هذيان شيخ هرم/ بن يونس ماجن

 


ها أنا  ذا أتخطى فيخطو العمر

أمامي وخلفي

يقتفي أثري

لم أعد أطيق السير الوئيد

وأنا أحمل أثقال الأعوام اليائسة

وأدور حول الممرات

لكي أتحاشى العثرات

أنا الذي صرت في الثمانين كهلا

أردد نزوات الصبا

وأعد تجاعيد وجهي

الذي أضحى

لا يشبهني أبدا

كنت  في أعز الشباب

أدرب نفسي

على عقارب الساعة

التي لا تعود الى الخلف

عند الاعتدال الخريفي

  

لا أخاف من أنام

ولا أصحو

في الليل أتحدث مع نفسي

وفي النهار أتشاجر مع ظلي

ثم أتساءل:

من منا اختار الآخر

 

 

أمضي شيخوختي

في مطاردة أحلامي الهاربة

وأعيد ترتيبها

وتدوينها في آخر صفحة من حياتي

فالعمر كجسر متمايل

يدهمه المد والجسر

ولا يمكن عبوره

الابشق الانفس

 

عدت الى هذياني من جديد

وخلال غيابي الافتراضي

تعمدت ألا أكتب حرفا واحدا

عن مسار حياتي

لكن فكرت

أنه ليس لدي أفضل

من ايقاظ خربشاتي

من سباتها العميق

واذا كانت القوافي

لا تسمح بذلك

فسأضبط ميزان الحرارة

ولو درجة واحدة

من الزمن الضائع

الذي سقط سهوا

على مشارف  أرذل العمر

أما الموعد المؤجل

لذلك اللقاء الأخير

على الضفة الأخرى

فسوف يتعذر علي

تجاوز تضاريسه الوعرة

بخطى واهنة

ورأس مثقل بهموم الدنيا

ومتاعب العمر الطويل

أستراليا: لا أقلية ولا أكثرية… بل مواطنون/ عباس علي مراد



في خضم الحملات الانتخابية الأسترالية، يطفو على السطح مجدداً نقاش قديم جديد: هل نحن مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، أم"أقليات" نُحاصر بين وصاية البعض وأوهام التمثيل؟

مقالنا اليوم، يضيء على محاولات مصادرة العمل السياسي الحر تحت غطاء الدين والهوية، ويؤكد أن الديمقراطية لا تكتمل إلا حين يُكفل لكل فرد حقه بالمشاركة، بعيداً عن تصنيفات الأكثرية والأقلية كما يأتي في سياق مزدوج: سياسي وديني، بينهما تتقاطع قضايا الديمقراطية، ومفاهيم المواطنة، والأقلية والأكثرية، كما يفهمها بعض القادة الذين نصّبوا أنفسهم ممثلين عن الجاليات دون انتخاب أو تفويض حقيقي، مستندين إلى دعم مصلحي من بعض السياسيين.

هؤلاء القادة يخلطون بين العمل السياسي والديني لتحقيق مكاسب خاصة، وأسّسوا مؤسسات وهمية تحمل أسماء براقة، وراحوا يظهرون على وسائل الإعلام العربية والإنجليزية كضيوف دائمين عند الطلب.

المناسبة التي تفتح هذا النقاش هي الانتخابات الأسترالية المقبلة، المقررة في الثالث من أيار/مايو القادم، وما يسبقها من حملات انتخابية يرافقها قدر من التخويف والتضليل، سعياً لكسب الرأي العام والوصول إلى السلطة.

مع الإشارة إلى أن حملات التخويف والتضليل تظل، ضمن حدود معينة، قانونية ومقبولة ما لم تمسّ أسس النظام الدستوري أو تتعارض مع القوانين المرعية.

في هذا الإطار، طالبت المرشحة المستقلة عن مقعد "وينتورث" في شرق سيدني، أليغرا سبندر، مفوضية الانتخابات الأسترالية بكشف كيفية تعاملها مع الشخص الذي وزع 47,000 منشور انتخابي غير قانوني شهّر بها، بعد أن أكدت المفوضية تحديد هوية الفاعل دون الإعلان عن اسمه أو توضيح ما إذا كان سيخضع للمحاكمة.

والجدير بالذكر أن ما يعتبر مباحًا في الحملات الانتخابية قد يُصنّف جريمة، حين يتعلق الأمر بتضليل المستهلكين وخداعهم في الأعمال التجارية.

يبدو أن بعض من يُسمون أنفسهم "قادة" لا يستوعبون أبجديات الديمقراطية، فيجتهدون بالتزلف والوصاية على خيارات الآخرين. نحن هنا لا نناقش خياراتهم السياسية، فمن حق كل فرد تأييد من يشاء أو معارضة من يشاء، كما أن حق الترشح وتأسيس الأحزاب السياسية مضمون ومكفول قانونياً، بما يشمل الأحزاب ذات الطابع الديني، رغم الطابع العلماني للدولة الأسترالية.

لقد فشلنا، في بلداننا الأصلية، في بناء دول تقوم على احترام المواطنة، بسبب سيطرة ذهنية الأقلية والأكثرية المبنية على أسس دينية وإثنية وقبلية، والتي استغلها الغرب وعمّقها، مستفيدًا من قابلية مجتمعاتنا لهذا الانقسام المميت.

واليوم، يبدو أن بعضنا يصرّ على استيراد هذه الذهنية الفاسدة إلى المهجر، فيتعامل مع نفسه كـ"أقلية" دينية أو إثنية، رغم تناقض ذلك مع المبادئ التي تقوم عليها دول مثل أستراليا.

كيف يمكن الجمع بين صيف وشتاء تحت سقف واحد؟

في مقابلة إعلامية مع أحد هؤلاء "القادة"، نسف هذا "الوجيه" جميع الأسس القانونية عبر فتوى غريبة، مفادها أن الأقليات الإثنية لا يحق لها تأسيس أحزاب ذات طابع ديني أو زج الدين في السياسة،

وطالب بحصر العمل السياسي ضمن الأحزاب الأسترالية القائمة فقط. بل ذهب أبعد من ذلك بمصادرة قرار الناشطين السياسيين المستقلين، معتبراً أن استخدام عبارة "الصوت المسلم" يضر بالمصلحة العامة، وأن الترشح بهذه الخلفية لا يعدو كونه وسيلة "لتلقين حزب العمال درساً"، محذراً من أن هذه السياسات قد تدفع بشخص مثل بيتر داتون إلى رئاسة الوزراء، مستشهداً بتجربة دعم بعض المسلمين لدونالد ترامب في الولايات المتحدة.

ويتجاهل هؤلاء أن هناك بالفعل أحزاباً دينية فاعلة في أستراليا، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي، الذي يتمتع بتمثيل في المجلس التشريعي لولاية نيو ساوث ويلز.

في الختام، قد تكون الحملات الانتخابية المبنية على التخويف أو التضليل جزءاً من اللعبة الديمقراطية ضمن حدود القانون، ولكن لا يجوز أبداً مصادرة حق المواطن في الترشح والانتخاب وممارسة العمل السياسي تحت أي شعار، طالما أنه لا يخل بالتناغم الاجتماعي ولا يبنى على أسس عنصرية،

فحق الترشح والمشاركة السياسية مكفول لكل مواطن، بغض النظر عن كونه من "الأقلية" أو "الأكثرية".

في النهاية، تبقى المواطنة فوق كل التصنيفات، ويظل الحق في العمل السياسي مكفولاً لكل فرد، مهما كانت خلفيته الدينية أو الإثنية.

فالديمقراطية الحقيقية لا تقوم على التخويف ولا على الوصاية، بل على احترام التنوع وصون حق الجميع في المشاركة الحرة والمسؤولة.


سدني



فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية/ د زهير الخويلدي



"كل شيء في الكون، كما قال الفيلسوف اليوناني ديمقريطس، هو نتيجة للصدفة والضرورة."

