطابقة للحقيقة يمكن إعادة إنتاجها داخل الموقف البراجماتي. في حين يتفق رورتي وبراندون مع عكس هيجل لالتزامات كانط الموضوعية، يمكننا أن نقول إن ويلمر يعيد تقديم وجهة النظر الكانطية إلى المشهد البراجماتي. كما يحلل ولفجانج ويلش بنية ومكانة الحجج في كتابات رورتي. ومن المثير للاهتمام أن استنتاجه يتوازي بشكل عميق مع استنتاج ويلمر. تقدم براجماتية رورتي الجديدة نفسها باعتبارها "نوعًا من الكتابة" حيث يحل الإقناع الخطابي محل الحجة، لكن قوة خطاب رورتي المناهض للفلسفة تعني المعايير ذاتها التي تجعل الحجج التقليدية ممكنة. يميز ويلش بين مفهوم أساسي للحجة، يفترضه أسلوب رورتي "المناهض للحجة"، ومفهوم أكثر مرونة للحجج باعتبارها ألعابًا لغوية على غرار ليوتار. وفقًا للمفهوم الأساسي، لا يمكن أن تتم الحجج إلا على أساس مفردات مشتركة، وأساليب، ومعايير للأدلة، وما إلى ذلك. نظرًا لأن رورتي يريد منا التخلي عن المفردات الأساسية للفلسفة التمثيلية، فإنه يعتقد أنه لا جدوى من محاولة الجدال لصالح هذا التحول، لأن أي حجة من هذا القبيل ستكون ملتزمة بالأساس ذاته الذي تهدف إلى رفضه. بدلاً من ذلك، يجب علينا ببساطة التوصل إلى أوصاف جديدة دون افتراض أن مفرداتنا المتخيلة حديثًا أفضل بأي حال من الأحوال، أو نهائية. يشير ويلش إلى أن نموذج المحادثة التي أقرها رورتي لها بنيته الجدلية الخاصة، والتي تمكن "الحجة بين المفاهيم". قد لا تشترك الأوصاف الجديدة للبراجماتيين في الافتراضات الأساسية لوجهات النظر التمثيلية، لكن وجهتي النظر تشتركان بالتأكيد في بعض العناصر، مثل الالتزام بالاتساق والترابط، وبعض الهياكل المنطقية، وعدد قليل من مجالات المحتوى المشتركة. فلسفة المحادثة التي يتصورها رورتي ليست مجرد محادثة؛ إنها تستمر في استخدام العقل وتحركاتها البلاغية تروق للميل الفلسفي القياسي لاكتشاف الحقيقة بقوة الحجة الأفضل. إن أغلب ما يعاد إحياء البراجماتية يركز على المناقشات حول رفض الواقعية. وفي تطويره لمفهومه عن الواقعية الداخلية، ينتقد بوتنام رورتي بشدة لإصراره على ضرورة التخلي عن فكرة مفادها أن العلم قادر على "تصحيح" العالم. ويزعم بوتنام أن هذا يقود حتماً إلى النسبية، وهو يعارضها بمفهومه عن مفهوم محدود للحقيقة ينظم كل أشكال البحث. ويرد رورتي بأن بوتنام بذلك ينزلق إلى الوضعية العلمية التي يهدف منهجه البراجماتي إلى تجنبها. ويزعم جوزيف مارغوليس أن هذا الجمود هو نتيجة لتخلف ديكارتي في لغة الفلسفة الناطقة بالإنجليزية الحديثة. ويعجز رورتي وبوتنام عن تجاوز المواقف المتطرفة للوضعية والنسبية لأنهما يواصلان طرح النقطة باستخدام مفاهيم ديكارتية للذات والموضوع. وعلى وجه الخصوص، يربط كل من رورتي وبوتنام (وديفيدسون) أنفسهما بثنائية زائفة: فإما أن تكون الوسطاء (أو "الثالثيات") بين الوعي والواقع في علاقاتية، أو لا وجود لمثل هذه الأشياء على الإطلاق. وهذا يتجاهل خياراً ثالثاً مستمداً من الاستيلاء النقدي الذي قام به هيجل على الواقعية التجريبية التي صاغها كانط. فهناك وسطاء مفاهيميون، لكنهم لا يرتبطون بالواقع؛ بل إنهم يبنونه من خلال تحويل وعينا الواقعي التاريخي. ولا يتطرق مارغوليس إلى تفاصيل هذا الاقتراح هنا. بل يلفت اقتراحه الانتباه إلى وضع المصطلح الذي تبنته البراجماتية الجديدة: فإذا كنا نريد أن نهرب من افتراضات التمثيلية، فلابد وأن نتجنب لغتها أيضاً. وهذا يتطلب منا أن نولي هيجل قدراً أعظم من الاهتمام. إن مساهمة بوتنام في هذا المجلد لا تتعامل بشكل مباشر مع واقعيته الداخلية، ولكنها مع ذلك تشارك في التبادل المثمر بين الأوراق التي قدمها رورتي ومارغوليس وويلمر وويلش. يركز بوتنام على مفهوم الحقيقة في الادعاءات الأخلاقية ويطور وجهة نظر ويليام جيمس القائلة بأن مثل هذه الحقائق تأتي إلى العالم عندما يكون هناك شخصان أو أكثر، وبالتالي تخضع لمعايير تم تطويرها جماعيًا. بطبيعة الحال، يشكك ويلمر في إمكانية وجود معيار للحقيقة