الطرق الملتويه/ غسان م منجد



وكأنني لم اغادر  هذا المكان 

وكأن ألحجاب لم ينكشف عنه 

هل خرجتُ من رحم الارض 

أم من رحم السماء 

وهل يمكن للأنسان أن يخرج  منهما سويه 

أيها الطريق 

كيف آلفتً بيني وبين خطواتي وأنا 

جالسٌ على كرسي متحرك 

تجيئني شفة الاختناق وارى الهاوية تناديني 

وكأنني مدفوع بالطرق الملتوية ومعتقلة من تعاستي 

أوه

أليس هناك بيت أخضر يأويني ويرى فييَّ

إيقاع ٌ إنحدر من فم سماء ولم 

يتلّقاه فم ارض 

أظنُّ أنّ التراب لم ير إلا بأشلائي 

ويحتفي الريح بها 

مَنْ وضع هذه الاساطير 

هذا المرض الكلي الذي لم يُساقُ في شباك 

غابات ويلبس قبعة إخفاءٍ لكي لا يظهر 

على رؤوس صخور  تنفّذ ذراته 

هل كان الفضاء سجادة طائرة وعابرة للغيوم 

السود ولكن بدون مطر 

راهنية الفلسفة في زمن ما بعد الحداثة/ د زهير الخويلدي



مقدمة

شاع استخدام مصطلح "ما بعد الحداثة" في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث استُخدم في البداية على ما يبدو في الفنون البصرية، ثم انتشر إلى مجالات أخرى، بما في ذلك الفلسفة واللاهوت. ليس من السهل تقديم تعريف عام لما بعد الحداثة. ولعلّ نهاية القرن العشرين، بما اتسم به من غموض في مسار التقدم والتراجع، قد خلقت عقلية "نهاية القرن"، حيث رفض الماضي ورغبة عارمة في البدء من جديد. ومن المرجح أن تكون الآمال والمخاوف التي تولدت في مثل هذه الفترة مبالغًا فيها. فماهية قيمة الوعي الانساني في زمن اللايقين والهشاشة والانسيابية والوعي؟ وأي دور للفلسفة في حقبة مابعد الحداثة؟


الانتقال من الحداثة الى مابعدها

نعيش حاليًا في فترة تاريخية تُسمى "ما بعد الحداثة". ما نُطلق عليه "ما بعد الحداثة" هو ببساطة ما حدث بعد الفترة التاريخية التي تُسمى "الحداثة". في التطور التاريخي للفلسفة الغربية، يُمكننا أن نشهد تحولات رئيسية مُختلفة. ما يُسمى عادةً بالفلسفة "الحديثة" بدأ مع ديكارت حوالي عام1630. يُمثل ديكارت انحرافًا عن فلسفة العصور الوسطى القديمة التي هيمنت على الفكر الأوروبي. يتميز الفكر القروسطي بتمسكه بالمرجعيات: الكتاب المقدس وأفلاطون/أرسطو. مع تطور الإصلاح البروتستانتي (القرن السادس عشر)، تم تقويض الاعتماد على المرجعيات الدينية. ومع تطور الكنائس البروتستانتية المُختلفة وتنافسها على السلطة مع الكنيسة الكاثوليكية القديمة، أصبح من غير الواضح أي كنيسة قد يكون لديها فهم صحيح للمسيحية. ومع تقدم العلم أيضًا، انهار نموذج أرسطو القديم للعالم. أدت هذه المُشكلة إلى ابتعاد ديكارت والعديد من المُفكرين الأوروبيين الآخرين عن الاعتماد على المرجعيات الدينية والكلاسيكية. ديكارت "حديث" لأنه يرفض الاعتماد على المراجع القديمة، ويبني حججه على العقل البشري. وهكذا، فإن الحداثة هي إدراكٌ لحدود المراجع القديمة والاعتماد، في المقام الأول، على العقل البشري. ومع تطور هذه النظرة "الحديثة" للعالم، فإنها تشمل العصر التاريخي المسمى "عصر التنوير" بتركيزه على القيم "العالمية" لأوروبا وأمريكا الشمالية الليبرالية والعلمانية والديمقراطية. عادةً ما تضم قائمة كبار المفكرين "الحديثين" رجالًا مثل غاليليو وجون لوك وإيمانويل كانط وإسحاق نيوتن. بلغت طريقة التفكير "الحديثة" ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر بموجة تفاؤل عارمة؛ إذ اعتقد العالم الغربي أن طريقته في التفكير العقلاني العلمي تُحوّل العالم إلى فردوس من الحرية والتفوق التكنولوجي. لقد انهار هذا التفاؤل في النصف الأول من القرن العشرين. عملت الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير والحرب العالمية الثانية مجتمعة كأزمة مستمرة. وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كانت فرنسا قد تعرضت للدمار الاقتصادي، وانهارت الإمبراطوريتان العثمانية والنمساوية المجرية، وكانت ألمانيا في حالة خراب، وانهارت الإمبراطورية الروسية، وتوفي حوالي 15 إلى 20 مليون شخص في أوروبا نتيجة للحرب. ثم جاء الكساد الكبير (1929-1940) الذي كان أسوأ انهيار اقتصادي في التاريخ الحديث. لقد ترك عشرات الملايين من الناس بلا عمل أو دخل. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بحوالي 60 أو 70 مليون حالة وفاة. بلغت الأساليب العلمية العقلانية للعالم الغربي ذروتها بالقنابل الذرية القادرة على تدمير مدن بأكملها. كان استعداد العالم "الحديث" للانخراط في جنون "عقلاني" وعالي التقنية للتدمير الذاتي واضحًا بشكل مروع. بحلول عام 1945 كان العالم "الحديث" قد أصبح أطلالاً في مختلف أنحاء أوروبا ومعظم بقية أنحاء العالم. بدأ عالم ما بعد الحداثة بالتطور على أنقاض العصر الحديث. رأى بعض مفكري العصر الحديث المتأخر تصدعات في بنية العصر الحديث. رأى سورين كيركيغارد (1813-1855) أن عالمه أصبح بلا شخصية بشكل متزايد. رأى فريدريك نيتشه (1844-1900) أن العالم الحديث قد حوّل معظم أوروبا إلى مجرد "قطيع" فقد روحه المستقلة. على الرغم من هؤلاء المراقبين الأوائل المتحمسين، لم تبدأ ما بعد الحداثة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ترك الإيمان "الحديث" بالقيم العالمية للتقدم والعلم والديمقراطية جزءًا كبيرًا من العالم في حالة خراب. أدت أزمة أخرى إلى انهيار العصر الحديث؛ حيث اكتشف علم القرن العشرين حدوده. طُرح مبدأ اللايقين لهايزنبرغ لأول مرة عام 1927. كان فيرنر هايزنبرغ من أوائل مطوري فيزياء الكم. أثبت أنه كلما زادت دقة تحديد موضع جسيم ذري، قلّت دقة معرفة زخمه، والعكس صحيح. لم يكن هذا العجز عن المعرفة نقصًا في القدرة البشرية؛ فلم تكن العلوم الإنسانية بحاجة إلى تحسين بأي شكل من الأشكال. رأى هايزنبرغ العالم كمكان تكون فيه بعض الأشياء، ببساطة، غير قابلة للمعرفة. تُعدّ مشكلة الفوتونات مثالًا آخر على كيف أن العالم نفسه يتجاوز العقل البشري. فالفوتونات هي في الواقع جسيمات ضوئية عند قياسها بطريقة ما، وفي الواقع موجات عند قياسها بطريقة أخرى. لذا، يبدو أن الهوية "الحقيقية" للضوء تعتمد على كيفية مراقبتنا بدلاً من حقيقة أساسية مستقرة. قوّضت سلسلة كاملة من الاكتشافات في الفيزياء خلال القرن العشرين اليقين العلمي للعالم "الحديث". كانت الفيزياء الأكثر تقدمًا في القرن العشرين تثبت أن طبيعة الواقع المطلق كانت في حد ذاتها غير مؤكدة. أثارت هذه المشكلة حفيظة ألبرت أينشتاين (1879-1955) الذي لم يقبل أبدًا تمامًا أن بعض الأشياء ستظل مجهولة إلى الأبد. بهذا المعنى، حاول أينشتاين الحفاظ على قيم العالم الحديث، لكن اتضح في النهاية أن للعقل البشري حدودًا. فماهي علامات مابعد الحداثة؟ وما صلتها بما سبقها من القوى التحديثية وهل ادت الى النكوص والماضوية ام الى السفر نحو المستقبل دون دليل؟

 توجد العديد من العلامات الرئيسية لعالمنا "ما بعد الحداثي وهي: 1) رفض السرديات الكبرى، وما تلاه من إعادة هيكلة للعالم باعتباره 2) "تقليدًا" و"محاكاة" وانفصامًا في الشخصية، و3) تقويض علاقات السلطة التقليدية من خلال التفكيك، و4) ولادة الحركة النسوية.


رفض السرديات الكبرى

كان العالم "الحديث" يُقدّر العقلانية الكونية، إلى حدٍّ كبير، كمفتاحٍ للاكتمال الإنساني، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح المفهوم الغربي لـ"العقل" نفسه موضع تساؤل. غالبًا ما يرتبط التفكير ما بعد الحداثي برفض السرديات الكبرى مثل "التقدم" و"الحداثة" و"العقل". كان الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) من أوائل رواد ما بعد الحداثة. ادّعى ليوتار أن الثقافات تترابط، جزئيًا، لأن الناس داخل ثقافةٍ محددة يؤمنون بسرديةٍ سائدة. بالنسبة لمعظم مسيحيي العصور الوسطى، رُويت هذه السردية في الكتاب المقدس. بالنسبة لشعب اليونان القديمة، رُويت سرديتهم السائدة من خلال هوميروس في الإلياذة والأوديسة. بالنسبة لشعوب أوروبا وأمريكا الشمالية التي عاشت في نهاية القرن التاسع عشر، كان سردهم السائد هو العلم والديمقراطية والفكر العقلاني. حتى مُثُل "الشيوعية" الراديكالية في القرن التاسع عشر تُعدّ جزءًا من تلك الثقافة القديمة (الحديثة). كانت رواية كارل ماركس عن عمال العالم الجماعيين الذين أطاحوا بأسيادهم الرأسماليين وأعادوا بناء العالم كـ"جنة العمال" روايةً سائدةً في الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية؛ أما الشيوعية، فتُعتبر الآن مجرد واحدة من قصص قديمة عديدة أثبتت عدم فعاليتها. يُنظر إلى الروايات الكبرى من قِبَل ما بعد الحداثيين على أنها أساطير جماعية لم تكن ذات واقع؛ فقد كانت جذابةً ومُعتَقَدةً على نطاق واسع، لكنها في أحسن الأحوال كانت أوهامًا جماعية، وفي أسوأها فرضًا للسلطة لم يُلاحظ. بمجرد تحطيم الروايات السائدة، يدخل الناس في فترة من عدم اليقين الشديد، يتلمسون المعاني، وربما يُقدّرون "الأيام الخوالي" عندما كان لديهم رواية شاملة واحدة تُضفي على حياتهم معنى. ومع ذلك، فإن نهاية المعنى التقليدي تُتيح أيضًا للناس فرصةً لخلق معانٍ جديدة لأنفسهم.


المحاكاة الساخرة والأفلام

مع ما بعد الحداثة، نتخلى عن يقين السرد الواحد المتكامل والمُعطي معنى، وندخل في حقبة انفصلت عن اليقين، غارقة في معانٍ "متعددة، متضاربة، غير متجانسة، مجزأة، متناقضة، ومتذبذبة". إن فقدان السرد المسيطر يترك الناس منفصلين عن بعضهم البعض، معتمدين على قصص هوية أصغر حجمًا، مثل العرق أو المكانة الاجتماعية أو الهوايات، لا تجمع إلا مجموعات صغيرة من الناس. يرى فريدريك جيمسون (مواليد1934) عالمنا ما بعد الحداثي عالمًا تتفكك فيه الثقافات وتتفتت المجتمعات اللغوية؛ كل مهنة تزداد عزلة عن غيرها بسبب مصطلحاتها الخاصة ورموزها الخاصة للمعنى. نعجز عن رسم خريطة عالمنا وهو ينقسم إلى زمر وقبائل صغيرة لا تُحصى. كلمة "المحاكاة" تُستخدم غالبًا لوصف هذا العالم الجديد، وهي عمل إبداعي (مثل رواية أو فيلم) يُحاكي صراحةً أعمالًا سابقة لمبدعين آخرين. تعتمد هذه المحاكاة على مشاركة قرّائها/مشاهديها للمعرفة الثقافية للمؤلف. يتناول الفيلم الشهير "بليد رانر" (1982) فكرة "المحاكاة" ويوضحها. في الفيلم، تُعرف لغة الشوارع باسم "لغة المدينة"، ويقول بطل الفيلم (ديكارد): "تلك العبارات غير المفهومة التي كان يتحدث بها كانت لغة المدينة، كلامًا سطحيًا، مزيجًا من اليابانية والإسبانية والألمانية وما إلى ذلك". بهذه الطريقة، نشهد تفتت اللغة والمجتمعات إلى محاكاة. مثال آخر على هذه المحاكاة يظهر في بداية فيلم "الماتريكس" (1999). تمتلك بطلة الفيلم (نيو) نسخة من كتاب فلسفي مهم من عصر ما بعد الحداثة: "المحاكاة والمحاكاة" لجان بودريار (1981). يُخفي نيو نسخًا من ملفات حاسوبه غير المشروعة داخل هذا الكتاب. يقتبس مورفيوس من الكتاب عندما يتحدث إلى نيو عن "صحراء الواقع". لا يحتاج المرء إلى معرفة هذا الكتاب لتقدير الفيلم، ولكن بالنسبة للمشاهدين اليقظين، يعمل الكتاب ليس فقط كـ "محاكاة ساخرة" (اقتباس من مجال آخر) ولكن أيضًا كدليل على موضوع ما بعد الحداثة المهم الآخر في الفيلم: كيف نستبدل الواقع والمعنى بالرموز والإشارات بحيث يصبح الواقع محاكاة للواقع. في فيلم "الماتريكس"، يبيع نيو ملفات حاسوب غير مشروعة تعمل على منح الناس تجربة؛ تلك التجارب هي مجرد محاكاة لتجارب "حقيقية". ولكن بمجرد أن تصبح هذه المحاكاة حقيقية لدرجة أنه لا يمكن للمرء التمييز بين الواقع والمحاكاة، لم نعد مجرد "محاكاة"، بل أصبح لدينا "محاكاة". في فيلم "بليد رانر"، يُوظَّف البطل (ديكارد) لمطاردة مجموعة من "النسخ المتماثلة" التي خُلقت للقيام بأعمال خطيرة في الأجزاء الخارجية من نظامنا الشمسي. إلا أن مجموعة من النسخ المتماثلة هربت وعادت إلى لوس أنجلوس (مدينة الملائكة) لمواجهة صانعها: تيريل من شركة تيريل. هؤلاء النسخ المتماثلون قريبون جدًا من الواقع لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل تمييزهم عن البشر الحقيقيين. يُظهرون الذكاء والولاء والغضب والرحمة وجميع الصفات البشرية الأخرى، حتى أنهم يتفلسفون حول معنى حياتهم. وهكذا، فإن النسخ المتماثلة هي محاكاة حقيقية تمامًا كالبشر الذين صُممت لمحاكاتهم؛ إنها مجرد "نسخ متماثلة". في نهاية الفيلم، نجد أنفسنا أمام احتمال مُقلق بأن بطلنا (ديكارد) قد وقع في حب نسخة متماثلة، وربما يكون هو نفسه نسخة متماثلة. "Simulacra" هي كلمة لاتينية تعني التشابه أو الشبه. إنها تعني إعادة إنتاج بعض الأشياء الأصلية. ولكن في عالم ما بعد الحداثة، فإنها تكتسب معنى أكثر إزعاجًا. في مرحلة ما، تصبح نسخنا تشبه الأصول كثيرًا لدرجة أنه لم يعد من المنطقي التمييز بين الأصل ونسخته. يمكن أن تحل المحاكاة محل الأصل. غالبًا ما يشير مفكرو ما بعد الحداثة إلى حدائق ديزني الترفيهية كمثال على وظيفة الاستبدال هذه. يقول الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو عن حدائق ديزني المختلفة "نحن لا نستمتع فقط بتقليد مثالي، بل نستمتع أيضًا بالاقتناع بأن التقليد قد وصل إلى ذروته وبعد ذلك سيكون الواقع دائمًا أدنى منه" (رحلات في الواقع المفرط). وبالتالي، لدينا التعليق في الفقرة السابقة لمورفيوس في الماتريكس (نقلاً عن جان بودريار) - "صحراء الواقع". يصبح الواقع غير مسلي أو جذاب بما فيه الكفاية بالنسبة لنا؛ نبحث عن واقعٍ خارق نقضي فيه أوقاتنا. "الشارع الرئيسي، الولايات المتحدة الأمريكية" من ديزني هو النسخة المثالية التي رسمها السيد والت ديزني لشارع رئيسي في أوائل القرن العشرين في بلدة متوسطة الحجم في الغرب الأوسط. لكن في ديزني لاند الوضع أفضل: لا جريمة، ولا خمور، ولا تشرّد، ولا رجال أعمال غير أمناء أو محتالين. مثال آخر قد يساعدنا على فهم "المحاكاة" هو التفكير في النقود. في الأصل، كانت البنوك تحتفظ بكميات كبيرة من الذهب والفضة لضمان قيمة نقودنا الورقية. وبحلول أواخر القرن العشرين، أصبحت هذه البنوك نفسها تحتفظ في الغالب بسجلات حاسوبية تعمل كبديل للذهب والفضة. عندما يحتاج الشخص إلى شراء شيء ما، كان بإمكانه الذهاب إلى البنك والحصول على نقود ورقية: نقدًا. أما اليوم، فيستخدم الكثيرون بطاقات الائتمان/الخصم (أو هواتفهم الذكية) لدفع ثمن مشترياتهم. غالبًا ما يتم تجاهل النقود الورقية والذهب تمامًا؛ وقد حاولت بعض المتاجر في أوروبا السماح بالمعاملات الإلكترونية فقط. وهكذا، فإن الشيفرة الحاسوبية التي كانت في الأصل "محاكاة" للنقود النقدية (والتي كانت في الأصل "محاكاة" للذهب والفضة) أصبحت اليوم بالنسبة للكثيرين أكثر واقعية من النقود. أصبحت بطاقات الخصم/الائتمان الخاصة بنا الآن نقودًا "حقيقية"؛ وأصبحت بطاقات الائتمان/الخصم الخاصة بنا "محاكاة". في فيلم "هي" (2013)، تعمل الشخصية الرئيسية (ثيودور تومبلي) في كتابة رسائل حب لأشخاص يشعرون بعدم قدرتهم على كتابة مثل هذه الرسائل بأنفسهم. يقع في حب نظام تشغيل حاسوبه (مثل سيري أو أليكسا). وبصفته كاتب رسائل حب يستخدمها أشخاص لا يعرفهم، يُظهر البطل أن غياب العلاقة الشخصية لا يلغي الحاجة إلى الحميمية. حتى رسالة حب يكتبها غريب ويهديها لغريب آخر لها معنى. ثم يتم دفع هذا التباعد في الحميمية إلى أبعد من ذلك في قصة حب بين رجل بشري (ثيودور) ونظام تشغيل حاسوبه. تتمكن مجموعة من أكواد الحاسوب المعقدة من محاكاة علاقة حميمة لدرجة أن علاقة ثيودور بحاسوبه هي علاقته الحميمة؛ بالنسبة لثيودور، فإن محاكاة حاسوبه للحميمية تشبه إلى حد كبير الحميمية الحقيقية لدرجة أنه يقع في حب حاسوبه (المُحاكي).


