صوت غزة : نحن أحياء يا بشر من ينقذنا من هذا الجحيم ؟/ جواد بولس

 


"مثل هذا الحزن الذي رأيته في عيون أطفال غزة رأيته فقط في عيون والديّ بآخر أيامهم؛ نظرة  ذاك الطفل، ابن السادسة، تبدو كأنها نظرة مدركة، تحدق في الفراغ لكنها لا ترى شيئا، وجسده منقبض على نفسه. إنه طفل بلا "براءة واثقة" في عينيه". هكذا جاء في مقالة نشرتها الصحفية اورنا رينات في جريدة هأرتس بعنوان "أبي أنا حيّ، أخرجني من هنا"، سردت فيها عددا من حالات موت أطفال غزة إما جوعا وإما حرقا وإما تحت ركام بيوتهم بعد أن قصفتها طائرات الموت الاسرائيلية. "يوسف الصغير، عمره خمسة شهور، لم يرضع حليب أمّه لأنها كانت تعاني من الجوع. لقد التصق بصدر أمه بيديه الصغيرتين المشتهيتين للحياة، وحاول بكل قوته، مرة تلو المرة ، وطلب وتضرع وتلمّس وفتش على غير هدى. كانت أمه تحتضن جسده النحيل المرتجف وكان هو ينظر نحوها ولا يستوعب أنها، وهي درعه الواقي الوحيد في هذا العالم، لا تستطيع أن تساعده وهي تدرك ذلك. كان وزن يوسف كيلو ونصف الكيلو ولم يتبق من جسده سوى العظام والدم والعذاب. عمره خمسة شهور وقسمات وجهه تحمل عذابات حياة كاملة. عيناه المستديرتان الكبيرتان تطلبان شيئا هو لا يعرف أن يسميه. هل نجح أن ينام؟ هل حاول أن ينام وكان الجوع في كل مرة يوقظه؟ إنّه جائع ويطلب غذاء وحسب."


قرأت التقرير المليء بقصص موت فلسطيني لا يصدقها العقل. كنت مذعورا وحزينا ومستفزا؛ "فابي أنا حي" كان صراخ طفل تركه أبوه لبضعة دقائق وذهب يفتش عن وسيلة نقل كي يؤمن خروجه وأبناءه الثلاثة من المخيم، لكنه سمع صوت القذائف فعاد مسرعا ووجد بيته ركاما وصوت ابنه ينادي من تحت الركام " أبي أنا حي اخرجني من هنا ". جنّ جنونه فحاول ومن تواجدوا في المكان أن يزيلوا بأياديهم  الأنقاض لكن صوت الطفل خفت ثم تقطع ثم صمت. صمتُّ أنا وتساءلت: هل يقرأ الطيّارون الاسرائيليون قصص ضحاياهم؟       


مرّ ستمائة يوم على الحرب الاسرائيلية التي ما زالت نهايتها، بعيدة ؛ لا سيما بعد أن أعلنت حكومة نتنياهو  في منتصف شهر مارس الماضي عن توسيع الحملة العسكرية وتحديد أهدافها "بالقضاء على عناصر حماس" وهو تعبير يجيز القضاء عمليا على جميع المدنيين الساكنين في تلك المناطق أو تهجيرهم واحتلال تلك المناطق لابقائها تحت سيطرتهم.  


لم يحظ قرار الحكومة الاسرائيلية المذكور بالدعم التلقائي المعتاد والواسع داخل المجتمع اليهودي؛ فلقد أبدت عدة جهات تحفظها عليه ومعارضتها له. بعضهم انتقده لأسباب سياسية حزبية تنافسية وبقوا محتفظين بمواقعهم داخل معسكر الاجماع الحربي الصهيوني بصيغه الاساسية والأصلية، بينما عارضته عدة شرائح وقطاعات يهودية بقناعة لديها أن استمرار الحرب الوحشية على غزة لم يعد مبررا بعد أن  فقدت ذريعتها "كحرب دفاعية" فرضتها نتائج عملية حماس وتهديدها لمفهوم الأمن القومي الاسرائيلي بكل معانيه، كما كان الادعاء بعد السابع من اكتوبر. 


كانت الأصوات المعارضة للحرب هامشية وفردية ولم تتطور، طيلة العام والنصف الماضيين، لتصبح ظاهرة تستوجب الالتفات اليها ومتابعة تحولاتها ومراقبة أبعادها وهي تتشكل، كما يحصل أمامنا في الأشهر الأخيرة ، كحركة معارضة اجتماعية سياسية دفعتها مشاهد الكارثة الفلسطينية والابادة الجماعية الى التفكير في أخلاقيات خطابها التقليدي ومبرراته، والى إعادة النظر في بعض مآلات سردياتهم المقدسة وفرضياتهم الراسخة حيال مفهومهم من هي الضحية ومن هو المجرم . 


لا يمكن لمن يتابع ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة العبرية، ألّا يلحظ حدوث هذا التغيير الذي لا يقتصر على حجم الظاهرة اللافت وحسب، بل يشمل التحوّلات في مضامين الخطاب المعتمد من قبل تلك الفئات وفي لغتها تجاه وصف جرائم حكومتهم وجيشها وكونها جرائم حرب تشمل جريمة التطهير العرقي والتجويع وجرائم ضد الانسانية تستهدف ابادة الفلسطينيين. لقد نأت تلك الفئات في الماضي عن استعمال هذه اللغة والتوصيفات من باب الحرص على "نزاهة الفعل الصهيوني" خلال المواجهة التاريخية مع الفلسطينيين والعرب. 


لقد نشرت قبل يومين في وسائل الاعلام الاسرائيلية رسالة وقعها 1300 محاضر وطالب جامعي اسرائيلي منتظمين في مجموعة تطلق على نفسها اسم "علم اسود" ينتقدون فيها صمت الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ازاء ما يجري في غزة رغم " أننا أمام مشهد يثير الفزع جراء جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية التي هي كلها من أفعالنا نحن" ومؤكدين على "أننا لن نستطيع الادعاء بأننا لم نكن نعلم،  فلقد صممنا آذاننا وقتا طويلا ". كتبت الرسالة بلغة واضحة معتمدة على تعاريف القوانين والمواثيق الدولية مما قد يعطي إشارة لشحن وتشجيع التيارات والأصوات العالمية، الشعبية والمؤسساتية والأكاديمية والحكومية ، التي بدأنا نسمع منها مواقف جديدة وهي تعلن عن تحفظها أو شجبها ومعارضتها لسياسة اسرائيل ولجرائمها البشعة.


هنالك عشرات المنصات الاسرائيلية والمدونات التي تعمل على فضح ممارسات الجيش الاسرائيلي في غزة وفي الضفة الغربية وداخل سجون ومعسكرات الاعتقال  الاسرائيلية. ومن المؤكد أن منشوراتهم ساعدت على تكوين قاعدة معلومات موثقة وحقائق مغايرة لما تنشره آلة الدعاية الرسمية وعملاؤها. لقد أدى تراكم هذه المعلومات والتأكيد على حجم الجرائم الى تغيير مواقف عدة شرائح اجتماعية وفئات نخبوية وشروعهم بتجريم الفعل الاسرائيلي وفق قوالب اخلاقية مصححة وبمصطلحات قانونية واضحه، حتى أن بعضهم لم يتردد باجراء مقاربات ومقارنات بين ما يفعله الجيش الاسرائيلي في غزة في الأشهر الثلاثة الأخيرة وبين ما جرى مع آبائهم في اوروبا إبان الحقبة النازية. ومثالا على ذلك فقد نشرت جريدة هآرتس قبل يومين مقالا تقول فيه كاتبته بجرأة انها كانت دائما تتساءل "كيف استمر الالمان في حياتهم عندما كانت الفظائع ترتكب تحت انوفهم " وتضيف أنها " اعتقدت انه لو أراد عدد كاف من العقلاء أن يمنعوا حدوث كارثة  لاستطاعوا ذلك. لكنني لم آخذ في الحسبان قوة الانكار الداخلي لدى الأشخاص" . هكذا قالت كاتبة المقال نوعا ميمان، وكانت تقصد طبعا حالة العقلاء من أبناء شعبها الذين يستمرون بممارسة حياتهم الطبيعية رغم ما يرتكبه جيشهم من فظائع "تحت أنوفهم".  


لست واثقا من أننا نقف أمام ظاهرة اسرائيلية من شأنها أن تكبر وتتحول الى عامل مؤثر في منع حدوث اكتمال الكارثة الفلسطينية؛ لكنني  أكتب مقالتي وغزة تقصف ويقتل أطفالها وهم ينادون من تحت الأنقاض "يا أبناء أمتنا نحن احياء. أخرجونا من هنا " نادوا حتى خفتت أصواتهم وتقطعت وصمتوا وكانت حاسبات أمتهم تحصي أعدادهم كأرقام في رهانات سباقات الخيل والجمال او كحبات مسابح في صلواتهم العقيمة.


أكتبها والضفة الغربية ومعها القدس تواجهان "خطة الحسم الاخير" وأهلها يتركون عزلا وفرائس لقطعان ذئاب جائعة، محاصرين تحت سماء بعيدة وعارية. وأكتبها وأسمع كثيرين ممن يرون النصر ناجزا بين أنقاض غزة يقفون على سياج التاريخ الرمادي ويجترون، كما فعل الأسبقون، شعارات لا ترفع حجرا عن جمجمة طفل يستنجد قلب أبيه المنفطر ويتلمس ثدي أمه الجائعة قبل موتهما معا. واكتبها وأمامنا، نحن الواقفين على عتبة الكارثة، قاطرة صغيرة عليها بضعة يهود خارجون عن كتائب يوشع، فأسأل:  أو ليس علينا أن ندع هذه القاطرة تكبر، عسى تستطيع كوابحها أن توقف جنون حكومة مندفعة عربات نيرانها نحونا كالسيل أعمى .