يُعد جاك مونو (9 فبراير 1910 ـ 31 مايو 1976) ، الحائز على جائزة نوبل، أحد الشخصيات البارزة بين رواد علم الأحياء الجزيئي، حيث يُظهر مدى ثمار هذه الثنائية في فهم القضايا الرئيسية في علم الأحياء - أصل الحياة أو تطور الأنواع - وفهم تحديات علم الوراثة الحديث. إذا لم يكن الإنسان نتيجة لأي خطة إلهية، وإذا كان تطوره مجرد صدفة وليس خطة مسبقة، فلا شيء يسمح له بالغرق في المادية المتشائمة. في مواجهة تحديات العلم والتكنولوجيا التي تذهب إلى حد تهديد سلامة الإنسان، يدعو جاك مونو إلى اختراع إنسانية جديدة تدمج بيانات العلم. لقد تم كسر العهد القديم؛ وأخيرًا أدرك الإنسان أنه وحيد في هذا الكون الهائل الذي خرج منه بالصدفة. لم يتم كتابة مصيره ولا واجبه في أي مكان. يتعين عليه الاختيار بين المملكة والظلام. كان كتاب جاك مونو "الصدفة والضرورة" الصادر عام 1970 معلمًا بارزًا في الأدبيات العلمية الشعبية، وذلك لبيانه القاطع بأن أصل الحياة وليد الصدفة البحتة. ان الطفرات تُشكل المصدر الوحيد المُحتمل للتعديلات في النص الجيني، وهو في حد ذاته المستودع الوحيد للهياكل الوراثية للكائن الحي، ويترتب على ذلك بالضرورة أن الصدفة وحدها هي مصدر كل ابتكار، وكل خلق في المحيط الحيوي. صدفة بحتة، حرة تمامًا ولكنها عمياء، هي أساس صرح التطور الهائل: لم يعد هذا المفهوم المركزي في علم الأحياء الحديث واحدًا من بين الفرضيات الأخرى الممكنة أو حتى المُتصورة. إنه اليوم الفرضية الوحيدة المُتصورة، الفرضية الوحيدة التي تتوافق مع الحقائق المُشاهدة والمُختبرة. ولا شيء يُبرر الافتراض - أو الأمل - بأن موقفنا في هذا الصدد من المُحتمل أن يُراجع يومًا ما. لذلك ينفي مونو، مُحقًا، وجود أي قوى غائية لازمة لخلق الحياة من مادة جامدة، لكنه يجد أن السلوك الغائي الهادف هو إحدى السمات الأساسية للحياة، إلى جانب ما يُسميه التخلق الذاتي (الحياة "تبني نفسها") والثبات التناسلي (الحياة "تتكاثر ذاتيًا"). تُقر فلسفة المعلومات بأنه مع ظهور الحياة، دخلت هياكل معلوماتية ذات أهداف إلى الكون. ولكن لا بد من وجود عمليات مُولِّدة للمعلومات، وديناميكية، قبل ظهور الحياة الأرضية. فقد خلقت هذه العمليات الركيزة المعلوماتية للحياة، وبالأخص الشمس والبيئة الكوكبية المُلائمة لأصل الحياة على الأرض. يقول مونو إن بعض علماء الأحياء لم يكونوا راضين عن فكرته عن التخلق الذاتي، أي أن الكائنات الحية مُنحت غرضًا أو مشروعًا، لكنه يرى أن هذا أساسي لتعريف الكائنات الحية. معياره التالي هو التخلق الذاتي. يقول:...إن بنية الكائن الحي تنجم عن ... عملية ... لا تكاد تُعزى إلى تأثير قوى خارجية، بل إلى كل شيء، من شكله العام إلى أدق تفاصيله، وإلى تفاعلات "تشكلية" داخل الكائن نفسه. نعلم الآن أن هذا ليس سوى "حتمية كافية". إنها إذن بنية تُثبت حتمية مستقلة: دقيقة، صارمة، تنطوي على "حرية" شبه كاملة تجاه العوامل أو الظروف الخارجية - القادرة، بلا شك، على إعاقة هذا التطور، ولكنها لا تُسيطر عليه أو تُوجهه، ولا تُحدد مخططه التنظيمي للكائن الحي. ومن خلال الطابع المستقل والعفوي للعمليات التشكلية التي تُشكل البنية العيانية للكائنات الحية، فإن هذه الأخيرة تتميز تمامًا عن المصنوعات، كما أنها، علاوة على ذلك، تختلف عن غالبية الكائنات الطبيعية التي ينشأ شكلها العياني إلى حد كبير من تأثير العوامل الخارجية. البلورات من العمليات الفيزيائية البحتة "الإرجودية" القليلة، التي تُقلل الإنتروبيا محليًا. إلا أن هناك استثناءً واحدًا: البلورات، التي تعكس هندستها المميزة تفاعلات مجهرية تحدث داخل الجسم نفسه. لذا، باستخدام هذا المعيار وحده، يجب تصنيف البلورات مع الكائنات الحية، بينما تُصنف القطع الأثرية والأشياء الطبيعية، سواءً المصنّعة بواسطة عوامل خارجية، ضمن فئة أخرى. ان الظواهر الذرية التعاونية الكمومية التي تُشكّل البلورات هي نفسها التي تُشكّل الجزيئات الكبيرة للحياة، كالحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (RNA)، إلخ. يعتقد مونو أن هناك "حتمية داخلية مستقلة" "تضمن تكوين الهياكل شديدة التعقيد للكائنات الحية". لا يمكن أن يكون "الضمان" كاملًا نتيجةً للفيزياء الإحصائية. مونو مُدرك تمامًا لعدم التحديد الكمومي. بعد مناقشة الصدفة من حيث الاحتمالات وألعاب الحظ، يقول: على المستوى المجهري، يوجد مصدر آخر لعدم يقين أكثر جذرية، متأصل في البنية الكمومية للمادة. فالطفرة بحد ذاتها حدث مجهري، حدث كمي، ينطبق عليه مبدأ عدم اليقين. حدثٌ بالتالي، وبحكم طبيعته، لا يمكن التنبؤ به أساسًا. ان العملية التطورية الأساسية بأنها انتقال المعلومات من بنية معلومات حية إلى أخرى. تجدر الإشارة إلى أن هذا يتم في ظل وجود مستمر للضوضاء الحرارية والكمية. تمثل هذه البنى كمية كبيرة من المعلومات التي لم يُحدد مصدرها بعد: فكل معلومة مُعبر عنها - وبالتالي مُستلمة - تفترض وجود مصدر. ويقول: "مصدر المعلومات المُعبر عنها في بنية الكائن الحي هو دائمًا كائن آخر مطابق هيكليًا". تمتلك الكائنات الحية القدرة على إنتاج ونقل المعلومات المتعلقة ببنيتها. إنها معلومات غنية جدًا، إذ تصف نظامًا تنظيميًا، بالإضافة إلى تعقيده الشديد، يبقى محفوظًا سليمًا من جيل إلى جيل. المصطلح الذي سنستخدمه لوصف هذه الخاصية هو التكاثر الثابت، أو ببساطة الثبات. مع هذا التكاثر الثابت، نجد الكائنات الحية والهياكل البلورية تشترك مجددًا في خاصية تجعلها مختلفة عن جميع الأجسام الأخرى المعروفة في الكون. بعض المواد الكيميائية في المحاليل فائقة التشبع لا تتبلور إلا بعد تلقيح المحلول ببذور بلورية. كما نعلم أنه في حالة وجود مادة كيميائية قادرة على التبلور في نظامين مختلفين، فإن بنية البلورات التي تظهر في المحلول ستحددها بنية البذرة المستخدمة. كما يزعم مونو أن الفرق الرئيسي بين البلورات والكائنات الحية يكمن في كمية المعلومات المنقولة بين الأجيال. وبالتالي، فهو يهمل الإبداع الكامن في اكتساب ونقل المعرفة من قِبل الكائنات الحية. مع ذلك، تُمثل البُنى البلورية كميةً من المعلومات أقل بكثير من تلك التي تنتقل من جيل إلى آخر في أبسط الكائنات الحية التي نعرفها. وبهذا المعيار - الكمي البحت، مع العلم - يُمكن تمييز الكائنات الحية عن جميع الأجسام الأخرى، بما في ذلك البلورات. في مساهمته الرئيسية في lنهج معلوماتي في علم الأحياء، يُقدم مونو تقديرًا كميًا لما يُسميه "المستوى الغائي" للأنواع، مُرتبًا إياها في تسلسل هرمي قائم على محتوى المعلومات فقط. تُمثل هذه بدايةً مهمةً لعلم الأحياء القائم على المعلومات. ...بما أن درجة ترتيب البنية يُمكن تعريفها بوحدات المعلومات، فسنقول إن "محتوى الثبات" لنوع مُعين يُساوي كمية المعلومات التي، عند نقلها من جيل إلى آخر، تضمن الحفاظ على المعيار الهيكلي المُحدد. وكما سنرى لاحقًا، وبمساعدة بعض الافتراضات، يُمكن التوصل إلى تقدير لهذه الكمية. وهذا بدوره سيُمكّننا من توضيح المفهوم الأكثر مباشرة ووضوحًا من دراسة هياكل وأداء الكائنات الحية، ألا وهو مفهوم الغائية. ومع ذلك، يكشف التحليل أنه مفهومٌ شديد الالتباس، لأنه ينطوي على فكرة ذاتية تُعرف بـ"المشروع". لنأخذ مثال الكاميرا: إذا اتفقنا على أن وجود هذا الشيء وبنيته يُحققان "مشروع" التقاط الصور، فيجب أن نتفق أيضًا، وهذا بديهي، على أن مشروعًا مماثلًا يُنجز مع ظهور عين الفقاريات. ولكن لا يُصبح لكل مشروع، مهما كان، معنى إلا كجزء من مشروع أشمل. جميع التكيفات الوظيفية في الكائنات الحية، مثل جميع المصنوعات التي تُنتجها، تُحقق مشاريع محددة يمكن اعتبارها جوانب أو أجزاءً متعددة من مشروع أساسي فريد، وهو الحفاظ على النوع وتكاثره. بتعبير أدق، سنختار، بشكل عشوائي، تعريف المشروع الغائي الجوهري بأنه يتمثل في نقل محتوى الثبات المميز للنوع من جيل إلى جيل. وبالتالي، ستُسمى جميع البنى، وجميع الأداءات، وجميع الأنشطة التي تُسهم في نجاح المشروع الأساسي "غائيًا". هذا يسمح لنا، على الأقل، بطرح مبدأ تعريف "المستوى الغائي" للنوع. يمكن اعتبار جميع البُنى والأداءات الغائية مُقابلةً لكمية مُعينة من المعلومات التي يجب نقلها لتحقيق هذه البُنى وإنجاز هذه الأداءات. لنُسمِّ هذه الكمية "معلومات غائية". يُمكن القول إن "المستوى الغائي" لنوعٍ مُعين يُقابل كمية المعلومات التي يجب نقلها، في المتوسط، لكل فرد، لضمان انتقال المحتوى المُحدد للثبات التناسلي من جيلٍ إلى آخر.  بالنسبة لفرانسوا جاكوب، الذي تقاسم جائزة نوبل مع جاك مونو، كانت الغائية سمةً أساسيةً لكل خلية. قال جاكوب إن الغرض والرغبة الأساسية لكل خلية هي أن تُصبح خليتين. لكن مونو يرى أن غائية هذه تبدو مُتعارضة مع مبدأ أساسي، وهو حجر الزاوية في العلم الحديث. حجر الزاوية في المنهج العلمي هو فرضية موضوعية الطبيعة. بعبارة أخرى، الإنكار المنهجي لإمكانية الوصول إلى المعرفة "الحقيقية" بتفسير الظواهر من حيث الأسباب الغائية - أي من حيث "الغرض". يمكن تحديد تاريخ دقيق لاكتشاف هذه القاعدة. لقد مهدت صياغة غاليلي وديكارت لمبدأ القصور الذاتي الطريق ليس فقط للميكانيكا، بل لنظرية المعرفة في العلم الحديث أيضًا، بإلغاء الفيزياء الأرسطية وعلم الكونيات. لا شك أن أسلاف ديكارت لم يتجاهلوا العقل، ولا المنطق، ولا الملاحظة، ولا حتى فكرة المواجهة المنهجية بينهما. لكن العلم كما نفهمه اليوم لم يكن ليتطور على هذه الأسس وحدها. لقد تطلب الأمر التقييد الصارم الضمني في فرضية الموضوعية - صارم، نقي، لا يمكن إثباته أبدًا. فمن الواضح أنه من المستحيل تخيل تجربة يمكنها إثبات عدم وجود غرض، أو غاية منشودة، في أي مكان في الطبيعة. لكن مُسلّمة الموضوعية مُشتركة في جوهرها مع العلم؛ فقد قادت تطوره الهائل على مدى ثلاثة قرون. ولا سبيل للتخلص منها، حتى ولو مؤقتًا أو في نطاق محدود، دون الخروج عن نطاق العلم نفسه. مع ذلك، تُلزمنا الموضوعية بإدراك الطابع الغائي للكائنات الحية، والاعتراف بأنها في بنيتها وأدائها تتصرف بشكل إسقاطي - تُحقق غرضًا وتسعى إليه. وهنا، على الأقل ظاهريًا، يكمن تناقض معرفي عميق. في الواقع، تكمن المشكلة المركزية لعلم الأحياء في هذا التناقض نفسه، والذي يجب حله، إن كان ظاهريًا فقط؛ أو إثبات أنه غير قابل للحل تمامًا، إذا تبيّن ذلك بالفعل. كما يُمثّل حل مونو "للتناقض المعرفي العميق" في جعل الغائية ثانوية - ونتيجة - لثبات التكاثر. بما أن الخصائص الغائية للكائنات الحية تبدو وكأنها تتحدى إحدى المسلمات الأساسية لنظرية المعرفة الحديثة، فإن أي رؤية فلسفية أو دينية أو علمية للعالم لا بد أن تقدم، بحكم الواقع، حلاً ضمنيًا، إن لم يكن صريحًا، لهذه المشكلة. الفرضية الوحيدة التي يعتبرها العلم الحديث مقبولة هنا: وهي أن الثبات يسبق بالضرورة الغائية. أو، بتعبير أوضح؛ الفكرة الداروينية القائلة بأن الظهور الأولي، والتطور، والتحسين المستمر لهياكل غائية متزايدة الكثافة، ناتجة عن اضطرابات تحدث في بنية تمتلك بالفعل خاصية الثبات - وبالتالي تكون قادرة على الحفاظ على آثار الصدفة، وبالتالي إخضاعها لتأثير الانتخاب الطبيعي. بتصنيف الغائية كخاصية ثانوية ناتجة عن الثبات - تُعتبر وحدها أساسية - فإن النظرية الانتقائية هي النظرية الوحيدة المقترحة حتى الآن والتي تتوافق مع مسلمة الموضوعية. وهي في الوقت نفسه النظرية الوحيدة التي لا تتوافق مع الفيزياء الحديثة فحسب، بل تستند إليها تمامًا، دون قيود أو إضافات. باختصار، تضمن نظرية التطور الانتقائية التماسك المعرفي لعلم الأحياء، وتضعه في مكانه بين علوم "الطبيعة الموضوعية". لقد كان كولين بيتندرا أول من استخدم مصطلح "الغائية" لتمييز ظهور الغاية في التطور البيولوجي، وتحديدًا الانتقاء الطبيعي الدارويني، عن فكرة "الغائية" القديمة، أو "الغاية" الأرسطوية، وهي غاية كونية سابقة لظهور الحياة. يشهد مفهوم التكيف اليوم رواجًا متزايدًا لعدة أسباب: يُنظر إليه على أنه أقل من مثالي؛ وفهم أفضل للانتقاء الطبيعي؛ وقد كرّس المهندس الفيزيائي، في بناء الآلات الساعية إلى الغاية، استخدام المصطلحات الغائية. يبدو من المؤسف إحياء مصطلح "الغائية"، وإساءة استخدامه، كما أعتقد. سيزول الالتباس الذي طال أمده بين علماء الأحياء لو وُصفت جميع الأنظمة الموجهة نحو الغاية بمصطلح آخر، مثل "الغائية"، للتأكيد على أن إدراك ووصف التوجه نحو الغاية لا يحملان التزامًا بالغائية الأرسطية كمبدأ عرضي فعال. ان التكيف، والانتقاء الطبيعي، والسلوك، في هما اللذان يحددان السلوك والتطور. يلخص مونو تاريخ الفلسفة، تقريبًا كما نفعل نحن (وكما يفعل كارل بوبر)، على غرار الانقسام الكبير، أو الثنائية، بين المثاليين والماديين. نرى هذا التمييز بين من يعتقدون أن المعلومات ثابتة ومن يرونها تتزايد باستمرار. قد يمنعه تركيز مونو على الثبات التكاثري من إدراك أهمية التجديد وخلق معلومات جديدة. منذ نشأتها في جزر البحر الأيوني قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، انقسمت الفلسفة الغربية بين موقفين متعارضين ظاهريًا. فوفقًا لأحدهما، لا يمكن لحقيقة العالم الأصيلة والنهائية أن تكمن إلا في أشكال ثابتة تمامًا، جوهرها ثابت. أما بالنسبة للآخرين، فإن الحقيقة الحقيقية الوحيدة تكمن في التغير والتطور. من أفلاطون إلى وايتهيد، ومن هيراقليطس إلى هيجل وماركس، من الواضح أن هذه النظريات المعرفية الميتافيزيقية كانت دائمًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحيزات الأخلاقية والسياسية لمؤلفيها. هذه الصروح الأيديولوجية، التي تُصوَّر على أنها بديهية للعقل، كانت في الواقع بناءات لاحقة صُممت لتبرير النظريات الأخلاقية السياسية المسبقة.  لقد طرح مونو مشكل العلاقة بين المعرفة والقيمة: مثل العديد من العلماء، يعتبر مونو البحث المفتوح عن المعرفة والحقيقة ذا قيمة جوهرية. هل يمكنه أن يجعل المعرفة نفسها قيمة في العالم الموضوعي للعلم "الخالي من القيم"؟ يسعى مونو إلى "أخلاقيات المعرفة". هل يجب علينا أن نتبنى بشكل نهائي الموقف القائل بأن الحقيقة الموضوعية ونظرية القيم تُشكلان مجالين منفصلين أبديين، لا يمكن اختراقهما معًا؟ هذا هو الموقف الذي اتخذه عدد كبير من المفكرين المعاصرين، سواء كانوا كُتّابًا أو فلاسفة أو حتى علماء. بالنسبة للغالبية العظمى من البشر، الذين لا يمكن لقلقهم إلا أن يُديمه ويتفاقم، أعتقد أن هذا الموقف لن يُجدي نفعًا؛ كما أعتقد أنه خاطئ تمامًا، وذلك لسببين أساسيين.

أولًا، وبديهيًا، لأن القيم والمعرفة ترتبطان دائمًا وضروريًا بالعمل، كما هو الحال في الخطاب.

ثانيًا، وقبل كل شيء، لأن تعريف المعرفة "الحقيقية" بحد ذاته يرتكز في نهاية المطاف على مُسلَّمة أخلاقية.

تتطلب كل نقطة من هاتين النقطتين توضيحًا موجزًا.

ترتبط الأخلاق والمعرفة حتمًا بالعمل ومن خلاله. فالعمل يُدخل المعرفة والقيم في آن واحد في الاعتبار، أو يُشكك فيهما. كل عمل يدل على أخلاق، أو يخدم قيمًا معينة أو يُسيء إليها؛ أو يُشكِّل خيارًا للقيم، أو يُدَّعي ذلك.

من ناحية أخرى، المعرفة مُضمَرة بالضرورة في كل عمل، بينما العمل، في المقابل، هو أحد المصدرين الضروريين للمعرفة.