ما بعد الحديث كشخص مصاب بالفصام

من الأعراض الرئيسية لوجود ما بعد الحداثة (أولها تشكك فرنسوا ليوتار في السرديات الكبرى) تصور فريدريك جيمسون للطبيعة "الفصامية" للحياة المعاصرة. يستعير جيمسون من جاك لاكان (1901-1981) فكرة أن الفصام نوع من اضطراب اللغة. نعتمد على اللغة لفهم أفكار الماضي والحاضر والمستقبل. عندما يفشل الناس في دمج اللغة بشكل كامل في فهمهم للعالم، يُصابون "بالفصام"، فلا يعودون يعيشون في عالم يتميز فيه الماضي والحاضر والمستقبل. بل، كأشخاص "ما بعد حداثيين"، نعيش في عالم يستحيل فيه مثل هذه التمييزات الزمنية. بصفتنا "فصاميين"، نحن معزولون عن بعضنا البعض ومنقطعون عن المستقبل والماضي؛ لا يوجد سوى الحاضر المستمر. بدون إحساس مُصمم بالزمن، تُضعف هوية الإنسان الشخصية، لأن جزءًا كبيرًا من هذا الإحساس بالذات هو "المشروع" الذي تُشارك فيه الحياة البشرية. بافتقار المرء إلى الإحساس بالمستقبل، يعجز عن تحفيز نفسه نحو مستوى أعلى من الإنجاز. حكاية الشخص البالغ من العمر 32 عامًا، الذي التحق ببعض المقررات الجامعية لكنه لم يُكمل دراسته الجامعية، ويعمل في وظيفة بدوام جزئي بأجر زهيد، ويعيش في قبو والديه، تُشير إلى أن هذا "الفصام" ما بعد الحداثي قد يكون أكثر من مجرد مزحة؛ بل قد يكون أكثر واقعية مما نتمناه. فيلم "ميمنتو" (2000) له خطان زمنيان، أحدهما ملون والآخر بالأبيض والأسود. يتناوب الفيلم بينهما. على الرغم من أن الخط الزمني بالأبيض والأسود هو الأول تاريخيًا، بينما يقع الخط الزمني الملون للأحداث لاحقًا، إلا أن الأحداث الملونة مُرتبة بشكل معكوس. هذا يُحطم مفهوم التسلسل الزمني الواقعي. يتفق معظم نقاد السينما على أن مُشاهد الفيلم يُفترض أن يكون مُرتبًا في حيرة. هذا الارتباك الزمني علامة أخرى على عالم ما بعد الحداثة "المُصاب بالفصام".


الرواية ما بعد الحداثية

يُصنف الروائي الأمريكي ويليام س. بوروز (1914-1997) عادةً كأحد أكثر كُتّاب ما بعد الحداثة تأثيرًا. ويمكننا أن نرى أعماله "مُصابة بالفصام". ومن بين تقنيات الكتابة التي استخدمها أسلوب "التقطيع"، حيث كان يُقطع نصوص مكتوبة سابقًا على الورق إلى كلمات وعبارات، ثم يُعاد دمجها في جمل مختلفة تمامًا. في أعمال بوروز اللاحقة (1981-1987)، نرى مجموعة من القراصنة الأناركيين في القرن الثامن عشر يحاولون تحرير بنما، بينما يُحقق مُحقق من أواخر القرن العشرين في اختفاء صبي مراهق. يجد القارئ نفسه مُمزقًا بين قصتين مليئتين برعاة بقر مُثليين جنسيًا، وآلهة مصرية، وحشرات عملاقة متعفنة. في بعض الأحيان، تتغير هوية الشخصيات. الزمان والمكان والهويات مائعة؛ تُتجاهل حقائق الماضي المقبولة عمومًا. تُعدّ رواية ما بعد الحداثة نقدًا مُستمرًا لمفاهيم الواقعية ووجهات النظر الموضوعية. يُقوّض فهم الزمن نفسه كتطور خطي من الماضي إلى الحاضر، ثم إلى المستقبل. في رواية ما بعد الحداثة، تحدث الأشياء وتتصرف الشخصيات، لكن لا توجد علاقة سببية بين ما يحدث، ولا يوجد واقع ثابت أو زمني للشخصيات. في بعض الحالات، يُعلّق مؤلف رواية ما بعد الحداثة مُباشرةً على تلك الأحداث، وقد يُحاكي أفعال شخصياته/شخصياتها بسخرية. في رواية "امرأة المُلازم الفرنسي" لجون فاولز (1969)، غالبًا ما يُقحم المؤلف سرده مُتأثرًا بشعوره الخاص بعدم اليقين. يقول فاولز: "هذه القصة التي أرويها كلها خيال. لم تكن هذه الشخصيات موجودة قط خارج عقلي". لاحقًا، يُقحم المؤلف سرده مرة أخرى قائلًا: "ربما أعيش الآن في أحد المنازل التي أدخلتها إلى الرواية؛ ربما يكون تشارلز مُتنكّرًا. ربما تكون مُجرّد لعبة".


دريدا والتفكيك

يُعد جاك دريدا (1930-2004) أحد أهم مفكري ما بعد الحداثة. وقد وُصف تحليله للغة والسلطة بـ"التفكيك". وتتمثل عملية تحليله في إدراك أن المعاني تميل إلى التركيز على مجموعة من الرموز.

تميل الثقافة الغربية إلى رؤية العالم كمجموعة من الأضداد الثنائية، حيث يُحتل مصطلحٌ مُميزٌّ المركز، ويُجبر المصطلح الآخر على لعب دورٍ هامشي. ويمكن إيجاد أمثلة على هذا النوع من التفكير في مجموعات المصطلحات التالية: الذكر/الأنثى، المسيحي/غير المسيحي، الأبيض/الأسود، العقل/العاطفة. وفي الثقافة الغربية "الحديثة"، يكون المصطلح الأول في كلٍّ من هذه المجموعات هو المصطلح المهيمن، بينما يُفرض المصطلح الثاني على دورٍ ثانوي. ويزعم دريدا أن الفكر الغربي، في أعمق تحليلاته، يتصرف بهذه الطريقة تمامًا. إن طريقة تحديد الامتيازات تُعطي الأفضلية لمجموعة من الناس على حساب أخرى، وقد سعى أصحاب الامتيازات تاريخيًا جاهدين للحفاظ على امتيازاتهم: الرجال على النساء، والمسيحيون على غير المسيحيين، والبيض على غير البيض. كما تسعى عملية دريدا التفكيكية إلى وضع هذه المصطلحات الثنائية في تفاعل مضطرب ومستمر. إنه لا يريد عكس بنية الهيمنة؛ فالتفكيكية عملية تكتيكية لنزع المركزية تُذكرنا بحقيقة الهيمنة، وفي الوقت نفسه تعمل على تقويض هرمية المصطلحات. تفكيك دريدا هو رفض جذري لأنواع التفكير التأسيسية. إحدى مزايا أنواع التفكير التأسيسية هي بنية الفكر الثابتة؛ فالناس "الحديثون" يفضلون العمل والعيش في مجتمع تكون فيه القواعد والأعراف ثابتة. إن زعزعة هذا الثبات قد يكون أمرًا مُقلقًا للغاية. ولكن إذا كان المرء عضوًا في مجموعة من الناس ثابتين في وضع تابع، فهناك ميزة في تقويض النظام الثابت الذي يضطهد المرء. كان دريدا نفسه عضوًا في مجموعتين من هذا القبيل؛ يهوديًا في ثقافة مسيحية، وشمال أفريقيًا في ثقافة تهيمن عليها أوروبا. وهكذا، رأى نفسه مهمّشًا بسبب نظام السلطة الثابت في حياته. لذلك يميل تاريخ الفكر الغربي إلى التأسيسية بشكل كبير: فبعض الأفكار تُوضع في مركزية، ويعتمد التفكير اللاحق عليها. إحدى الأفكار المركزية في هذا النظام هي المنطق نفسه. يُطلق دريدا على هذا الهوس الغربي بأنواع التفكير المنطقي "مركزية المنطق". منذ عهد أفلاطون وأرسطو (القرن الرابع قبل الميلاد) افترضت الفلسفة الغربية وجود الجواهر: شكل من أشكال الحقيقة العميقة التي تُشكّل أساسًا للمعتقدات الإنسانية الأخرى. لذا، يُجادل دريدا بأن الفلسفة الغربية كانت عملية تحديد هذه الجواهر العميقة ثم التحدث عنها مباشرةً. كلمات مثل الفكرة، والمادة، والسلطة، وروح العالم، والله، كانت ولا تزال بمثابة جواهر تأسيسية. كما يريد دريدا، أولًا وقبل كل شيء، أن يُثبت أن أيًا من هذه المصطلحات لا يمكن أن يوجد بمحض إرادته، بل إن كل مصطلح لا يُفهم إلا في سياق يتضمن نقيضه. لا يُفهم "المثالي" إلا في مقابل "الواقعي". ولا يُفهم مصطلح "المادة" إلا باعتباره الوجه الآخر لـ"العقل". ثانيًا، يريد دريدا تقويض أولوية المصطلح المهيمن ووضعه في تفاعل مستمر لا يستقر في علاقة جديدة من الهيمنة والخضوع. لما يكتب دريدا عن التعارض بين مصطلحي "الذكر" و"الأنثى" (الذي يُعطي في الفلسفة الغربية التقليدية امتيازًا للذكر على الأنثى)، فإنه لا يريد ببساطة عكس هذا الامتياز. إنه يُدرك أن الفكر الغربي يعمل إلى حد كبير كمجموعة من الفئات الثنائية التي تُعطي كل منها معنىً للأخرى؛ فالمصطلحات المنعزلة لا يمكن أن يكون لها معنى. حتى لو استخدمنا كلمة "ذكر" فقط في جملة ولم نذكر "أنثى"، فإن مصطلح "ذكر" نفسه يُفهم على أنه نقيض "أنثى"، تمامًا كما يُفهم مصطلح "أنثى" على أنه نقيض "ذكر". لا يعتقد دريدا أن هذه العلاقات الثنائية قابلة للإلغاء. ما يمكن إزالته، من خلال عملية تفكيك دريدا، هو سيطرة أحد المصطلحين على الآخر.


ما بعد الحداثة ونقد السلطة

يُعدّ هذا الاهتمام بالسلطة جزءًا من فلسفة ما بعد الحداثة. ومن بين انتقادات ما بعد الحداثة للفكر "الحديث" أن هذا الفكر خلّف للعالم إرثًا رهيبًا من السلطة من خلال التمييز الجنسي والعنصرية والهيمنة الاستعمارية. ففي ظل العقلية "الحديثة"، كان الرجال متفوقين على النساء، وهم بطبيعة الحال أكثر ملاءمة لأدوار السلطة؛ وكانت الأعراق البيضاء هي الأكثر عقلانية وعلمية، وبالتالي مُنحت سلطة مناسبة على الأعراق غير البيضاء؛ واعتُبرت دول أوروبا والولايات المتحدة، بصفتها المستفيد الرئيسي من النظرة العالمية العقلانية والعلمية، مُبررة في استعمار بقية العالم. يُعد جون لوك (1633-1704) أحد أكثر فلاسفة أوروبا "الحديثة" تأثيرًا. ويُذكر على أفضل وجه لإلهامه الأفكار التي كتبها توماس جيفرسون في إعلان الاستقلال الأمريكي: أن جميع البشر خلقوا متساوين. يقول لوك: "لفهم السلطة السياسية فهمًا صحيحًا... علينا أن نتأمل في الحالة التي يكون فيها جميع البشر بطبيعتهم، وهي حالة من الحرية التامة في تنظيم تصرفاتهم، والتصرف في ممتلكاتهم وأشخاصهم، كما يرون مناسبًا... دون طلب إذن، أو الاعتماد على إرادة أي شخص آخر" (المقالة الثانية، الفصل الثاني، القسم 4). ومع ذلك، كتب لوك أيضًا دستور مستعمرة كارولينا الأمريكية (1669)، الذي يضمن أن "لكل رجل حر في كارولينا سلطة ونفوذ مطلقين على عبيده الزنوج..." (المادة 110). بالإضافة إلى ذلك، امتلك لوك أسهمًا في الشركة الملكية الأفريقية، وبالتالي استفاد منها مباشرةً، وهي الشركة التي كانت تدير تجارة الرقيق في إنجلترا. لم ير لوك أي تعارض بين إصراره على حرية الأوروبيين البيض واستعباد الأفارقة السود. بما أن الأوروبيين البيض (مثله) كانوا، وفقًا لنظرته للعالم، مجتمعًا عقلانيًا وعلميًا للغاية، بينما لم يكن سكان أفريقيا كذلك، فقد رأى لوك أن للأوروبيين الحق في استعباد والسيطرة على من يفتقرون إلى الأدوات العقلانية والعلمية التي كانت جوهر التفوق الأوروبي. أيضًا، عندما يقول لوك "رجالًا"، فإنه يقصد الذكور البيض الأوروبيين مالكي العقارات، وليس الجنس البشري بأكمله، وبالتأكيد ليس النساء. في الواقع، وجد معظم الرجال الأوروبيين أنه من "الطبيعي" أن تكون لهم سلطة على النساء والأفارقة. لوك ليس من أتباع ما بعد الحداثة؛ إنه مفكر "حديث" يساعد الأوروبيين على التخلي عن نماذج السلطة القديمة. إنه يجادل ضد السلطة الأرستقراطية للملوك والدوقات والبارونات. لقد ساعدت حجج لوك السياسية في تحرير فئة من الذكور الأوروبيين مالكي الأراضي من السلطة التعسفية للأرستقراطيين. لكنها أيضًا أضفت الشرعية على سلطة الذكور الأوروبيين البيض بشكل عام. مهما بدت عبارة "جميع البشر خلقوا متساوين" مُرضيةً لأهل القرن الحادي والعشرين، فإن لوك (في القرن السابع عشر) لم يقصد بالتأكيد إشراك النساء أو الأفارقة في مفهومه للحرية. لقد همّشت كلماته النساء وغير الأوروبيين. لا يريد مفكرو ما بعد الحداثة التقليل من شأن أعمال لوك أو توماس جيفرسون؛ فقد عمل هذان الرجلان في الواقع على زيادة عدد الأشخاص الذين يستحقون أن يُؤخذوا على محمل الجد كأحرار وقادرين على تولي السلطة السياسية والاقتصادية. ساهمت كلماته في تحرير رجال الطبقة الوسطى، البيض، الأوروبيين من الهيمنة الأرستقراطية. لكن لا لوك ولا جيفرسون عملا من أجل التحرر الكامل لجميع الشعوب. بل بإصرارهما على شرعية السلطة السياسية للطبقة الوسطى، الذكور، البيض، الأوروبيين، استبعد لوك وجيفرسون النساء وغير الأوروبيين من هذا النوع من السلطة. ومن منظور ما بعد الحداثة، لم تكن الرؤية التحريرية للوك وجيفرسون "خاطئة" بقدر ما كانت غير مكتملة بشكل جذري.