 أقول ربما، وغزة تصيح: يا مسلمين ، يا عرب، يا بشر، أو مثلما صاح صاحب "انشودة المطر": "يا خليج يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! فيرجع الصّدى كأنه النشيج. وعبر أمواج الخليج ، تمسح البروق ، سواحل "الشرق" بالنجوم والمحار, كانها تهم بالشروق فيسحب الليل عليها من دم دثار " نسمع صياحها وأخشى أن يسألنا بعد فجر أبناؤنا : من سيخرجنا ، يا أبتي، من هذا الحطام، من هذا العدم من هذا النثار ؟

تقنية تيّار الوعي.. المفهوم والوظيفة والآثار في رواية "مددًا... مدد..." للرّوائي مراد البجاوي/ حسن سالمي[1]

 


تصدير:"إنّ المعاني ملقاة على قوارع الطريق، وإنما يتميّز النّاس بالألفاظ " / الجاحظ


تمهيد:

    وأنا أتابع قراءة رواية "مدَدًا... مَدَدْ..." للكاتب المبدع مراد البجاوي كان سؤاًلا يكبر مع الوقت: هل أنا أمام رواية غارقة في تقليديّتها لم تتجاوز بعد شطآن البدايات؟ أم أنا أمام نصّ محلّق تجاوز مرحلة الحداثة، إلى ما بعدها؟ والحقّ إنّ هذا الارتباك الذي حصل معي يعود إلى المغامرة التي ذهب فيها الكاتب من حيث إنشائه عالما ارتكز على تقنيات ومبادئ جمعت بين القديم التّالد والطّريف المستحدث، وزجّ بهما معا في منطقة التباس واسعة، شوّشت على بعض المفاهيم والوظائف الفنيّة التي سادت واستقرّت في ذهن المتقبّل. من بينهم صاحب هذه السّطور. من ذلك اعتماده على تقنية تيّار الوعي على نحو مكثّف ورئيسيّ تجاوز السّبعين بالمائة من مساحة النّص، وصناعته لشخوص عديدة بنمط وحيد متشابه يغلب عليها الشبحيّة، فإذا هي بلا أسماء-غالبا-ولا أفعال ولا دم ولا أعصاب. كذا اعتماده على حوارات مقتضبة مجرّدة أغلب السّرد من الإشارات الركحيّة، معرضا عمّا يمكن أن تسهم به هذه الأخيرة من بثّ الحياة في شخوصه ومنحها الحرارة اللّازمة، فضلا عن جمود الحدث وتقّطعه وانفصام ارتباط بعضه ببعض وتباطؤ حركته أمام تيّار الوعي المتدفّق من الدّفّة إلى الدّفّة. فضلا عن لغة النّص التي جمعت في سمائها نبض الحرف العربي القديم بمنطوق عصرنا الرّاهن من حيث الجمال والتّركيب والتّماهي مع الشّعر في بعده السّاحر...

   نحن إذن أمام هندسة سرديّة مربكة معقّدة، حفلت بها رواية "مَدَدًا... مَدَدْ..." لكاتبها مراد البجاوي. هذه الرّواية التي صنّعت مناخا مثاليّا جمع بين النّقيض والضّدّ، والقديم والجديد، خصوصا على المستويين الفنّي والتّقني. فكأنّ الكاتب يقول لمتلقيّه: إنّ لعبة السّرد تقوم على الوظيفة أوّلا وآخِرًا، دون اعتبار للقديم لمجرّد أنّه قديم، ودون اعتبار للحديث لمجرد أنّه حديث. الواقع المأزوم المتخلّف الذي يرزح تحت ثقل الاستبداد وخنق الحريّات وانسداد الآفاق له ما يناسبه من أدوات ومبادئ فنية. كذلك أحلام التّغيير والتّوق إلى بناء مستقبل مشرق لها ما يناسبها مما تقدّم ذكره. أمّا الجمع بينهما والخروج بهما إلى منطقة ثالثة لا إلى هذه ولا إلى تلك، فتلك لعبة السّارد المتمكّن الذي حذق عمله ورام التفرّد في عالم انفجرت فيه المواهب وأنبتت أرضه من صنوف السّرد وفنون القول ما لا يقع تحت حصر.

   وقبل أن نفصّل فيما تقدّم ذكره ونربطه عمليّا بالرواية موضوع القراءة، ولكي لا يكون ذهن القارئ الكريم معلّقا في الهواء فإنّه من الضّرورة أن نذكّره بنبذة عن "مدَدًا... مَدَدْ..." كي يحسن مرافقتها ويشاركنا الحديث عنها. وله بعد ذلك أن يتّفق معنا أو يختلف فيما وصلنا إليه من نتائج.


"مددًا... مدد..." في سطور:

   زيدان، هي الشخصيّة المحوريّة التي دار بها وحولها نسيج السّرد. يفرّ من عالمه البائس المظلم إلى الخلاء حيث لا يوجد أحد، يفرّ رغم اعتراض المعترضين، زوجته وابن عمّه وآخرون، قائلا في مرارة وفي لهجة صوفيّة رامزة»: دعوني أفنى لأحيا. دعوني أنأى بمصائبي عن عالمكم البائس.» وقبل ذلك كان يخاطب نفسه ويخاطب العالم من ورائها:» اجرِ يا زيدان. اجرِ ولا تلتفت إلى الوراء! إيّاك والتّردد! إيّاك![2] « 

ترك الزوجة والولد وأعباء الحياة ومسؤوليته فيها إلى شِعْبٍ في الجبل بعيد لم تلوّثه أنفاس الخلائق... وما إن اختلي بنفسه حتّى تحوّل الكون من حوله إلى أرواح مبهمة غامضة تحدّثه ويحدّثها حديث العقلان، فتولد أسئلة حائرة ثقيلة في قوّة الجحيم. تؤرّقه وتزيده بؤسا على بؤسه، وتقرّبه من الخبل وفقدان العقل واختلاط الوهم بالحقيقة... وهكذا تتناهشه الأصوات من كل وحدب وصوب ولا يدري أتنبع من ذاته المريضة المتعبة؟ أم تنبع من إنسيّين ظن أنه فرّ منهم فرارا لا رجعة بعده؟ ...

   ذات حيرة في الدّجى السّاجي، وما أكثر أن عصفت به أخواتها، وجد نفسه محاصرا بالأضواء والسّلاح ليكون السّجن مصيره أغلب فصول الرواية. ومن الغريب المفارق أنّ ابن الدّم والرّحم ورفيق الطّفولة القديم، ابن الخالة هو الذي يلقي عليه القبض غير متردّد في إردائه قتيلا إن لم يستسلم. ومردّ ذلك إلى السّياسة وما جُبلت عليه من قذارة ولعنة في مجتمعاتنا العربيّة، تفرّق بين أبناء الوطن الواحد ولا تجمعهم، وتقطّع أرحامهم ولا تصلها. ويستبدّ من وصل منهم إلى السّلطة فيتحكّم في رقاب النّاس وبطونهم ويجعل من أبدانهم سلّما للعذاب وسوء المصير!

   ومن فصل إلى فصل تولد شخوص فجأة وتذهب فجأة وتتداعى الذّكريات في مسار متقطّع مفصوم لتعالج قضايا اجتماعيّة وأغراض مختلفة لا يربط بينها رابط إلّا الخيبة والسّياسة وأزمتها الخانقة.

   وما دامت رحى السّرد تدور فإنّ الوهم ظلّ مختلطا بالحقيقة عند زيدان، كذلك رؤاه وأحلامه وكوابيسه ظلّت متماهية مع الواقع الكالح الذي يعيشه ضمن سلسلة من السّخريات لاذعة المرارة. لعلّ أغربها على الإطلاق قذفه في السّجن، وتجرّعه العذاب، لأن الأحلام التي راودته في منامه لا تروق للسّلطان ويخشى أن تهدّد أمن دولته واستقرارها! ...


مفهوم تيار الوعي ودوافعه في رواية "مددًا... مدد..."

   وردت مقالة بعنوان روايات تيّار الوعي للأستاذ أحمد الشطري ما ملخّصه:[3]


"يستخدم اتجاه تيار الوعي أسلوبا سرديا يعتمد على تصوير التدفق المستمر للأفكار والمشاعر والأحاسيس التي تمر بها الشخصية، ويهدف إلى التقاط الأعمال الداخليّة للعقل البشري، وتقديم صورة أولية غير مفلترة لوعي الشخصيّة، وقد تمنح هذه التقنية المتلقي رؤية معمقة لطبيعة التفاعلات النفسيّة للشخصيّة، مما يوفر تجربة قرائيَّة ثرية وحميمة."

"وتتميز روايات تيار الوعي بافتقارها إلى البنية السرديّة التقليديّة وتركيزها على الأفكار والتجارب الداخلية للشخصية، فهي غالبًا ما تستخدم تقنيات مثل المونولوج الداخلي والخطاب الحر غير المباشر والسرد المجزأ لنقل تيار وعي الشخصية."  


"غالبًا ما يكون لسرديات تيار الوعي بنية مجزأة وترابطية، فبدلاً من إتباع تسلسل خطي وتسلسل زمني، يقفز السرد من فكرة إلى أخرى، مما يعكس الطبيعة غير الخطية لعمليات التفكير البشري كما يراه أصحاب هذا التيار، حيث يمكن للأفكار والذكريات أن تنشأ بشكل عفوي وبدون نظام واضح".


وهنا يقع الحافر على الحافر كمل يقال. بتلك المفاهيم قامت لعبة السّرد في رواية "مددا… مدد…" للكاتب مراد البجاوي. وليس أدلّ على هذا من أنّها ابتدأت وانتهت –كذلك-بكلمة مفتاح جرت على لسان السّارد:» اجرِ يا زيدان. اجرِ ولا تلتفت إلى الوراء! إيّاك والتّردد! إيّاك! « 

وبين هذين الحدين نشأت دائرة مغلقة تدفّق في داخلها سيل من الصّور والمشاهد والمشاعر والمواقف والمخاوف والأحلام والكوابيس شكّلت فيما بينها تيّارا شقيّا من الوعي، قلقًا إلى حدّ فقدان التّوازن والتباس الأمور على السّارد وقرّائه معا، فلا ندري معه أين الحقيقة وأين الخيال؟ وهل بينهما حدود وما هي؟

   وللدّلالة على ذلك تأمّل أيّها القارئ الكريم المقتطفات التالية والتي تمّ انتخباها عشوائيا من متن الرواية وقد جرت كلّها على لسان السارد/ زيدان أو قل تدفّقت من وعيه الشقي الجارف:

   "لقد حان وقت الانفصال، ولا رغبة لي في مزيد تحمّل عذابات الوجود. نعم!  ويا ليتي أستبدل صحوة الجسد بعلاّته بنومة أخيرة. هكذا كنت أحدّث نفسي

وأستحثّ الخطى مسابقا الرّيح لاجتياز الرّبوة وإدراك الجبل. فهناك لن يقدر أحد على صدّي عماّ عزمت عليه. لن يمنعني مانع عن الاستباق إلى الخلاص النّهائيّ. وهناك أيضا سأهشّ على سطح الذّاكرة لأجتثّ منها ظلمات النّهار ودسائس اللّيل. هناك سأقبع على صخرة الصّمود معانقا أمل النّجاة من أوحال تعاقب الأيّام المربكة."[4]


  "ها أنا أركض، أركض وأركض دون تعب ولا توقّف. إنّي أستعيد أحلام الطّفولة وذكريات الانفلات إلى الطبيعة الهادئة..." (ص23)[5]