انه بمجرد أن نجعل الموضوعية شرطًا أساسيًا للمعرفة الحقيقية، يُنشأ تمييز جذري، لا غنى عنه في البحث عن الحقيقة، بين مجالي الأخلاق والمعرفة. المعرفة في حد ذاتها لا تشمل أي حكم قيمي (باستثناء "القيمة المعرفية")، بينما الأخلاق، غير الموضوعية في جوهرها، مُستبعدة إلى الأبد من نطاق المعرفة. مبدأ الموضوعية يمنع أي خلط بين أحكام القيم والأحكام المُكتسبة من خلال المعرفة. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن هاتين الفئتين تتحدان حتمًا في شكل الفعل، بما في ذلك الخطاب. وللالتزام بمبدئنا، سنتخذ موقفًا مفاده أنه لا يُنظر إلى أي خطاب أو فعل ذي معنى أو أصيل إلا - أو بقدر ما - يُوضح ويُحافظ على التمييز بين الفئتين اللتين يجمعهما. وبهذا التعريف، يُصبح مفهوم الأصالة أرضية مشتركة تلتقي فيها الأخلاق والمعرفة مجددًا؛ حيث تكشف القيم والحقيقة، المترابطتان ولكن غير القابلتين للتبادل، عن أهميتهما الكاملة للإنسان المُنتبه المُدرك لصداها. في نظام موضوعي... أي خلط للمعرفة بالقيم محرم، بل ممنوع. ولكن - وهنا تكمن النقطة الحاسمة، الرابط المنطقي الذي يربط المعرفة بالقيم معًا في جوهره - هذا التحريم، هذه "الوصية الأولى" التي تضمن أساس المعرفة الموضوعية، ليست موضوعية في حد ذاتها. لا يمكن أن تكون موضوعية: إنها مبدأ أخلاقي، قاعدة سلوك. المعرفة الحقيقية تجهل القيم، ولكن لا يمكن أن تُبنى إلا على حكم قيمي، أو بالأحرى على قيمة بديهية. من البديهي أن طرح مبدأ الموضوعية كشرط للمعرفة الحقيقية يُشكل خيارًا أخلاقيًا وليس حكمًا مُستمدًا من المعرفة، لأنه، وفقًا لشروط المسلمة نفسها، لا يمكن أن تكون هناك أي معرفة "حقيقية" قبل هذا الاختيار التحكيمي. ولإرساء معيار المعرفة، يُعرّف مبدأ الموضوعية قيمةً: هذه القيمة هي المعرفة الموضوعية نفسها. وهكذا، فإنّ قبول مبدأ الموضوعية يُعلن التزامًا بالبيان الأساسي لنظام أخلاقي، ويؤكد على أخلاق المعرفة. ولعلّ أخلاق المعرفة، بفضل طموحها النبيل، تُشبع هذه الرغبة في الإنسان للتطلع نحو ما هو أسمى. فهي تُرسي قيمةً سامية، هي المعرفة الحقيقية، وتدعوه إلى عدم استخدامها لأغراضه الشخصية، بل إلى استخدامها من الآن فصاعدًا بدافع اختيارٍ واعٍ ومدروس. وهي في الوقت نفسه إنسانية، إذ تُحترم في الإنسان خالق هذا التعالي ومستودعه. أخلاق المعرفة هي أيضًا، بمعنىً ما، "معرفة الأخلاق"، وهي تقديرٌ ثاقبٌ لدوافع ورغبات الكائن البيولوجي، ومتطلباته وحدوده. إنها قادرة على مواجهة الحيوان في الإنسان، واعتباره ليس عبثيًا، بل غريبًا، ثمينًا في غرابته ذاتها: المخلوق الذي ينتمي إلى عالم الحيوان وعالم الأفكار في آنٍ واحد، ويمزقه ويثريه في آنٍ واحد هذه الثنائية المؤلمة، التي تُعبَّر عنها في الفن والشعر وفي الحب الإنساني. في المقابل، فضّلت الأنظمة الروحانية، بدرجة أو بأخرى، تجاهل الإنسان البيولوجي، أو التقليل من شأنه، أو التنمر عليه، وغرس الاشمئزاز أو الرعب في نفوسه من سمات متأصلة في طبيعته الحيوانية. أما أخلاقيات المعرفة، فتشجعه على تكريم هذا الإرث والتمسك به، عالمةً في الوقت نفسه كيف تُسيطر عليه عند الضرورة. أما بالنسبة لأسمى الصفات الإنسانية، كالشجاعة، والإيثار، والكرم، والطموح الإبداعي، فإن أخلاقيات المعرفة تُقرّ بأصلها الاجتماعي البيولوجي، وتؤكد قيمتها السامية في خدمة المثل الأعلى الذي تُعرّفه. لكن هل وقع جاك مونو في خطأ تاريخي؟


لقد استقى مونود عنوان عمله من مقولة لديموقريطس تخيّلها أو أخطأ في تذكرها. يفتتح كتابه بهذا الاقتباس: كل ما هو موجود في الكون هو ثمرة الصدفة والضرورة. للأسف، لم يُدلِ ديموقريطس بمثل هذه المقولة. بصفته مؤسس الحتمية، عارض هو ومعلمه ليوكيبوس بشدة الصدفة أو العشوائية. أصرّ ليوكيبوس على الضرورة المطلقة التي لا تترك مجالًا للصدفة في الكون."لا شيء يحدث عشوائيًا (ماتين)، بل كل شيء له سبب (لوجوس) وبالضرورة." لا يتم صنع المال من الهواء، بل يتم صنعه دائمًا من العقل والضرورة." فما الذي سيتغير في فلسفة البيولوجيا لو تم تصحيح هذا الخطأ التاريخي؟


 المصدر:

Jacques Monod, le hasard et la nécessité, Edition seuil Paris 1973, 244 pages

كاتب فلسفي

رحيل البابا الإنسان/ الدكتور فيليب سالم


23 نيسان 2025

في لحظة فارقة من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية والعالم بأسره، غيّب الموت قداسة البابا فرنسيس، تاركاً وراءه إرثاً لا يُقدَّر بثمن من الإيمان، والإنسانية، والمواقف النبيلة التي تجاوزت حدود الأديان والانتماءات، ولامست ضمائر البشر في مختلف أنحاء الأرض.

في هذا اليوم الذي يُحيي فيه المسيحيّون في كل أنحاء العالم صعود المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب، اختار بابا روما أن يصعد معه إلى السماء ويكون شاهداً على مجد الآب ومحبّته لجميع البشر.

لم يكن البابا فرنسيس مجرّد رأس للكنيسة، بل كان ضميراً حيّاً للعالم أجمع. رجل اختار أن يكون صوتاً للفقراء والمظلومين والمهمّشين، وأن يُناضل ضدّ الظلم بنبرة مغمورة بالحُب والرجاء. لقد أعاد إلى الكرسي الرسولي بريقه الأخلاقي، وحوّل دوره إلى منبر عالمي يدعو إلى الحوار والانفتاح، بدلاً من العزلة والانغلاق.

تميّز البابا فرنسيس بشجاعة فكرية نادرة، إذ تحدّث بصراحة عن الأزمات المعاصرة، بدءاً من التغيّر المناخي، وقضايا الهجرة، وصولاً إلى الفقر المدقع، ونزاعات الهوية والدين. لم يكن صوته مقتصراً على روما فقط، بل كان صدىً يُسمع في كل زاوية من زوايا العالم، يحمل هموم الإنسانية جمعاء.

في كل موقف، وفي كل زيارة، وفي كل صلاة، كان البابا فرنسيس «الإنسان»؛ رجلاً نزل من على عرشه الكنسي ليكون بين الناس، يَسير معهم، يسمع آلامهم، ويشاركهم أحلامهم بعالم أكثر عدلاً وسلاماً.

وُلِد خورخي ماريو برغوليو في الأرجنتين عام 1936، في عائلة متواضعة من أصول إيطالية. التحق بالرهبنة اليسوعية، وكرّس حياته للكهنوت والتعليم والرعاية الروحية. في عام 2013، تمّ انتخابه ليكون البابا الرقم 266 للكنيسة الكاثوليكية، وليكون أول بابا من أميركا اللاتينية. ومنذ لحظة انتخابه، اختار اسم «فرنسيس» تيمّناً بالقديس فرنسيس الأسيزي، رمز الفقر والسلام، وهو ما عكس بوضوح توجّهه الروحي والإنساني.

عُرف قداسة البابا فرنسيس بدعمه الكبير للبنان في أحلك الأوقات. ففي ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان، كان البابا الصوت الذي لا يَكلّ في دعمه للشعب اللبناني. لم يتوانَ عن تأكيد دعمه للبنان كدورٍ مميّز في المنطقة، وجعل من لبنان أولوية في رسالته العالمية.

من خلال دعوته الشهيرة لعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان، سعى البابا إلى أن يكون لبنان نموذجاً للتعايش المشترك، وقِيَم التسامح، والعدالة الاجتماعية.

كما كان حريصاً على توجيه نداءات متعدّدة للحفاظ على الهوية اللبنانية الفريدة، القائمة على التنوّع والاعتدال. وقد تجسّد هذا الدعم في تعاطفه العميق مع الشعب اللبناني، حيث شدّد على أهمية الوقوف مع لبنان في محنته، والدعوة لتضامن دولي حقيقي يساعد في إعادة بناء البلد على أسس من السلام والعدالة.

اليوم، مع إعلان رحيله، يشعر الملايين في كل أرجاء العالم بأنّ نوراً خافتاً قد انطفأ. لكن وعلى رغم من ذلك، ستظلّ ذكراه، ومواقفه، وقِيَمه، مشعّة في ذاكرة الإنسانية، وفي قلب كل مَن يؤمن بأنّ الدين في جوهره رسالة محبة، وأنّ الزعامة الحقيقية تكمن في الخدمة لا في الاستغلال.

رحل البابا فرنسيس، لكنّ صوته سيظل حيّاً، يوقظ الضمائر، ويذكّرنا بأنّ القوة الأعظم ليست في السلطة، بل في الرحمة.


 *نشر هذا المقال ليومين متتاليين-  نيسان 23 و 24 في جريدة الجمهورية.

فلسفة الثبات الانفعالي فن إدارة مشاعر الغضب والسيطرة على التوتر/ الدكتورة بهيّة الطشم

 


نعيش على الصحة النفسية والجسدية في آن؛ والنفس البشرية هي بمثابة مخزن للانفعالات والمشاعر ؛ وكذلك الربّان الذي يقود سفينة الجسد في رحلة الحياة لكل إنسان....؛ ولا غرابة أن كل نفس تنطوي على مجموعة من العُقد السلبية والإيجابية؛ وتبرز حِيال ذلك  أهمية النفس السويّة في مدى قدرتها على تعزيز النقاط الايجابية في الشخصية ؛ والعمل على إلغاء أو التخفيف من العُقد السلبية التي تُعيق التطور السلوكي في أي شخصية.

فالثبات الانفعالي يكمن في قدرة الشخص على التحكّم في انفعالاته والمحافظة على الهدوء والإتزان النفسي مهما كان مبلغ الصدمة النفسية كبيراً.

والعكس يعرّض صاحبه لفقدان الثبات الانفعالي ولنوبات مفاجئة ؛ اذ تؤثر في مدى سيطرة المخ على المشاعر؛ وبالتالي يصبح الانسان في هذه الحالة أسيراً للحالة الشعورية الانفعالية السلبية التي تؤثر سلبياً على شؤونه وشؤون الاشخاص المحيطين به.

ولم يكن بدٌ من الإشارة الى ان أفلاطون رائد الفلسفة اليونانية وصاحب المحاورات العظمى في محبة الحكمة أو الفلسفة  سواء في( الجمال؛ الحُب والسياسة) قد أشار الى ٣ قوى في النفس ألا وهي: النفس الشهوانية؛ الغضبية والعاقلة...واكدّ على ضرورة سيطرة النفس العاقلة على الغضبية والشهوانية...كي يحقق الانسان التوازن النفسي والجسدي بعيداً عن الاضطرابات النفسية والصراعات العصبية أو التشرذم الفكري...

وفي هذا السياق ؛ لا بدّ من استراتيجيةفلسفي وقائية تلقي الضوء الساطع على حيثيات محاربة موضوع الغضب وعدم الانصياع أو التسرع ( أهم سبب للاخطاء بتقدير الفيلسوف ديكارت) بردة فعل استفزازية....  او الإنجرار وراء تصرفات غير متزنة كإستثارة ساذجة من صاحبها على محفزات سلوكية أو كلمات مشبوهة من الآخر المستفِز..

ولا غرو في ذلك؛ فالفلسفة أو أم العلوم ؛والتي لم تتوانَ يوماً عن احتضان أو مقاربة الحلول الجذرية في ما يخص السلام النفسي بكل حذافيره.

يهاجم العدو الماكر( الغضب ) كل نفس بشرية ؛  بمشاعر سلبية تستنزف الطاقة الايجابية وتؤثر سلبياً على الدماغ البشري؛ وغالباً ما تجعله يتوقف لبعض دقائق...ويحرك دينامية السلوكيات السلبية والمتطرفة لدى الشخصية التي تستشيط غضباً في لحظات انفعالية سلبيةعارمة..أو ذروة الانفعال السلبي...

وفي ما يلي أبرز النقاط المساعِدة   في دعم التوازن النفسي:

* الحفاظ على الأفكار الايجابية وتكريسها فعلاً في السلوكيات

* الانقطاع ولو مؤقتاً عن الأجهزة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي وتكريس بعض الوقت للعائلة.

* القيام بجلسات تأملية وخلوة مع النفس وممارسة اليوغا.

* الحرص على تذكر الأمور الايجابية

* التنفس بشكل بطيء في حال التعرض لنوبة غضب شديدة أو صدمة ؛ وتغيير وضعية الجسم وصرف الانتباه الى موضوع آخر.

* عدم جعل موضوع الغضب محور التركيز

* ان يقتنع كل شخص بأن كل شيء في الحياة ممكن...وعالم الممكن ينطوي على الكثير من الاحتمالات ما يعزّز المناعة  والحصانةللنفس ضد الصدمات الشعورية.