الجماعية. وتتلخص استجابة بوتنام البراجماتية في أنه يمكن للمرء أن يلتزم بالحديث عن الحقيقة في الأخلاق على أساس الإجماع الأخلاقي دون الحاجة إلى تأييد نظرية ميتافيزيقية للحقيقة باعتبارها إجماعًا. يبدو أنه حتى مفهوم الحد ليس ضروريًا لنا لمناقشة التأكيدات الأخلاقية على أنها صحيحة أو خاطئة بشكل عقلاني. ويتجه مايك ساندبوت وأنتجي جيملر إلى البعد التاريخي للبراجماتية الجديدة، بما يتجاوز جذورها الواضحة في البراجماتية الأمريكية. ويتتبع ساندبوت عناصر الكليات البراجماتية الجديدة ومناهضة التمثيل إلى لحظات مختلفة من "التحول اللغوي" من راسل إلى ديفيدسون، مسترشدين بتحليل رورتي نفسه لتاريخ الفلسفة الموجهة نحو اللغة. وليس من المستغرب أن يتبين أن فيتجنشتاين وكواين وسيلارز وديفيدسون هم أبطال هذه القصة المألوفة، التي تقدمها ساندبوت هنا للقراء الذين يأتون إلى البراجماتية الجديدة من تخصصات غير فلسفية. وتحلل جيملر أولوية الممارسة كما تظهر في تحليل هيجل للوعي الذاتي. وتثبت بشكل مقنع أن البراجماتية في هيجل أكثر من تلك التي يستمدها البراجماتيون الجدد الذين يزعمون أن عباءته، رورتي وبراندون، من كتاباته. إن رورتي يقتصر في تفسيره لهيجل على المزاعم التاريخية على نطاق واسع. أما براندون فينظر عن كثب إلى إصرار هيجل على الخارجية الجوهرية للمفاهيم ويستخدمها لتأسيس وجهة نظره القائلة بأن المحتوى المفاهيمي قد استنفد بسبب الالتزامات والحقوق الضمنية في الاستخدام المشترك للمفاهيم. ولكن جيملر يزعم أن التفكير بالنسبة لهيجل ليس مرتبطاً بالنشاط العملي فحسب؛ بل إنه في حد ذاته نشاط. ولا يمكن إدراك المعنى الكامل لرفض هيجل للتمثيلية إلا عندما نرى أن التفكير هو فعل وبالتالي يؤثر بشكل تكويني على بيئته. ويتجلى هذا بوضوح في تحليل هيجل للوعي الذاتي في جدلية السيد والعبد. إن عمل العبد ليس مجرد شرط مسبق للفكر المفاهيمي والوعي الذاتي؛ فالعمل هو التحول الواعي للبيئة، وهذا، بالنسبة لهيجل، هو بالفعل كل ما يتعلق بالفكر. وفي هذه النقطة على وجه التحديد نستطيع أن نقدر بشكل أفضل الاقتراح المثمر في مقال ويليام إيجينتون. يُظهِر إيجينتون نفسه باعتباره الممارس الأكثر إخلاصًا للبراجماتية الجديدة والمؤلف الوحيد في هذا المجلد الذي يأخذ مذكرات التحرير على محمل الجد. فهو يربط بين النظرية الأدبية، وينتقل بسلاسة من رورتي إلى لاكان، ومن دينيت إلى جيجيك؛ وهو يعتنق المبادئ الأساسية للبراجماتية الرورتية دون مزيد من المعاناة بشأن معايير الحقيقة المتعالية أو التمثيلات الديكارتية. علاوة على ذلك، فهو يمارس أسلوب رورتي. وبينما يكتب البراجماتيون الآخرون في هذا المجلد نثرًا أكاديميًا تقليديًا، فإن كتابات إيجينتون تقترب من صوت رورتي العامي، وإعادة وصفه غير الرسمية والسهلة على ما يبدو، وربطه المستمر بين الموقف الفلسفي والنظرة الشخصية ("نحن البراجماتيون" في رورتي، و"البراجماتيون مثلي" في إيجينتون). يزعم إيجنتون أن تفسير لاكان للرغبة من حيث المتعة يمكن أن يخدم في التغلب على "الرفض العقائدي" لرورتي لقبول تجارب الشخص الأول الجوهرية وغير القابلة للاختزال والتي لا يمكن وصفها وبالتالي، بالنسبة للاسميين مثل رورتي، خارج المخطط الفلسفي. يهدف إيجنتون إلى إعادة وصف ما لا يمكن وصفه من خلال تجاهل فشله في تحقيق مكانة لغوية وبدلاً من ذلك يتصوره، مع لاكان، كأحاسيس جسدية، واحمرار، وانفعالات. لكننا لسنا بحاجة إلى استدعاء لاكان لإثبات هذه النقطة. كما يوضح جيملر، فإن التركيز على الجسم النشط العامل كمكان للفكر هو العنصر المركزي لمناهضة التمثيل عند هيجل. وبالتالي، عند قراءة مقال إيجنتون بالتزامن مع جيملر، فإنه يخدم في التأكيد على ادعاء مارغوليس بأن البراجماتيين الجدد لم يتعلموا بعد وضع نقاطهم في مفردات تتجاهل حقًا لغة الموضوع والذات. ولكي يتجنب البراجماتيون الجدد المشاكل التي أثارها ويلمر وبوتنام ومارجوليس، فإنهم في حاجة إلى الحديث عن الفكر المجسد.