ولادة الحركة النسوية في زمن ما بعد الحداثة

بما أن النسوية تُعدّ من تلك الانتقادات لتأثير السلطة في عالمنا المعاصر، فمن الطبيعي أن ننظر إلى الحركة النسوية كجزء من التحول الأوسع في النظرة إلى العالم، ألا وهو ما بعد الحداثة. ومن بين السرديات الكبرى التي تقوّضها النسوية التمييز الذي يبدو عالميًا بين الذكر والأنثى، والأدوار الجندرية التقليدية التي تعتمد على هذا التمييز. تجادل جوديث بتلر (مواليد 1956) بأنه لا ينبغي التمييز جذريًا بين "الجنس" و"الجندر". غالبًا ما يُنظر إلى الأول على أنه فئة بيولوجية غير قابلة للاختزال، بينما يُعترف على نطاق واسع بأن الثاني مبني اجتماعيًا. لكن الأشياء المادية (مثل جسد الإنسان) تُفهم من خلال استخدام اللغة، وبالتالي فهي (إلى حد ما على الأقل) خاضعة للبناء الاجتماعي. على الرغم من أن بتلر تعتبر كلمة "ما بعد الحداثة" غامضة جدًا بحيث لا تكون مفيدة، إلا أنها تُجادل بأن تبعية المرأة ليس لها سبب أو حل واحد؛ لا توجد سردية رئيسية لـ"المرأة" تحتاج إلى تجاوز. وكما رأينا، ليس من السهل تعريف مصطلح "ما بعد الحداثة". ومع ذلك، هناك مواضيع أو توجهات معينة تُعتبر عمومًا جزءًا من هذا المصطلح. تشترك النسوية وما بعد الحداثة في نقد مصادر السلطة التقليدية، وخاصة السلطة التي تُخضع جنسًا لآخر. لا تتمتع الذكورة والأنوثة بصفات عالمية؛ فهما مفهومان لا يكتسبان واقعًا إلا عندما يُدرَّسان للشباب الذين يتبنون هذه الأدوار ويبدأون في ممارستها. تُفرض هذه الأدوار في المجتمع؛ ويُعاقَب الناس أو يُكافأون بطرق مختلفة إما لفشلهم أو لنجاحهم في عيش الدور الذي منحهم إياه جنسهم البيولوجي على نحو سليم. تُسمي جوديث بتلر هذه الأدوار الجندرية المُعاشة "الأدائية". نحن كممثلين نُكلَّف بأدوار ذكورية أو أنثوية على أساس نوعهم البيولوجي، ويُتوقع منا أداء هذه الأدوار في حياتنا العامة والخاصة. ولكن كـ"أداءات"، لا توجد حقيقة عميقة لهذه الأدوار التي نؤديها. فكيف ادت هذه الملامح الاساسية الى دخول مابعد الحداثة في صراع مع الحداثة بغية احداث قطيعة معها والتخلص منها؟


هجوم مابعد الحداثة على الحداثة

تعرض مفهوم الحداثة لهجوم فكري من قِبل مفكرين ضمن حركة فلسفية تُعرف باسم ما بعد الحداثة، والتي تطورت خلال القرن العشرين، ويمكن ملاحظتها اليوم في العلوم الإنسانية والاجتماعية. هنا يتم تحديد وجهات النظر المختلفة داخل هذه الحركات الفلسفية، وترصد اختلافاتها، وتختتم بانتقادات موجهة إلى فلسفة ما بعد الحداثة. لقد تلقت الحداثة مراجعات جدرية، حيث أصبحت العديد من ادعاءاتها محل شك وريبة. ولكن ما هي الحداثة التي تسعى تيارات ما بعد الحداثة ومفكروها إلى تقويضها؟ من المفيد النظر إلى الفلسفة من خلال ما تنفيه، ورغم أننا تناولناها سابقًا، إلا أنه يكفي الآن النظر إلى الحداثة في ضوء الأفكار الأساسية الخمسة التالية: [1] الإيمان بالحقيقة والمنهج و[2] الإيمان بالحالات النهائية و[3] الإيمان باستراتيجيات الكشف و[4] الإيمان بالتقدم والرفاه و[5] الإيمان بالحرية والاستقلالية.

يرفض ما بعد الحداثيين هذه المفاهيم الأساسية الخمسة للحداثة. على سبيل المثال، يُعدّ ما نعرفه علمًا من أهم مكونات "الإيمان بالحقيقة والمنهج"، ولذلك واجه العلم معارضة شديدة من منظري ما بعد الحداثة. يدّعي العديد من هؤلاء المفكرين أن السياقات التاريخية وعلاقات القوة داخل المجتمعات قد أثرت على العلم (والعلماء) لدرجة أنه لم يعد من الممكن اعتباره نهجًا موضوعيًا ومحايدًا للوصول إلى الحقيقة. لقد قوّضت عوامل مثل اللغة والسلطة والمجتمع والسياق التاريخي وغيرها دور العقل والتجربة كحالات نهائية يُعتقد تقليديًا أنها أساس الحقيقة. يجادل ما بعد الحداثيين بأنه بدون أساس متين، لا يمكننا بالتأكيد أن نثق بالعلم ومناهجه ونماذجه التي تحاول تفسير آلية عمل العالم. وهذا يُشكك في أي ثقة قد يمتلكها المرء في عالم موضوعي موجود خارج نطاق العقل البشري "هناك" ينتظر من يكتشفه. بدلاً من ذلك، ما ندركه عن العالم ليس سوى بناء بشري متأثر باللغة والسلطة والمجتمع، إلخ. أما فيما يتعلق بالتقدم والحرية، فهما مُقوّضتان للغاية في ضوء رؤية ما بعد الحداثيين للذات التي لم تعد تُعتبر كيانات مستقرة وموحدة. فالشخص، من هذا المنظور، مُحدد اجتماعيًا بالكامل. ومما يُعزز هذه الشكوك أيضًا اللغة التي يرى ما بعد الحداثيين أنها تُمثل الواقع بشكل مباشر، بل تُمثل إشكالية. على سبيل المثال، جادل جان بودريار بأن إدراكنا للواقع مُقوّض في ظل عمليات المحاكاة اللانهائية التي تُنتجها وسائل الإعلام والتقنيات وصناعة الترفيه المتنامية. مع وضع هذه الانتقادات الأساسية في الاعتبار، نلجأ إلى عالم الاجتماع جيمس بيكفورد الذي يعرض أربع سمات مشتركة في فكر ما بعد الحداثة:


[1] رفض اعتبار المعايير الوضعية والعقلانية والأدواتية المعايير الوحيدة أو الحصرية للمعرفة القيّمة.

[2] الاستعداد لدمج رموز من قواعد أو أطر معانٍ متباينة، حتى على حساب الانفصال والانتقائية.

[3] الاحتفاء بالعفوية والتجزئة والسطحية والسخرية والمرح.

[4] الاستعداد للتخلي عن البحث عن أساطير أو سرديات أو أطر معرفية شاملة أو منتصرة.

سبق أن أشرنا إلى هجوم ما بعد الحداثة على الحداثة، ولكن من المهم الاعتراف بأن القناعات التي تقوم عليها عقلية التنوير، ولا سيما الإيمان بالعقلانية والعقلانية والتقدم العلمي، تتناقض مع رفض ما بعد الحداثة قبول المعايير العقلانية والأدواتية. ومن الآمن أيضًا القول إن العديد من ما بعد الحداثيين لديهم مواقف سلبية تجاه العقل والمنطق والعلم، والتي يعتقدون أنها مدمرة في جوهرها. يشيرون إلى الفظائع التي ارتُكبت باسم العقل والعلم، مثل تحسين النسل في ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية، والتي تسببت في معاناة وألم وموت لا يُحصى. في تيارات فكر ما بعد الحداثة، لا سيما في مجال الدين حيث تُفضّل المزاجات الشاملة، بدلاً من المواقف الحصرية في مسائل الحقيقة والوحي، ليس من غير المألوف أن يقوم المؤيدون "بدمج رموز من مدونات أو أطر معانٍ متباينة" في أنظمة انتقائية. إن دمج رموز من مختلف وجهات النظر والتقاليد العالمية الشرقية والغربية لإنتاج "روحانيات" مبتكرة هو شكل من أشكال الانتقائية الدينية الخيالية. إن تناقض بعض هذه الرموز ليس بالأمر ذي الأهمية الكبيرة، لأن ما بعد الحداثيين ينظرون إلى المنطق على أنه مجرد بنى بشرية. ينخرط العديد من ما بعد الحداثيين في السعي إلى "التخلي عن البحث عن الأساطير أو السرديات أو أطر المعرفة الشاملة أو المنتصرة". يُعتقد أن السرديات والأطر الشاملة تُنتج وجهات نظر إقصائية تُبعد وتقمع وتُسكت من لا يقبلون هذه السرديات، التي يراها العديد من ما بعد الحداثيين غير متسامحة وبغيضة. يُنتج الوصول الحصري إلى الحقيقة ديناميكيات قوة يمكن للبعض استغلالها على حساب الآخرين.


نظرة ما بعد الحداثة للأديان

لما بعد الحداثة حضورٌمتجذّر في الدراسات الدينية". ولكن ما هي، وكيف يمكن أن تختلف عن الحداثة؟ إن اسم "ما بعد الحداثة" يوحي بـ"تطور من "الحداثة" إلى ما يليها - "ما بعد"". لقد تناول مُنظّرو الحداثة الكلاسيكيون الأوائل دراسة الدين بموضوعية، ساعيين في كثير من الأحيان إلى التحرر من أي تحيز ديني. اعتبر العديد من هؤلاء المُنظّرين أنفسهم خبراء في الأديان التي يُنظّرون عنها (كما هو الحال مع الطبيب الذي يُعالج المريض). كما كانت المناهج الحداثية خارجية عن دراسة الدين، مما يعني أن الظروف الذاتية للمُنظّر والباحث قد أُهملت من الاستنتاجات التي توصلوا إليها. يرفض علماء ما بعد الحداثة هذه الأفكار، ويُجادلون بأن الموضوعية مستحيلة، أو أنها لا تُمثّل معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق. كما يُشددون على ضرورة دراسة الدين وتفسيره من خلال ذاتيات المتدينين أنفسهم. وبالتالي، لا يعتبر مُنظّرو ما بعد الحداثة أنفسهم علماء أو مؤرخين، ولا يميلون إلى التمييز بين الانخراط في الدين ودراسته. إنهم يُريدون تجنب الانخراط في فحص علمي، ويعتقدون أن التعمق في وجهات النظر الذاتية للمؤمنين الدينيين سيُحسّن فهمهم للدين نفسه. يجد العديد من الباحثين قيمةً في مجالات انخراط علماء ما بعد الحداثة، وخاصةً في دراسة الدين. وعادةً ما تندرج أعمالهم ضمن ثلاثة مجالات واسعة، وإن كانت مترابطة: العرق، والجندر، وما بعد الاستعمار. ويتحدث المؤرخون بإسهاب عن شعبية ميشيل فوكو (1926-1984) لدى علماء ما بعد الحداثة الذين استلهموا وانجذبوا إلى أطروحته حول السلطة. ويعتقد هؤلاء المفكرون أن السلطة تُشكل خيطًا أساسيًا يربط بين النقاشات حول نظريات الدين، وما بعد الاستعمار، والعرق، والجندر .في دراسة الدين، قد يبدو أن منهج ما بعد الحداثة يُقوّض نظريات وأفكار العديد من المنظرين التاريخيين البارزين. إذا كانت المعرفة الموضوعية مستحيلة، فإنها تُلغي فكرة إميل دوركهايم القائلة بأن الدين واقع اجتماعي موضوعي، وأطروحة ماكس فيبر القائلة بأن البروتستانتية كانت موضوعيًا القوة الدافعة وراء صعود الرأسمالية التي جلبت الثروة إلى الغرب، واعتقاد سيغموند فرويد بأن الدين ينتمي موضوعيًا إلى عالم الوهم والاختلاق الناتج عن رغبة في تحقيق أمنية. وهكذا، فإن ما بعد الحداثة، بإنكارها للمعرفة الموضوعية، تُقوّض أي نظرية تدّعي أنها معرفة موضوعية، وتُلغي جوهريًا أي منهج علمي لدراسة الأديان. وقد وجّه منتقدو هذا النهج ما بعد الحداثي انتقادات هنا، جادلوا فيها بأنه إذا كانت المعرفة الموضوعية غير ممكنة و/أو في غياب معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق، فإن ذلك يُقوّض ادعاءات ما بعد الحداثة. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يُشير إلى أن المنهج ما بعد الحداثي يرتكز على فلسفة تُفنّد ذاتها. على الرغم من هذه الانتقادات، يجد الباحثون قيمةً في منهج ما بعد الحداثة لدراسة الدين، إذ يُشكك في فكرة أن "الخارجين عن المألوف" (الباحثين والمنظرين الذين يُجرون البحث) يعرفون بالضرورة أكثر من "الداخلين" (المؤمنين أنفسهم الذين تُدرس دراساتهم). ولا يخفى على أحد أنه في سياق تطور الدراسات الدينية، وُجد العديد من المنظرين الذين كانت لغتهم وأفكارهم ونظرياتهم وتصنيفاتهم مُسيئةً للغاية، وغالبًا ما يكون ذلك من منظور "الخارجي الأعلم". وتميل مناهج ما بعد الحداثة إلى تحدي هذا التفوق وغرس شعورٍ بالتواضع. لكن لا يرى جميع المنظرين أن الحداثة وما بعد الحداثة متنافيتان تمامًا. فعلى سبيل المثال، يرى ألبريشت ويلمر في كتابه "استمرار الحداثة" (1991) وجود تواصل مستمر بين الحداثة وما بعد الحداثة. ويرى ويلمر أن ما بعد الحداثة شكلٌ من أشكال الحداثة أكثر حكمةً وتواضعًا، يتميز بتجارب الحرب والقومية والحركات الشمولية. إنها استمرارٌ لإرث عصر التنوير، ولكن مع قدرٍ أقل من الطوباوية والإيمان بالعلم. ويرى منظرون آخرون، كما سنشير في انتقادات ما بعد الحداثة، أن المجتمع الغربي ليس ما بعد حداثي، بل حداثي، أو على الأكثر، حداثي متأخر. للفكر ما بعد الحداثي صلةٌ بالدين. فمعظم الأديان والنصوص المقدسة تدّعي وجود حقيقةٍ مطلقةٍ عن الواقع من خلال تقديم سردياتٍ شاملة. تُقدّم هذه السرديات مفاهيم حول طبيعة الواقع، والعالم، والبشر، والمستقبل، والآخرة، والله، وغيرها، يعتقد أتباع هذا التيار أنها صحيحة تمامًا لا تقبل الشك. يرى العديد من أتباع ما بعد الحداثة في ذلك طرحًا لأساطير وسرديات ومعارف حصرية تُنفّر بعض الأشخاص. لذا، لا تُرفض ادعاءات العلماء فحسب، بل تُرفض أيضًا الادعاءات المطلقة العديدة التي تطرحها الأديان والنصوص المقدسة وأتباعها. لذا، فإن الادعاء بأن يسوع المسيح هو المخلص والوسيلة الوحيدة للخلاص من الخطيئة والاغتراب عن الله هو ادعاء عقائدي وغير مقبول، وخاصةً لدى أتباع ما بعد الحداثة الذين يُفضّلون روحانيةً أطلق عليها البعض "لاهوت الكافيتريا"، حيث يختار صاحبها ما يشاء من مختلف الأديان والفلسفات ويدمجها في نظام انتقائي ذاتي الصنع. كلما كان هذا النظام أكثر شمولًا، كان أفضل؛ وكلما كان أكثر حصرية، كان أسوأ. فما العمل في ظل تزعزع اليقينيات وتصدع الذات بسبب موجة مابعد الحداثة؟