   "ففي الظّنّ إدراك، وفي اليقن حيازة لمسعى، ولكنّ السّير على ناتئات المقصد مراودة بائسة لعقل بائس واختيار يائس. إذ كلّ المعارك سوّيت محارقها، إلاّ معركتي في الوقوف بن الشّكّ والحقيقة. شكّ قوّته في عناده، ويقين حقيقته في صدامه. كنت أظنّ أنّ البيّن بيّن وأنّ الظّاهر ظاهر تماما كما هو الباطل باطل والمخفيّ مخفيّ. لكنّ الخلاف الأهمّ هو الأقوى من شرعة التّمييز وقدرة الفصل. فإذا نشبت مخالبي في جوف سلطان الشّكّ، خاتلني الحقيقة وراودتني عن نفسي..." [6]

   "بتّ ليلتي أضاجع الأحلام وأستبدل قصصها إلى بطولات أزعم أنّي ذو قدرة خارقة على بناء تفاصيلها وإن كنت على غفوة نوم. فهي تارة مرعبة، مخيفة ومفزعة، وطورا تجبرني على التّأمّل أكثر..."[7]

   "لا يهّم إن كنت هائما في خيالات قد لا تتلاءم والوضع الّذي أنا فيه. ولا يزعجني إن سحبتني أسئلة البحث إلى ما لا يتطابق والحقيقة. فمشكلتي اليوم تتجاوز حدود العقل وأنا المستكين بقدرتي على تجاوز الورطة الجبانة مها تقسو التّفاصيل." [8]

   "النّظام. النّظام.  النّظام.  كم مججت هذه العبارة! وعن أيّ نظام يتحدّثون؟ وما أقسى أن يحتكم الفوضويون إلى آلة النّظام؟ نظام استند إلى حكم الفرد في زمن الجماعات التّابعة. نظام ينتفي فيه الأصلح بالأصلح باسم القانون. نظام يستمدّ الوهم القائم عليه من سلطة الوهم الزّائفة. نظام لا يعترف بالفيزياء ولا الكيمياء ولا العلوم ولا الرّياضيات إلاّ في دفاتر مذكّرات أستاذ مجبر على التّنفيذ مقابل مكافأة رخيصة. نظام موغل في تأويل اللّغة وتطويعها بحسب المقاس مبنى ومعنى حتّى تنفذ إلى العقول فتفعل فعلها دون تفسير. هم ليسوا مستعدّين لتبرير ما يفعلون. هم جاهزون فقط للمقام الجاهز. ولا يهمّهم معطى أو قرينة لتسوية وضعية ما، بل كلّ ما يشفي غليلهم إدانة ينتشون بفضلها على آلام قهر الواقعين في المحظور."[9]

   "سيّدي الرّئيس![10]  في هذا الزّمن صار كلّ شيء ممكنا. وقد تتشابك أحلامنا بواقعنا المهمّش. وحينها تتلاطم المصالح العليا تلاطم أمواج بحر عاتية، فتضيع المصالح السّفلى وتنساق العامّة إلى ما وراء تيّار المكاسب اليسيرة الّتي تنتجها الفوضى.  ولذلك، لا الأحلام ظلّت منذ الميلاد أحلاما، ولا الواقع متشبّث بحقيقته. فهل لكم أن تحاكموا شعبا كاملا بتهمة أنّ الأحلام تمسّ من الأمن العامّ؟ لا أظنّ سيّدي الرّئيس. لا أظنّ سيّدي الرّئيس! لا أظنّ! وبكلّ تأكيد!"[11]

    "وهذا هو المعنى الحقيقيّ لتنكيل الدّولة، حتّى لكأنّها تتحيّن الفرص للإطاحة بأهل الطّموح بألاعيب الحيلة، فتعدّ ما أنجز لها شَركا ذكيّا وتُصادر ممتلكاته باسم القانون، وهي في دفعه إلى الهلاك سابقة. هكذا هي بدم بارد تَعُدّ والشّقيّ يُحصي سنوات العمر بين القضبان متجرّعا مرارة الغبن والحرقة.  هكذا هي الدّولة متربّصة بأهل المجازفة العمياء."[12]


   "يا أهل بلدي!  أعيدوني إلى رشدي، فأنتم العقلاء وأنا المجنون!  والأهمّ من كلّ هذا أن تُعيدوني إلى بلدي، أعيدوني إلى بلدي! ."[13]


   إذن، فإنّ قارئ رواية «مددًا... مدد..."  لن يجد شيئا مألوفا ولن يكون أمام شخصيّات تامّة التبلور. تهتمّ بالتفاصيل الصغيرة، وتحمل على كاهلها عدسة تصوير تستنسخ الواقع بجميع أبعاده وألوانه، قصد تسلية القارئ ومدّه بالمتعة. ربّما اعتبرت الرواية التي بين أيدينا هذا المنحى نوعا من التّخدير ومبعثا للأوهام التي لا تصنع وعيا في زمن المحنة والمأساة. فالواقع القاتم الكئيب الحافل بسحق الإنسان وقهره إلى ما لا نهاية، لا يحتاج إلى أسلوب عادي قد يصلح للرومانسيّة وأشباهها، قدر حاجته إلى أسلوب يخلخل الوعي ويصدمه ويدفعه دفعا لإثارة الأسئلة باستمرار، ويحمله على التأمّل والتّفكير واستخلاص أسباب الدّاء، والوقوف على الأعطاب الحقيقيّة للمجتمع. إنّ أسلوبًا كأسلوب «مددًا... مدد..."  يحوّل وجهة القارئ من متقبّل سلبيّ ينظر إلى النّص من الخارج، إلى فاعل وشريك فيه عبر عمليّة تأويل مستمرّة.

   بل إن هذا النمط من الكتابة يعيد إلى أذهاننا أسئلة قديمة تتعلّق بماهية الرّواية في حدّ ذاتها. ما علاقتها بالمتلقّي وما هي وظائفها؟ وكيف تتفاعل مع الواقع وتستعير منه قوانينه الظّاهرة والخفيّة وكيف تحوّلها إلى بنية النّص؟

من تلك الأسئلة التي دفعت إليها رواية «مددًا... مدد..."  لماذا راهنت على تقنية تيار الوعي واعتمدته في أسلوبها وهي تعبّر عن واقع مأزوم؟ وما هي تداعيات ذلك على بقيّة عناصرها؟ وما هي مجالاتها وحدود تأثيرها؟

   بعد الدّرس والتأمّل لاحظنا أن تقنية تيار الوعي كانت العصب الرئيس لتحريك جميع عناصر الرواية تقريبا، أو على الأقلّ أغلبها. كانت الرّوح المهيمنة على النّصّ من الغلاف إلى الغلاف. وامتدّت آثارها الواضحة على السّارد والشّخوص والحدث والزّمان والمكان والرّمز واللّغة...


وفيم يلي بعض التّفاصيل:

آثارها على السّارد:

  ما إن يتقدّم القارئ في عالم رواية "مددًا... مدد..." حتّى يدرك أنّ ملامح شخصية زيدان وتفاصيل ملامحها الجسمانية قد ابتلعتها ومحتها ملامحه الباطنيّة والمعنويّة العميقة. أخرجته من صفة الشّخص الضيّقة إلى صفة السّارد الواسعة، وحوّلته إلى رمز وفكرة، إلى ذات منقسمة على نفسها ليولد من ضلعها ذوات أخرى عديدة تختزل شرائح النّاس بمختلف أزماتهم، وتلخّص علاقة بعضهم ببعض. حاكما ومحكوما وقاهرا ومقهورا وجلّادًا وضحيّة. بتعبير آخر، لقد حوّلت تقنية تيّار الوعي -المنبثقة من واقع الشخصيّة المأزوم-ذات السّارد الطبيعيّة إلى ذات معنوية تلعب دور المرآة التي يرى فيها وجهه ووجه العالم، فيخاطبهما معا خطابا واحدا متواشجا لا حدود فيه.


آثارها على الشّخوص:

   قبل الحديث عن الآثار يحسن أن يتعرّف القارئ الكريم على الّشخوص الأخرى-خلاف زيدان-حتى تكتمل عنده الصّورة: الزوجة/ابن العمّ/صوت الباحث عن الكنز/ابن الخال (ضابط بوليس) / شركاء في الزنزانة/ محقق أمني/باحث البداية/رئيس المحكمة/ وكيل الجمهورية/ طبيب/ممرضة/ حارس/خنفساء الريح/ غيلان (الأخ التوأم) / شخصيات أخرى تستدعيها ذاكرة السّارد...

     إذا كانت لشخصيّة السّارد/ زيدان ملامح باطنيّة عميقة واسما وبُعدا اجتماعيّا ولو غائما ومضبّبًا ويفتقر إلى الملامح الظّاهرة فإنّ الشّخوص التي وردت أعلاه افتقرت حتّى إلى هذه الصّفات المعنويّة مع غياب تامٍّ لملامحها الجسمانيّة وأبعادها النفسيّة والاجتماعيّة وما إلى ذلك. تظهر بلا مقدّمات وتختفي بلا تمهيد. منها من يندثر نهائيّا فلا نسمع له صوتا، ومنها من يعود للظهور في اقتضاب وسرعة ليضمحلّ تماما وليبقى صوت السارد هو الأعلى والمهيمن على الإطلاق. إنّها تظهر للقيام بوظيفة محدّدة تتمثّل في ترجيع الصّدى لذات السارد لا أكثر.  تُختزل في أصوات مجرّدة من الفعل والحركة والعصب واللحم، لا تصنع الحدث ولا تدفعه للنّماء والتّطوّر كما هو مألوف. بل إنها تُجرّد حتّى من كونها شخصيّات مساعدة تستدعيها وظائف الإضاءة على الشخصيّة الرئيسية من الزّوايا المختلفة.


وعلى ذلك يمكن أن نضرب بعض الأمثلة التّالية من النّص:

-              "أوّاه من خيبتك يا زيدان!  ألم نتّفق على تقاسم المحنة؟

-              من تكونين؟ وما حاجتك بي؟

-              زوجتك يا زبدان. إيّاك والرّحيل عنّا!

-              ما الّذي أتى بك ورائي يا نوّة؟ عودي إليهم، عودي!

-              أبناؤك يا زيدان أمانة.

-              لعلّ في هروبي رحمة. لم أعد قادرا على الصّمود أكثر.

-              والنّفقة؟

-              أهون عليّ من تحمّل عبء الهزيمة.

-              لستَ مهزوما يا زيدان!  وإن تعسّرت لديك الحياة، فأنت تهرب من      المواجهة لتعلن إفلاسك وفشلك.