المصدر

William Egginton and Mike Sandbothe (eds.), The Pragmatic Turn in Philosophy: Contemporary Engagements between Analytic and Continental Thought, SUNY Press, 2004, 262pp


الخرافة والتزوير/ شوقي مسلماني



ثلاث أوراق من دراسة للباحث د. صقر أبو فخر:  

1 ـ 

قال المؤرّخ د. كمال الصليبي: "كنتُ في السابق أتكلم عن الإمارة اللبنانية  وأتّبع غيري في الاعتقاد بأن هذه الإمارة ظهرت وتوطّدت أركانها للمرة الأولى في عهد فخر الدين بن معن، فلما تَوسّعَتْ معلوماتي عن طريق البحث وممارسة المنهج التاريخي العلمي تبيّن لي بما لا يقبل الشك أن ما كنتُ اعتبره، في البداية، إمارةً لبنانية، حسب التقليد المألوف، لم يكن في أساسه إلا التزامًا سنويًا قابلاً للتجديد لجباية الضرائب للدولة العثمانية في بعض المناطق من جبل لبنان، فتاريخ لبنان هو تاريخ توافقي أو تاريخ تواطؤي". 


2 ـ  

قال المؤرخ د. إسكندر رياشي: "جميع المؤرّخين الذين كتبوا للبنان تاريخًا قبل المسيح بألف سنة، وبعد المسيح بألف سنة، كانوا مُخْتَلِقِين، فلكيين ابتدعوا سِيَراً وأبحاثًا وروايات أملتها عليهم تخيلاتهم وبعض القرائن المبهمة التي لا يمكن أن تكون قاعدة صحيحة لكتابة التاريخ. ما كانت الشعوب التي حول لبنان تجد فيه من الخيرات والسعة لتطمع فيه وتخاطر بالقتال لأجله فتحاول اكتساحه وامتلاكه، إذ إنه كان جبلاً ليس فيه مراعٍ لغير الماعز، وليس فيه قطعان غير الدببة والذئاب. وما كان الفاتحون الآتون من الغرب للشرق أو من الشرق للغرب يمرّون بسواحله إلا مرور طريق، وإذا أقاموا فيه لم يكن ذلك طويلاً، ولم يكونوا بأجمعهم يطمئنون إليه، لا من جهة الإعاشة ولا من جهة الطمأنينة من عصاباته المتحصّنة في مغاوره وأغلبها مؤلّف من قطّاع طرق لا يعرفون شريعة ولا شفقة".  