تحديد المسؤوليات وعالم ما بعد الحقيقة

نُشرت في القرن الحادي والعشرين مقالاتٌ عديدة تُحمّل ما بعد الحداثة مسؤولية جميع مشاكلنا: الركود الاقتصادي، والنسبية الثقافية، وتراجع الديمقراطية، والتفكك الاجتماعي، وضعف الأسرة، وتدهور الأخلاق، ووجود حقائق بديلة، وانتخاب دونالد ترامب. تطورت ما بعد الحداثة كنقدٍ للسلطة، لا كأداةٍ لتعزيز نفوذ الأقوياء أصلًا. عندما يدّعي صاحب السلطة السياسية أن آرائه الخاصة عن العالم "حقيقة بديلة"، وبالتالي لا تقل شرعيةً عن أي حقيقة أخرى، فإنه يستخدم أداةً قديمةً جدًا للتمسك بالسلطة؛ إنه يستخدم الشك، لا التفكيك ما بعد الحداثي. لطالما استخدم أصحاب السلطة أدوات الشك ضد ادعاءات الآخرين. في أوائل القرن السابع عشر، شككت الكنيسة (الكاثوليكية والبروتستانتية) في ادعاءات غاليليو بأن الأرض كوكبٌ يدور حول الشمس. في أواخر القرن العشرين، كان معظم العلماء متشككين في نموذج داروين التطوري. إن حقيقة أن فيزياء الكم ترى أن الأسس النهائية للعالم المادي غير قابلة للمعرفة في بعض الأحيان، لا تقوض الجدول الدوري لعلم الكيمياء أو أساسيات الرياضيات. ما بعد الحداثة ليس ما بعد الحقيقة. ما يميز النظرة العالمية لما بعد الحداثة عن الأشكال القديمة من الشك هو المحاولة الجذرية لفتح الحوار ليشمل أولئك الذين تم استبعادهم بشكل منهجي: النساء، والأشخاص الملونين، والفقراء، والأشخاص الذين يرفضون الهويات الجنسية القياسية. ومع ذلك، من خلال فتح هذا النقاش، يتم إفساح المجال للأقوياء بالفعل لفرض أجنداتهم الخاصة. عندما يستخدم الأشخاص الأقوياء أدوات متشككة للتقليل من شأن قوى ما بعد الحداثة التي تشكك في شرعيتهم، فإنهم ليسوا ما بعد حداثيين. إنهم يعملون ضمن أطر السلطة التقليدية (المتشككة الحديثة). من خلال محاولة إلقاء اللوم على ما بعد الحداثيين الذين يعملون على تقويض أصحاب السلطة التقليديين (أي الذكور، البيض، الأوروبيين الأميركيين، والمعياريين بين الجنسين)، فإن أصحاب السلطة المعاصرين يعملون على الحفاظ على سلطتهم ويلقون اللوم في المشاكل التي خلقوها بأنفسهم على أولئك الذين يفتقرون إلى السلطة؛ وهذا معروف في الدوائر السياسية باسم "إلقاء اللوم على الضحية". فلماذا يقاوم الكثيرون ما بعد الحداثة؟

دعونا نفهم ما بعد الحداثة على أنها لحظتنا الراهنة التي يسودها تشكيك كبير في السرديات الكبرى (مثل التقدم والمسيحية والرأسمالية)، وهي مزيج من الأساليب الفنية، حيث تكون محاكاتنا واقعية لدرجة أنها غالبًا ما تُقبل كواقع، ومحاولة مستمرة لتفكيك السلطة، وتراجع سلطة الرجال البيض. دعونا نفهم أيضًا أن الكثير من الناس (وخاصة، وليس حصرًا، كبار السن من الرجال البيض ذوي الامتيازات) يشعرون بعدم الارتياح في هذه البيئة، ويفتقدون "الأيام الخوالي" التي كانت فيها سلطتهم بلا منازع، وكان العالم الذي يعيشون فيه منطقيًا. لا ينبغي أن نستغرب أن العديد من هؤلاء الناس يقاومون بنشاط عصر ما بعد الحداثة الذي يعيشون فيه. فالأشخاص الذين كانوا، خلال العصر الحديث، يُعتبرون "عاديين" و"أقوياء بحق"، يُجبرون على العيش مع أشخاص لا يشبهونهم. عندما تُطرح مسألة الامتيازات التقليدية وتنهار الحدود بيننا، يفرض "الآخر" وجوده علينا. على الرجال التعامل مع النساء في السلطة؛ وعلى البيض التكيف مع وجود السود في السلطة؛ وعلى المغايرين جنسياً التعامل مع المتحوليين في أحيائهم وعائلاتهم. لا عجب أن يواجه الكثيرون صعوبات في التكيف مع هذا الواقع المتغير.


انتقادات لما بعد الحداثة

تعرضت ما بعد الحداثة لانتقادات كثيرة، ولم تكن حركة شعبية في الفلسفة وفي معظم مجالات الفكر الأخرى. وقد أشار البعض إلى حدودها الجغرافية والاجتماعية. ويزعم هؤلاء الباحثون أن ما بعد الحداثة ظاهرة نخبوية مقيدة بالطبقة الاجتماعية، وتنتشر بين الفنانين والصحفيين على سبيل المثال أكثر من المزارعين والمتقاعدين. ويرجع ذلك إلى أن منطق ما بعد الحداثة في معظم المجالات يخالف البديهة، ولا فائدة منه عمليًا. ووفقًا لستيف بروس، لا تزال المؤسسات الاجتماعية المهيمنة، مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة، خاضعة لسيطرة العقلانية الحديثة أكثر من منطق ما بعد الحداثة. انه "ليس من قبيل الصدفة أن يكتسب مفهوم ما بعد الحداثة شعبية أكبر بين علماء اجتماع الثقافة والإعلام منه بين علماء الاجتماع الاقتصادي والسياسي". انه من الخطأ الادعاء بأن الغربيين يعيشون في ثقافة ما بعد الحداثة: "معظم الناس لا يعتقدون ولو للحظة أنه لا توجد معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق". على سبيل المثال، يميل معظم الناس إلى الاتفاق على أنه إذا أطلق شخص ما على شيء معين اسم دائرة، بينما هو في الواقع مربع، فقد أخطأ في استدلاله، وفقًا لقانون الهوية المنطقية. فالمربع دائمًا مربع، ولا يمكن في أي وقت اعتباره دائرة. يذهب البعض الى أن ثقافة ما بعد الحداثة مستحيلة وغير قابلة للعيش لأن فكرة أننا نعيش في ثقافة ما بعد الحداثة هي مجرد خرافة. علاوة على ذلك، فإن معظم الغربيين يتبنون منطق الحداثة في أمور أخرى، مثل تبني هوية ثابتة. "سواء كانت "الأنا" وشخصية الفرد، بالنسبة للبعض، قد "انفصلت" نظريًا أو انحلت، فإنها لا تزال جزءًا من معرفتنا اليومية العملية التي نؤديها كأفراد. وقد يكون الأمر كذلك بالنسبة للعديد من ما بعد الحداثيين عندما يغادرون القاعة أو يعودون إلى منازلهم من المقهى. بشكل عام، لدى الناس علاقة أقل إشكالية باللغة والذات مقارنةً بالعلم الأدبي. لا تزال العديد من المبررات الاجتماعية والتقنية للحداثة مفيدة في الحياة اليومية، بما في ذلك تصور الإنسان كمتحكم وسيد وخالق في علاقته بالطبيعة، وسعيه نحو الثروة والرفاهية. لذلك، إذا اضطررنا إلى استخدام تسميات محددة لعصرنا، فسنفضل الحداثة المتأخرة على ما بعد الحداثة". لقد وجّه الفلاسفة انتقادات لاذعة لما بعد الحداثة في أماكن أخرى، ولعلّ أشدّها فتكًا المواقف المُحبطة التي تبناها العديد من أنصارها. على سبيل المثال، أليس هجوم ما بعد الحداثي على السرديات الشاملة أو المنتصرة للحداثة يُقدّم هو نفسه مجموعة من السرديات المنتصرة؟ إذا كانت الإجابة بنعم (وهو كذلك بالتأكيد لأنه يرى سردياته الخاصة متفوقة على سرديات الآخرين الذين يختلف معهم، وخاصة الحداثيين)، فإنه يُقدّم سردية منتصرة، وبالتالي يفشل في التفكير وفقًا لمعاييره الخاصة. وكما يقول المثل الشهير: "لا يمكنك أن تجمع كعكتك وتأكلها أيضًا". أما إذا أجاب بالنفي، فإنه يفشل في تأكيد أن آراءه ما بعد الحداثية الخاصة متفوقة على آراء أي شخص آخر، بمن فيهم الحداثيون، وبالتالي لا أحد مُجبر عقلانيًا على تبنيها. علاوة على ذلك، أليست العديد من ادعاءات ما بعد الحداثية مُطلقة، وبالتالي حصرية؟ إذا كان ما بعد الحداثي مستعدًا لرفض المعرفة العلمية استنادًا إلى السياقات التاريخية وعلاقات القوة داخل المجتمعات، أفلا يكون ملزمًا أيضًا برفض آرائه ما بعد الحداثية التي تشكلت هي الأخرى في خضم السياق التاريخي وعلاقات القوة؟ إذا كانت اللغة مجرد مرجعية ذاتية وإشكالية لأنها لا تمثل الواقع بشكل مباشر، ألا ينطبق هذا أيضًا على كتابات ما بعد الحداثي نفسه (أي الأعمال المنشورة والكتب والمقالات الصحفية والعروض التقديمية، إلخ) وحججه التي تُنقل جميعها عبر اللغة. إذا لم تُشر اللغة إلى الواقع بشكل مباشر، فإلى ماذا تشير لغة ما بعد الحداثي، ولماذا يجب على أي شخص أن يأخذها على محمل الجد؟


خاتمة

لهذه الأسباب وغيرها الكثير، لم تُقدم ثقافة ما بعد الحداثة بعد حجة مقنعة تجذب معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع. نقطة أخيرة مهمة يجب مراعاتها هي أن مجالات التركيز في زمن ما بعد الحداثة، والتي عادةً ما تدور حول علاقات القوة، والتي تشمل بالتالي موضوعي النوع الاجتماعي والاستعمار، ليست بطبيعتها مُحبطة أو غير عقلانية أو غير عملية كما هو الحال في معظم نظريات المعرفة في ما بعد الحداثة. ويمكن القول بثقة إن الباحثين العاملين في هذه المجالات يُنتجون أعمالًا قيّمة تسعى إلى إدراج وجهات نظر وأصوات مهملة تاريخيًا في النقاش الفكري. هناك محاولات في مجال دراساتي الدينية، على سبيل المثال، لإدراج أصوات مهمشة سابقًا، مثل أصوات النساء، والأفراد غير التقليديين، والعبيد، والأشخاص الذين خضعوا لسيطرة الأنظمة الاستعمارية، وغيرهم من الفئات المهمشة، وما إلى ذلك. فماهو الزمن الذي يأتي بعد مابعد الحداثة؟ هل هو زمن الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية وفق نموذج الأنثربوسين؟

كاتب فلسفي

بين الحرية والديمقراطية تضيع الشعوب / فؤاد الحاج



دون مجاملات ومقدمات، أطالع كثيراً لكتّاب في صحف ومواقع إلكترونية قلفة منهم يحملون روح الوطنية والقومية ويضعون الإصبع على جروح المواطن تمنحه بلسماً، كما أشاهد منظرين في قنوات فضائيات مرئيّة لا يعلم عددها إلا الراسخون في علوم الفلك، يتحدثون عن حرية التعبير ويخلطون بينها وبين الديمقراطية، منهم من يحمل ألقاب أكاديمية وجامعية وما إلى هنالك من صفات لو أنزلت على الأمم السابقة لحسبناهم من ذوي المعجزات الخارقة أو المنجمين الفلكيين، بعضهم يحمل إضافة للقب الأستاذ والسيد والدكتور وغير ذلك من ألقاب مثل رئيس مركز بحوث أو مدير معهد في دولة كذا أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا، والبعض منهم يحمل لقب الأستاذ الجامعي في معهد كذا في جامعة كذا في أمريكا! وهؤلاء محسوبون على صفوف المثقفين. 

باختصار شديد أقول أن الأمة بحاجة إلى ثورة ثقافية تنفض عنها غبار هؤلاء المثقفون الذين بغفلة من الزمن وبفعل الدولار حصلوا على أوراق تحمل لقبهم الأكاديمي وهم أبعد عشرات السنين الضوئية عن مفهوم الثقافة، لأن الثقافة هي وعي قبل كل شيء بحال المجتمع والأمة، وبين الواقع والتنظير الفوقي من وراء المكتب أو عبر الفضائيات، ضاعت الثقافة حتى تاه المواطن في البلدان العربية وفي المغتربات بحيث لم يعد يدري حقيقة معنى الثقافة والمثقف! وأبسط ما يمكن أن أقوله فيهم أنهم فضيحة الثقافة وعارها في زمن البلطجة والعهر السياسي. 

وبما أننا في مرحلة حرجة تمر بها شعوب المنطقة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ما أحوجنا إلى تكوين الهوية الذاتية لدى شباب الأمة بعيداً عن فذلكات هؤلاء المثقفون الذين أضاعوا هوية الأمة. 

مما تقدم يمكن القول أن المسؤولية التي تقع على عاتق المثقف الوطني والقومي كبيرة وثقيلة جداً لمواجهة الواقع من أجل بناء الوطن والمواطن وهذا ما سنصل إليه من خلال أولاً أن يمتلك المثقف الواعي الجرأة على مواجهة الحالة التي أدت إلى حالة الانفصام بين الجماهير بشكل عام وبين قياداتها التي من المفترض أن تكون من المثقفين، ومنها مواجهة واضعي مناهج التربية والثقافة والتنشئة الوطنية في البلدان العربية. 

من هنا تأتي أهمية ودور المثقف الوطني والقومي، في التأكيد على العادات والتقاليد الحميدة، والقيم الجمالية والأخلاقية، وترسيخ دراسة التاريخ العربي الذي يجب أن تعاد صياغته واكتشافه وكتابته بأيد عربية، ليتسليح المواطن منذ نشأته فكرياً. 

إننا بحاجة إلى هزة داخلية في دواخلنا كي نعيد روح الانتماء إلى أمة كانت أنها من خير الأمم. وأننا بحاجة إلى أن ننفض عن أنفسنا غبار الخوف المتراكم في النفوس بسبب هؤلاء المسخفون وليس المثقفون الذين تسببوا في انهيار الأمة وضياع أحلامها. 

لذلك أقول علينا جميعا وبوعي تام بما تمر به الأمة من هزائم وانكسارات ألا نتحدث عن الحق في حرية التعبير، بل علينا أن نتحدث أكثر عن مسؤوليتنا تجاه حرية التعبير، لنخلق عالم ومجتمع واع أفضل في عصر الإنترنيت والتواصل الاجتماعي بكل أنواعه، بهذا الوعي الجمعي فقط تنهض الأمة من تسلسل كبواتها. 