* تذكر الأمور المُفرحة  واختراع مناسبات واحداث جميلة...والمشاركة بنشاطات ترفيهية أو القيام بإنجازات تزيد من هرمونات السعادة سيما الدوبامين والسيروتونين.

* إجراء تنويم مغناطيسي hypnotisme ذاتي وغيري

وأخيراً يؤثر الغضب المفرط على الصحة النفسية والجسدية في آن؛ كما أن التحكّم في الغضب هو مفتاح الشخصية السوية ويقلل من الأمراض القلبية والعضوية ويحسّن من أداء الانسان ويحقق التوازن النفسي والعاطفي ويزيد الشعور بالثقة؛ اذ أن الشخص الثابت إنفعالياً يُدير نفسه ومجتمعه بشكل ناجح ويبني السلوكيات الايجابية ويحسّن جودة الحياة النفسية...


شِعْر اقتصاديّ- حتّى لا ضربة خفيفة على الجناح/ ترجمة ب. حسيب شحادة



Economic Poetry - Not Even a Light Stroke on the Wing


جامعة هلسنكي


في ما يلي ترجمة عربيّة لما كتبت الصحفيّة الإسرائيليّة أورلي پوپر اليوم، الرابع والعشرون من نيسان 2025، عشرة أسطر ذات قافية واحدة لكلّ سطرين في الأصل. پوپر تكتب مقالات رأي حول حقوق الإنسان، الفلسطينيّين، الإعلام، السياسة، المجتمع والتربية في صحيفة هآرتس العبريّة اليوميّة، وهي نشيطة في منظمّة مَحْسوم ووطْش/مراقبة نقطة التفتيش، لمنع التمييز والعنصريّة إزاء الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1967. ترى پوپر أنّ الإعلام الإسرائيليّ ينشر معلوماتٍ جزئيّةً أو سطحيّة حول الفلسطينيّين. كما أنّها تنتقد حالة الصحفيّين الاقتصاديّة ولا سيّما لدى الشباب. لا أذكر أنّي قرأت للسيّدة پوپر شيئًا من قبل ولكنّي تعاطفت مع الحسّ الإنسانيّ المرهف فقمت للتوّ بنقل ما كتبت إلى العربيّة.


” يقصف صاهل/جيش الدفاع الإسرائيليّ عشوائيًّا في غزّةَ وسكّانها يتضوّرون جوعًا لكسرة الخبز، وفي ذكرى الهولوكوست/المحزقة على النقس اليهوديّة ألّا تظلّ غير مكترثة ولكن في هذه الأثناء يُلقي المستوى السياسيّ الغسيل الوسخ على المستوى العسكريّ ويبقى الكلّ عاجزين“.

وفي عدد هآرتس ذاته كتب الصحفيّ المشهور چدعون ليڤي ”إسرائيل لا ترتكب محرقة بالشعب الفلسطينيّ.في التسعة عشر شهرًا الماضية اقتربت إسرائيل لذلك بسرعة مذهلة، يجب قول ذلك لا سيّما هذا اليوم“. 


مَن سيوزِّع المساعداتِ الإنسانيّةَ في قِطاع غزّة؟

لماذا تجِب المساعدة – عندما يكون الهدفُ جليّا:

تدميرٌ، قصْفٌ وإبادةٌ ماحقة

لمِ مساعدة مَن لا يقوى حتّى على الأنين؟

وزير الدفاع أعلن: لا جوعَ في غزّةَ إطلاقا.

هل توقّعتم أن يعرفَ الوزير الكبير الوضعَ؟

وزير الماليّة أعلن: الجيش سيوزّع الإرساليّات!

رئيس الأركان هلِع: إلى أيّ مدًى نحن سائرون؟

وكذلك الجنود لا يتدفّقون بأعدادٍ كبيرة

والطيّارون مُتعَبون، وكلّ قنبلة تخلُق الهلْوسات. ‏

يحمَرّ وجه وزير الماليّة خجلاً وغضبًا - أنت تتمسْكن؟!

لا تريد أن تعمل؟ نستبدلك بمن يرغب!

هؤلاء المسؤولون عن مستقبل أبنائنا

يجرّورننا راهنًا إلى حربِ نهاية طريقنا

إنّهم لا يسألون عنِ المخطوفين شيئا

وحتّى لوِ انتصرنا على الورق، ودمَّرنا كلَّ غزّة

وأطفالها يموتون جوعًا (إن لم يكن قصْفا)

إنّ الضررَ الذي ألحقوه بنا وبهم - لم يكن متوقّعا.

عند صفّارة المحرقة سيكون مَن لا يقفُ معَ الآخرين

بعد أن أدرك أنّنا بُرّئنا بـمقولة ”الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم“.


https://www.themarker.com/allnews/2025-04-24/ty-article/00000196-6615-de67-a5df-ff5db8fd0000?utm_source=mailchimp&utm_medium=email&utm_content=tag-alert&utm_campaign=%D7%A8%D7%A6%D7%95%D7%A2%D7%AA+%D7%A2%D7%96%D7%94&utm_term=20250424-07:51 


في تأمُّل تجربة الكتابة بيني وبين زياد خدّاش/ فراس حج محمد



أجرى معي الكاتب زياد خدّاش حواراً لصالح صحيفة الأيام الفلسطينية[1]، وكان لهذا الحوار قصّة. التقيتُ مع زياد صبيحة يوم الأربعاء 3/7/2024 عرَضاً دون تخطيط في مكتبة الجعبة في رام الله، كنت مشغولاً بالتفتيش عن الكتب الصادرة حديثاً، وخاصة تلك التي تتعلق بالحرب على غزة. دخل وسلّم وتبادلنا المجاملات، وتحدّثنا عن التقاعد، دردشة قصيرة، ولم ينسَ- مازحاً- ما كنّا تواعدنا عليه مع بعض الأصدقاء؛ "عزومة على أكلة مسخّن في بيتي". وقبل أن يُودع بعضاً من أغراضه الشخصية في المكتبة، أخبرني أنها فرصة لإجراء حوار معي بعد أن التحق بعمل جديد في الصحيفة غير زاويته الأسبوعية (الثلاثائيّة) في عمود "دفاتر الأيام"، وأكد أنه سيرسل لي الأسئلة اليوم، وشدد على أن تكون في حدود ألف كلمة، حتى لا يضطر المحرّر أن يُعدّل ويحذف؛ لأن المساحة محددة، كما حصل مع آخرين، فأبدوا نوعاً من الغضب أو الحرد. "نحن في غنىً عن هذا يا صديقي". قال زياد باسماً.

اتفقنا على ذلك، وكنت سعيداً باللقاء، وأكثر سعادة بهذه المبادرة، لا سيما أنها من كاتبٍ وقاصٍّ وصحفي له حضوره الثقافي المهمّ عربيّاً وفلسطينيّاً، عدا أنّه يعمل لصالح صحيفة يومية ذات حضور عند المثقفين والكتّاب، ولا أخفيكم سراً أنه طموح لأيّ كاتب أن يقوم أحدهم- فما بالكم بزياد- بعمل حوار معه لصالح صحيفة وازنة عدا أنّها فلسطينية، ففلسطين بلدي، ومن حقي أن أكون فيها، كاتباً، ومعرّفاً بي، وبكتبي، ومشاريعي الثقافية الممتدة بين الحقول الأدبية، وبين النشاط التربوي والأكاديمي، والسياسي.

أرسل لي الأسئلة عبر الواتسآب تباعاً، سؤلاً، وراء سؤال، أبديت إعجابي بالأسئلة، فهي مختلفة، ومن زاوية أخرى تدفع إلى الاستفزاز، استفزازي أوّلاً للإجابة بحماسة دون التخلي عن شرط المساحة، واستفزاز المتلقي. كان زياد متوقّعاً أن تثير هذه "الدردشة" لغطاً وحواراً آخر مع الوسط الثقافي، إذ يرى حسب تلك الرسائل الصوتية التي أرسلها عبر الواتسآب تحمّسه للحوار، وأنه لا بد من تحريك المياه الراكدة، وأن يكون هناك نقاش حقيقي واشتباك فكري بين الكتّاب حول القضايا المطروحة، على غرار ما كان يحدث سابقاً فيما عرف بالمعارك الأدبية. لكنْ، لم يحدث شيء من هذا، هل خيّبتُ ظن زياد أم أن مزاج الكتّاب المحموم بسبب ما يجري في عموم الأرض الفلسطينية، وفي على وجه الخصوص، في غزة حال دون ذلك، فالوقت ليس وقت مناحرات أدبية؟

يتألف الحوار من ثمانية أسئلة، نشر منها ستة، (حُذف السؤالان الثالث والسابع)، نظراً للمساحة المحدودة الممنوحة لهذه الزاوية في صفحة "أيام الثقافة". أحد الأصدقاء بعث لي رسالة يقول فيها: "تلصّصت على دردشتك مع زياد. أحببتها، ذكية وحميمة"، كما وصف الدكتور عادل الأسطة الحوار بأنه ممتاز، إلا أنه قصير". 

أضفتُ لهذه الدردشة سؤالين آخرين، الأول يتعلق برد فعل الناس والنقاد على نصوص الحب التي أكتبها، وكان قد اتصل بي خدّاش لأكتب له عن رأيي في "نصّ الحب في المشهد الشعري الفلسطيني"، وهو السؤال رقم (9)، وقد أدرج زياد قسماً كبيراً من الإجابة في مقالته الأسبوعية التي يكتبها لصالح صحيفة عُمان، وتناول فيها ديوان الشاعر المرحوم محمد دلة "مرثية الفارس الغريب"[2].

كما أضفتُ السؤال (10) من وحي دردشة مع زياد حول الكتابة الأيروسية أو الإباحية بعد أن أعدّ مقالته الأسبوعية لصالح صحيفة عُمان[3] حول كتاب "سر الجملة الاسمية". يرى أنني يجب أن أضيف بعداً فلسفياً على تلك الغرائز التي تناسب البدايات، فنحن خرجنا من هذه المرحلة، حيث يكون الإنسان مجنوناً وغرائزياً، ويريد أن يحتفل بالمشهد، لكن الآن يجب أن تصبح غرائزيتك وإباحيتك فلسفية، تربطها بمسائل أخرى كالحب والسياسة، ويقول: "يوجد في بعض المقاطع الإباحية التي توردها نوع من الابتذال؛ بمعنى أن الموضوع مكرر، والأوصاف وطريقة الحديث، فهناك بُعْد ومداخل للحسية فيها بعد فني وجمالي أكثر، أنا كنت مثلك كاتباً مجنوناً وإباحياً، وعندي مشاريعي في المستقبل، قرأت الخراط[4] وأثّر فيّ، وكنت أفهم الغرائزية خطأ، يبدو لي أن تكرار الحديث عن الحسية بشكل متواصل دون إضافات وربطها بالفكرة والفلسفة لا يجعلها جيدة في ذاتها".

لم يكن زياد على علم بما حدث معي عام (2016) من تحقيق بشأن مقال "أجمل ما في المرأة ثدياها"، عندما نشرته على صفحة الفيسبوك مقروناُ بلوحة "الفتاة التي أرضعت أباها"، وتفاجأ بهذه المسألة، ووعدته أن أحدّثه بالتفصيل عن تلك الأزمة التربوية الأخلاقية القاسية، ولعلّه سيقرأها قريباً في كتابي "الوقوع في اللهب" الذي أعددته من أجل توثيقها والتوثيق لكل المقالات التي سببت إزعاجاً في الوسط التربوي. 

صدّر خدّاش الحوار في جريدة الأيام بهذه المقدمة: "هو أبرز من شاكس وأكثر الشعراء والساردين الذين يرفضون ما يعتقدونه تشويشاً لنقاء الكتابة، يعمل فراس مفتشاً[5] في وزارة التربية والتعليم، في نصوصه لا نرى المفتّش، يخفيه بذكاءِ مَنْ يعرف أن هذه المهنة لا تناسب الأديب، في رصيده كتب كثيرة، جُلّها في مقارعة السائد، وتدمير المتفق عليه الذي لا يعجبه، حتى حسين برغوثي لم يسلم من آرائه، هذه دردشة مع فراس حج محمد:

1.  فراس، المعظم يقول إنك مجنون تكتب ما يخطر في بالك، وتبحث عن الممنوع والمحرج. هل هذا هو مفهومك للأدب؟

أولاً، دعني أشكرك مرتين، الأولى على هذا الحوار، والأخرى على هذه الافتتاحية بسؤال الجنون. كل ما هو خارج عن المألوف يوصف بالجنون، سعيد بهذا الوصف. إذ إنني أحب كالمجانين تحريك المياه الراقدة ولفت الانتباه إلى ما يجب أن يُلتفت إليه بطريقة لافتة، دفعاً للتفكير ومساءلة الذات، وإذا تحقق هذان الشرطان مع شرط أدبية النص فإنني أستطيع القول إنني أنتجت أدباً جيداً، وهذه الثلاثة أركان تشكّل مفهوم الأدب، كمفهوم عام، لكنني أصنعه بطريقتي لتكون لي بصمتي الخاصة في كتابته.

2.  أنت موجه أو مفتش بالتعبير القديم في مدارس فلسطين. في الكتابة أيضا تفتّش وتوجّه. كيف نفرق بين السياقين؟

أعاني أغلب الوقت من ازدواجية في الشخصية، ما بين المشرف التربوي (المفتش) وما بين الكاتب الناقد، وهما وظيفتان تلتقيان عند حافّة مهمة وهي الانتباه إلى الإيجابيات والسلبيات في كلا العملين التربوي والأدبي تبدو المنفعة متبادلة، فتقييم التعليم يعتمد على ملكات نقدية، والكتابة النقدية أو الإبداعية تقبس من رسالية العمل الإشرافي، إلا أن لكل منهما مجاله وأبجديات عمله، ويختلفان في المصطلح المستخدم والإجراءات المتبعة للتنفيذ.