-              إنّي لست هاربا، بل قدرتي على الحلم بعالم آخر تستدعي التّمرّد يا نوّة."[14]

 "لم تمرّ لحظات إلاّ وقد عاد صوت هادر قطّعه الصّدى لمرّات متتالية:

-              قف مكانك!  ولا تتقدّم خطوة أخرى!

-              إنّي لا أراك، فمن تكون؟ وما الّذي أنت صانعه في هذا الزّمن وقد هجم الظّلام؟

-              أنا الّذي أراك. كنت أظنّ أنّي تركت العيون.

-              بل أنا من ظننت أنّي تركتكم هناك. فما الّذي دفعك للّحاق بي؟

-              اتركي وشأني! ودعني أنقر الصّخر وأحفر حتّى الكسب الثّمين.

                 الكسب الثّمين؟

 -             ولا أثمن منه.

 -              ومتى تُنهي مهمّتك؟

-              حين أظفر بضالّتي.

-              وما ضالّتك؟

-              بيانات كتب صفراء أرشدتني إلى كنز قد ألقاه وقد لا أظفر به.

-              آه فهمت!

-              هل تُشاركني؟

-              في الجريمة؟

-              أيّة جريمة يا هذا؟ دعنا نكسب ممّا ترك الأوّلون.

-              الويل لك ثمّ الويل.

-              احذر يا رجل! فربّما ترشد العسس إلى موقعي.

-              لا عسس بعد اليوم، فاغنم مثلما شئت. إنّهم منشغلون، منشغلون"[15].

"ولم يفكّ اضطرابي إلاّ ذلك الصّوت الّذي باغتني منذ حلولي، فعاد إليّ سائلا:

-           ظننتك عابر سبيل. إلاّ أنّك أطلت المقام. أيّ سرّ وراءك؟

-          كرب وهمّ، أرق وغمّ، وشيء من بئس المصير.

-          يا لخطبك القاسي!

-          بل يا لخطبهم لو كانوا يعلمون!

-          ما الّذي بينكم؟

-          ارث قديم وأصنام تنبعث من جديد.

-          إنّك تفتعل لعنة الغريم! أما جادلت؟

-          فبئس مثوى المجادلين!"[16]

   وهكذا قس بقيّة الحوارات التي وردت في الرّواية. ولعلّك لاحظت أن انتقال الكلام من مخاطب إلى آخر كان مجرّدا من كلّ ما يدلّ على الشّخصيّة من هيئات وأحوال وحركات وسكنات. فقط يبرز صوتها ليحمل فكرة ما ثمّ يضمحلّ.

   ومن المؤكّد أن هذا الخيار لم يكن عشوائيا في رواية «مددًا... مدد..."  ولا جاءت به الصّدف والعفوية غير المقصودة. بل فرضه المناخ العامّ الذي اختار الروائي مراد البجاوي أن ينقله إلى قرّائه. فمن طبيعة الاستبداد أن يعلو صوت المستبدّ لوحده مقابل أن تخفت أصوات الآخرين ولو أدّى الأمر إلى خنقهم وحرمانهم من الحريّة والحقوق، إمعانا في الابتعاد عن الفطرة السّليمة وطبيعة الإنسان السويّة. فكأنّ السارد/ زيدان هنا يقع تلقائيّا فيما يرفضه ويهرب منه، ويجد نفسه مجسِّدًا لصفة الاستبداد دون شعور منه، ولعجزه أيضا على أن يكون ديمقراطيّا حقّا ولو على مساحةٍ ورقيّة. أليس في النّخبة من يتشدّق بقيم الحريّة والعدل والحقّ والجمال وهو ألدّ الخصام لها من المستبدّ نفسه؟! ما هو إلّا امتحان صغير حتّى يجد نفسه على المحكّ دكتاتورًا ولا أبشع منه!

   تلك من الرّسائل الخفيّة التي حاولت الرّواية إبراقها إلى القارئ.


آثارها على الحاكم:

   وأنت تقرأ رواية "مددًا... مدد..." لن تعثر على ملمح واحد للحاكم سواءً من جهة صفته الشخصيّة أو أبعاده الأخرى. فأنت لا تدري هل هو رئيس أو ملك أو إمبراطور أو أيّ لقب آخر من ألقاب الحكم. لا تدري ما هو نظامه بالضّبط، رئاسيّ، برلمانيّ، ملكيّ... فقط تشعر به من حولك ولا تراه. إنّه الحاضر الغائب في آن. حاضر بأدوات حكمه وسجونه ومراكز أمنه ومحاكمه. وغائب بإنجازاته، وبنفعه النّاس والبلاد والأجيال القادمة...

 تناول الحاكم بهذه الضبابيّة الملفتة هو موقف من المواقف الملفتة عبّر عنه السارد بطريقته الخاصّة، فكأنّه يجرّده من آدميّته ووجوده الحقيقيّ ويختزله في مجرّد حالة عامّة تجثم على البيئة العربيّة المأزومة، بقطع النّظر عمّن يكون...


آثارها على الحدث:

   من الطّبيعي أن يتجمّد الحدث ويقترب من حالة السّكون مادام الصّوت الدّاخلي هو الطّاغي، وما دامت الشّخوص التي تبعثه وتخرجه إلى الحركة والفعل قد تحوّلت بدورها إلى مجرّد أصوات وأصداء، لكن هذا لا يعني أنّ الحدث قد غاب تماما. فمن فصل إلى فصل كانت الرّواية تعالج وجها من وجوه الأزمة عن طريق ذاكرة السّارد وما حملته من حكايات ومفارقات وطرائف منفصلة عن بعضها بعضا لا يربط بينها رابط عدى صلة أبطالها بالرّاوي المأزوم. والحدث على هذا النّحو كان أشبه ما يكون بقطع الدومينو. لا يطّرد في النّماء إلا إذا تجاور مع غيره في مساحة محدودة جدّا، أسجلّ هذا مع الإقرار ببعض الاستثناء خصوصا مع الشخصيّة الرئيسية التي تميزت بحركة محدودة مكّنتها من إنتاج أحداث على نحو ما ذكرنا. من ذلك: الهروب من المدينة إلى الجبل/ إلقاء القبض على زيدان/ حياة السّجن/ التّحقيق الأمنيّ والقضائيّ/ مداولات المحكمة/ انقلاب عربة البوليس بالبطل في منحدر حادّ/ دخوله إلى المستشفى/ ظهور شخصيّة غيلان/ الكشف عن المجرم الحقيقيّ/ الخروج من السّجن/ العودة إلى الجبل مرّة أخرى...


آثارها على الزّمن:

بما أنّ الشخوص في عمومها كانت باهتة قليلة الحركة والتأثير على الحدث للأسباب التي بينا، عاجزة عن الحركة والفعل فإنّ دور البطولة من حيث تأثيرها وهيمنتها انتقلت-حسب رأيي-من الشّخوص إلى الزّمن في عمليّة تغيير واضحة لمفهوم البطولة. وهذا يُحسب للكاتب مراد البجاوي. ذلك أنّ صوت الزّمن في رواية «مددًا... مدد..."  كان الأقوى والأبرز بسبب ما احتواه من قضايا حارقة تتّصف بالقسوة والبشاعة والوجع، وتداخل الحقائق مع الكوابيس والأوهام، وتبعثرها في محيط غامض لا ندري معه الزّمن المحدّد لتلك القضايا. هل هو مثلا يعود إلى أواسط القرن العشرين غداة خروج المستعمر من البلاد العربيّة؟ أم يعود إلى قبل ما يعرف بثورات الرّبيع العربيّ؟ أم بعده؟ ولولا مراكز التّحقيق ومداولات المحكمة ومراعاة بعض القوانين والإجراءات المتداولة في عصرنا لذهب بنا الظنّ أنّ محيط الزّمن أوسع بكثير ممّا تقدّم وقد يمتدّ إلى العصر الوسيط والى ما بعده!

وأحسب أنّ بناء الزّمن الغامض على هذا النّحو كان موفّقا للغاية باعتبار أن قضايا العرب وأسئلتهم الحارقة لم تتغيّر ولم تُحَلَّ بعد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان يشكّل موفقا ما، على اعتبار أنّ الزّمن لم يكن فيزيائيّا في تقديرنا، بل كان زمنا ذهنيّا بحتا يتحرّك في ذهن سارد مأزوم اختلطت فيه الحقائق بالأوهام، والكوابيس بالوقائع، والأمنيات بالخيبات. كان غموضه موفّقًا كذلك نتيجة وعي السّارد المضطرب الذي يحمله هذا التيّار إلى جهة، ويجرفه ذاك التيّار إلى جهة أخرى معاكسة. ولعلّ لهذا التّأويل بعض القرائن. منها انكسار الزّمن في «مددًا... مدد..."   على نحو بيّن فهو لا يسير في خطٍّ مستوٍ حتّى يتعرّج ويتقطّع خارج منطق البدايات والنّهايات. ومن هذه إلى تلك يتحرّك عبر موجات متذبذبة تدور جميعها في حلقة مغلقة كما أشرنا أوّل حديثنا.  ولا يفوت القارئ المطّلع أنّ هذه من طبائع الذّهن المشوّش المتعب المقهور الذي لا يسير في نسق مرتّب، حسب الزّمن الفيزيائيّ المعروف.


آثارها على المكان:

   إذا اتّفقنا على أنّ ذهن السّارد المشوّش القلق، هو الوعاء الذي تحرّكت فيه الرّواية، وإذا اتّفقنا أيضا على أنّ الزّمن ذهنيّ محض باعتباره مفارقا ومفصولا عن الزّمن الحقيقي عند نقله للأحداث والوقائع، فإنّ المكان في رواية «مددًا... مدد..." أخذ طبيعة هذا الذّهن من حيث علاقته بالزّمن، ومن حيث طغيان الضبابيّة وعدم الوضوح. من المنطق حينئذ على ذهن مرهق وحائر ألّا يهتمّ بتفاصيل المكان وألّا يصّوره تصويرا حسيّا ناطقا بالجمال ولو في حدّه الأدنى. حسبه أن ينصرف إلى الأزمة رأسا. وحسبه أن يختزل الفضاءات التي شكّلت المكان في مجرّد أسماء جافة: جبل/مغارة/زنزانة/ مستشفى/ محكمة... 