30/3/2025 


غصات فلسطينية: "جرب" الاحتلال، وفُرقة الاخوان/ جواد بولس

 


أعمل منذ خمسة وأربعين عامًا في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين والمؤسسات الفلسطينية أمام المحاكم الاسرائيلية العسكرية والمدنية ؛ كانت الرحلة صعبة ومنهكة للجسد ومتلفة للأعصاب؛ لكنّها كانت اختياري ورحلتي على دروب الأمل التي حفرها مناضلو فلسطين من أجل نيل حريتهم وبناء دولتهم في حضن وطنهم. تذكرت، وكنت أقرأ اليوم بعض تقارير المؤسسات الحقوقية التي تتابع شؤون الأسرى في سجون ومعسكرات اعتقال الاحتلال، عدة محطات فارقة حصلت معي خلال مسيرتي المهنية؛ كان بعضها محزنا وبعضها مفرحا. وتذكرت كم مرة وقفت فيها أمام سؤالاتهم ولم أجد لهم نصيحة أو جوابا؛ لكننا، رغم الحيرة والشقاء، كنا دائما نحاول معا أن لا يعيينا السؤال ولا تعبث فينا الحيرة؛ ومعا، كنا إذا أغلق السجان أمامنا نافذة أو أوصد بابًا، نفتش عن مخرج، حتى لو كان عبر كوة أو من خلال ثقب ابرة.

هكذا كانوا، أسرى ولكن أحرارا حالمين وقد أقسموا أن "لن نخون العهد يوما" وأن يبقى الصدق والوفاء بينهم ديدنا ودينًا. وهكذا اخترنا، نحن رهط المحامين، أن نكون معهم، رغم أننا كنا على قناعة بأن العدل لا يحلب من أثداء الرصاص، وأن  خوذ الجنود لن تصبح أعشاش يمام، ولا نيران البنادق ستتحول إلى مشاعل سلام. عرفت ذلك وأقسمت أن أقف في طرف التاريخ الصحيح وأن أدافع عن أبناء شعبي المظلومين. حلمت، عساني أبرّد وسادة أسير بندى وردة قطفتها له من بستان حبه، أو بدعاءٍ أزهرَ في صدر أمه، أو ربما عساني أحمل له خصلة من الشمس ولو على ساقي نمله. هكذا كنا يوم كان الوطن عبارة عن فكرة يحلم بها شعب يعيش على قلب واحد بعزم وباصرار، ويوم كانت صلواتهم وأمانيهم تولد من السحاب مثلما يولد قوس قزح ومثله كانت تكبر وتنحني وتغور في الأرض التي كانت لهم هي الحضن وهي القبر وهي منبت العيدان ومربط الفوارس.

خمسة وأربعون عاما كان التراب الفلسطيني "أمتدادًا لأرواح" أبنائه إلى أن وقعت الفرقة وضاعت اليواطر. اليوم، وقد وصل الأسرى، في هذا الزمن المقفر، الى أحلك فترة في تاريخ حركتهم المجيدة، نعيش نحن على صدى الغصات، وهم في الأسر يرابطون على أعتاب جهنم الاحتلال ويدارون ألّا يصطلوا بنارها وهي تندلق قيحا من بثور تملأ جلودهم، أو ألا يسقطوا تحت الضرب والتعذيب أو من الجوع والبرد أو من الشوق والقلق، وبعضهم قد قال لي أن انتظار الموت قد يكون على المرء أصعب من الموت نفسه.

لم تحظ معاناة الأسرى بالاهتمام ولا بالمتابعة التي يستحقونها، خاصة في فترة الحرب الاسرائيلية على غزة. وقد يعود هذا إلى روع تفاصيل المشهد الفلسطيني العام؛ فمن الطبيعي أن تسلط الأضواء على صور القتل والدمار والنزوح في غزة وفي الضفة الغربية، وتبقى قصص الأسرى، رغم فداحة ما ينقل عنهم، قيد النسيان. 

أقول فداحة التفاصيل لأن ما نسمعه من الأسرى وما نقرأه في تقارير موثوقة يفوق العقل، ويدل على جدّية مخطط الحكومة الاسرائيلية بالقضاء الفعلي على الحركة الأسيرة والنيل من أفرادها، ولنا في أعداد عشرات الأسرى الذين سقطوا داخل السجون منذ السابع من أكتوبر 2023  أكبر دليل على وحشية المخطط الاسرائيلي وجديته.

يقول "نادي الأسير الفلسطيني" في آخر تقاريره: "إن المعطيات الواردة تباعا عن سجن "مجدو" من خلال أسرى أفرج عنهم، وكذلك من خلال زيارات الطواقم القانونية, تنذر بكارثة صحية، نتيجة انتشار مرض الجرب (السكايبوس) ، إلى جانب ورود معطيات أخرى تفيد بانتشار أمراض أخرى معدية". لقد نقلت تقارير نادي الأسير صورا موجعة ومقلقة، رواها الأسرى أو محاموهم، وفيها وصف لعمليات التعذيب التي تعرضوا لها وتسببت لبعضهم باضرار جسدية أو نفسية مستديمة. لقد روى بعض الأسرى عن اسلوب تعذيب ابتكره "شياطين" معسكر "سديه تيمان" اسموه "تعذيب الديسكو"، حيث كانوا يضعون الأسير في غرفة ويشغلون فيها موسيقى الديسكو بأصوات عالية جدا ويتركونها ليوم أو ليومين. لقد أفاد بعض الأسرى انهم كادوا أن يجنوا قبل نقلهم تحت الضرب المبرح لجولات تحقيق جديدة.

يعتقل المواطنون من البيوت ومن الشوارع ومن المستشفيات وينقلون الى أماكن لا يعرفونها وهم معصوبو العينين ومقيدو اليدين. يبقون على هذه الحالة طيلة فترة الاعتقال وخلالها ويجبرون على الجلوس إما على ركبهم أو على أقفيتهم، ولا يسمح لهم بالحركة أو بالحديث مع بعض. جاء في التقارير أن الأسرى يعانون من حالات تجويع متعمد ومن البرد الشديد ومن حرمانهم من الاستحمام وعدم السماح لهم بتغيير ملابسهم الداخلية الا بفترات متباعدة ويعانون كذلك من الاعتداءات الجسدية العنيفة التي تنفذ أحيانا برفقة الكلاب. كل هذه الممارسات تنفذ بحق آلاف الأسرى ويحرم المرضى منهم من أي رعاية صحية أو من تحسين ظروف معيشتهم إلى حدها الانساني الأدنى، حتى أدّى كل ذلك الى انتشار الأمراض وأكثرها شيوعا وازعاجا وخطورة هو مرض الجرب الذي  انتشر في معظم سجون ومعسكرات الاحتلال وطال أقسام الأطفال، خاصة المحتجزين في سجن مجدو والبالغ عددهم 160 أسيرا  (من أصل 350 أسيرا طفلا محتجزا في سجون الاحتلال) .  

لا أريد أن أسترسل في ذكر كل ما جاء على ألسنة الأسرى؛ فالأوصاف والتفاصيل تشبه ما قرأناه عما جرى في سجون ومعسكرات أعتى الديكتاتوريات وأقساها، ليس من حيث أساليب التعذيب ووسائله وحسب، بل بتغذيتها بمفاهيم الشر وشيطنة الآخر حتى اعتباره غير جدير بحياة البشر أو بالحياة عموما.

 هذا هو الواقع الذي تواجهه الحركة الأسيرة في أيامنا، والمؤسف أن جحيمها لا يلقى الاهتمام ولا يواجَه بردود صحيحة ومؤثرة؛ فالشعب الفلسطيني يرزح تحت أعباء الفرقة الداخلية والقصف الاسرائيلي والقتل والملاحقات والاغلاقات والقمع اليومي؛ والعالم مشغول بمجاملة اسرائيل واسترضائها، أو بقضاياه الداخلية الحارقة، وبعضه يطلق، من حين لآخر، قليلا من اللوم والتنديد والشجب لسياسات اسرائيل ويضمّنها مواقف ضد جرائمها المرتكبة بحق الأسرى. أمّا أغلبية المجتمع اليهودي فتدعم سياسة الحكومة، وتنحصر معارضتها في الهوامش وتحديدا في تقارير بعض المؤسسات الحقوقية المناهضه للاحتلال. ويأتي دور الجهاز القضائي الاسرائيلي، العسكري والمدني، المتواطىء مع هذه الجرائم. فمعظم من يعملون فيه مطّلعون على ما يجري داخل السجون ويقرأون التقارير أو الالتماسات التي تقدم لهم باسم منظمات حقوق الانسان والمحامين. إنهم يقرأون ويصمتون ويدافعون عن هذه الجرائم ويجدون لها الأعذار والمبررات. من بين هؤلاء سنجد قضاة المحكمة العليا الاسرائيلية وقضاة المحاكم العسكرية الذين يقرأون ويسمعون ويرون الأسرى، عبر شاشات الفيديو وهم مصابون بالجرب وعلاماته الظاهرة أو بالهزال المرضي أو بضعف النطق والبصر وغيرها من الأمراض، يرون ولا يحركون ساكنا، بل يمضون في ممارسة دورهم التاريخي بتحرير قراراتهم اللولبية وفذلكاتهم الفقهية التي تبرر بخواتيمها ممارسات الجنود والسجانين والمحققين وتغضّ الطرف عن الظاهرة، تماما كما فعلوا طيلة سني الاحتلال حين كانوا حُماته وغاسلي جرائمه. 

أكتب عن جميع هؤلاء وهم معدودون على معسكر الأعداء، فماذا أقول عن معسكر الاخوة والأشقاء العرب والمسلمين ؟ عنهم لا ينفع الحديث ولا جدوى ولا أمل منهم. من أين الأمل وفي معظم سجون أنظمتهم يعاني المساجين من أسوأ الأوضاع خاصة إن سجنوا وعدّوا من المعارضين او المخالفين لارادة الحكام أو المرتدين عن "دينهم" ؟ من أين العشم فيهم وجلهم حلفاء لاسرائيل بالعلن وبعضهم بالخفاء أو ساكتون عنها كرمى لعيون أمريكا، أو عن عجز وقصور وعمى. 

يبقى الأمل معلقا على الحركة الأسيرة نفسها؛ لكنني أخشى أنها قد أصيبت بالضعف وبالشلل قبل اصابتها بضربات حكومة نتنياهو وبالجرب. لقد نوهت في الماضي من "ساعة القيامة" وقد كنت أشعر كيف تدق الأسافين في صفوف المناضلين وهم يتعسكرون كمرايا لفصائلهم المتناكفة. كنت أخاف من هسيس الجن وهو يملأ فضاءات فلسطين وأتمنى أن لا يُدخلوه الى قلاعهم، ولكن حصل ما حصل،  وها هي الساعة حاضرة، وغزة تتفسخ وتنزح وتردم وتنزف والضفة تقطع وتلهث وفي السجون يربي الاحتلال الجرب.

خمس وأربعون عاما مضت فماذا ينتظرون والى متى ؟ وانتظار الموت يبقى لدى البعض أصعب من الموت وأحلام سفر. 

قصائد خارجة عن القانون/ الأب يوسف جزراوي



طبعة القاهرة.


# ياليت لو كانَ في دارها الأمريكيّة سطحًا!


وبينما الّليلّ يُسرّجُ خيولهُ/ أمني النفسَ  وياليتَ التّمني يفلحُ وينفعُ/لو كَانَ في داركِ  الأمريكيّة سطحًا/ لتمردت عليّ وغامرت بي/  اعتيله سرًّا أمام مرأى القمر/ كشجرة أدبيّة أتسلقها إليكِ دونَ منجلٍ لحشِّ عذوقكِ/  أحصدكِ قصيدةً قصيدة نصًا نصًا… لَا لكي أستمع لغنوة ( سيجيب باجر) كما يفعل أبناء جيلي/ بل كطاووسٍ/ يسير ببهرجة وزهوٍ/  ريشهُ مهفة/ آسف نسمات الهواء العليل في رُبى سطوحكِ/ بينما أنا المخنوقُ بكِ لا منكِ/ ساتنكر في هذا المساء وارتدي دشداشة ويشماخًا/ أتسلقُ لاهثًّا إليكِ لأقول أنَّ القلبَ محتاجٌ لنبضكِ/إني الجائعُ لرغيفكِ/فربّ القليل مِن خبزِ محبّتكِ يشبعُ مغتربًا مثلي/ اغترابهُ إليكِ بحجم وطنٍ/ فدعيني  اجلس بقربكِ/ أشاهدُ بثّكِ التجريبي لي/ أتعلل معكِ/ على مقربةٍ من عذوق تموركِ/ نتبادلُ أطراف الحديث / نتقاسم التهام المكسرات/ نقرعُ استكان الشاي بالآخر/  وقطعِ الثلج  تبرّد حبات الرقي. 

لا أريدُ سُكرًا أو عسلاً  أو بضع حبات تمر خستاوي مِن عذوقكِ/ بل ان أٌحلّي الشاي بطرفِ أصبعكِ وبنكهة الحنّة الملطخة في يدكِ.

بغتةً رنَّ منبه الهاتف/ كانَ حلمًا/بلى والله بلى حلمًا/ عاودت نومي وإذا بي الحلم يواصلني/ فجاءتني  تشكيني مني  بأن فطورها غدى زقومًا بسببي/  وكأنّها ترجو مِن صمتي التّحدّث إليها/رمقتها بنظرةِ قولٍ: ملامُ من يلومكِ وعاودتُ معانقة وسادتي.

فكيف لي أنَا العراقيّ القادمُ مِن بلادِ الكنغرِ/  أقنعُ الفجر الأمريكي بأنّني جزعتُ مِن بثه التجريبي لي في حلم طلب اللجوء إليّ في المنامِ. فكم تمنيتُ لو كانَ للقصيدة سطحًا لتسلقته كما تسلقتني.

---------+

# ولأنّي (الطابو) الخاصّ بكِ


طفلتي الكبيرة 

أنتِ لستِ مّلكًا عامًا للآخرين 

ولأنّكِ المحتكرة لمطبوعاتي؛ ألا جعلتيني المالكٌ ( للطابو) الخاصّ بكِ..لعلّي أغرد خارج سربكِ.

أتعلمين أنَّ الجهامةَ لا تليق بوداعة فراشةٍ على شاكلتكِ...

وأتدرين بأنّكِ المدينة الوحيدة التي تغري كلمتي للكتابة!

فأكثير عليَّ أن أكتب إليكِ وعنكِ وللقرّاءِ…

فإن كانَ الغصنُ عشًا للعصفورِ 

والوردةُ منصة الفراشة 

والنحلة وسادة للزهرة 

فأنتِ منصتي الّتي أطلق منها كتاباتي...

سأظلُّ أغمزُ  بعيون الأدبِ لقمركِ الغيور منكِ...

عسى تخرج كتاباتي خارج أسوار منصتكِ..

حقًّا كان الله في عوني منكِ!

-------


® يصمتُ حينَ يحكي



بعد القدّاس أوقفتُ سيارتي قرب ميناءٍ لأشتري بلدًا/ حين نزعت ملابسي لكي أعوم فيه/جال في ذاكرتي كيف غرقتُ ذات مرة في بغداد أيام صباي/ ومرّة أخرى في سيدني مع شبيبة رعيتي يومذاك!.

ولا أعلم مَا الّذي جعلني أصدّ ذلك البحر/“دخيلكَ لا تسلّ"/فإنا أن سُئلتني عنها؛ ستجدني كشاطئ يصمت حينَ يحكي اعترفاته الوجدانية/بغتةً عانقتني موجة أتتني من حيث لا احتسب بالقولِ/

يال هذا اليوسف،/ يعزُ عليّ اعترافكَ الفاحشُ بالإنسانية…/ لحظة وصلتُ إلى السّاحل لأخذ شاورًا/ رأيتُ على مرأى مني حبيبان يطالعان كتابًا لي/ ولا أدري كيفَ لم أنتبه أو فاتني القول لهما بعد أن تبادلنا التحايا/في الحياة هنالك ما يستحق أكثر من اضاعة الوقت في قراءتي.