3. أصدرت كتابا مهماً "استعادة غسان كنفاني" برأيك ما مدى أهمية هذه الاستعادات لرموزنا الثقافية؟

جاء الكتاب في فترة ركود سياسي واجتماعي عام، وبدأ الضعف يدبّ في فكر المثقفين ومواقفهم، هكذا كنت أرى، وسبق الكتاب مجموعة من المقالات حول دور المثقف في الحياة، جعلتها فيما بعد فصلاً افتتاحياً فيه، لأنني أردت استعادة غسان المثقف بالدرجة الأولى لا غسان الأديب. ففكرة الاستعادة بحد ذاتها تتجاوز مفهوم الرجوع إلى أدب الأديب إلى ضرورة استحضار نهجه ومقولاته لتكون دليلاً في غمرة الإحباط العام. أعتقد أن أمثال غسان كنفاني في هذا المفهوم قلائل في الأدب الفلسطيني، إذ لا تمثل الاستعادة الرجوع إلى ما كتبوا لنعيد طباعة كتبهم إنما استعادة النهج والاستفادة منه في الحاضر. غسان كنفاني كان يمثل مشروعاً وطنياً وسياسياً وثقافياً مختلفاً، وأظن أن من يُقارن به قليل، بل ونادر جداً.

4.  تسكن في قرية وتتواجد في رام الله باستمرار. كيف تقرأ رام الله يا فراس سياقاً، تاريخاً، ومعماراً وثقافة ومؤسسات ثقافية؟

أحب الريف حباً جماً، وأنفر من المدن بعامة، ولا أحب حياة الناس فيها، لكنني كنت مضطراً في أحيان إلى التعايش مع أجواء المدن، ومنها رام الله. لا أعرف هذه المدينة كما تعرفونها، أعرف فيها مكتبة أو اثنتين، ومقهىً واحداً أو اثنين، لكنني أعرف ما فيها من حركة ثقافية، وما ينشر فيها من كتب، وما يصدر فيها من صحف، وما يقام بها من فعاليات. هذه الأجواء هي التي ربطتني بالمدن، نابلس ورام الله والخليل وغيرها، وهي بالتالي شكّلت جزءاً من معارفي منذ دخلت إلى تلك الأجواء وتعرفت إلى ناسها المثقفين تحديداً. وأعتقد أنه لولا هذه الحركة الثقافية لا حاجة لي لأية مدينة في العالم مهما كانت عريقة أو جميلة.

5. تبدو مشغولا بالحب في نصوصك. وأحب إصرارك على ذلك. لماذا برأيك لا يوجد في فلسطين كتاب حب بالمعنى العاطفي الهستيري للكلمة؟

منذ نشرت ديواني الأول "أميرة الوجد" بلورت مشروعي الشعري ليكون شعراً وجدانياً، شعر حب بالتحديد، بدأت كلاسيكياً. وعذرياً (كما وصف الكاتب إبراهيم جوهر الديوان)، ثم تدرجت لأتحدّث عن كل ألوان الحب بكل الألوان الشعرية، حتى ما أطلقت عليه العاطفي الهستيري، لتكتمل صورة الحب في دواويني العشرة من البراءة والقداسة حتى الغرق في الأيروتيكية. بهذا التوصيف كنت أعوّض النقص الحادّ في شعر الحبّ الفلسطيني، وأنفر منذ كنت عضواً في أحد الأحزاب[6] من توظيف الشعر سياسياً وأيديولوجياً كما قد يفعل الشعراء الآخرون. إنّ غرق الشعراء في الهستيريا السياسية المحتدمة يومياً ربما السبب في صناعة الشعر على هذه الصورة. أضف إلى أن القرّاء يستغربون منك شاعرَ حبٍّ، وإن كنت شاعراً جيداً وينتقدونك، لكنهم يمدحونك ويقبلون على ما تكتب من شعر مقاومة حتى لو كان شعراً رديئاً، ولتتأمل عمق هذه المأساة، فإن محمود درويش عندما أصدر ديوان "سرير الغريبة" وجدت كثيرين يصفونه بصفات أفقدته "نياشين الشاعر المقاوم". الأمر يعود إلى التركيبة الذهنية والنفسية للمتلقي.

6.  كتابك الرهيب (نسوة في المدينة) الصادر عن دار جسور للنشر وصل إلى ما فوق سقف البوح الأدبي الصادر عن تجارب حقيقية. من خلال قراءتك لردود أفعال القراء. كيف تعاملت الذائقة الفلسطينية التي لم تعتد على هكذا بوح؟

أعتقد أن كثيرين قرأوا الكتاب وأحبوا ما فيه، سراً لا علانية، أحد القرّاء كان يقرأ فيه مع زوجته في غرفة النوم قبل الشروع في العلاقة الحميمة، جاءني في يوم من الأيام وقصّ عليّ القصة، وأن زوجته تدعو لي. أسعدني ذلك بالطبع، لكنها سعادة منقوصة؛ فالكتاب ليس كتاباً جنسياً بالدرجة الأولى، وإن اعتمد على العوالم السرية بين الرجال والنساء إلا أنه يحمل مؤشراً على حياة افتراضية يغرق فيها الناس إلى حد الوهم المطلق، لأنني عندما كتبت الكتاب بعد صحوة من غياهب هذا العالم أدركت خطورة أن تتحول الحياة الاجتماعية واللذة الحسية إلى مجرد سيل إلكتروني صوتي وصوري وكتابي، ومع ذلك لم أجد من شتمني أو انتقدني كما كان يتوقع صديقي رائد الحواري عندما أطلعته على المسودة، وكان يقترح أن أطبع منه عشرين نسخة لتُوزّع على الأصدقاء الموثقين فقط.

7. ابتسامتك الجميلة التي تتجول بها في أروقة معارض الكتب في فلسطين تتناقض مع قائمة الحظر الطويلة عندك في وسائل التواصل. كيف تردّ؟

الناس في مواقع التواصل الاجتماعي مجرد أشباح، ولدوا هناك بالنسبة لي وإن غادروني لا شيء يربطني بهم، ولا حنين لأي منهم، عدا أصدقائي ومعارفي الذين أعرفهم في الواقع. فمثلا النساء الواردات في كتاب "نسوة في المدينة" الآن لا أتذكر أية امرأة منهنّ إلا من التقيتهن في المقاهي والفنادق والمطاعم. فلذلك من السهل أن تُقلّل من أفراد هذا المجتمع عندما يصبحون عبئاً نفسياً. أما الناس في الواقع وفي معارض الكتب فأنا أكون في أهم مكان بالنسبة لي؛ الكتب من حولي، والكتّاب والمعارف والأصدقاء. فتسيطر عليّ أجواء السرور فأظل منتشياً ومبتسماً.

8. لديك آراء صادمة في تجربة حسين برغوثي الأدبية.

لهذه المسألة وجوه متعددة، أولا ما تحدثت به عن حسين البرغوثي جاء في سياق مبالغة أصدقائه في الحديث عنه في ذكراه (ذكرى وفاته)، ودعني أكشف لك سراً أن أحد الشعراء (الأصدقاء) أمدني بما كتبه عن حسين البرغوثي، فلم تعجبني كتابته. ثانياً قرأت البرغوثي منذ أمد بعيد عندما كانت تُنشر نصوصه في مجلة الكرمل ومجلة الشعراء، ولم يكن يستهويني الغموض في كتاباته. أشعر أنها عائق حقيقي للفهم لشخص مثلي تربّى على كلاسيكيات الأدب، والكتب الدينية. لم أكن أفهم ما يقول؛ لأنه لا مفاتيح للدلالة لديه، أو أنني أنا الذي لم أكن أملك تلك المفاتيح. الغريب في الأمر أنني عندما أعود الآن إلى ما كتب تبقى عصية على الفهم. إجمالا أطمح أن يكون الأدب سهلاً عالي المستوى، ليس طائشاً في سطحيته، ولا غارقا في غموضه البائس.

9. سألنا الكاتب والشاعر فراس حج محمد وهو صاحب كتب شجاعة توغلت عميقاً داخل عوالم الممنوع في الكتابة الفلسطينية عن تجربته في مواجهة جملة (إحنا في إيش وأنت في إيش)

لا شيء يستفز القرّاء كما يستفزهم موضوع الحب والجمال وعلاقة الرجل مع المرأة، فترى القراء مهووسين بالمتابعة والتعليق، والتلصّص وبناء الأفكار فيما بينهم وبين أنفسهم، لا سيما إذا كان أحد الطرفين مجهولاً في النصوص، فيبادرون ويسألونك من تقصد أو لعلها فلانة، ويأخذون بقراءة "مخابراتية"، وقد يوفقون أحيانا في اقتناص معلومة لم يحترس لها الشاعر المتغزّل، لتبدأ عملية تبئيرية فيضعون الطرفين تحت المراقبة الدائمة. (للأسف نجح بعضهم باختراق عوالمي والكشف عن أولئك النساء، فأصبح الأمر محرجاً جداً في مجتمع يعاني من أمراض الحبّ)

وهناك مظهر آخر يتم فيه مهاجمة كاتب النصوص الغزلية، وخاصة الفلسطيني، بدعوى أن الفلسطيني لديه ما يشغله عن الحب، والوقت ليس وقت غراميات، "والعالم عم تموت"، هكذا قيل لي مرات كثيرة، ولكن تزداد النقمة عليك إذا كان النص مفخّخاً بالأيروسيات، فيُدخلك القرّاء في دائرة الأخلاقيات، والحلال والحرام، وانتهاك الأعراض، لتبدأ معركة أخرى، تحضر فيها الغوغائية، وعدم فهم النص، والانحراف في التأويل، وخاصة لشخص مثلي يعمل في سلك التربية والتعليم، لتزداد عبارات التنمر، والطرد من جنة الأخلاق الفاضلة، وتصبح شخصاً خطراً على المجتمع التربوي برمته.

أما النقاد والناقدات فالأمر مختلف لديهم، فلم يحدث أن هاجمني ناقد أو ناقدة لنص غزلي كتبته[7]، حتى لو كان ذا صفة أيروسية مباشرة، بل كانوا يأخذون النصوص لأبعاد معرفية وفلسفية تسعدني جدّاً، ويرون في النص ما لم يره القارئ العادي، وإن وصفوني مثلاً بالجرأة والشجاعة، متوقعين نقمة المجتمع عليّ بسبب هذه النصوص، ولا أعدو الحقيقة لو قلت إن هؤلاء النقاد كانوا يشكلون شبكة أمان لي أحتمي بها في وجه بركان المجتمع المتربص.

10.  عندي ملاحظة: تبدو الغرائزية في بدايتها واضحة لديك في النصوص، كيف يمكن تفسير هذا؟

هذا موضوع مهم وحيوي لا يخلو منه كتاب لي. ناقشته كثيراً في كتبي، وفي بعض المقالات، الأمور بالنسبة لي هي تعبير عن حالة إنسانية، لم أفكر بتجميلها أو تحميلها بعداً أكثر من اجتماعيتها في سياقها المولودة فيه، بمعنى أنني التزمت بواقعيتها، لا ببدائية المعنى الغرائزي.

بالتأكيد ستجد كل شيء، في كتاباتي الموزّعة في كتب كثيرة، حتى هذا البعد الفلسفي الذي تتحدث عنه. وكل ما كتبته في النهاية ما هو إلا اقتراح للتعبير عن هذه الأفكار. قرأت (جورج باتاي)[8] وما كتبه عن الأيروسية، كتابه في هذا الموضوع جيد وأفادني كثيراً، مع أنه صعب، كما أن له ديوان شعر ومجموعة قصصية قرأتهما، لأرى كيف يكتب الفيلسوف عن الجنس، وركز على البعد الحسي المباشر في المجموعة والديوان، لكنه فلسف الأمر في كتابه الأيروسية، كما اطلعت على كتاب "الفلاسفة والحب- الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار"، ويضم عشر فلاسفة يتحدثون عن الحب، وقاربوا موضوع الجنس، فيما كتبوه لمحبوباتهم أو عنهنّ، ولا يخلو ذلك من هذه البدائية وتلك الغرائزية.

على العموم، لا بدّ من قراءة كل ما كتبتُه في هذا الموضوع ليكون الحكم أكثر دقة وصوابيّة، على الرغم من أن ملاحظتك في محلها في بعض ما كتبت واطلعتَ عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] نشر الحوار في عدد (10454)، بتاريخ: 7/1/2025.

[2] جريدة عُمان، عدد 15427، الخميس، 9/1/2025.

[3] إدوار الخراط روائي وقاصّ مصري إسكندراني ولد بـ (16 مارس 1926) وتوفي بــ (1 ديسمبر 2015)

[4] يقصد الروائي المصري إدوار الخرّاط.

[5]  التسمية المعتمدة في وزارة التربية هي المشرف التربوي، ولعلّ زياد أطلق لقب المفتش ومرة "الموجّه" ليعبر عن تلك العلاقة غير الودية التي كانت بينه وبين المشرفين التربويين، كونهم أداة من أدوات المراقبة، والحدّ من الإبداع

[6] حزب التحرير (الإسلامي)، بقيت منتميا للحزب أكثر من (17) عاماً، وتركت العمل الحزبي والسياسي في العام 2012.

[7] عدا ما حدث معي من قراءات هجومية لديوان "ما يشبه الرثاء" من بعض أعضاء ندوة اليوم السابع المقدسية.

[8] فيلسوف ومفكر فرنسي، ولد في (10 سبتمبر 1897) وتوفي في (8 يوليو 1962) تناولت كتاباته مواضيع مثل الإثارة الجنسية والتصوف والسريالية.


الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي/ الدكتور حسن العاصي



أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا


تمثل القومية ـ باعتبارها مرجعاً قوياً للهوية ـ عنصراً مهماً في تطور وتصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. علاوة على ذلك، وضمن السرديات الأوسع للقومية، تلعب القومية الدينية خاصة، والتي تتمثل في دمج الدين في السرد القومي، دوراً رئيسياً أيضاً، لأنها تضيف الشرعية الأخلاقية إلى القومية وافتراضها المرتبط بالقيمة العليا والمقدسة للدولة القومية.