3 ـ 

ومن الحقائق العلمية التاريخية التي استقرّت اليوم تؤكد أن "أبجدية جبيل هي أبجدية أوغاريت ذاتها لكنّها معدّلة أو مختصرة من 30 حرفًا إلى 22 حرفًا. وكل ما فعله قدموس ـ وهو على الأرجح نكديموس الثاني ملك أوغاريت الذي غادر مملكته إلى بلاد اليونان من ميناء جبيل بعد الزلزال الذي أحرقها وخرّبها في عام 1365 ق. م ـ هو أنه نقل تلك الأبجدية من أوغاريت إلى اليونان، وكانت جبيل تقع في النطاق الحضاري لأوغاريت. ولا ننسى أن أوغاريت هي  Gublo، أي جبل، وجبيل هي  Gubla، وكان يُعتقد، إلى عهد قريب، أن مدينة "بيروتي" الواردة في النصوص الأوغاريتية هي نفسها بيروت الحالية، وقد تبيّن أن "بيروتي" هي مدينة مجاورة لأوغاريت وتبعد عنها أربعة كيلومترات. وقد بُنيت "بيروتي" ـ مدينة الآبار ـ عند رأس خليج بحري ـ مثل بيروت تمامًا يؤمّن رسوّاً آمناً للسفن التجارية ـ عدنان البنيّ ـ "قصر الملكة في بيروت الأوغاريتية" ـ  صحيفة الحياة ـ 24/11/1998 ـ وفي هذه الحال تجب إعادة النظر في تاريخ بيروت كي لا يختلط تاريخ المدينتين وكي لا يذهب سدى جهد الآثاريين في لبنان وهم يفتشون عبثًا عن السور الفينيقي لمدينة بيروت  وعن مدرسة الشرائع الرومانية اللذين لم يعثر عليهما قط، على الرغم من الحفريات المكثفة بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في سنة 1990، وبعد الشروع في إزالة ركام الأتربة في وسط بيروت" . 


وطني لن يموت/ الدكتور فيليب سالم


 

خمسون سنة من الحروب، ولا يزال لبنان على طريق الجلجلة؛ إلا أنه لا يزال حياً. ويسألونك كيف يمكن لوطن مثل لبنان الذي يمتلك كل مقومات العظمة، أن ينحدر إلى هذا الذل، إلى هذا الجحيم؟ والجواب عن هذا السؤال، ان السلطة التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال لم تكن على قدر المسؤولية، ولم تتمكن من بناء الدولة. زيادة على ذلك، حصلت في الشرق تطورات خطيرة. أهمها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني والتمدد الإيراني في العالم العربي. وها نحن اليوم في ظل قرار دولي و"اتفاق على وقف إطلاق النار" لتطبيق قرار الأمم المتحدة 1701. والسؤال الكبير هنا هل سيأخذنا هذا القرار الى السلام الذي نريده؟  نحن اللبنانيين الذين نعبد هذا الوطن بعد الله، قلقون على لبناننا،  لأن هؤلاء الذين أخذوه إلى الحرب عنوة، يريدون اليوم إخضاعه عنوة لسلام ليس هو سلامه.  قلقون لأن المفاوضات التي أدت إلى هذا القرار الدولي، لم تعتبر لبنان جمهورية البنانيين جميعهم، بل اعتبرته جمهورية حزب الله. فهذه المفاوضات التي قادتها الولايات المتحدة كانت مفاوضات بين طرفين. الطرف الأمريكي- الإسرائيلي من جهة، والطرف الإيراني- حزب الله من جهة أخرى. لم يكن لبنان طرفاً في هذه المفاوضات.