آثارها على الرّمز:

   عندما يتعرّض الذّهن البشريّ إلى ضغوط عالية فإنّ ردّة فعله إزاء العالم وذاته ومحيطه تختلف عنها في حالة الدّعة والسّلام، وتتحوّل إلى شبكة معقّدة من الرّموز التي تخفي وراءها ما تخفي من الدّلالات العميقة والمعاني المشفّرة. والحقّ إنّ رواية «مددًا... مدد..." غنيّة بهذا الجانب وقارؤها يستطيع دون عناء أن يكتشف شبكة معقّدة من الرّموز المتناثرة بين سطورها من البداية حتّى النهاية.  منها ما هو مغلق مستعصٍ يلفّه الغموض، ومنها ما هو شفّاف رقيق يكشف عمّا وراءه في يسر وسهولة. تمتزج بالسّخرية والمفارقات المؤلمة المضحكة، وتمتزج أيضا بالمواقف السياسيّة والمبدئيّة. وهكذا ولدت معاني متعدّدة عوّضت محدوديّة الحركة الروائيّة التي ألمحنا إليها سابقا، فضلا عن جذب القارئ ودفعه إلى أن يكون شريكا فاعلا في بنائها.

   ويمكن الاكتفاء بالإشارة إلى النّماذج المختلفة التّالية للدلالة على أهميّة هذا البعد ونترك للقارئ فهمها على النّحو الذي يريد:

-          "يا لخطبك القاسي!

-          بل يا لخطبهم لو كانوا يعلمون!

-          ما الّذي بينكم؟

-          ارث قديم وأصنام تنبعث من جديد.

-          إنّك تفتعل لعنة الغريم! أما جادلت؟

-          فبئس مثوى المجادلين!"[17]

-              "هذه منامتي آخر اللّيل. فكيف تحوّلت إلى قرينة؟

 -             هذا شغلنا يا زيدان!  ألا تعقّلت؟

-              تشتغلون ولو كنتُ على نوم؟ وماذا تركتم لخاصّتي؟

-              كلّ مواطن بما كسبت أحلامه رهينة.

-              ومتى تعلّمتم هذا؟

-              أثناء نومكم يا شقيّ.  ناموا إذن ولا تستيقظوا!"[18]

   "أرسلت بصري خلسة إلى وجه وكيل الجمهوريّة، فإذا بي أمام مشهد تكرّر ثانية، فانطبقت عليّ كمّاشة الحيرة. يا إلهي!  أهذه قضيّة جنائيّة؟ أم مواكب عزاء؟ ما الأمر يا زيدان؟ وخزتني شوكة الصّدّ عن الشرود واستدرت استجابة لطلبهم منّي الخروج. ما الّذي أصاب وكيل الجمهوريّة؟ إنّه يذرف الدّمع مدرارا كأنّ خطبا نال منه".[19]

   "الخنافس تتقدّم في دبيب بطوليّ، والرّوائح تنتشر في كلّ الأرجاء، والدّيار تغرق في عفن نسائم الصّباح الشّامتة. إنّني قابع في نفس المكان ومتستر عن انزعاجي من هزيمتي.  لو كان للمدينة وجوه صدّ قادرة على تأمين أنفاسها. فليس كلّ ما تراه حقيقة، وليس كلّ ما يبدو منذرا بالخطر وثيقة إقرار باتّخاذ القرار. لكنّي أقرّ بأنّني خائف من المصير..."[20]


آثارها على اللّغة:

   في ظلّ ضبابيّة الزمان والمكان والشّخوص وتماهي بعضها في بعض. وفي ظلّ الأجواء الغرائبيّة وانقسام الذّات على نفسها نتيجة لهيمنة تيّار الوعي، فإنّ اللّغة في رواية «مددا... مدد..."  تحمّلت أعباءً إضافيّة زيادة عن مهامّها البنائيّة والدلاليّة. استطاعت أن تعوّض بطء الحركة في النّص بحركة أخرى أكثر نشاطا وانسيابيّة، تشدّ القارئ وتدفعه إلى متابعة القراءة حتّى السّطر الأخير. أو بتعبير آخر شكّلت شركا جميلا حتّى يلج قارئها من بوّابتها إلى عالمها المليء "بالدّلالات والرّموز والتّضاد والتّنافر والكثافة الشعريّة والسّخرية والتهكّم والاحتجاج الصّارخ أحيانا، والنّبرة الحادّة والتراكيب المصقولة المدهشة والفجوات الشعريّة والمفارقات ونسج المفردات القديمة والحديثة في تراكيب متألّقة ومتأنّقة." [21]

 ونلاحظ من جملة ما نلاحظه أنّ الكاتب مراد البجاوي التمس من التّراث عموما، والقرآن الكريم خصوصا نفسا لغويّا متّن لغة نصّه وأعطاه به قوّة ومتانة، رفعت منسوبه الجماليّ وأخرجته من المنطوق العادي.


ولهذا المنحى اللّغوي دافع ووظيفة:

 إنّ المتتبّع لكتابات مراد البجاوي الروائيّة السّابقة يلاحظ بيسر أنّ استلهامه من لغة القرآن والسنّة النبوية والتّراث عموما، غدا بصمةً تميّزه من غيره، حتّى أنّنا نحجب اسم الكاتب عن الكتاب فندرك من الوهلة الأولى أنّ مراد البجاوي هو كاتبه. وأمام تكرار هذا المنحى في أعماله السّابقة نستنتج الدوافع الذاتية للكاتب. وحقّ له احتفاؤه بتراث أمّته العظيمة، وارتباطه بها ارتباطا عاطفيّا ومعرفيّا. ذلك أنّ من عظمة لغة التّراث أنّها ما زالت تحافظ على جماليتها الفريدة وعطائها المُلهم رغم ما مرّ ويمرّ بالأمّة. لكن بقطع النّظر عن ذاتيّة الكاتب لم تحضر هذه اللّغة في رواية «مددا... مدد..."  من قبيل الصّدفة أو العفويّة غير المحسوبة. ذلك أنّ النّصّ، كلّ النّصّ تنفجر بؤره بالتّأويل ولا ينتهي معناه عند ظاهر ألفاظه. 

من وظائف الاستلهام من التّراث أنّ الهموم والمشاغل التي تعالجها الرّواية هي عينها التي يعاني منها الإنسان العربي منذ أحقاب مديدة. الاستبداد وخنق الحريّات والاستحواذ على الحكم تحت مسمّيات عديدة، وجوع الإنسان العربي، وافتقاده لكرامته وغير ذلك، ليست مشكال راهنة فحسب بل تمتدّ جذورها إلى التّراث القريب والبعيد. فكأنّ الزّمن لم يتغيّر والتّاريخ مجرّد حلقة ثابتة من المآسي والأحزان. فاللّغة بنت عصرها. واللغة في «مددا... مدد..."  ابنة قضاياها التي تعالجها، القضايا القديمة الجديدة في آن.


الملخّص:

   إنّ تيّار الوعي بما هو حركة ذهنيّة بحتة تمثّل سيلا متدفّقا من المشاعر والأحاسيس والرّؤى والأفكار والأحلام والهلوسات والمخاوف والهواجس، فإنّ لذلك آثارًا ووظائفَ نأت برواية «مددا... مدد..."   عن الكتابات الروائيّة التقليديّة وحتّى الحديثة، وجنحت بها إلى الرّواية الجديدة، أو ما يعرف بالرّواية ما بعد الحديثة. ولقد كان لتيّار الوعي باعتباره العصب الرئيسيّ في الرّواية والرّوح التي هيمنت على أجوائها، أثارًا على بقيّة تقنيات الرّواية وعناصرها، مسّت طبائع الشّخوص، وحولّتها إلى أشباح ليس لها من الخصائص إلّا الأصوات المنبثقة من هنا وهناك عبر حوار مجّرد من الإشارات الركحيّة أو ما يدلّ على آدميّتها. ولقد امتدّت آثاره أيضا إلى الحدث الذي تباطأت حركته واتّسمت بعدم الاطّراد والنموّ العضويّ. كذلك أثّرت في الزّمن وأسندت له دورا من أدوار البطولة التي لا تقلّ أهميّة عن دور السّارد. أمّا المكان والرّمز واللّغة، فكان لها نصيب واضح من تلك الآثار التي يمكن أن تربك المتلقي وتجعله يعيد طرح الأسئلة من جديد عبر سلسلة من التأمّل وإعادة التّفكير.


[1] حسن سالمي: قاص وروائي تونسي صدرت له عديد الأعمال في القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والرواية، وكتاب في الدراسات النقديّة...

[2]           رواية مددا مدد ص 21

[3]           اُنظر موقع الصباح/ القسم الثقافي، بتاريخ 25/12/2023

 [4]          رواية مددا مدد ص21

 [5]          المصر السابق ص23

[6]           المصدر السابق ص26

[7]           المصدر السابق ص35

[8]           المصدر السابق ص54

[9]           المصدر السابق ص69

[10]              يقصد رئيس المحكمة

[11]          رواية مددا مدد ص109

[12]         المصدر السابق ص165

[13]  المصدر السابق ص218

  [14] رواية مددا مدد ص 24-25

14    المصدر السابق ص28-29

[16]  المصدر السابق ص 40

[17]  رواية مددا مدد ص40

[18] المصدر السابق ص 94

[19]  المصدر السابق ص 106

[20]  رواية مددا مدد ص 210

[21]  التعبير هنا للدكتور شكري العزيز الماضي من كتابه أنماط الرواية العربية الجديدة، اقتبسته بتصرف.

الإبادة الثقافية للفلسطينيين.. الهجوم الإسرائيلي على التراث والذاكرة والهوية/ الدكتور حسن العاصي



أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا


بتاريخها وموقعها الجغرافي الفريد، تُعدّ فلسطين أرضاً عريقة، مرتبطة بحضارات وإمبراطوريات وأنبياء وقديسين لا حصر لهم، مما جعلها فسيفساء ثقافية تُمثل إمكانات هائلة لحاضر فلسطين ومستقبلها. لعقود، سعت إسرائيل بلا هوادة إلى طمس الهوية والتاريخ والوجود الفلسطيني، ناكرةً الشعب الفلسطيني بشكل منهجي حقه الأصيل في تقرير المصير. هذه الجهود الدؤوبة مدعومة بنظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وتنبع من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، القائم على طرد الشعب الفلسطيني الأصلي من أرضه، وسلب ممتلكاته، واستبداله. تمتد هذه الجهود العنيفة إلى الاستهداف المتعمد لمواقع التراث والآثار الفلسطينية وتدميرها، مما يعكس سياسة شاملة لمحو الهوية الفلسطينية والشعب الفلسطيني كجماعة. مع الإقرار بأن الجرائم المرتكبة ضد التراث الثقافي أو المؤثرة عليه غالباً ما تمس جوهر معنى أن تكون إنساناً، مما يؤدي أحياناً إلى تآكل قطاعات كاملة من التاريخ البشري والإبداع الفني.