-------

ومضةُ

بغدادُ منذ عام 2006 وأنا تائه بكِ في أرضِ الله الواسعةِ

فكيف ستمضين بي اتدلّني عليكِ؟!.

--------------


لماذا تأخرتي علي ولماذا أتيتي الآن إلي؟


لماذا أتيتي الآن إلي؟

أ لتحذفي الراء من الحاء والباء ؟ أم لأنكِ خسرت معاركك في الحرب عليَّ.. 

مولاتي / أنا الذي متُ حيًّا من بعدكِ؛ وأنتِ عشتي ميتة في بعدي.

ست وأربعون عامًا أنقضت من عمري/ فهل ستعيدين العافية لكتاباتي: كُلّما أنصبُ لكِ الفخاخ أجدني اصطادني! وما من يوم عبدتي لي الدروب إلا وتعثرت بكِ، فيال هذا الشقاء.

يا دجلة العراق 

ذات مرّةٍ حينَ جئتي عندي/ لا لزيارتي بل لتسالي عن بعضكِ الذي نسيته عندي/يومها لذتُ بصمتي كأخرسٍ يجرب حظه بالكلام أو كطفلٍ بدأ للتو النطق/ففاتني ان اسألكِ عن كُلِّي الذي عندك!.

حقٌّا خسئ الشِّعرُ إن لم يكن مصداحًا لك وبقربك / فكيفَ لي ان اعتقكِ مني وأنتِ المأسورة بي؟.

فلا تسألي يا أيّها الأديب البغدادي: ما الذي أبقاك حتّى الآن لي؟!/  إنّهُ سؤالُ صعب والإجابة عليه أصعب / ربّما لأنّي الراكضُ بدربكِ ولا أصلكِ ! / أم لأنَِّكِ القلب الذي خانه نبضي؟!

ما أعرفه أنّكِ أحببتيني ككره الشجرة للفأس  وشتان ما بينَ المعنيين / فعلام أنا المطلوب إليكِ إلى الآن؟.


الديوان يتضمن 100 قصيدة ونصًا نثريًّا وسرديّا...

صدرَ في القاهرة 2025 بطبعة ورقية والكترونية.

إبن النديم وإبن خلدون/ د. عدنان الظاهر



كعادته ، أقحم إبن خلدون نفسه في مسألة " الصنعة " أي تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب وبيّن رأيه في هذه المسألة وهو ليس كيميائياً أصلاً وأكثر.. تكلّم في موضوعات هي أقرب للخرافات والدجل ولَعَمري كيف ورّط نفسه فانكفاَ ثم سقط في وحل الهلوسات التي لا تليق به كمؤرِّخ معروف وعالم إجتماع كما دأبَ البعضُ على نعته ؟ إليكم نماذج من هذه الخزعبلات والترّهات التي كتبها إبن خلدون في مقدمته :

أنهى إبن خلدون كتابة مقدمته في العام 779 الهجري (أي حوالي العام 1358 الميلادي).

كتبها في المغرب وأهداها إلى (…أتحفتُ بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المُجاهد الفاتح الماهد…، أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز إبن مولانا السلطان الكبير المُجاهد المُقدّس أمير المؤمنين أبي الحسن إبن السادة الأعلام من بني مرين) / (الصفحات 5 و6 من المصدر 25). في حين نشطت أغلب وأشهر حركات الإستشراق وترجمات آثار العرب ومخطوطاتهم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد سبق إبنُ خلدون هذا النشاط بأكثر من خمسة قرون من الزمن. معه عذر ولكن، لِمَ أغفل ذكر إبن النديم وفهرسته الأشهر؟ أفَلمْ يسمعْ به أو أن يطَّلعَ عليه؟ لقد ذكر إبن خلدون في مقدمته 

(الصفحة 3) مشاهير المؤرخين من العرب المسلمين أمثال إبن إسحق والطبري وإبن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من الفلاسفة كالغزالي وإبن رشد والكندي والفارابي وإبن سينا والكيميائيين والمشتغلين بصنعة الكيمياء كالمجريطي والمٌغيربي والطغرائي وجابر بن حيان وسواهم. كما ذكر الكثير من مصادر علماء الفقه والشريعة خاصة على الصفحات 261 – 246 من مقدمته. وقد إنتقد غامزاً دقّة المسعودي والواقدي بالقول (… وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات / المقدمة ص 3). كيف يعرف إبن خلدون المسعودي ويجهل مُعاصره إبن النديم؟؟ لو كان إبن خلدون، كما أحسب، قد إطَّلع على فهرست إبن النديم لكان غيّرَ الكثير من مواقفه وآرائه. أو أن الرجل قد عرفه وإطّلع عليه بالفعل لكنه لسبب ما أهمله ولم يأخذ به. 

سأرجع إليه ثانيةً حين أتعرض لموضوعة إبن خلدون وكيمياء الذهب.

 يبدو لي أنَّ الرجل مستودع هائل ونادر للمتناقضات. فقد جمع في رأسه الصرامة الموضوعية التي سبقت زمانها من جانب، والإعتقاد بالخوارق والمعجزات والسحر(المُقدمة: علوم السحر والطلّسمات/ الصفحات 393 - 399) والخزعبلات من جانب آخر. نقرأ نموذجاً من هذه التخريفات التي لا تليق برجل كإبن خلدون على الصفحة 73 من مقدمته ما يلي (… ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهلُ التجربة أنَّ الدجاج إذا غُذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الأبل وأُتُخِذ بيضُها ثم حُضِنتْ عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون. وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المُحضّن فيجيء دجاجها في غاية العِظَم وأمثال ذلك كثير…). هل نُصدّق أن قائل هذا الكلام هو نفسه إبن خلدون صاحب نظريات البداوة والحضارة والعمارة والفساد؟؟ 

هل سمع الناس بسخافات كهذه وهل يليق ب ( مؤسس علم الإجتماع )  أن يتورط بخوض مثل هذه  الخرافات ؟ أريد تفسيراً من المعجبين به  جداً جداً  علماً أني سبق وأنْ بيّنتُ في بعض كتاباتي أنَّ كل ما قاله من أفكار [ سمّاها البعض نظريات !؟ ]  موجوده قبله بعدة قرون منها ما هو مذكور في القرآن  ( وإذا أردنا أنْ نُهلِكَ قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحَقَّ عليها القولُ فدمرّناها تدميرا                                سورة الإسراء الآية 16) وفي سورة النمل ألآية 34 ( قالت إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزّةَ أهلها أذِلّةً وكذلك يفعلون ) أليسَ هذا الكلام في عمران الدول وفسادها الذي أطال إبن خلدون الكلام عنه في مقدمته؟ وبعضها مذكور في القرن الهجري الثاني على لسان بعض خلفاء بني العبّاس ولا سيّما أبو جعفر المنصور. يبقى موضوع تعاونه مع الغازي المغولي ( تيمورلنك ) واستخذائه له في المقابلة التي تمت بينهما خارج أسوار دمشق المحاصرة وتقديمه له معلومات عن أحوال وجغرافية الشمال الإفريقي في عدّة كراسات، حسب اعترافه، وهذا بالطبع عمل إستخباراتي خطير تورّط فيه إبن خلدون لكي ينجو بنفسه  ويدع دمشق وأهل دمشق  لسيوف المغول الغُزاة قتلاً ونهباً وسبياً وحرائقَ ودماراً. هذا هو { عالم الإجتماع !؟ }.


التفلسف يعني التوقع بحسب ميشيل سيريس/ د زهير الخويلدي



تمهيد

ميشيل سيريس ولد في 1930/09/01 و توفي في: باريس بتاريخ 2019/06/01 هو فيلسوف ومؤرخ للعلوم ومؤلف فرنسي. تم قبوله في الأكاديمية البحرية في عام 1949، والتي استقال منها بعد فترة وجيزة، للتحضير للامتحان التنافسي لمدرسة المعلمين العليا في باريس في مدرسة ثانوية باريسية، في عام 1952. باعتباره نورماليان، تم قبوله بعد ذلك بالمرتبة الثانية على قدم المساواة في مجمع الفلسفة في عام 1955. من عام 1956 إلى عام 1958، شغل منصب ضابط بحري في سفن مختلفة تابعة للبحرية الفرنسية: سرب الأطلسي، إعادة فتح قناة السويس، الجزائر، سرب البحر الأبيض المتوسط. وفي عام 1968 حصل على الدكتوراه في الآداب ونشر كتابه الأول "نظام لايبنتز ونماذجه الرياضية" . وتبع ذلك العديد من الأعمال المخصصة لهيرميس مما أكسبه النجاح. وتظل سلسلة «هيرميس» المكونة من خمسة مجلدات تمتد من عام 1969 إلى عام 1980 من أعماله العظيمة. وفي عام 1969 تم تعيينه أستاذاً لتاريخ العلوم في جامعة باريس 1 بانتيون-السوربون. كما قام بالتدريس في الولايات المتحدة، حيث أصبح أستاذاً في جامعة ستانفورد في عام 1984. تم انتخاب ميشيل سيريس لعضوية الأكاديمية الفرنسية في 29 مارس 1990. وفي عام 1994، تم تعيينه رئيسًا للمجلس العلمي الذي أطلقه جان ماري كافادا. يشارك كل يوم أحد، من 2004 إلى 2018، في عمود " معنى الاحداث" مع ميشيل بولاكو. كان ميشيل سيريس، مؤلفًا لما يقرب من مائة عمل ومقال، مفكرًا مشهورًا عالميًا، وكانت أعماله متعددة التخصصات تتعلق بنظرية المعرفة في العلوم والبيئة والفن والفلسفة. كان مؤلفًا غزير الإنتاج، وكان ينشر كتابًا واحدًا تقريبًا في السنة وأحيانًا كتابين. من بين مقالاته الأكثر شهرة: "جماليات كارباتشيو" (1975)، "الحواس الخمس" (1985)، "بوسيت الصغيرة" (2012،) و" قوة الفكر" (2015). لقد كان شخصية فكرية مألوفة لدى عامة الناس. يوجد شارع ميشيل سيريس في مسقط رأسه في آجا (لوت وغارون) حيث أقيمت جنازته في يونيو 2019. فكيف نظر ميشيل الى سيرته الذاتية واضافاته العلمية؟ وماهي رؤيته لمستقبل العالم؟