إن دور الدين في السياسات الوطنية أخذ في التصاعد منذ تسعينيات القرن الماضي. لقد انتقل دور الدين في الشرق الأوسط ـ بصورة عامة ـ بشكل متزايد إلى صدارة التاريخ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001. وقد أثيرت أسئلة مهمة بشأن الدور الذي يلعبه الدين في تعزيز فرص السلام أو إدامة وتصعيد الصراع. بلا شك إن الديانات التوحيدية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحية عززت تاريخياً الصراع والسلام، مما يجعلها متناقضة. فحين تعكس كل هذه الديانات سرداً وقيماً للسلام، إلا أنها أصبحت أيضاً طرفاً في العديد من الصراعات عبر التاريخ. وكانت الكراهية القائمة على الاختلافات العرقية والدينية في جذر العديد من الحروب عبر التاريخ، بما في ذلك الحروب الصليبية في العصور الوسطى (المسيحيون الأوروبيون مقابل المسلمين العرب)، وحرب الثلاثين عاماً (الكاثوليك مقابل البروتستانت)، والتي دمرت أوروبا في القرن السابع عشر. لقد أصبح الدين متشابكاً مع تكثيف الصراع والعنف في مختلف أنحاء الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وينعكس هذا الاتجاه أيضاً في جوانب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

يمكن بوضوح الإشارة إلى اليهود الأرثوذكس والصهاينة المتدينون المتشددون كمجموعة أدرجت الدين في هويتها الوطنية ورؤيتها للصراع بما يتجاوز الأطر القومية التي جعلت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد. بحيث أصبح فيها الدين محفزاً للصراع، وأداة إضافية للتحريض على قتل وإبادة الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم وطردهم من وطنهم.


مراجعة الأدبيات

إن فهم دور الدين في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتطلب فهماً للصراع القومي الأوسع الذي يدور حول العرق بين الجانبين. ويوفر هذا الأخير السياق للبحث في الطرق المختلفة التي يتعامل بها أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية على التوالي مع وظيفة دينهم في الصراع. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه في حين أن القومية ونهجها العرقي تجاه الدولة يشكلان محركاً مركزياً في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن القومية ليست فريدة من نوعها بالنسبة للجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني، حيث إن القومية هي سرد رئيسي يربطه العلماء بالتطور التاريخي للحداثة وظهور الدول القومية. ولهذا السبب، من الضروري مراجعة الأدبيات حول الخصائص الأساسية للقومية كحجر أساس للتركيز على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووظيفة الدين في داخله.

إن موسوعة الهوية تعد أحدث مجموعة من الأعمال العلمية حول هذا الموضوع، تسلط الضوء على القومية باعتبارها أحد المراجع المركزية للهوية. وتشير الموسوعة إلى مجموعة واسعة من المراجع المتعلقة بالهوية، من الطبقة إلى العرق إلى الجنس، إلخ. ومع ذلك، باعتبارها سرداً حداثياً لتكوين الهوية، فإن القومية لها دور بارز في الصراع من خلال ارتباطها بالدولة القومية.

وسواء كانت في الرؤى العلمانية أو الدينية، ينظر العلماء إلى القومية باعتبارها واحدة من أقوى القوى في العالم الحديث. فما هي الخصائص الرئيسية لهذه السرد القوي؟

إن مفهوم القومية متأصل في الحياة اليومية لمواطني الدول القومية الحديثة. إن الفخر الذي يشعر به الناس تجاه الإنجازات الوطنية، والتعبيرات التي يبديها السياسيون عن "المصالح الوطنية" في تبرير السياسات، والرموز التي تستخدمها الدول للتعريف بالذات (مثل الأعلام، والأناشيد الوطنية، والآثار) هي إشارات سائدة للقومية باعتبارها هوية جماعية، وتساعد في خلق وعي وطني بين الأفراد المختلفين. وفي حين كانت القومية ضرورية لبنية الدول القومية الحديثة ويمكنها أن تلعب دوراً حتمياً عندما تواجه المجتمعات أوقات الأزمات، فإنها يمكن أن تدفع الناس وقادتهم أيضاً إلى النظر إلى دولتهم على أنها معصومة عن الخطأ ولا تشوبها شائبة، مما يبرر استخدام القوة والعنف للتعامل مع الخصوم الحقيقيين أو المفتعلين.

وقد تضاعف الاهتمام البحثي بمفهوم القومية بشكل كبير خلال الثمانينات واستمر حتى يومنا هذا. ركزت الدراسات السابقة على القومية الأوروبية باعتبارها القوة الدافعة التي أدت إلى الحربين العالميتين، ولكن في الآونة الأخيرة كان هناك المزيد من التركيز على الأمثلة غير الغربية، وخاصة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. في الشكل الكلاسيكي للقومية، والذي ينطوي على إنشاء الدول ذات السيادة والحفاظ عليها، فإن الولاء للأمة له الأسبقية على جميع الولاءات الأخرى، مثل الروابط الإقليمية أو المحلية أو القرابة. وعلى النقيض من القومية الكلاسيكية، من المرجح أن تثير الدول ما بعد القومية حقوق الفرد والإبداع وتنوع المجتمعات داخل الأمة باعتبارها أساسية للديمقراطية.

في القومية، تتمتع فكرة الأمة بالسيطرة على الناس والتي ربما يمكن فهمها بشكل أفضل على أنها نتيجة للخصائص المبالغ فيها التي يروج لها العقل القومي ويمنحها للدولة القومية. وبصرف النظر عما إذا كانوا يرون القومية كقوة إيجابية أو سلبية، فإن العلماء عادة ما يعترفون بأن الأمة في القومية تحتل أعلى مرتبة، وتُنظر إليها باعتبارها الوكالة العليا للأهمية والهوية الجماعية والتبرير الأخلاقي. لقد لاحظ المفكر اليساري البريطاني "إريك هوبسباوم" Eric  Hobsbawm بشكل نقدي أن إحدى الطرق القوية التي تكتسب بها القومية صفة الإثبات التاريخي هي من خلال افتراضها أن الأمة مقدسة. فيما ذهب البعض إلى اعتبارها بديلاً للدين. ويمكن تطبيق هذا التصريح على القوميات التي جسدت الدين التقليدي كجزء من بنيتها العقلية للقيم (على سبيل المثال، القوميات الصربية واليونانية والهندوسية والإسلامية والأيرلندية البروتستانتية والأيرلندية الكاثوليكية) وكذلك على القوميات العلمانية التي تهدف إلى إلغاء الدين التقليدي من هياكل قيمها للهوية الوطنية (على سبيل المثال، القوميات التركية والفرنسية والمصرية والسورية).

وفيما يتصل بالنهج القومي للتاريخ، فقد تم إضفاء طابع طقوسي على إسناد القداسة إلى فكرة الأمة في تمثيل الزعماء الوطنيين، وفي الاحتفالات العامة ذات التوجه العرقي، وفي السرديات الرئيسية للأعمال الشجاعة الوطنية التي تركز على الإنجازات غير العادية، والتي تسلط الضوء عليها الثورات والحروب وقصص الأعمال البطولية. وتدمج هذه السرديات القومية للتاريخ حقائق تاريخية مختارة في أساطير المجد الوطني والعظمة والمصير الملزم والعظمة، وتربط بين هذه الأساطير والحكايات. إن القومية، من خلال تصور مبالغ فيه للأمة، تبرز صورة مجيدة للأمة، وتضعها في ماضٍ بدائي فائق، تحول بالضرورة إلى حاضر مقنع ملزم بالواجب، ومستقبل لا نهائي وعظيم. بكل هذه الطرق، تُطور القومية مفهوماً أحادي المركز ونرجسياً لعالم حياة الأمة، وتصمم صورة لتاريخ الأمة تحدد "الخير" بأمتها و"الشر" بـ "الآخر"، وتحديداً "العدو الآخر".

كان الجانب الأكثر إشكالية في القومية على المستويين الوطني والدولي هو قدرتها على ربط التفكير الأخلاقي واستخدام القوة / العنف، وخاصة في وقت الصراع. بطريقة فريدة من نوعها. لقد أسست القومية تاريخياً الحق في استخدام القوة/العنف في المنطق الأخلاقي القائل بأن الأمة هي القيمة الجماعية النهائية والأساس الضروري للمجتمع، والهوية، والأمن، والرفاهية. وقد جعل هذا التكوين من المعتقدات والأفعال القومية مُشرعاً قوياً لاستخدام القوة والعنف طوال التاريخ الحديث ومعظم تاريخ ما بعد الحداثة. تكشف أبرز رموز القومية، بدءًا من الأناشيد الوطنية والأعلام الوطنية والآثار والتأريخ، عن رموز وتتضمن سرديات الحرب والثورة والبطولات وسفك الدماء كمراجع عليا للهوية الوطنية والمجد والشرف.

تعمل القومية على افتراض أن بنية الهوية هي عرقية أحادية البعد بشكل حصري وأساسي. ويوضح المؤرخ الكندي "مايكل إغناتييف" Michael Ignatieff وهو باحث مشهور في القومية العرقية، أن: "القومية، باعتبارها مثالاً ثقافياً، هي الادعاء بأن الرجال والنساء لديهم هويات عديدة، ولكن الأمة هي التي تزودهم بالشكل الأساسي للانتماء". ويشير إغناتييف كذلك إلى أن القومية هي أقوى حافز وشرعية للعنف المميت واستخدام القوة المميتة. كما يؤكد أنه على عكس المراجع الأخرى للهوية والانتماء، مثل الأسرة أو المهنة، تقدم القومية سردًا يمكنه اللجوء بسهولة إلى مبررات للعنف. ويشير إلى أنه ليس من الواضح "لماذا يجب أن تكون الهوية الوطنية عنصراً أكثر أهمية للهوية الشخصية من أي عنصر آخر؛ ولا من الواضح أيضاً لماذا يبرر الدفاع عن الأمة استخدام العنف". وهذا يعني ضمناً أنه على عكس جوانب أخرى من الهوية، تفسر القومية الهوية الوطنية على أنها عليا ومقدسة، وبالتالي تستحق التضحية البشرية.

عند النظر إلى الحروب والعنف الذي اجتاح الشرق الأوسط في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، باعتبارها السياق الأوسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتكشف، نلاحظ تكثيف القوميات المتنافسة داخل المجتمعات وبينها. وقد شكل انتكاس القومية في المنطقة، وبشكل أكثر تحديداً صعود القومية الدينية والتشدد، تحديات جديدة خاصة في مواجهة الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وفي بعض الأحيان في التحالف معها.

عند الحديث عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على وجه التحديد، تدور صراعات الهوية حول تكوينات الهوية الوطنية للمجموعات المعنية. نؤكد على فكرة أن الصراعات القائمة على الهوية تحتوي على عناصر أساسية تستند إلى الرفض المتبادل لشرعية الجانب الآخر خوفاً من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تقويض شرعية المرء وقيمه ومطالباته. في الماضي غير البعيد، كان الإسرائيليون يخشون أن يؤدي اعتبار المطالبات الفلسطينية مشروعة أو تؤخذ على محمل الجد إلى تقويض المطالبات الإسرائيلية. وكان لدى الفلسطينيين نفس المخاوف بشأن الإسرائيليين. وبالتالي، كان يُنظر إلى الوضع والتنازل عن الموارد والأراضي على أنهما محصلتهما صفر، وذلك في المقام الأول بسبب المخاوف والشكوك المتبادلة بشأن الاعتراف بالهوية. لكن الإسرائيليون يتناسون أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الأصليين، وأن الصراع بينهم وبين الفلسطينيين ليس على أشياء مُتنازع عليها، إنما هو صراع بين مُستعمر مُحتل، يُحاول أن يبني سرديته فوق الأرض التي يحاول أن يدفن تحتها الرواية الحقيقية لمظلومية الشعب الفلسطيني.

أن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو صراع على أصول مادية حقيقية، مثل الأراضي والمياه والحدود والأمن وما شابه ذلك. وفيما يتعلق بكون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صراعاً على الهوية، فإن هذا الصراع هو صراع يرى فيه كل جانب الهوية الوطنية للجانب الآخر كتهديد، أو كترجمة لهذه الهوية إلى المجال السياسي - أي إلى "دولة قومية" - كخطر على هويتها الوطنية المستقلة. وبالتالي فإن أحد الجانبين يرفض بالتالي التعريف إذا كان الجانب الآخر كأمة، أو على الأقل، ينكر حقه في تحقيق هذه الهوية في سياق الدولة الوطنية. إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ في جوهره ـ ليس فقط صراع على الهوية لأن أصله وسبب استمراره متجذران في إنكار كل جانب لقومية الجانب الآخر، ومطالبة كل جانب بالحق في إنشاء دولته القومية العرقية، بل هو صراع سببه قيام إسرائيل باحتلال وسرقة الأراضي الفلسطينية وطرد السكان الأصليين ومصادرة ممتلكاتهم بغير وجه حق.

وبشكل أكثر تحديداً يتم وضع دور ووظيفة الدين في سياق الإطار المذكور أعلاه للصراع القومي الإسرائيلي الفلسطيني، لذلك من الطبيعي أن يتخذ دين الجانبين علاقة معينة بالقومية. هناك نوعين رئيسيين من القوميين الدينيين: العرقي والأيديولوجي. يهاجم القوميون الدينيون العرقيون الأعراق المنافسة، بينما يهاجم القوميون الدينيون الإيديولوجيون العلمانية داخل بلدهم (الحكومة والمؤيدين) أو الأديان المنافسة. فإذا كان النهج العرقي للقومية الدينية يسيّس الدين من خلال استخدام الهويات الدينية لأغراض سياسية، فإن النهج الإيديولوجي للقومية الدينية يفعل العكس: إنه يضفي طابعًا دينياً على السياسة. ومن الضروري فهم هذا الأمر لأنه يشير إلى الطريقتين الأساسيتين اللتين يتم بهما دمج الدين في السياسة الوطنية، وتشكيلات الهوية الوطنية.