 يُقر مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بأن "التراث الثقافي هو حجر الأساس للهويات الثقافية، ويؤيد الفهم بأن الجرائم المرتكبة ضد التراث الثقافي تُشكل، في المقام الأول، هجوماً على هوية وممارسات جماعة معينة". إن هجمات إسرائيل على مواقع التراث والآثار الفلسطينية لا تُشكل جرائم حرب فحسب، بل تُشكل أيضاً جزءًا من حملتها الإبادة الجماعية التي تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية لحياة الشعب الفلسطيني. محو التاريخ، محو الشعب: الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة خير مثال على ذلك.

في قطاع غزة، لا لبس في تنفيذ هذه المساعي التدميرية، والتي تجلت في أكثر من ستة عشر عاماً من الحصار والإغلاق، إلى جانب الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المختلفة، التي شهدت تدمير التراث الثقافي الفلسطيني، مما يؤكد الطبيعة المتعمدة لهذه الإجراءات في محو الوجود المادي والتاريخي للشعب الفلسطيني. في عام 2021، حذّرت منظمة الحق من تدمير إسرائيل للمواقع التراثية في غزة خلال عدوانها العسكري الذي استمر إحدى عشرة يوماً، مشيرةً إلى أن "عمليات القصف الإسرائيلية تهدف إلى محو التراث الثقافي الفلسطيني تدريجياً لحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره على موارده الثقافية، وبالتالي تهديد وجوده كشعب".

وفي الوقت الحالي، وفي استمرارٍ لجرائم الإبادة الجماعية المتواصلة ضد الفلسطينيين في غزة، متجاهلةً تماماً أمر التدابير المؤقتة الصادر عن محكمة العدل الدولية، استهدفت إسرائيل المواقع والمراكز التاريخية والثقافية الفلسطينية، كاشفةً عن نمطٍ ثابت يتماشى مع حملتها المدروسة لمحو أي أثر للوجود الفلسطيني، سواءً كان إنسانياً أو ثقافياً.

واعتبارًا من السابع من نوفمبر/تشرين ثاني 2023، أفادت منظمة التراث من أجل السلام أن 104 مواقع تراثية من أصل 325 موقعًا في قطاع غزة قد دُمرت بالكامل أو تضررت جزئياً. ومنذ ذلك الحين، لا تزال التقارير اللاحقة الواردة من غزة تلقي الضوء على تدمير إسرائيل للممتلكات الثقافية الفلسطينية في إطار إبادة جماعية مستمرة ضد الفلسطينيين، مما يشكل مثالاً صارخاً على جهودها المستمرة على مدى عقود لمحو الوجود والتاريخ والهوية الفلسطينية. على سبيل المثال، أفادت التقارير أن الهجمات الإسرائيلية أثرت على دير القديس هيلاريون في تل أم عامر، المدرج في القائمة المؤقتة لمواقع التراث العالمي، وحمام السمارة، الذي شُيّد منذ أكثر من 1000 عام. وتشير التقارير أيضاً إلى قصف العديد من المؤسسات الثقافية خلال الإبادة الجماعية المستمرة، بما في ذلك متحفان من أصل أربعة متاحف في غزة، بما في ذلك قصر الباشا الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر. علاوة على ذلك، تُقدّر وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في غزة أن حوالي 104 مساجد قد تضررت أو دُمرت منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بما في ذلك المسجد العمري الكبير، وهو الأكبر والأقدم في قطاع غزة، ومسجد عثمان بن قشقر الذي شُيّد عام 1220، ومسجد السيد الهاشم، الذي بُني في البداية في القرن الثاني عشر وأُعيد بناؤه لاحقًا في 1850.


قمع الصمود والهوية: تدمير المعالم الأثرية خلال الهجمات العسكرية على مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية

لا يستهدف التدمير الإسرائيلي المتعمد الأرواح ومواقع التراث الثقافي فحسب، بل يستهدف أيضاً التعبيرات الرمزية والصامدة للهوية الفلسطينية. في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخلال هجومها العسكري الذي استمر ست ساعات على مدينة جنين ومخيمها للاجئين، والذي أسفر عن مقتل أربعة فلسطينيين، بينهم طفل، وتدمير البنية التحتية المدنية، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي، برفقة جرافات من طراز D9، بتدمير الأقواس الواقعة عند المدخل الشمالي لمخيم جنين للاجئين، والتي كانت تحمل نقوشاً على حجارتها، تقول العبارة بتحدٍّ: "هذه محطة انتظار حتى العودة".

وخلال الهجوم نفسه، أصبح ما يُعرف بـ"دوار الخيل" عند المدخل الشرقي لمخيم جنين للاجئين مسرحاً للدمار، حيث هدمت الجرافات الإسرائيلية جزءًا من الشارع بطول خمسين متراً، متوغلةً في قلب المخيم، مدمرةً إياه بدوار الخيل. وبعد ذلك، استولت الجرافة على تمثال الحصان الذي كان يزين الدوار، بعد أن لحقت به بعض الأضرار.

يُعد تمثال الحصان الحديدي رمزاً مؤثرًا في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي لجنين ومخيمها عام 2002، وهو مصنوع من بقايا المركبات والمنازل المدمرة التي استُهدفت وهُدمت خلال الاجتياح. الحصان، رمزٌ قويٌّ يُخلّد صمود الشعب الفلسطيني وروحه التي لا تُقهر في مواجهة الشدائد، كان رأسه متجهًا نحو مدينة حيفا، التي نشأ منها آلافٌ من سكان المخيم وطُردوا خلال نكبة عام 1948.

وبالمثل، خلال هجومٍ عسكريٍّ استمر سبعة عشر ساعةً على مدينة طولكرم ومخيم اللاجئين، والذي بدأ في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وأسفر عن مقتل تسعة فلسطينيين، وتدمير الممتلكات والبنية التحتية المدنية، تعمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي تدمير قوس المخيم عند مدخله الشمالي، والذي كان يضم مفتاح العودة الفلسطيني، رمزاً لنكبة عام 1948، إذ يُمثل هذا المفتاح، بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، إيماناً راسخاً بحقهم في العودة إلى ديارهم. شملت الهجمات الإسرائيلية على المخيم المستهدف، وهو ثاني أكبر مخيم للاجئين في الضفة الغربية، تدمير نصب تذكاري لفلسطينيين اثنين، سمير الشافعي (20 عاماً) وحمزة خريوش (23 عاماً)، اللذين قُتلا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المتخفية، خلال مداهمة للمخيم في السادس من مايو/أيار 2023.


إسرائيل تسرق التراث الفلسطيني، والمواقع الثقافية الفلسطينية، وتزور التاريخ

يُعد التراث الثقافي الفلسطيني من أكثر التراثات تعرضًا للانتهاك في العالم، إذ يتعرض لمحاولات متواصلة من الاحتلال الإسرائيلي لتغييره وتشويهه، بل ونسبه إليه في محاولة لترويج ادعاءات تاريخية حول حق إسرائيل في فلسطين. وقد شملت هذه الانتهاكات جوانب متعددة، سواء في محاولة طمس الهوية الفلسطينية، أو تدمير المواقع التاريخية والدينية للشعب الفلسطيني.

إن الاستيلاء على المواقع التاريخية الفلسطينية وتحويلها إلى معالم سياحية إسرائيلية ليس إلا وسيلة أخرى من وسائل الاحتلال للاستيلاء على الأراضي. في عام 2012، قدّمت فلسطين طلباً لإدراج سبسطية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، استناداً إلى آثارها القديمة التي تعود إلى العصر الحديدي، والفارسي، والهلنستي، والروماني، والبيزنطي، والإسلامي. فقامت وزارة التراث الإسرائيلية خططًا لإقامة سارية علم إسرائيلية "ضخمة" هناك، "لأغراض عسكرية".

يجري هذا في سياق خطة اتخذتها حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة لتوسيع سيطرتها على مواقع التراث الثقافي في الضفة الغربية، إلى جانب خطوات عديدة لتوسيع المستوطنات اليهودية وترسيخ الوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. حيث يمكن للتراث الثقافي أن يكون أداة فعّالة، ومن الممارسات المعتادة للدول، بطبيعة الحال، استخدام هذه الأراضي لتعزيز هويتها وصورتها الوطنية.

تشن إسرائيل هجمات عسكرية ممنهجة ضد المواقع الثقافية والمعالم التاريخية، في إطار إبادة جماعية مستمرة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، بدأت في 7 أكتوبر 2023. ويشكل هذا انتهاكاً خطيراً للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، ولا سيما اتفاقيات جنيف واتفاقية لاهاي الدولية المتعلقة بحماية التراث الثقافي. وقام الجيش الإسرائيلي بالاستيلاء على آلاف القطع الأثرية النادرة في قطاع غزة، وهو ما قد يرقى إلى جريمة حرب وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي، في 17 يناير/كانون الثاني 2024، مقطع فيديو يوثق تفجيره حرم جامعة الإسراء، الواقعة جنوب مدينة غزة، بعد أكثر من شهرين من احتلاله الجامعة واستخدامه قاعدة عسكرية، ومركزًا لقنص المدنيين، ومركز احتجاز وتحقيق مؤقت.

إن سرقة إسرائيل للقطع الأثرية من الأراضي التي تسيطر عليها تُعتبر سرقةً لممتلكات ثقافية وانتهاكًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان، كما هو مُبين في اتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية واتفاقية الحقوق المدنية والسياسية. وأكدت المنظمة الحقوقية أن إسرائيل دأبت على سرقة القطع الأثرية من غزة عمداً في إطار استهدافها الممنهج للمواقع والمواد الأثرية والتاريخية والثقافية في القطاع منذ بدء هجماتها المستمرة، كجزء من خطة أوسع لتدمير الهوية الوطنية والثقافية الفلسطينية وكرامة الفلسطينيين، ومحو الصلة التاريخية لسكان غزة بأرضهم، وتدمير أي دليل على وجودهم. وخلال العدوان الإسرائيلي على القطاع تم تدمير آلاف الوثائق التاريخية - التي كان العديد منها يعود تاريخها إلى أكثر من قرن من الزمان وتوثق هندسة مدينة غزة ومراحل تطورها الحضري.


طمس الهوية الفلسطينية

منذ مطلع القرن العشرين، ارتبطت الحركة الصهيونية بمحاولات متواصلة لاستهداف الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم وتاريخهم. حاول الاحتلال الإسرائيلي طمس هوية الفلسطينيين وربطهم بفلسطين من خلال سياسة واسعة النطاق تهدف إلى عزلهم عن تراثهم وماضيهم التاريخي. ويُعدّ التراث الفلسطيني - سواءً المادي أو المعنوي - من أبرز ضحايا هذه السياسة.