الترجمة

"أحد أعظم الاكتشافات العلمية هو التأريخ، الذي يسمح بالتوفيق بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية. بدءًا من تكوين الأنظمة الشمسية وحتى ظهور الإنسان على الأرض، يمكننا تأريخ قصة الأصول وبالتالي سردها. ولكنها ليست قصة عظيمة كما في الماضي، مثل الكتاب المقدس على سبيل المثال، الذي يستحضر تصميمًا ذكيًا ومتعمدًا، وخطة إلهية. إن السرد الكبير، كما يقترحه العلماء اليوم، مكتوب بصيغة المستقبل. إنها مشروطة وعشوائية وفوضوية. كان من الممكن أن يتشعب العالم والأنواع ويتطورا بشكل مختلف. لقد استخدمت أيضًا كلمة "السرد الكبير" لأكون ساخرًا بعض الشيء بشأن هؤلاء الفلاسفة الذين يؤكدون أن عصرنا هو عصر "نهاية السرديات الكبرى" في نفس اللحظة التي يؤسس فيها العلم واحدة من أكثر الرؤى تماسكًا للعالم. أستطيع أن أروي هذه القصة العظيمة للإنسانية لأحفادي في المساء كما لو كنت في وقفة احتجاجية، باللغة العامية أو في مؤتمر علمي دولي، باستخدام أدوات مفاهيمية مثيرة للإعجاب. حتى ذلك الحين، كان للإنسان المثقف تاريخ وراءه، لا سيما تاريخ الكتابة، أي ما بين 7000 إلى 8000 سنة من الإنسانية. نحن نعلم اليوم أننا خلفنا 15 مليار سنة من التقاليد المكتوبة، ليس من قبل البشر، ولكن من الطبيعة. لأننا الآن نقرأ الطبيعة كما نقرأ الكتب. اكتشف العلم وعمم فكرة جاليليو بأن الطبيعة مكتوبة، خاصة باللغة الرياضية. أن نفكر في خصوصية وجودنا في العالم. أن نفهم أن البشر لديهم عالم مشترك. البشر يولدون من نفس السلالة. إذن، أولئك الذين غادروا أفريقيا قبل 100 ألف سنة هم إخوة. وهذه ليست معلومة بسيطة هذه الأيام! عندما بدأت التفلسف، كانت الكلمات الرئيسية للفلسفة والعلوم الإنسانية هي: الآخر والاختلاف. اليوم، لم يعد الآخر، بل هو نفسه؛ لم يعد الأمر فرقًا، بل مجتمعًا. في بداية القرن العشرين، كان عدد المزارعين في فرنسا 75%، واليوم 2.3%. وهذا يعني أن الاختراع الرئيسي للعصر الحجري الحديث أصبح الآن مهمشًا. عندما ولدت عام 1930، كان هناك مليار شخص على وجه الأرض. هناك 6 مليارات ونصف اليوم. في عام 1835، كان متوسط العمر المتوقع للنساء 30 عامًا، ويبلغ حاليًا 84 عامًا. يمكن للبشرية أن تدمر نفسها في غضون أيام قليلة، وتكون الولادة على وشك السيطرة عليها، وتتعطل العلاقة مع المرض والألم بشكل كبير، إلى درجة أن الفرد يمكن أن يصل إلى نهاية أيامه دون أن يعاني... حتى مع معدل طلاق لا مثيل له يبلغ حوالي 55٪، لم يبق الرجال والنساء معًا لفترة طويلة، لسبب بسيط هو أنهم يعيشون لفترة أطول! كل هذه التغييرات تعدل بشكل جذري علاقتنا بالحياة، و"وجودنا في العالم". نحن نشهد انقطاعًا مفاجئًا، لا علاقة له بعصر النهضة أو الثورة الفرنسية أو الثورة الصناعية. إنها علاقة جديدة مع جسم الإنسان، ومع الطبيعة، ومع الوجود، تتأسس وتخترع يوما بعد يوم. ولم تتمكن مؤسساتنا من استيعاب وفهم نقطة التحول هذه. منذ العصور الوسطى، انقسمت الفلسفة الأكاديمية إلى معسكرين: معسكر التقليد ومعسكر العقل. في القرن الثالث عشر، أظهر توما الأكويني في كتابه الخلاصة اللاهوتية أن الأسئلة الكبرى يتم حلها بطريقتين: العقل والتقليد. الجامعة الأمريكية اختارت العقل، والجامعة الأوروبية فضلت التقليد. ولا تزال الجامعات، من وجهة النظر هذه، شبه العصور الوسطى. إن الفصل بين العلوم والإنسانيات هو قطعة أثرية جامعية، تم إنشاؤها من الصفر عن طريق التدريس. واتفق على أن يعرف المرء إما الأدب اللاتيني أو اليوناني أو الحديث، أو علم الأحياء أو الفيزياء. ولكن هذا الانفصال المصطنع لم يكن موجوداً عند اليونانيين أو الرومان، ولا حتى في العصر الكلاسيكي. حاول ديدرو في القرن الثامن عشر أن يفهم ما قاله عالم الرياضيات دالمبرت، وترجم فولتير نيوتن. لقد خلقت الجامعة فئة غريبة من الجهلة المثقفين. في مدرسة المعلمين العليا، حصلت بالفعل على شهادة في الرياضيات، لأنني استقلت من الأكاديمية البحرية بسبب المسالمة والاستنكاف الضميري. في ذلك الوقت، بالطبع، التقيت بالماركسيين، لكن رؤيتهم الأيديولوجية للعلم أثلجت صدري. ماجستير في الفلسفة، قام لويس ألتوسير بتدريس "نظريات" تروفيم ليسينكو (1898-1976): عالم الأحياء الستاليني هذا أدان "علم الوراثة البرجوازي" وادعى أنه قادر على فرض الخصائص الوراثية المرغوبة على النباتات، وحتى تحويل نوع إلى آخر حسب الرغبة. كنا نعيش فترة ظلامية. لقد أثارت الفينومينولوجيا اهتمامي أكثر، وخاصة هوسرل، الذي طور أفكارًا مثيرة للاهتمام حول أصول الهندسة. لم يجذبني هيدجر أبدًا بسبب نزعته المحافظة ورؤيته المبتورة لمسألة التقنية. وكتب: "العلم لا يفكر": هذه الجملة سخيفة ومتعجرفة في نفس الوقت. بل إنني أعتقد أنني أستطيع أن أزعم أننا نفكر بشكل أسرع وأسرع في الرياضيات والفيزياء مقارنة بالأدب. وكنت في ذلك الوقت أول من قال إننا بحاجة إلى تأسيس أخلاقيات العلم في عصر هيروشيما. ولنتذكر: بعد مرور عشرين عامًا على إلقاء القنبلة الذرية الأولى على اليابان، واصل غاستون باشلار تطوير النشاط العقلاني للفيزياء المعاصرة، وكأن شيئًا لم يحدث! حتى أنه واصل الحديث عن الهندسة الإقليدية في نفس الوقت الذي كان يتم فيه الحديث عن بورباكي، أي ما يسمى بالرياضيات "الحديثة". بعد أن تدربت في الرياضيات الكلاسيكية، عندما حدثت الثورة في الرياضيات "الحديثة"، التي استحوذت عليها الثورة في مفردات الكمبيوتر، اضطررت إلى تغيير اللغة. ويتعين علينا أن نضيف إلى هاتين الثورتين الشكليتين النموذج البيولوجي، والشفرة الجينية، والحمض النووي، والأهمية الفلسفية التي فهمها عالم الأحياء جاك مونو بوضوح في كتابه "الحصار والضرورة". في وقت تدريبي، قادتني ثلاث ثورات علمية هائلة إلى تغيير اللغات. وكانت الفلسفة تتأرجح على أسسها الخاصة. مع انتصار الرياضيات الحديثة، على سبيل المثال، بدا أن الحساب قد انتصر على المنطق، أي أنه انتهى الى أساس النشاط الفلسفي. ومن هذا التوتر بين ما يمكن حسابه وما يمكن إثباته، استخلصت فكرة أن الهندسة اليونانية ولدت على وجه التحديد لأنها استنفدت موارد الحساب وأنه كان من الضروري اللجوء إلى البرهان. اليوم، تم إثبات جزء كبير من النظريات مع الآلات الحاسوبية. وبالتالي، تم العثور على حقبة كاملة من وظائف المعرفة على جانب ما يمكن حسابه، والحساب والخوارزميات التي لم تأخذها الفلسفة بعين الاعتبار أبدًا. في نظرية المعرفة، نحن دائمًا متخلفون عن العلم. أعتقد أن التفلسف يعني التوقع. بين عامي 1969 و1980، كتبت خمسة مجلدات بعنوان هيرميس، والتي جادلت فيها بأن البشرية ستعتمد على التواصل أكثر من الإنتاج. ثم اتهمني الفلاسفة الماركسيون بكل الشرور. في عام 1990، كتبت "العقد الطبيعي". أنا أتعرض للهجوم من جميع الجهات، مثل لوك فيري في النظام البيئي الجديد بينما نحتفل اليوم بالإجماع بـ "الميثاق البيئي". وكانت انتقادات "العقد الطبيعي" مثيرة للضحك مثل تلك التي وجهت إلى روسو عندما كتب "العقد الاجتماعي". ولم يعين روسو لحظة تاريخية ستخرج فيها الإنسانية من حالة الطبيعة، تماما كما لا يفترض العقد الطبيعي أن تجلس الطبيعة الأم مع البشر إلى طاولة المفاوضات. أقول اليوم إن أحد التحديات المعرفية الكبرى يكمن في التوازن بين الاستدلال والحساب. العصور الوسطى بأكملها موجودة في أرسطو، والعصر الحديث بأكمله موجود في مبادئ ديكارت. أنا لا أقارن نفسي بهؤلاء الأسلاف اللامعين، لكنني أعتبر النشاط الفلسفي بمثابة مشروع للترقب. ولنستخدم عبارة سبينوزا: «ماذا يستطيع الجسم أن يفعل؟» . الجسد يفكر. "أنا الحمض النووي"، قال لي صديقي جاك مونو، الذي التوى عموده الفقري مثل جزيء الحمض النووي وهو يحاول كشف سر وراثة الكائنات الحية الدقيقة، لتوضيح العلاقة بين الجينوم والبروتينات...الجسد مرآة. ماذا يمكن أن يفعل الجسم؟ خذ على سبيل المثال حارس مرمى فريق كرة قدم في انتظار تنفيذ ركلة الجزاء أو لاعب تنس يصعد إلى الشبكة ليلعب الكرة. انظر كيف تناسبها. يمكن أن تأتي الكرة من أعلى، أو أسفل، أو إلى اليمين، أو إلى اليسار، وما إلى ذلك. ولذلك فهو مضطر إلى وضع جسده في وضع افتراضي، شبه مجرد. إنه في حالة جسدية محتملة. إنه في وضع سأطلق عليه "الأبيض". فهو كل الألوان وغياب اللون. لا يمكننا الحصول على صورة أفضل لما يمكن أن يفعله الجسم. على عكس مخلب السلطعون، الذي يمكن تحديد وظيفته، فإن اليد البشرية "بيضاء"، يمكنها الإمساك بالمطرقة وكذلك العزف على الكمان، أو مداعبة أحد أفراد أسرته أو قتل عدوها. هناك بياض في جسم الإنسان. والمفكر الذي على وشك استيعاب مفهوم يجد نفسه في نفس الموقف. ومن هنا تأتي أهمية عدم جعل الكتب هي أدواتك الوحيدة. وهكذا فإن الفلسفة هي نوع من الساعة "البيضاء". يُعد عمل جول فيرن مثالًا نموذجيًا لسرد القصص على أساس علمي، وهو بمثابة حزام نقل هائل بين الناس والبحث العلمي. ورغم أن العلم اليوم يتمتع بسمعة سيئة ــ وهو أمر غريب لأن الصناعة هي التي لوثت الكوكب، وليس العلم، على عكس ما يقوله الناس ــ فإن جول فيرن يشكل حالة جيدة من حالات انتقال العدوى الناجحة. أما تان تان فهو جول فيرن العلوم الإنسانية. تبدأ رواية "الأذن المكسورة" في المتحف الإثنوغرافي، ولديه أصدقاء صينيون أو أمريكيون جنوبيون... ويتزامن عمله مع بدايات الأنثروبولوجيا وتطوراتها. كل ما يتم انتقاده بسببه، أي العنصرية والتعصب العرقي والاستعمار، ولكن أيضًا العبور من تان تان في الكونغو إلى اللوتس الأزرق يتوافق مع المسار الذي سلكه علماء الأنثروبولوجيا المناهضون للعنصرية الذين، مثل مارسيل موس وجيمس جورج فريزر، على الرغم من كل شيء، بدأوا حياتهم المهنية في متحف المستعمرات. غالبًا ما يكون الأسلوب الفلسفي للاستخدام الداخلي في الجامعة. إذا كان على الفلسفة أن تراقب الزمن الحاضر وتتوقع علم المستقبل، وتتمسك بإيقاعه وتفكر بالجديد، فإن الكتابة بشكل غامض ستكون جريمة تقريبًا. ومع ذلك، في البداية، كتبت إلى لجنة تحكيم أطروحتي. ثم فضلت تعريف برغسون الذي ينص على أن الفلسفة يجب أن تكتب بأوضح لغة، وأقرب ما يمكن من اللغة العامية. همشتني الجامعة التي لم تسمح لي بالتدريس في أقسام الفلسفة، ولكن في التاريخ، رحلت أيضًا بأسلوب. لكن الموقف كان صعباً: لم أكن صحافياً، ولا فيلسوفاً، ولا كاتباً. لم أكن شيئا. بدون المكان، لم أكن بالتأكيد مفكرًا يمكن التنبؤ به. ومن المفارقة أنه في الجامعات الفرنسية، كان هناك العديد من كراسي الفلسفة الألمانية، ولكن لم يكن هناك كراسي للفلسفة الفرنسية. الآن نحن نعزف موزارت فقط لأنه كان هناك كيوشيل، باخ فقط لأن هناك تسمية (باخ فيرك فيرزيتشنيس)،وهو كتالوج لا يملكه كوبران ولا بيرليوز في فرنسا. لقد حاولت إنتاج هذا الكتالوج للفلسفة باللغة الفرنسية حتى نتمكن من تجاوز هذا غيض من فيض من الفلاسفة الكنسيين. إن الحديث عن خصوصية الفكر الفرنسي لا زال سابقاً لأوانه. سوف يتشكل الأفق. ربما من الممكن القول بأن الفلاسفة الفرنسيين عمومًا أقرب إلى المقال على طراز مونتين، بعيدًا عن الأنظمة. من الممكن أن يكون مونتاني هو معلمنا العظيم. سيكون فيلسوف الغد العظيم هو من يعيد التفكير في كل شيء، من المعرفي إلى السياسي، لأن كل شيء جديد. ومن المناسب إعادة السؤال الفلسفي إلى مستجدات اليوم. فكيف لنا أن نتصور أن التمثيل السياسي سيستمر في أداء وظيفته بنفس الطريقة بينما ينتشر التصويت للآراء الفردية في المدونات دون أن تؤخذ بعين الاعتبار؟ ومع وجود مساحة جغرافية وعقلية أخرى أسميتها الطوبولوجيا العامة، فإن عمل الفلسفة قد بدأ للتو. نحن نشهد مثل هذا الانقطاع في الأنسنة، ونحن منغمسون فيها، لدرجة أن العديد من مؤسساتنا تشبه هذه النجوم التي نتلقى منها الضوء والتي يخبرنا علماء الفيزياء الفلكية أنها ماتت منذ زمن طويل. " فماهي التوقعات التي يمكن أن تستشرفها الفلسفة حول مستقبل الكوكب ووجهة العالم في الفترة القادمة؟


كاتب فلسفي

هذه المرّة سأنتصر لكِ واتركني وديعة عندكِ!/ الأب يوسف جزراوي



يَا دجلةَ الفرات أغيثيني مِنكِ

أنا يوسفُ إبن ذلكَ الرجل النبيل 

أبي؛ الذي انتقل إلى الضّفة الأخرى مِنَ الحياة 

في الثمانية والأربعين ربيعًا

 ولم يعدْ حتّى الآن -عليه كُلّ المراحم-

ربّما طابت لهُ الحياة في دار البقاء مع الأبرار والصديقين..

وأمّي أمدَّ الله في عمرها 

رغم أنها ارضعتني حليبّا بغداديًّا كثف الدسامة

غيرَ أني لم أنجو مِن هشاشة العظام!.

فعلامَ كلّما مشيتُ بي إليكِ متعبًا

وجدتُكِ معتصمةً بحبل الهودج الّذي يربطكِ بي؟!.

ولماذا كلّما حذرتكِ مني بالقولِ احذريني …

تجيبني بحرف ( الهاء)؛ تنبيهًا أو أستفهامًا.

هذه المرّة سأنتصرُ لكِ..

واتركني وديعةً عندكِ..

عسى إلا تسيء الظن بي…

فمن يدري عساكِ أن تنتصري لي!

ولكن تذكري 

أنَّ في داخلي وطنٌ يحترق 

فيه متسعٌ لناركِ…

لعلّ حرائقكِ تشعُ أضواءها في ظلامي

وما العجبُ

فأنا المحترقُ بكِ منذ أمدٍ!.


من ديوان (قصائد خارجة عن القانون) طبعة القاهرة ٢٠٢٥

لأجلك أهدي أحيلى الورود/ الدكتور حاتم جوعيه



[ نظمتها بمناسبة عيد الام العالمي ( 21 /3 )  )]]  


سأبقى   صبيَّ   الحياةِ    العنيدْ         لاجلكِ   أهدي   أحيلى  الورودْ

بعيدِكِ   أمِّي    سيحلو   النشيدُ          فعيدُك ِ  فَجرٌ    لحلمي   الوليدْ

أطيرُ   غرامًا   واٌمضي   اليكِ          أوَدُّ...   أوَدُّ    عناق    الوجودْ

كفاحُكِ   نَوَّرَ   دربَ   الشُّعوبِ         وأهدَى الشّراع َ الطريقَ الشَديدْ

فكُلُّ    غرام ٍ    يبيدُ      وَيفنىَ         سِوَى   حُبِّنا    ثابتٌ   لا   يبيدُ

سيبقىَ   حنانُكِ   أَسْمى   حنانٍ          ويبقى   نداؤكِ    لحنَ   الخُلودْ

بعيدِكِ   يسمُو    جبينُ     الإلهِ         ويكبرُ    حُبّي    وراءَ   القيود..

ويشمخُ مجدي اللجوجُ  الطموحُ         ويَرْتعُ   حلمي   البعيدُ  الحدُودْ

أحنُّ   لأرضي  التي  علمتني           نشيدَ   الإباءِ   ومعنى  الوجودْ

    

لقدْ  هَدَّ  جسمِيَ  طولُ  السَّهرْ           وكمْ   أرَّقَ   العينَ  تلكَ   الفِكرْ

وأنتِ  الشموسُ  تمدُّ  الضياءَ            ففجري  البهيُّ  الجميلُ   انتحرْ

اليكِ  الفضاءُ... إليكِ  الضياءُ            إليكِ   البهاءُ  الذي   قدْ   غمَرْ

فلولاكِ  ما  كحّلَ  العينَ  نورٌ            ولا ناجتِ الروحُ  ضوءَ  القمرْ

ولا  عاتبتني  دموعُ   النجوم ِ            كدمع ِ العذارى  إذا  ما  انهمَرْ 

ولا  سحَرتني  جنانُ   الخُلودِ            بفيىءِ  الظلالِ   وعطرِ  الزَّهرْ

فأنتِ  النسيمُ   العليلُ    لقلبي            يهبُّ   أصيلا ً  وعند    السَّحَرْ

لعينيكِ  روحي  وقلبي   فداكِ            فانتِ   النّشيدُ   وأنتِ    الوَطرْ

وأنت ِ التقاءُ   الثرى  بالسَّماءِ           إذا  ما  طوتني   رجومُ   الحُفرْ


لقد  شَبَّ  طفلكِ عن  كلِّ  طوقٍ        وصارَ  يخوضُ   خضمَّ   الحياةْ

فقومي   وَصَلِّي   لأجل   فتاكِ         تحدَّى    الصعابَ    بكلِّ    ثباتْ

سيبقى  وفيًّا    على   كلِّ   عهدٍ        يُعَلِّمُ     كيفَ    الرّجال ُ   الأباةْ

ويحملُ  خلفَ  الضلوع ِ  فؤادًا         جَسُورًا   على     ثقل ِ  النائباتْ

خذيني   ِلهُدْبك ِ  أمي    وشاحًا         إذا  غبتِ   ينهارُ صرحُ  الحياةْ

تظلينَ  قدسي ومهدي  وأرضي        عليها    سأرتاحُ    بعدَ   المماتْ

فأنتِ   وأرضي   إلهانِ   عندي        يقودانِ   روحي   لشط ِّ   النجاةْ  


مع البروفسور الدكتور غازي موسى الخطيب/ الدكتورعدنان الظاهر

 


أخيراً حققتُ واحدة من أُمنيات العمر في أنْ أزور مدينة السماوة وأرى بعض أهلي فيها ثم لألتقي صديقاً ورجلاً شهماً فذاً وفيّاً عرفه العراق نزيهاً مقداماً رئيساً للجنة النزاهة العراقية. بفضل براعة التنظيم والتخطيط التي يتمتع بها الصديق العزيز الدكتور موسى فَرَج أبو ياسر وكريم إلتقيتُ صديقاً قديماً طالما اشتقتُ أنْ ألتقيه في بيته وكان معنا الصديق الآخر الكريم الرائع و ( الكامل الأوصاف ) الأستاذ حمّودي الكناني أبو علياء. سأكتب لاحقاً عارضاً موجز تأريخ الأستاذ غازي الخطيب لتعريف القرّاء الكرام به ومن يكون وما كان وما لحِقَ به من جور وأذى واعتقال وتعذيب على أيدي البعثيين في ثمانينيات القرن الماضي وهو الباحث النادر والأستاذ الجامعي المعروف والإنسان المبدئي الثابت والمسالم والمتفاني في سبيل مبادئه وحبّه للخير والخيرين في العراق وفي كافة أنحاء العالم. لم يخاصم أحداً ولم يشتم أحداً وما حمل السلاح ضد أحد فلماذا يُعتقل ويُعذّب وما تبرير هذه الوحشية الدموية التي امتاز بها بعثيو صدام حسين ؟ في القلب ألم وفي الفم أكثر من غصّة.