الهجرة الدينية والاتجاهات الصاعدة

يحاول بعض الباحثين إقناع الجمهور في أن الإيديولوجيات الدينية في كل من القوى الدينية الفلسطينية واليهود الأرثوذكس تمثل عنصراً رئيسياً في كيفية نظرهم إلى سياساتهم فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. والتأكيد بشكل متكرر على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتعلق بشعبين يتقاتلان على نفس قطعة الأرض، وبالتالي فقد تم اعتباره أيضًا صراعاً جيوسياسياً دينياً ووطنياً. لكن الحقيقة التي يتم تجاهلها أن فلسطين كانت تسكنها تاريخياً اغلبية عربية مطلقة، ويعيش بجوارها اقلية قليلة من اليهود. وبسيطرة بريطانيا على فلسطين بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تحكم هذا الجزء من الشرق الأوسط، في الحرب العالمية الأولى وفي نفس العام أي في 1917 أرسل "آرثر جيمس بلفور" Arthur James Balfour وزير الخارجية البريطاني رسالة إلى البارون "ليونيب وولتر دي روتشيلد" Lionel Walter Rothschild وفي هذه الرسالة قدم بلفور تعهداً بدعم بريطاني لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، أي أن بريطانيا قدمت فلسطين التي لا تملكها إلى الحركة الصهيونية التي أعلنت قيام دولة إسرائيل عام 1948 وطرد مليون فلسطيني من منازلهم ومصادرة ممتلكاتهم بما يعرف بالنكبة.  ولكن الدين في تلك الفترة لعب دوراً ثانوياً نسبياً قبل أن يصبح أكثر حضوراً بعد حرب 1967. وسيكون من الخطأ القول إن الدين كان غائباً تماماً عن الصراع لأن عدداً من اليهود انتقلوا إلى فلسطين لأسباب دينية.

بعد الهزيمة التي مني بها العرب عام 1967 بدأ اليهود المتدينون يعتقدون أن انتصاراتهم كانت علامة من الله على أن المسيح في طريقه. لقد اعتقدوا أن انتصارهم كان علامة من الله لمضاعفة جهودهم في استيطان كل الأراضي لإقامة دولة إسرائيل الكبرى. وجد العديد من اليهود المتدينين المعروفين بالصهاينة اليمينيين تمثيلهم أثناء تشكيل حركة "غوش إيمونيم" Gush Emunim وهي حركة ناشطة إسرائيلية يمينية ملتزمة بإنشاء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. نشأت حركة غوش إيمونيم بعد هزيمة عام 1967، وشجعت الاستيطان اليهودي في الأرض على أساس الاعتقاد بأن الله أعطاها للشعب اليهودي وفقًا للتوراة" لم تعد حركة غوش إيمونيم موجودة رسمياً، لكن آثار نفوذها لا تزال قائمة في المجتمع الإسرائيلي.

تسببت هزيمة حرب عام 1967 موجات صدمة في العالم العربي، وأُجبر الفلسطينيون على ترك منازلهم دون أي استحقاق للعودة. لقد أدرك الفلسطينيون أنهم لم يعد بإمكانهم الاعتماد على جامعة الدول العربية، ولجأوا في النهاية إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) عام 1964. ووضع الشعب الفلسطيني كل آماله على منظمة التحرير في محاولته لاستعادة أرضه. لكن التحرير بدا أمراً معقداً تدريجيًا في الزقت الذي بدأ فيه المستوطنون الإسرائيليون يبنون المزيد من المستوطنات في غزة والضفة الغربية. ولقد ازداد عدد المستوطنين بسرعة على مر السنين، من أقل من 1200 مستوطن في الضفة الغربية في عام 1972، إلى أكثر من 44 ألف بحلول عام 1985. أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية غير فعّالة في نظر جزء من الشعب الفلسطيني، فبدأوا تدريجياً في البحث عن قيادة أقوى. ثم انطلقوا بحثاً عن حركة جديدة تعالج حاجتهم إلى استعادة ما اعتبروه وطنهم الشرعي. وهكذا تحول جزء من الفلسطينيين إلى الإسلام السياسي. وفي شكل القومية الدينية، انفجر الإسلام السياسي في طليعة التاريخ مع الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أعقاب الإطاحة بالشاه في عام 1979. مما أدى إلى ترسيخ القومية الإسلامية الشيعية التي حفزت المسلمين المتدينين في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك عدد كبير من الفلسطينيين على الرغم من حقيقة أنهم كانوا من المسلمين السنة.

 تم تشكيل حركة الجهاد الإسلامي في الفترة ما بين عامي 1985 و1986وتأسست حركة حماس (التي تعني اختصاراً "حركة المقاومة الإسلامية") في عام 1988، وكانت فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين، ونمت نتيجة رد الفعل على الاحتلال الإسرائيلي القمعي وعنف المستوطنين اليهود في الضفة الغربية. نمت حماس واشتدت بشكل مطرد بحيث فازت بالانتخابات الفلسطينية في عام 2006 بحصولها على 76 مقعداً في المجلس التشريعي البالغة من أصل 132 بينما حصلت حركة فتح على 43 مقعداً، والجبهة الشعبية على ثلاثة مقاعد.


يعود فوز حركة حماس إلى عدة أساب أبرزها:

أولاً: ضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم فعاليتها في تخفيف ظلم الاحتلال الإسرائيلي، وفشلها في بذل أي جهد لوقف نمو المستوطنات. بحلول عام 2006، زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى ما يزيد عن 260 ألف. وعلى النقيض من منظمة التحرير الفلسطينية، كان يُنظر إلى حماس باعتبارها قوة ضد المستوطنين وباعتبارها أثرت على القرار الإسرائيلي بالانسحاب من غزة في عام 2005.

ثانياً: خلقت السلطة الفلسطينية سمعة سلبية لنفسها بسبب الفساد والمحسوبية، وعلى النقيض من حماس التي طورت سمعة من الصدق والنزاهة.

ثالثاً: قيام حماس ببناء أساس متين من الثقة المتبادلة بينها وبين فئات عديدة من الشعب الفلسطيني. لقد كان من الممكن أن يؤدي هذا إلى إحداث تغييرات إيجابية في حياة الفلسطينيين من خلال تشغيل برامج اجتماعية مثل المساجد، والمدارس، ومطاعم الحساء، والعيادات.

وبحلول الوقت الذي نشطت فيه حماس، كانت الصهيونية الدينية اليمينية حاضرة بقوة وبشكل كامل على الجانب الإسرائيلي، ترتكب أشنع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى إبادته. كان الصهاينة المتدينون المتطرفون ينظرون إلى اللجوء إلى العنف على أنه مبرر أخلاقياً. ويعتقد قادتهم أن الله يؤيد أجندتهم الوطنية، وأن الله أعطاهم كل أراضي المنطقة، وأن الله يريد أن يؤمنوا الأرض ودولتهم من خلال جميع الوسائل بما في ذلك القوة المميتة والعنف. مثل هذه الافتراضات في السرديات القومية الصهيونية جعلت من السهل نزع الصفة الإنسانية عن "الآخر" وتبرير قتله.


دور الدين في إسرائيل ـ الأيديولوجية الصهيونية الدينية

يعتبر الفصيل اليهودي الأرثوذكسي الجماعة الدينية الأصولية في إسرائيل. وداخل مجموعة اليهود الأرثوذكس، هناك ما يسمى بالصهاينة. لا تمتلك الصهيونية أيديولوجية موحدة، ولكنها تطورت من خلال التفاعل بين عدد كبير من الأيديولوجيات، إحداها الصهيونية الدينية. فقبل تأسيس دولة إسرائيل، كان الصهاينة الدينيون في الأساس يهوداً ملتزمين (يهود يلتزمون بقواعد وأهداف التوراة) الذين دعموا الجهود الصهيونية لبناء دولة يهودية في فلسطين.  تركزت هذه الأهداف أولاً على إنشاء دولة يهودية في عام 1948 تم استخدام الحجج التاريخية واللاهوتية والوطنية والوجودية والسياسية والمجتمعية والثقافية لتبرير هذه الأهداف، وتبرير احتلالها لفلسطين وطرد سكانها العرب الأصليين.

الأرض كانت ولا زالت هي محور الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهي قضية مهمة للغاية لدرجة أن الهيئات الدولية تناولتها. حيث يعتبر المجتمع الدولي المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي التي تحتلها إسرائيل غير قانونية بموجب القانون الدولي، وذلك بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وبموجب الشرعية الدولية أيضاً. ومع ذلك، ففي نظر القوميين المتدينين الصهاينة، فإن التفسيرات الدينية تتجاوز القانون الدولي.

إن وجهات النظر من المنظور الصهيوني الديني تلعب دوراً هاماً في التعامل مع الحقوق الإقليمية في المنطقة، وخاصة من جانب الشخصيات الصهيونية السياسية. ومن الأمثلة على ذلك "مائير كاهانا" Meir Kahane الحاخام الإسرائيلي الأمريكي الأرثوذكسي، والسياسي القومي المتطرف، ومؤسس حزب «كاخ» اليميني المتطرف الذي طالب برنامجه بضم جميع الأراضي المحتلة وتهجير الفلسطينيين قسراً. وكان كاهانا أيضاً حاخاماً أرثوذكسياً مُرسَماً، دعا إلى تفجير المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل الثالث. وشغل أيضاً منصب عضو في الكنيست الإسرائيلي. وكان جزء كبير من أيديولوجية كاهانا هو أن إسرائيل لا ينبغي لها أبداً أن تبدأ حرباً من أجل الأراضي، ولكن إذا شُنت حرب ضد إسرائيل، فيجب ضم الأراضي التوراتية. كما عرّف كاهانا الأراضي التوراتية بأنها الحدود الجنوبية التي تصل إلى العريش (أكبر مدينة في شبه جزيرة سيناء)، والتي تضم كل شمال سيناء. وإلى الشرق، تمتد الحدود على طول الجزء الغربي من الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومن ثم فهي جزء مما يُعرف الآن بالأردن. كما تشمل أرض إسرائيل جزءًا من لبنان وأجزاء معينة من سوريا وجزءًا من العراق، وصولاً إلى نهر دجلة. كما ذكر كاهانا أن "المعجزات لا تحدث من تلقاء نفسها". لقد شعر أن الطريقة الوحيدة لعودة المسيح هي عندما يخلق اليهود الظروف السياسية المناسبة.

مثال آخر يمثله الصهيوني المتطرف "بتسلئيل سموتريتش" Bezalel Smotrich الذي يحفل سجله بالتصريحات المتطرفة والعنصرية التي يتماهى فيها مع الإرهاب اليهودي وأعمال العنف التي تقوم بها عصابات المستوطنين المتطرفين مثل "شبيبة التلال" و"تدفيع الثمن". سموتريتش من أصل أوكراني ترعرع في المستوطنات وفضل تعلم التوراة على الخدمة في الجيش، الذي التحق به في سن متأخرة وخدم فيه مدة 16 شهرا فقط. مواقف سموتريتش وتصريحاته العنصرية كثيرة جداً، ولكن ربما من أبرزها اعتباره في العام 2015 أن إحراق ثلاثة أشخاص من عائلة دوابشة حتى الموت من قبل مستوطنين يهود "لا يعد عملا إرهابيا" وأن الإرهاب هو "العنف الذي يوجه إلى اليهود من قبل العرب فقط"، وهي تصريحات تكررت عند قيام ميليشيات من المستوطنين بإحراق عشرات المنازل والمركبات والمحال التجارية في قرية حوارة التي دعا إلى "محوها". ومنذ أن أصبح وزيراً للمالية في حكومة "بنيامين نتنياهو" شنّ حرب الاستيطان على الشعب الفلسطيني. فقد شرع بتنفيذ خطط ابتلاع 60% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، تنفيذًا لوعده بالقضاء على حل الدولتين وتوافقاً مع عقيدة "إسرائيل الكبرى" التوسعية، كما يُطلَق عليها. وفي أكثر من مناسبة، لوّح سموتريتش بتوسيع الاستيطان، حتى إنّه رسم معادلة قوامها إقامة مستوطنة جديدة باسم كل دولة تعترف بشكل أحادي بالدولة الفلسطينية، بل إنّه يقول إنّ مهمّة حياته هي "إحباط إقامة دولة فلسطينية".

وهناك مثال آخر على هو وزير الأمن القومي الصهيوني المتطرف "إيتمار بن غفير" Itamar Ben-Gvir الذي أوعز لأجهزة الجيش والشرطة بكف يدها عن عنف المستوطنين الذين شنوا مئات الهجمات ضد الفلسطينيين للاستيلاء على أراضيهم ومزارعهم. أسس حركة “العظمة اليهودية” (عوتسما يهودت)، وأصبح عضوًا في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي عام 2021.  وينحدر بن غفيرلوالدين من جذور عراقية كردية. ويستمد أفكاره المتشددة من الحاخام مائير كاهانا، مؤسس حركة “كاخ” الذي فاز بمقعد في الكنيست الإسرائيلي عام 1984، قبل أن تُصنف حركته “إرهابية وفاشية. وصفت صحيفة هآرتس العبرية فوزه مع حزبه في انتخابات الكنيست عام 2022 بأنه “اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل”. ينتمي بن غفير لليمين المتطرف، الذي يرى أن إسرائيل دولة يهودية قومية وصهيونية، ويناهض تأسيس دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ويدعم عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ويدعو إلى الطرد القسري للمواطنين العرب "غير الموالين" من البلاد، وفق "تايمز أوف إسرائيل"، مما جعله صاحب شعبية كاسحة.

أما أدبيات حزب الليكود الإسرائيلي فتتضمن "إن حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل أبدي ولا جدال فيه ويرتبط بالحق في الأمن والسلام؛ وبالتالي، لن يتم تسليم يهودا والسامرة إلى أي إدارة أجنبية. وبين البحر والأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية".