سرقة التراث وتدميره

شملت محاولات الاحتلال الإسرائيلي لتغيير الهوية الفلسطينية سرقة الممتلكات الثقافية والتاريخية الفلسطينية ونقلها إلى مواقع أخرى. وقد شهدنا اختفاء مجموعات كبيرة من التراث الفلسطيني من مواقعها الأصلية، بل ومحاولة تدميرها في إطار حملة لمحو التاريخ. وكانت أماكن العبادة والتاريخ، كالحرم الإبراهيمي والمسجد الأقصى، هدفاً رئيسياً لهذه الهجمات، حيث تقوم إسرائيل بأعمال حفر أسفل المسجد الأقصى سعياً لطمس معالمه، بينما تستمر الهجمات على المواقع التاريخية التي تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية.


تهويد التراث الفلسطيني

من السياسات الأخرى التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي "تهويد التراث الفلسطيني"، أي محاولة التلاعب به واستخدامه كأداة لخلق هوية إسرائيلية مزعومة. ومن أبرز مظاهر هذه السياسات تغيير أسماء الأماكن الفلسطينية إلى أسماء توراتية قديمة، سعياً للإيحاء بأن لهذه الأماكن صلة تاريخية بإسرائيل. إضافةً إلى ذلك، قام الاحتلال بتزوير التاريخ من خلال اختلاق القصص والحكايات الشعبية، واختلاق الأساطير التي تتناسب مع الرواية الصهيونية.


انتهاكات التراث غير المادي

لم تقتصر الانتهاكات على التراث المادي فحسب، بل شملت أيضًا التراث غير المادي للشعب الفلسطيني، كالحكايات الشعبية والرقصات والأغاني التقليدية، التي تُشكل جزءًا أساسياً من الهوية الفلسطينية. ويتم طمس هذه الثقافة من خلال حظرها أو تحريفها، والادعاء بأنها جزء من التراث الإسرائيلي.


أثر جدار الفصل العنصري على التراث الفلسطيني

من أكثر الانتهاكات إيلامًا بناء جدار الضم، الذي اقتطع مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية. لم يقتصر تأثير هذا الجدار على الفلسطينيين اجتماعياً وسياسياً فحسب، بل امتد إلى تأثيره المدمر على المواقع الأثرية الفلسطينية. فقد دُمرت العديد من المواقع الأثرية الفلسطينية على طول مسار الجدار، وهُجّر السكان الفلسطينيون من مناطقهم التاريخية والثقافية.


الانتهاكات في المجال الثقافي والعلمي

كما حاول الاحتلال الإسرائيلي السيطرة على البحث العلمي المتعلق بالآثار الفلسطينية، وفرض رواية تاريخية تخدم مصالحه. وفي هذا السياق، تم تحريف بعض المكتشفات الأثرية لدعم الرواية الصهيونية، حيث قام علماء آثار إسرائيليون بإدخال نقوش وأدوات تحمل أسماء إسرائيلية في المواقع الأثرية الفلسطينية القديمة. كما سعت إسرائيل إلى تسجيل بعض المدن الفلسطينية على قائمة التراث العالمي بأسماء إسرائيلية مزعومة.

تعددت الانتهاكات الإسرائيلية للتراث الفلسطيني وتنوعت على مر العقود. شملت هذه الانتهاكات تدمير المواقع الأثرية، وطمس التراث غير المادي، وتشويه التاريخ الفلسطيني بالتزوير ونشر الأكاذيب. تسعى هذه السياسات إلى طمس الوجود التاريخي للشعب الفلسطيني على أرضه، واستبداله برواية زائفة تهدف إلى ترسيخ حق الاحتلال في الأرض والتراث. في ظل هذه الانتهاكات، يبقى التراث الفلسطيني صامدًا رمزاً لهوية الشعب الفلسطيني، ويشكل أساساً للنضال المستمر للدفاع عن تاريخ فلسطين ومستقبلها.


إبادة ثقافية

ضمت إسرائيل مقام النبي إبراهيم، المقدس لدى المسلمين في الخليل عام 2010، كما أدرجت مقام راحيل، المفترض أنه قبر السيدة مريم العذراء، في بيت لحم، على قائمة تراثها. إنها سرقات موصوفة. تقوم إسرائيل بسرقة أرضنا، وسرقة مواردنا، والآن تسرق تراثنا الثقافي والتاريخي. إنها عقلية الإبادة الثقافية. قد تُعزز هذه السرقات البعد الديني للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فالمسجد الأقصى مكاناً مقدساً لدى المسلمين الفلسطينيين منذ قرون.

لقد أصبح من سمات نظام الاحتلال والقمع الاستعماري الإسرائيلي محاولاته المستمرة محو وجود الشعب الفلسطيني وثقافته وتراثه، من خلال الاستيلاء على المواقع التاريخية والآثار وسرقتها. على سبيل المثال قام الجيش الإسرائيلي بعمل بلطجة واستيلاء ثقافي شنيع" بعد أن قام جنوده بسرقة قطعة أثرية مسيحية عمرها 1500 عام من بلدة في منطقة بيت لحم. وقد استُخدمت هذه القطعة الأثرية النادرة، التي يعود تاريخها إلى العصر البيزنطي، كحوض مائي للتعميد، وهي واحدة من ثلاث قطع أثرية معروفة من نوعها في العالم. إنها سياسة نهب ممنهجة وجريمة حرب يجب ألا تمر دون عقاب، ونحن نحثّ الهيئات الدولية المعنية وخاصة اليونسكو على التحدث علناً وحماية التراث الفلسطيني.

يحصل كل هذا فيما تواصل إسرائيل تشديد سيطرتها على الأرض الفلسطينية المحتلة وسكانها من خلال ممارسة السيطرة العسكرية والمدنية على حد سواء. وتشمل هذه الإجراءات، على سبيل المثال لا الحصر، استمرار إعلانها مناطق عسكرية مغلقة، وفرض ما يُسمى "بالتدابير الأمنية"، وتصنيف إسرائيل لمساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية كمحميات طبيعية، والاستيلاء على الأراضي على نطاق واسع، وهدم المباني المدنية الفلسطينية، إضافة إلى سياسة القتل والإعدام اليومي للفلسطينيين.


إسرائيل تستخدم علم الآثار للاستيلاء على الماضي

تهدف أنشطة إسرائيل الأثرية في الأراضي الفلسطينية إلى توسيع نطاق سياسة سلب الفلسطينيين أراضيهم وممتلكاتهم الثقافية. فمن سمات نظام الاحتلال والقمع الاستعماري الإسرائيلي محاولاته المستمرة لمحو وجود الشعب الفلسطيني وثقافته وتراثه، بما في ذلك من خلال الاستيلاء على المواقع التاريخية والآثار وسرقتها. وقد اتخذت إسرائيل خطوات غير قانونية أخرى تستهدف مواقع التراث الفلسطيني، بما في ذلك إغلاق مدخل جبل الفريديس (أو ما يُسمى هيروديون) في محافظة بيت لحم لتقييد وصول الفلسطينيين إلى الموقع، الذي صادرته إسرائيل بشكل غير قانوني باعتباره "حديقة وطنية إسرائيلية". كما استهدفت إسرائيل مراراً وتكراراً مواقع تاريخية وأثرية أخرى، بما في ذلك مواقع التراث العالمي لليونسكو في فلسطين، مثل مدينة القدس القديمة، ومدرجات بتير في بيت لحم، والحرم الإبراهيمي في الخليل.

بدأت إسرائيل بالاهتمام بالمواقع الأثرية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة فور انتهاء حرب الأيام الستة عام 1967، واستخدمت منذ ذلك الحين علم الآثار كأداة رئيسية لتوسيع سيطرتها على الأرض.

في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، منحت الجمعية العامة للأمم المتحدة دولة فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. إلا أن الوقائع على الأرض الفلسطينية المحتلة، وخاصة في الضفة الغربية المحتلة، تُظهر واقعًا مختلفاً. حيث تواصل إسرائيل، القوة المحتلة، تشديد سيطرتها على الأرض الفلسطينية المحتلة وسكانها من خلال ممارسة السيطرة العسكرية والمدنية على حد سواء. وتشمل هذه الإجراءات، على سبيل المثال لا الحصر، استمرار إعلانها مناطق عسكرية مغلقة، وفرض ما يُسمى "بالتدابير الأمنية"، وتصنيف إسرائيل لمساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية كمحميات طبيعية، والاستيلاء على الأراضي على نطاق واسع، وهدم المباني المدنية الفلسطينية.

وتشمل الإجراءات الإضافية الحرمان الممنهج من تصاريح البناء للسكان الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة، إلى جانب عملية تخطيط مكاني بطيئة للغاية مفروضة على المناطق الريفية الفلسطينية (المنطقة ج) والقدس الشرقية المحتلة. ومع ذلك، لا تزال ممارسات وسياسات القوة المحتلة تجعل آفاق حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير أبعد من أي وقت مضى.


الإطار القانوني

بعد احتلال إسرائيل عام 1967، ظل الإطار القانوني للآثار على حاله إلى حد كبير، مع تعديلات جوهرية من خلال أوامر عسكرية تهدف إلى الترخيص والتنقيب والاتجار بالآثار. تصدر هذه المراسيم عن الجيش وتصبح قانوناً لكل فلسطيني يعيش في منطقة معينة فور صدورها. كان أهمها الأمر العسكري رقم 119، الصادر عام 1967، والذي ألغى العديد من مبادئ قانون الآثار البريطاني، ووضع مسؤولية الآثار تحت تصرف المسؤولين العسكريين.

وبموجب هذا الأمر المتعلق بقانون الآثار، أُلغيت جميع التعيينات أو الاختصاصات التي منحتها الحكومة الأردنية فيما يتعلق بإدارة الآثار، ونُقلت المسؤوليات إلى المسؤول الإسرائيلي، الذي كان بإمكانه إصدار أوامر جديدة عند الحاجة. إن ضابط الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية هو ضابط الجيش الإسرائيلي المسؤول عن الآثار في الضفة الغربية المحتلة. يتمتع هذا المسؤول بحرية التصرف في أعمال الحفر ومصادرة الأراضي، ونقل الآثار في جميع أنحاء الضفة الغربية دون رقابة من أي جهة في سلطة الاحتلال.

ونتيجةً لذلك، سُمح بمئات أعمال الحفر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع ذلك لا أحد يعلم مكان هذه الأعمال أو مكان وجود المكتشفات. وبموجب اتفاقيات أوسلو المؤقتة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل لعام 1995، تولت السلطة الفلسطينية مسؤولية الآثار في المنطقتين (أ) و(ب)، اللتين تُمثلان حوالي 40٪ من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وللمرة الأولى، أصبح بإمكانها السيطرة على جزء من تراثها الثقافي.