‏لقد عقدت في 4 كانون الاول ندوة أكاديمية في جامعة القديس يوسف في بيروت وفي المركز الذي يحمل اسمي للدراسات السياسية اللبنانية، عن "الاتفاق على وقف إطلاق النار" في لبنان. تحدث في هذه الندوة خبراء في قرارات الأمم المتحدة، وخاصّة في القرار 1701. كانت نتيجة هذه الندوة أن هذا القرار هشّ، ومؤقت، وأنه لوحده لن يأخذنا إلى السلام. لكنه من دون أي شك فرصة جديدة لبناء السلام. وكم كان من المعيب أن مجلس الوزراء اللبناني ومجلس النواب لم يجرؤا على الدفاع عن لبنان وحقوقه أثناء هذه المفاوضات.  ولكن لو تجرأ لبنان وتكلم، فماذا يا ترى سيقول؟ انه سيقول حتما، كفانا حروبا. لقد شبعت الأرض من الدماء. وكفانا مقاومات تدّعي تحرير فلسطين. تاريخ طويل من الشعارات الفارغة والمضللة. تاريخ طويل من الفشل. نحن شعب يمجد الفشل ونجعل منه أحيانا "نصرا إلهياً". وتعالوا نسأل ماذا كانت نتيجة هذه المقاومات في نصف القرن الماضي؟  كانت النتيجة أن فلسطين لم تُحرّر، بل دُمّر ما تبقى منها. وكذلك دُمّر لبنان صاحب الرسالة وأبو الحضارة. ودُمّر العالم العربي من صنعاء إلى بغداد إلى دمشق.

ويقول لبنان أيضا أن هذه المرة هي غيرها من كل المرات. بعد كل هذه الحروب، وهذا الدمار، وهذا الجحيم، لا نريد فقط "وقفا لإطلاق النار" بل نريد تسوية سياسية تقودنا إلى السلام والاستقرار الدائمين. لا نريد تهدئة تعود بنا للمرة الألف إلى الحروب. نريد السلام. السلام الذي لا يشبه السلام الذي كنا فيه. نريد السلام الذي ليس بعده حروب. وكيف نصل إلى هذا السلام؟ نصل بتطبيق أربعة بنود:  أولا، العودة إلى اتفاق الهدنة وإلى الدستور. ثانياً، تجريد السلاح من جميع الفئات اللبنانية وغير اللبنانية، وحصر السلاح في يد الدولة اللبنانية. ثالثاً، وهو الأهم، تجفيف المال والسلاح المتدفقين من إيران ودول أخرى إلى هذه الفئات. ورابعا، أن نتفق على ألا نقدّم لبنان فِديةً لفلسطين بعد اليوم.

 

وكم رحّبنا بكلام الأمين العام الجديد لـ"حزب الله" عندما قال: "نريد فقط وقف إطلاق النار واحترام سيادة لبنان". ولكن احترام سيادة لبنان أيها السيد يبدأ بكم أنتم. يبدأ بتسليم سلاحكم إلى الدولة والعودة بكم إلى وطنكم. لقد تأخرتم في فصل لبنان عن غزة، فنرجو أن لا تتأخروا في فصل لبنان عن إيران.

وسيقول لبنان أنه خائف لأن هذا الاتفاق الجديد يؤمّن ولو موقّتا السلام لإسرائيل، ولكنه لا يؤمّن السلام للبنان. هذا الاتفاق لا يؤمّن نزع السلاح، إذ أنّ نزع السلاح ليس أكيدا في هذا الاتفاق. ولو كان، لما كانت إسرائيل لتصرّ على منطقة عازلة بين حدودها الشمالية ونهر الليطاني. ونود هنا أن نسأل، قد يكون هناك نزع سلاح جنوب الليطاني ولكن ماذا عن شماله ؟ هل سيكون هناك السلاح غير الشرعي شرعيا؟ ولو كان نزع السلاح وارداً لم تكن إسرائيل لتصرّ على حقها بالدفاع عن نفسها كلما تجرأ حزب الله على مهاجمتها. وليومنا هذا لا نرى أي تغيير في استراتيجية حزب الله للمستقبل. في هذا القرار يتكلمون عن القرار 1701 كما كان قبل الحرب لا كما يجب أن يكون. ونحن نذكر جيدا أنه كنا قبل هذه الحرب تحت مظلة1701، ولماذا لم يؤمن هذا الاتفاق يومذاك السلام لنا؟ ولماذا يا تُرى يصبح هذا الاتفاق اليوم الحلم الذي نسعى اليه؟ 