تغلغل التطرف الديني

وفقًا للمنظور الصهيوني الديني، فقد عهد الله بالأرض (الأرض التوراتية) إلى الشعب اليهودي وأنه لم تكن هناك دولة فلسطينية قط. وبدلاً من ذلك، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يعيشون على أرض ليست لهم. ويتمثل طموح القوميين المتدينين في تحقيق إقامة "إسرائيل الكبرى". ويتطلب تفسيرهم الديني توسيع الحدود الحالية لإسرائيل أكثر فأكثر. وينضم عدد متزايد من اليهود المتدينين إلى جيش الدفاع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، بحيث أن التغيير الأكثر أهمية الذي شهده جيش الاحتلال الإسرائيلي هو عمل الدين داخل ثقافته المؤسسية. إن الزعماء والقادة الدينيين الصهاينة المتطرفين قد أدخلوا أنفسهم في الجيش كلاعبين رئيسيين. وقد احتل هؤلاء محل القادة العلمانيين في الجيش، وينتقلون إلى مناصب أعلى وأكثر قوة. وكلما ارتفعت أصواتهم، كلما كان تأثير الدين على جيش الدفاع الإسرائيلي أكبر. وهذا يعني ضمناً أن الجيش الإسرائيلي يعمل كشريك للتأثيرات الدينية في استخدامه للقوة والعنف في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

لقد نشأت القومية الدينية الصهيونية من عدم الرضا عن هيمنة الثقافة الغربية الحديثة، والتي يبدو أنها تسير بالتوازي مع القومية العلمانية الإسرائيلية. وما اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي "إسحاق رابين" Yitzhak Rabin عام 1995إلا مثال مهم على قوة هذه الجماعات. فقد اغتيل رابين على يد طالب لاهوتي يهودي شاب يدعى "ييجال أمير" Yigal Amir الذي ادعى أنه تصرف بناءً على أوامر الله. وقال: "كل ما فعلته، فعلته لمجد الله". ادعى أمير أنه كان في سلام وأنه شعر بأنه طبيعي. زعم أمير أن مقتل رابين كان أمراً يستحق الثناء وفقاً لقراءات الشريعة الدينية. وقد زعم أن أحد هذه القوانين يسمح بقتل أولئك الذين يمكنهم تدمير الأمة. 

إلى مُتَطَفِّلٍ على الأدب/ الدكتور حاتم جوعيه



منارُ    الفكرِ     والعزمِ    المُثابِرْ      لإقبالي       ستنطلِقُ        البشائِرْ

وَيُزهِرُ    كلُّ    بستانٍ    وَروضٍ      عنِ     الأنوارِ    تنزاحُ    الستائِرْ 

وَتبتهِجُ      الرَّوابي     والسّواقي      وتبتسِمُ       الخمائِلُ      والأزاهِرْ

لأوطاني      أناشيدي      وَحُبِّي       وَألهِمُ       كلَّ     فنانٍ     وَشاعِرْ

نساءُ   الأرضِ   تعشقُني    ولكنْ       غرامي    للبلادِ ..   ولا     يُغادِرْ 

عذارى  الخُلدِ   تسكرُ  من  بياني       وَفيهِ      تنتشِي     كلُّ      الجَآذِرْ

سأبقى   في  ثرى  وطني   كنارًا       أحلِّقُ   في   سماه  .. لن    أهاجِرْ 

سأبقى   مع    عبيرِ  الشّوقِ   فلًّا       ولا    يثني   انطلاقي   أيُّ   ناعِرْ

إلى عرقِ الثَّرى وَشَجَتْ  عُروقي       وأمجادي   هنا   ماضي   وحاضِرْ 

ينامُ    البدرُ .. كلُّ   الكونِ   يغفُو       وأبقى   مع   نجومِ   الليلِ   ساهِرْ

بأشعاري   أجسِّدُ   حُلمَ     شعبٍ       تحدَّى  الموتَ  في  الأهوالِ  صابِرْ 

وَإنِّي   في   المعامعِ   مثلُ    ليثٍ      وتاريخي    مدى    الأيامِ    عاطِرْ

وَيمشي   في    لوائي   كلُّ    حُرٍّ      وفيضي  في  النَّدى   للناسِ  غامِرْ

هيَ  الأمجادُ   قد   خُلِقتْ   لِمثلي        سأبقى     قدوةً      وَلكلِّ     ثائِرْ

أنا   الفجرُ  المُطلُّ   على   بلادي      وَفيَّ     تعمَّقتْ     كلُّ    الأواصِرْ

أحلِّقُ     للمدى    فوق   الدراري      وفوق   سديم   هذا   الكونِ   طائرْ

وإنِّي     أولُ     الشعراءِ     أبقى       وكلٌّ   في  انطلاقي   باتَ   حائِرْ

وَغيري  في  العمالةِ  ظلَّ  يجري       تمرَّغَ     في   القذارةِ    والجَرائِرْ


أبو    الهَمَزاتِ    يحتلُّ     المنابرْ      وَينبحُ   دون   رَدعٍ   مثلَ   عاهِرْ

نراهُ       للمهازلِ       والمَخازي      ويمدحُ     كلَّ     مَعتُوهٍ     وَفاجِرْ 

وَيمدحُ      كلَّ     مأفونٍ     حقير ٍ     وَمنْ   في  الذلِّ   والتَّطبيعِ   سائِرْ 

فلمْ    يهدَأ    ولا    يبقى   بأرضٍ      وَمِنْ    بلدٍ     إلى    بلدٍ     يُسَافِرْ 

طفبليٌّ        وَمهذارٌ       خسيسٌ       يُسافرُ مع   مُسُوخٍ    دونَ   زاجرْ

عميلٌ      حاقدٌ      وَغدٌ      لئيمٌ       كأنَّ    بإستِهِ    فيها    " شناضِرْ"

نراهُ    مُمْحِلًا    من    كلِّ    خيرٍ      وللأقذارِ       مِعطاءٌ       وَماطِرْ

ويطعنُ  في الظهورِ كمثلِ  ضبعٍ        وفي    الشرفاءِ     بوَّاقٌ    وَغادِرْ

وَرمزٌ     للنفاقِ     وكلِّ     عُهر ٍ      كحرباءٍ     تلوَّنَ     وَهْوَ     خائِرْ 

وَنمَّامٌ          وَدسَّاسٌ        حقيرٌ       وَفي  صَددِ  الشقاقِ   يظلُّ   حافِرْ

كمثلِ   البغلِ   في   نهَمٍ   وَحُمق ٍ      وفي  الحَفلاتِ   والاعراسِ    دائرْ

و " زيرُو"  شُربُهُ  أو "أكسُ ألٍّ "       وَسُكّرُهُ    تفاقمَ  ... كم     يُخاطِرْ

وَباتَ    الكلُّ    يعرفُهُ     كأفعَى       وطول    العُمرِ   مأفونٌ     وَذاعِرْ

بضاعَتُهُ      لقد     رُدَّتْ     إليهِ        سيبقى    للمَدى    نذلًا    وَخاسِرْ

هُنا  رجسٌ  على  الأحرارِ  دومًا        وتنبُذهُ       المُروءَةُ     والضَّمائِرْ

هوَ   المَعْتُوهُ    والمأفونُ     يبقى       هُوَ  المهذارُ   في   خزيٍ   يُجَاهِرْ 

يظنُّ     بأنَّهُ      الفذ      المُفدَّى        ورائدُ   عصرِهِ    وَهْوَ    المُغامِرْ

هُوَ  المَجلوطُ   في  عقلٍ   وَخُلقٍ        وَتحتَ   الدَّركِ    والأقذارِ   غائِرْ 

مُعادلةٌ     فلا    تُعطي     جوابًا        قدِ  اختلطتْ   بها   كلُّ   العناصِرْ

وأسلاكٌ    لهُ    صَدِئَتْ    برأس ٍ       هُوَ  الإزعاجُ   مثلُ   الثَّورِ جاعِرْ

غدَا    أضحوكةً   لِرُعاعِ     قومٍ        وَعِندهُمُ      الكرَاكوزُ    المُسَامِرْ

وَمِنْ   حقلٍ   إلى  حقلٍ   حُضورٌ       يُضَرِّطُ    كالبهائمِ   في  الحَضائِرْ

كمومسَةٍ     وَمِن     نادٍ      لنادٍ        وَمِن   رِجسٍ  إلى  رجسٍ   يُفاخِرْ

وَكلٌّ     قالَ  :    مهذارٌ     لئيمٌ        عميلٌ ، في   النذالةِ    فهْوَ   شاطِرْ

وَمَسْعاهُ       وَمَسْلكُهُ        وَباءٌ       غسيلَ     الإثمِ     والأقذارِ    ناشِرْ 

نعيشُ   بعصرِ  عُهرٍ   وانحطاطٍ        وَإنَّ      الحُرَّ     معدنهُ      لنادِرْ

نوادي  الإفكِ   ترتعُ   بالمخازي        وبالأنذالِ     تنضَحُ     والأصَاغِرْ 

وَللتطبيعِ      مَنْهَجُهَا      سيبقى        هيَ    الماخورُ   بالأوغادِ    زاخِرْ

تُكرِّمُ    كلَّ     مأفون ٍ    خؤونٍ        مَنَ   الإبداعِ    والإحساسِ   عاقِرْ

أبو   الهِمَّاتِ     فيهَا     مُشْمَخِرٌّ        نراهُ      صائِلًا      فيهَا     وَآمِرْ

تُكرِّمُ     كلَّ     مَعتُوهٍ     عَميلْ        وَمَنْ   باعَ    الكرامةَ   ظلَّ    فاتِرْ 

وَنُقّادٍ    كشسعِ    النعلِ    عندي       بسيفي    سوفَ   أقصُمُهمْ   شطائرْ

وَنهْجُهُمُ       مُعاداةٌ       لشعبي        لتدميرِ     الثقافةِ ... وهو    ظاهِرْ

لأسرلةٍ       وإذلالٍ       مُشين ٍ       وكلٌّ   في   الخنا   والتطبيعِ  ماهِرْ 

أبو   الهمَّاتِ   مثلهُمُ     خسيسٌ        عميلٌ      آفكٌ     بالرِّجسِ    هامِرْ

وَإنِّي  النارُ   تحرق ُ  كلَّ   وَغدٍ        وَسيفي    مُشْهَرٌ    ماضٍ     وَباتِرْ 

سأبقى    للعِدَى    سُمًّا    زعافًا        وَشَهدًا       للأشاوسِ      والأكابِرْ

ودونجوانُ  العذارى    والغواني       وكلٌّ   في   وصالي    ظلَّ    ناطرْ

وكم   غيداءَ   قد  هامتْ   بحُبِّي       وكلُّ     الكونِ     بالإبداعِ     حائِرْ

أنا    ربُّ    المثالِثِ    والمَثاني       وَعُنوانُ    الإبا      بالخيرِ    زاخِرْ

سيبقى   منزلي   جودًا    وَرِفدًا        وبالأخيارِ      والأمجادِ       عامِرْ

وَإبداعي   يشعُّ    كما  الدَّراري        وَغيري  في  الفنونِ  يظلُّ   قاصِرْ

وأرفضُ    كلَّ   تكريمٍ   خسيسٍ       مِنَ      الأنذالِ     أولادِ    العواهِرْ 

سأفحِمُ     كلَّ     مأفونٍ    دَعِيٍّ       وأدحَرُ     كلَّ     مَغرورٍ     مُقامِرْ

أنا      للهِ     مُنطلقِي    وَسَعيِي       مدَى  الازمانِ  سيفَ  الحقِّ   شاهِرْ

ولن   يثني  انطلاقي  أيُّ   ردعٍ        وَللأوغادِ       والأعداءِ       قاهِرْ

نبيُّ  الشعرِ   في  زمنٍ  عصيبٍ        وَعنِّي    قد   تتلمذَ    كلُّ    شاعِرْ

وشعري  للمَدى من أجلِ   شعبي       وللبُؤساءِ       والفقراءِ       ناصِرْ

وللأحرارِ     والأبرارِ     انتِشاءٌ       وفي   زمنٍ  على  الأحرارِ   جائِرْ

وَبعدي   الشعرُ  قد   يغدُو  يتيمًا        وَيهمِي  الدمعُ   من  كلِّ  المَحاجِرْ

عذارى  الشعرِ تبكي  في  التِياع        على الاكتافِ  كم  تُرخي  الضّفائرْ

وكلُّ    الغيدِ    تبقى   في   حدادٍ       وَسَوفَ  تُبَحُّ   في  النَّوْحِ  الحناجرْ

يُرَدِّدُ    شعري   الأحرارُ   دومًا        وَيُطربُ     كلَّ    صِندِيدٍ    وثائِرْ

ولستُ  جوائزَ   التطبيعِ   أرضَى       ويأخذها      الأراذلُ      والحَمائِرْ

حُثالاتُ  هٌنا    كم   تسعَى   إليهَا       وَكلٌّ    نَحوَهَا    للأشداقِ    فاغِرْ

رفضتُ   جوائز  التطبيعِ    دومًا       ويقبلُهَا    الوضيعُ     وكلُّ    عَاثِرْ

أبو    الهَمَزاتِ    فيها     حكَّمُوهُ       كمثلِ السُّوسِ  في  الأخشابِ  ناخِرْ

بحورُ   الشعرِ   وافرُهَا    جميلٌ        وَفيهِ    النظمُ    منسابٌ    وَساحِرْ

أبو الهِمَّاتِ  لم  يعرِفْ  عُروضًا        حمارٌ   أرعَنٌ    ويظلُّ    " دَاشِرْ"

بلا    رَسَنٍ   سيبقى    أو   لجامٍ        وَعضريطٌ   مدى  الأزمانِ  شاخِرْ

عليهِ  الناسُ   تهمزُ  في   انتِشاءٍ        وَمِنهُ    الكلُّ    ضحَّاكٌ    وساخِرْ

غدًا      لجهنَّمِ      وَسعيرِ    نار ٍ      وتبذُهُ         المزابلُ       والمقابرْ

غدا   لمزابلِ   التاريخِ     يمضي       وَيلعَنُهُ        الأوائلُ     والأواخرْ