أهداني العزيز الدكتور غازي الخطيب وأنا ضيفه في بيته مع الدكتور موسى والأستاذ الكناني وحيث الكرزات والشاي والكليجة الممتازة أربعة كتب أنجزت حتى اليوم قراءة كتابين منها كرّس الأول منها وعنوانه ( مواقف وأحداث من حياتي ) لكتابة ما درسَ وأين دَرَسَ ( في أية مدينة وفي أي بلد ) وما أنجز وما نشر من أبحاث علمية في مجال اختصاصه وأية مسؤوليات إدارية وأكأديمية رفيعة كُلِّفَ بها فأنجزها بإقتدار وكفاءة رغم إستثنائية الظروف التي كانت سائدة حينذاك. سأتناول الكتاب الآخر، وهو رواية، ذُهِلتُ لما وجدتُ فيه من براعة في القص وترتيب الأحداث حيثُ استعرض فيه ( 136 صفحة فقط ) فترة عدّة عقودٍ من السنين بِدءاً بمرحلة الحصار وغزو العراق بملايين الأخوة المصريين الذي فضّلهم صدام حسين على العراقيين أبناء العراق... ذاك الحصارالذي خنقَ العراق والعراقيين حتى الوقت الراهن فضلاً عمّا قام به بعض الضيوف المصريين من تجاوزات وما اقترفوا من جرائم بحق العراقيين أصحاب الأرض المُضيّفين. إسم الرواية ( أوراق متناثرة لحياة عاثرة ) دار مسامير للطباعة والنشر والتوزيع.. العراق ــ السماوة..الطبعة الأولى 2022 . 

أعجبُ كيف لم تأخذ هذه الرواية  حقها من النقد والدراسات والتقويمات التي تستحق والعراق خاصةً عاج بالمثقفين والأدباء ونقّاد الرواية والشعر! ألأنَّ كاتب هذه الرواية رجل متواضع زاهد لا يُحب الطنين والرنين ولا تهمه مظاهر وزخارف الحياة وقد عرفها وخبرها وعجم أعوادها فاعتكف لأنه الأكبر والأرقى والأكثر نبلاً. لنرَ ما في هذه الرواية :

قسّم الدكتور غازي الخطيب روايته هذه إلى أجزاء سمّاها أوراق وعددها 14 ورقة تناول في كل ورقة قصة تخص عائلة عراقية واحدة فقط وما عانت تحت ظروف العراق السائدة البالغة الشذوذ والإنحراف عن الطبائع السوية.

الورقة الأولى : عنوانها [ سائق التكسي ]

من هنا تبدأ مأساة عائلة عراقية نكبتها أحداثٌ مأساوية متتالية أبدع البروفسورغازي الخطيب في خلق المناخ والأرضية وربما المبررات التي تسببت فيما عانت هذه العائلة من ويلات : خيانة المصري سائق التكسي الذي آواه العراق وأكرمه كما آوى وأكرم قرابة خمسة ملايين مصري فتح صدام حسين لهم أبواب العراق وقلوب العراقيين فعاث البعض منهم فساداً وخانوا الأمانات والذمم بل وأقدم بعضهم حتى على سفك دماء بعض العراقيين مستقوين بصدام وعصابته في حزب البعث ردّاً لجميل مصر وعبد الناصر الذي استقبله وأكرمه إثرَ اشتراكه في محاولة قتل عبد الكريم قاسم الفاشلة في شارع الرشيد خريف عام 1959 وهروبه إلى سوريا ثم إلى القاهرة. توثّقت علاقة هذا المصري بعائلة عراقية مستورة الحال وأتمنته على عرضها وكافة شؤونها اليومية وبالغت في كرمها العراقي   وحسن ظنها حتى سمحت له أنْ يعيش معها في بيتها. غاب رجل البيت العراقي لبعض شؤونه خارج العراق فوسوس الشيطان لهذا الضيف المصري أنْ يراود سيدة البيت عن نفسها وحصل على ما أراد وتمادى وأسرف في فعل المنكر مع عقيلة الرجل الذي أكرمه وأضافه فحملت منه ثم أنجبت بنتاً سمّتها زينب. كانت هذه هي المأساة الأولى لتغدو زينب التي وُلِدت سِفاحاً بطلة سلسلة من المآسي والنكبات التي ضربتها وبناتها الخمس وإبناً واحداً فهل هي لعنة السماء إنتقاماً من وضع شاذ أم أنها جريمة صدام حسين وزبانيته الذين أذاقوا العراقيين الأمرّين قتلاً وتعذيباً وتسميماً وتعربياً بالقوة وتهجيراً ثم الغزو والحرب التي ورطوا العراق فيها أم الإثنان معاً ؟

كان الراوي الدكتور غازي الخطيب رائعاً ومبدعاً في سرد الكيفية التي تعرّفَ فيها على السيدة المنكوبة زينب شاهدة وراوية وبطلة المآسي التي لحقت بها وبمن أنجبت من بناتٍ خمس وإبن واحد. كان الراوي رائعاً وكان دقيقاً جداً وكان صبوراً في التخطيط وفي تصميم مواعيد اللقاءات مع زينب ببراعة وبدون تكلّف فتوالت هذه اللقاءات في نادٍ أو مقهى حتى دعتهُ وقد أمِنته إلى بيتها وتعرّف على بناتها فانسجموا جميعاً حتى جعلوه واحداً منهم.

خصّص الراوي الورقة الثالثة لسميرة وهي البنت الكبرى للسيدة زينب. كانت سميرة موظفة صغيرة بشهادة ثانوية في وزارة المالية. عانت في هذه الوزارة الأمرّين خاصة من لَدُن أحد الموظفين المتورطين بسلب ونهب الوزارة وتزوير العروض . تزوجها لكنها لم تُطق الحياة معه ففضحته أمام مسؤولي الوزارة .. سُجن 15 عاماً وسُجنت هي، سميرة، عامين. خرجت من السجن الذي خُفِّف وعانت من البطالة والشقاء الشئَ الكثير لكنها أخيراً تزوجت من شخص ثري كبير السن. توفي هذا وأُصيبت هي، سميرة بنت زينب، بسرطان الكبد وفارقت الحياة.

وخصص دكتور غازي الورقة الرابعة للإبنة الثانية ( المُهندسة حياة ) للسيدة زينب. فما قصتها وما كانت مشاكلها ؟  كأختها سميرة، قاومت السُرّاق وكبار حيتان الفساد ومعها المهندس الكبير الشريف النظيف لكنهما وقعا في شِراك هذه الحيتان فسُجنا بتهم ملّفقة وشهادات مزوّرة. خرجت من السجن واشتغلت في مكتب هندسي مشبوه موبوء بالفساد وتزوير المقاولات فنجرفت مع الفاسدين في المكتب وجنت أرباحاً طائلة لكنها انحرفت وصارت تتعاطى المخدرات. وفي يوم وكانت تحت تأثير قوة هذه المخدرات ضربت شرطيَ مرور بسيارتها فقتلته. كشفت الشرطة المخدر في دمها وأودعت السجن وفي السجن عانت من نوبات هستيرية وصرع حتى غدت كالمجنونة فوضعت في مستشفى المجانين.

وماذا في الورقة الخامسة ؟ خصصها الراوي للإبنة الأخرى لزينب ( سلوى ).

{ تخرّجت سلوى في المعهد التَقَني بتخصّص ميكانيك وحصلتْ على وظيفة بعد جهد كبير في محافظة الموصل }. كانت سلوى متدينة ملتزمة بكل الواجبات الدينية لكنها كانت بعيدة عن الأمور الطائفية. ساءت أمورها في الموصل وقد تغلغلَ الدواعش فيها وكثروا وتعرّضت للتحرش والإستفزاز لأنها ( رافضية ). في هذا الجو المشحون والخطير أحبّت زميلاً لها من الطائفة الأخرى. تقدم زميل سلوى في العمل السيد شامل لخطبتها ووافق الأهل. تركا الموصل ومشاكلها إذْ تمت الموافقة على نقلهما بطلب منهما ( إلى أحد المعاهد القريبة من المحمودية. كانت المحمودية مدينة صراع ). تزوجا وأنجبا طفلة أسموها ( وردة ). قرر شامل زوج سلوى السفر إلى الموصل للإطمئنان على أحوال أهله هناك. في الموصل خطفت مجموعة من الملثّمين شاملاً وضاع أثره. وصلها خبرٌ من الموصل مفاده أنَّ شاملاً وُجدَ مقطوع الرأس مرمياً في أحد الوديان خارج مدينة الموصل. واصلت عملها في المحمودية وعانت وابنتها من المشاكل المتفاقمة في المحمودية وجرف الصخر. عرض عليها رجل دين زواج المتعة! رفضت بالطبع. تحسنت الأوضاع فاستقرت سلوى وابنتها وردة في بيت صغير في المحمودية قريب من دائرتها .. كبُرتْ وردة ودخلت المدرسة.

الورقة السادسة : هُدى والفلوجة وجهاد النِكاح.

إبنة أخرى لزينب كاظم السيدة المنكوبة بدنياها الخاصة وببناتها الخمس. من هي هدى؟ مُدرِّسة صدر أمر تعيينها  في مدينة الفلوجة في أوج زمن الإضطرابات والقتل على الهوية. في الفلوجة هي مُدرِّسة رافضية حالها حال الجنود الأمريكان الكَفَرة. عرّفتها إحدى زميلاتها المدرّسات على ( مُعلِّم شاب لطيف مُلتحٍ ). ( في البدء طلبت منها صديقاتها التبرّع للمجاهدين ومن ثمّ وبكلام ناعم مُنمّق طلب منها معلّم المدرسة المتديّن الألتحاق بركب المجاهدين وحضور ندوات دينية ) ... طُلِبَ منها أنْ تصبح جهادية وتحمل السلاح  لكفاح المحتلين. وافقت وتدرّبت وتزوّجت من أحمد زميلها الجميل الصلب. خاضت الكثير من المعارك ضد الأمريكان سويةً مع زوجها أحمد. في إحدى المواجهات قُتل زوجها أحمد الرجل الذي أحبّتْ. شاعت بين زملائها المجاهدين المقاتلين مودة { جهاد النكاح } لكنها استهجنتها، قاومتها، حاربتها فتقرر محاكمتها. حوكمتْ وصدر الحكم بإعدامها وتمَّ تنفيذ هذا الحكم بها.

الورقتان السابعة والثامنة مُخصصتان للدكتورة الألمعية والنابغة " نجاة ". أكملت كلية الطب في العراق ولتفوّقها أُرسلت في بعثة إلى بريطانيا .. درست وتفوّقت وكانت محط إعجاب الجميع خاصة الأوساط الطبية الإنكليزية. عادت للعراق وصدر أمرُ تعيينها تدريسيةً في كلية الطب مختصّةً بالنسائية والتوليد. فتحت لها عيادة طبية خاصة بها وتمَّ ترشيحها لمنصب وزيرة الصحة في وزارة جديدة. إعتذرت وبيّنت الأسباب. عرض عليها أحدُ كبار رجال الأمن الزواج لكنها اعتذرت ... ألحَّ وصار يهددها بفتح ملف والدتها وعلاقتها بسائق التكسي المصري ومن أبوها الحقيقي. لم تأبهْ ... تجاهلته حتى يئسَ وانصرف بأدب وهدوء ثم قُتل في إحدى المعارك وكانت كثيرة. تزوجت من محامٍ كبير معروف وأنجبت. هنا في الورقة الثامنة نُفاجأ بأنَّ رياض ابن السيدة زينب الوحيد المفقود منذ انسحاب الجيش العراقي من الكويت في عام 1991 .. إنه لم يزل على قيد الحياة لكنه في إيران .. وتلك قصة أخرى طريفة مُعقّدة فيها الكثير من المفاجآت والأخبار العجيبة تدخلت فيها شقيقته الطبيبة نجاة ففتحت موضوعه مع جهات طبية ومنظمات إنسانية عاملة في لندن والراوي نفسه وأصدقاء له في وزارة الخارجية العراقية حتى تكللت كل هذه الجهود بإعادته إلى أهله ووطنه العراق مصحوباً بزوجة إيرانية وطفل. عانى رياض ما عانى في إيران من شبهات حامت طويلاً حوله من كونه بعثيّاً مُندسّاً فقد كان نائب ضابط شارك في غزو الكويت وبعثياً بدرجة نصير. كما هو متوقع ومنطقي تزوج الراوي صديق العائلة من زينب الأرملة متعددة النكبات والمصائب فهل تتوقف الأقدار السود وتدع الناسَ يفرحون ويُسعدون ؟ كلاّ. قضّى العروسان شهر العسل بين مصر وتركيا ثم ماليزيا وعاصمتها كوالا لامبور وكانا في غاية السعادة رغم مشاعر الخوف من المجهول. ركبا الطائرة عائدين للوطن والكل مبتهجٌ سعيد لكنْ تحقق خوفهما من المجهول إذْ فُقِدَ الإتصال بالطائرة وضاعت أخبارها ولم تفلح الجهود المتنوعة الكثيرة في العثورعليها أو على الصندوق الأسود حيث الشك في إحتمال سقوطها في البحر. ضاعت طائرة العروسين وضاع العروسان العراقيان. 

لديَّ ملاحظة استرعت إهتمامي وكبير فضولي : الراوي ضاع مع عروسه ولم يتركْ له أثراً فكيف استمر يقص أحداث روايته حتى أتمّها في 14 ورقةً ؟ هل كانت له نُسخة ثانية تحل محله إذا غاب أو غُيّب أو قُتل ؟ أجبْ يا بروفسورغازي نجل عمّنا الشيخ موسى الخطيب ... أجبْ لأجل عينيّ سميِّ أبيك الغالي الدكتور قاضي الحاجات موسى فَرَج صاحب الفضل في ترتيب زيارتنا لك في بيتك وزيارة أخرى سبقتها لزميل قديم أيام الدراسة في كلية التربية في خمسينيات القرن الماضي أُستاذ الرياضيات علي حسين الغرّة.

ملاحظة : أعجب لما وقع في هذه الرواية من أخطاء إملائية غير قليلة رغم أنَّ الدكتور عبد المطلب محمود، صديق الأستاذ غازي الخطيب قد قام بمراجعة وتدقيق الرواية.

مُلحق : هذا ملخّص تأريخ الأستاذ غازي موسى الخطيب العلمي والإداري والسياسي والإجتماعي كما نشره هو على أغلفة كتبه الخلفية.

- ــ الأستاذ الدكتور غازي موسى الخطيب ــ مواليد 1933 السماوة                     ــ خريج ثانوية السماوة ــ تخرّجَ من جامعة بغداد ــ كلية الطب البيطري عام 1959 ــ حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايبزك ــ ألمانيا 1963 حاصل على شهادة الدكتور هابيل من جامعة همبولت ــ برلين ــ ألمانيا 1968 

- ــ حاصل على لقب الأُستاذية منذ عام 1976 

- ــ كان عميداً لكلية الطب البيطري في جامعة بغداد 2005 

- ــ ترأسَ جامعة المُثنى المُستحدثة عام 2007 حتى إحالته على التقاعد 2011 

- ــ له أبحاث علمية تجاوزت المائة بحث باللغات الإنكليزية والألمانية والعربية 

- ــ أشرفَ على أكثر من مائة أُطروحة دكتوراه  وماجستير 

- ــ له نشاطات أدبية كثيرة ــ الكثير منها لم يُنشرْ بسبب الظرف السياسي ( شعر ــ شعر شعبي ــ قصة ــ مقالات ) أُلِّفت بين 1970 ــ 1990. 

- ــ ترأسَ تحرير جريدة الرأي الجامعي ومجلة الإشعاع الجامعي التي تصدر من جامعة المثنى قرابة الأربع سنوات

- ــ صدرت له رواية ثورة الخلاص، سنة 2012، ومجموعة قصصية بعنوان ذئاب وذئاب سنة 2013 .                            

يا ناس ! يا عراق ! يا عالم ! أَمثلَ هذا الرجل العالم يَعتقلُ ويُعذِبُ البعثيون ويُرمى في زنازين الدم والعفونة والظلام ؟ هل أنجب البعثيون رجلاً مثله ومثل رجل القانون وعضو مجلس السلام العالمي البروفسور صفاء جميل الحافظ وكثرة آخرين ؟ ما كان ذنبهم ؟ فليجبْ البعثيون وليكشفوا عن قبر صفاء الحافظ .