إن أهم ما جاء في الندوة التي عقدت في جامعة القديس يوسف هو ضرورة اعتبارهذا الاتفاق غير كاف لتحقيق السلام في لبنان، ولكنه فرصة جديدة يجب أن نبني عليها للوصول إلى السلام. هناك ثلاثة تطورات كبيرة قد حدثت تدعنا نرى الضوء في هذا النفق المظلم. التطور الأول، هو انهيار محور الممانعة. لقد فشل هذا المحور في غزة وفشل في لبنان، وفشل أيضا في سوريا. إن ما نراه اليوم في سوريا من تطورات عسكرية وسقوط نظام الأسد وخروج ايران من الساحة وانهيار محور الممانعة، كل ذلك يوفر لنا فرصة تاريخية جديدة لقيامة لبنان. لقد دَمّر هذا المحور فلسطين، ودَمّر لبنان، وزعزع الاستقرار في الشرق كله. والتطور الثاني، هو وجود رئيس إصلاحي جديد في إيران. هذا الرئيس يقول إنه يريد السلام مع الغرب لا العداء له.  وقد يكون حاضرا لإبرام صفقة مع الغرب محورها رفع العقوبات الاقتصادية، البرنامج النووي، والتخلي عن سياسة الحرس الثوري والتمدد الإيراني. والتطور الثالث، وهو الأهم، هناك رئيس جديد في الولايات المتحدة يريد السلام في المنطقة وفي لبنان. هذا الرئيس يؤمن ان إرساء السلام في الشرق سوف يحدّد مكانته في التاريخ. ومن دون أي شك نحن قادمون على اتفاق جديد بين أميركا ترامب وإيران مسعود بزشكيان، سيشكل نافذة جديدة نطل منها على الأمل.

ان وطني لن يموت. هذا وطن متجذّر في التاريخ ومتجذّر في انتشاره في العالم. متجذّر في انسانه العنيد والمتمرد.  في إنسانه الذي يحبه حتى الثمالة.  لقد مرت على هذه الأرض جيوش كثيرة ثم رحلت وبقي لبنان. مر عليه موت كثير وبقي حيا.

ونتوجه إلى أهلنا في المقاومة ونقول لهم إن مسؤولية قيامة لبنان هي مسؤوليتنا، نحن وأنتم. لقد قيل "أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم" . ولكن السلام لا يُعطى. السلام يُصنع. ويجب أن نعترف بأنه لا يمكننا الوصول إلى السلام إذا كنا نحن على خلاف. هذه الأرض هي أرضنا جميعا وليس هناك في الأرض أرض سواها تكون أرضنا.  تجمعنا محبة الأرض ويجمعنا الألم.  كما يجمعنا مستقبل أولادنا.

تعالوا نطلب التوبة عن خطايانا. تعالوا نسقط معادلة "الجيش، الشعب والمقاومة" ونبني معادلة جديدة "الشعب، الجيش والدولة".  تعالوا نبنِ لبنان من جديد. تعالوا نبنِ السلام ليكن شعارنا "ان وطني لن يموت".


*نشر هذا المقال في جريدة النهار الاسترالية في العدد السنوي بتاريخ 20 كانون الأول 2024 .


يَسُوعُ فادِي البَشَر/ الدكتور حاتم جوعيه

                                                   


                                                                   

     ( " قصيدة نظمتها بمناسبة عبد الميلاد المجيد " )                   


إلهَ   السَّلامِ   فَدَيْتَ   البَشَرْ         بعيدِكَ  يفرَحُ   حتى  الحَجَرْ       

فأنتَ  المَلاذُ  وفيكِ  المَآلُ          وأنتَ المَحَبَّةُ  ، أنتَ  الوَطرْ    

وَلولاكَ ما كانَ في الأرضِ عَدْلٌ          ولم  نُبْصِرِ الشَّمسَ ..لا  والقمَرْ    

بدَونِكَ  كنا  ضِيَاعًا عِطاشًا        يَسوُدُ  الأسَى ، والضِّياءُ  انتحَرْ   

فجئتَ  تبثّ   نشيدَ  السَّماءِ        وَمعنى الخلودِ وأسْمَى الدُّرَرْ   

تَوَاضعتَ.. ذُلَّ الصَّليبِ احتضَنتَ        وأنتَ   الإلهُ   العظيمُ   الأبَرْ   

توَاضَعتَ ... دربَ  الفداءِ  مَشَيتَ       نزلتَ إلى العُمقِ .. تحتَ الحَفَرْ  

وَقمتَ وكانَ  انتصارُ الحَياةِ       وإبليسُ ...والشَّرُّ  منكَ  اندَحَرْ      

سَنكرزُ باسمكَ  في كلِّ أرض ٍ       بإنجيلِ   حقٍّ   سَمَا   وانتشَرْ   

ففيكَ   تُحَقَّقُ   كلُّ  الأماني        مَحَوْتَ الذنوبَ  وَعَهدًا  عَبَرْ   

وَجئتَ  بعَهدٍ  جديدٍ   وَديع ٍ        يكونُ  الخلاصُ  لكلِّ  البشَرْ   


حَمَلتَ العذابَ وأنتَ  الإلهُ         وَمُبدِعُ  هذا الوجودِ  العَجيبْ    

وَسِرتَ إلى الموتِ في كلِّ حزنٍ          وذقتَ الإهانةَ ... ذُلَّ الصَّليبْ     

وقمتَ لأجلِ  الخطاةِ   جميعًا         لأجلِ  خلاصِ  جميع ِ  الشُّعوبْ  

"بجُلجُثةٍ  "  كانَ  خطبٌ عَصِيبٌ         بذلتَ  دِماءَكَ  فوقَ  الصَّليبْ    

وَحَلَّ الظلامُ  وَشُقتْ  قبُورٌ        وموتى صَحَوْا.. كانَ يومٌ رهيبْ  

وَقُمْتَ منَ الموتِ رَبًّا عظيمًا         قهَرتَ   المنايا   وزالَ   النحيبْ   

تَحَققَ   ما   قالهُ    الأنبياءُ         وكانَ الرَّجاءُ  بكلِّ  الدُّروبْ  

فأنتَ خلاصِي وفيكَ انتعاشِي         وأنتَ  يَسُوعِي إلهي  الحَبيبْ   

ففي كلَّ  داءٍ  تكونُ الدَّوَاءَ         فأنتَ المُدَاوي وأنتَ  الطبيبْ   

جراحُكَ بلسَمُ  كلِّ الجراح ِ        تزيلُ المَصَابَ وَهَمًّا عَصِيبْ     

 

بميلادِكَ اليُمْنُ...عَهدٌ جديدٌ         وَتقويمُ   كلُّ   الدُّنى   والأمَمْ    

عَليهِ استنارَتْ جميعُ العبادِ         وفيكَ الشُّعُوبَ  عَلتْ   للقِمَمْ     

وَيومَ  وُلِدْتَ  ملائكةُ   اللّ          هِ  بالحَمدِ  كم رَنّمَتْ من َنغَمْ   

وَجاءَ الرُّعاةُ  رَأوْا مَوْلدَ  الرَّ          بِّ  في مِذوَدٍ ...حَمَلا   للنّعَمْ    

مَرَرْتَ  بكلِّ  التجاربِ  لما        ترَعْرَعْتَ  من  دونِ  إثمٍ   وَذمْ   

وَقدَّمتَ  نفسَكَ  نبعَ الخَلاص          ذبيحَةَ    فِدْي ٍ  لِتحيي   العَدَمْ    

صَنَعتَ العَجائبَ ما من  نبيٍّ          يُجَاريكَ  في  الفعلِ   ثمَّ   الكرَمْ   

لأنكَ  أنتَ   الإلهُ   العَظيمُ         مَسيحُ الخَلاصِ   تُزيلُ  الألمْ   

وَقدُّوسُ .. قُدُّوسُ .. رَبُّ الجُنودِ      تسَرْبَلتَ  بالنورِ ... تمْحُو  الظلمْ       

وأنتَ  البدايةُ ،  أنتَ  النهايةُ         .. فيكَ  الوجودُ  ابتدَا  وارتسَمْ