كان من المقرر نقل الصلاحيات والمسؤوليات المتعلقة بالآثار في أجزاء معينة من المنطقة (ج) إلى المؤسسات الفلسطينية بهدف شمول جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة في مرحلة لاحقة، لكن هذا الترتيب لم يُنفذ قط، وجميع أعمال الحفر في المنطقة (ج) - التي تغطي أكثر من 60٪ من الضفة الغربية - أُجريت بموجب أوامر مكتب الآثار الإسرائيلي.

وفقًا لعالم الآثار الإسرائيلي "رافي غرينبرغ" فقد صدرت حوالي 1100 رخصة حفريات في 700 موقع بالضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية، وبدأت معظمها دون أي توثيق من أي نوع، وهو ما لا يتوفر إلا لحوالي 15% من عمليات الحفر. وبالتالي، يصف سلوك إسرائيل في الأراضي المحتلة بأنه "قلب الظلام الأثري".

لقد استُخدم علم الآثار - ولا يزال - كذريعة للاستيلاء على الأراضي، ويُستخدم وجود المواقع الأثرية أو التوراتية لتبرير مصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات غير القانونية. وتكثر الأمثلة على ذلك، بما في ذلك شق طريق يؤدي إلى مستوطنة ميغرون غير القانونية، والذي استند إلى ترخيص حفريات أثرية. في غضون ذلك، نُفذت مصادرة الأراضي المجاورة لقرية سوسيا القديمة الفلسطينية بذريعة الحفريات الأثرية، حيث كشفت الحفريات الإسرائيلية في سبعينيات القرن الماضي عن مستوطنة أُقيمت بالقرب منها وكنيس يهودي يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي.

ومن الأمثلة الأخرى منع الفلسطينيين من الوصول إلى نبع عين الكيس للمياه العذبة قرب قرية النبي صالح، بحجة واهية مفادها أنه موقع أثري. وعند تقديم التماس، أشارت المحكمة العليا الإسرائيلية، بالتعاون مع محامٍ من منظمة "يش دين" الحقوقية، إلى أن "السلطات تستخدم الادعاءات الأثرية كذريعة لمنع الملتمسين من الوصول إلى أراضيهم - بناءً على اعتبارات لا علاقة لها بالآثار".


دائرة الآثار

تولّت دائرة الآثار الفلسطينية، التي تأسست عام 1994، جميع المسؤوليات الأثرية في المنطقتين "أ" و"ب" في الأراضي الفلسطينية المحتلة. اعتمدت الدائرة قانون الآثار الأردني كأداة قانونية مؤقتة، نظراً لافتقار السلطة الفلسطينية إلى تشريعات في هذا المجال.

ومع ذلك، وعلى مدار ثلاثين عاماً، عدّل الفلسطينيون قانون الآثار الأردني نظراً لبطلان العديد من أحكامه، لا سيما فيما يتعلق ببند العقوبات والجزاءات ووضع إطار قانوني لحماية التراث الفلسطيني. كما برز شعورٌ بالحاجة الماسة إلى حماية التراث المحلي في مواجهة التوسع الإسرائيلي في الضفة الغربية.

في عام 2018، اقترحت فرق من وزارة السياحة والآثار - بدعم فني ومالي من اليونسكو والحكومة السويدية - نسخةً جديدةً من التشريع، مما أسفر عن القانون رقم 11/2018 بشأن التراث الثقافي المادي في فلسطين، والذي دخل حيز النفاذ في يونيو/حزيران 2018.

يوفر القانون الجديد مجموعةً شاملةً من الأحكام المتعلقة بحماية التراث الثقافي المادي الفلسطيني وإدارته والترويج له. يُوسّع القانون رقم 11 نطاق حماية التراث ليشمل جميع المباني التي شُيّدت قبل عام 1917م، بينما كان التشريع السابق يقتصر على ما يعود تاريخه إلى ما قبل عام 1700م فقط. علاوة على ذلك، يُرسي القانون الجديد إطاراً جديداً يُمكن بموجبه توسيع نطاق الحماية المُقدّمة لعناصر التراث الثقافي المادي إذا كانت هذه العناصر ذات قيمة ثقافية أو اقتصادية أو طبيعية. كما سيتم بموجب هذا القانون إنشاء جرد وطني شامل لجميع عناصر التراث الثقافي المادي في فلسطين.


الخلاصة

تتجاوز جهود إسرائيل المتواصلة والمنهجية لمحو الوجود الفلسطيني مجرد التهجير المادي، لتشمل اعتداءً متعمداً على الذاكرة الجماعية، بما في ذلك من خلال التدمير المتعمد للمواقع والمعالم التراثية الفلسطينية. في الضفة الغربية، وخاصة في مخيمات اللاجئين، وفي غزة، حيث يشكل اللاجئون نسبة 75% من السكان. تستهدف إسرائيل بشكل ممنهج الرموز التاريخية والثقافية التي تربط الفلسطينيين بأرضهم وهويتهم. ويهدف هذا المحو المتعمد إلى محو السرد التاريخي والنسيج الثقافي للشعب الفلسطيني كمجموعة. تقع على عاتق المجتمع الدولي مواجهة الأسباب الجذرية لهذا الظلم، ومعالجة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري الذي يُديم التهجير والتهجير، من خلال ضمان حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة. وعليه، ندعو الهيئات والمنظمات الدولية إلى أولاً: الوفاء بالتزاماتها القانونية بمنع الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين في غزة، وإنهائها، والامتناع عن دعمها أو الإسهام فيها، وحث إسرائيل بشكل عاجل على السماح فورًا ودون قيد أو شرط بوصول الوقود والماء والغذاء والمساعدات الإنسانية، بما في ذلك الإمدادات الطبية، إلى قطاع غزة دون عوائق، وفقاً لما نص عليه قرار محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة.

ثانياً: تعزيز الدعم الدولي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وحث الدول على إعادة تمويلها، حيث تقدم الوكالة مساعدات إنسانية حيوية ومنقذة للحياة لما يقرب من مليوني شخص في غزة.

 ثالثاً: الاعتراف بأن تدمير إسرائيل غير القانوني للتراث الثقافي الفلسطيني عنصرٌ أساسي يُمكّن إسرائيل من مواصلة مشروعها الاستعماري في فلسطين، وترسيخ نظامها العنصري ضد الشعب الفلسطيني ككل وأراضيه من خلال محو هويته الثقافية كشعب.

رابعًا: دعم وتمكين ممارسة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرض أجدادهم وديارهم.

خامسًا: إعادة تشكيل لجنة الأمم المتحدة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري ومركز الأمم المتحدة لمناهضة الفصل العنصري كخطوات حاسمة نحو إنهاء إفلات إسرائيل المؤسسي من العقاب والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري.

حول كتاب "المثقف في صورة نبي"* للكاتب فراس حج محمد


رائد الحواري| فلسطين

في الآونة الأخيرة سمعنا كثيراً عن مطالبة المثقفين بأن يحدثوا معجزات وخوارق ليغيروا الواقع، وعليهم أن يأخذوا دورهم في المجتمع لتغييره، وكأنهم مقصرون في مهامهم، أو متقاعسون عن القيام بواجبهم، فإلى اليوم نجد المثقف يدفع ثمنا باهظا لمواقفه ولمبادئه وثباته على الحق.

في هذا الكتاب يؤكد "فراس حج محمد" الثمن الباهظ الذي دفعه المثقفون في منطقتنا، مستشهدا "بأنطون سعادة" الذي دفع حياته ثمنا لمواقفه، "وبغسان كنفاني" الذي استشهد على يد الصهاينة، كما يستشهد بدور "إدوارد سعيد" وأعماله الفكرية التي دعا فيها إلى التغيير، حيث كرس أعماله لخدمة (أداة التغيير) المثقفين، وبهذا يكون الباحث قد توافق مع رؤية ماركس في التغيير: "ليس المهم تفسير العالم، بل تغييره" 

الباحث يتناول صفات المثقفين في كتابه متخذا من الأنبياء "آدم، نوح، إبراهيم، موسى، يوسف، لقمان، مريم" نماذج لعملية التغيير، وهذا ما يجعل كتاب "المثقف في صورة نبي" كتابا يتجاوز النظرة الدينية التقليدية المطروحة عن الأنبياء، لتتلاقي مع كل من عمل من أجل التغيير، وما استشهاد الكاتب "بسعادة وكنفاني وسعيد" إلا تأكيد لهذا التلاقي.

صفات المثقف ودوره

يؤكد الباحث دور المثقف في عملية التغيير التي إذا ما أهمل العمل بها ومن أجلها لا يكون المثقف مثقفا مهما أصدر من أدب وكتب: "فكيف يكون مثقفا من يكتب تهويمات في الفضاء، ليس معنيا بالتغيير، فالمثقف معني بالتغيير لا بالتعبير" (ص 15)، من هنا يقودنا الباحث إلى الأنبياء ودورهم وإصرارهم على تغيير واقع مجتمعاتهم، ورفضهم للسلطة القائمة، ورفضهم السلوك السلبي للمجتمع، مؤكدين أن نقد الواقع، وكشف عيوبه وعيوب القائمين عليه يعد واجباً عليهم، على المثقفين: "فليس دور المثقف أن يمتدح السلطة أي سلطة، لأنه ببساطة من واجب تلك السلطة أن تكون جيدة، وأن تعمل من أجل الشعب وقضاياه" (ص 17)، ولا يكتفي الباحث بهذا الشرط، بل يتقدم خطوة أخرى إلى الأمام بقوله: "إن أي مثقف يرضى أن يطبل لأي سلطة ويمتدحها، سيكون قد اقترف جرما حقيقيا، وبدأ يبتعد عن مهمته... على المثقف أن يظل وحده، لا تربطه بالدولة وأجهزتها أية علاقة أو صحبة، لأن الدولة في العادة ليس لها صديق تحترمه، وتنقلب على أصدقائها في أية لحظة" (ص 19)، هذا الأمر لم يأت من باب التشدد والمغالاة، بل اعتمد الباحث على قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز حين دعته ليخضع لها، وعندما رفض، تم زجه في السجن ظلما وجورا.

ويمكن الاستشهاد بالعديد من المثقفين الذين تعرضوا للسجن أو للطرد أو التضييق الاقتصادي أو منع السفر، بسبب مواقفهم الجديدة المعارضة لما تقوم به الحكومة/ الدولة.

من هنا نجده يؤكد في أكثر من موضع ضرورة المواجهة بين المثقف وبين السلطة القائمة، وعدم التلاقي ـ حتى لو تحسنت الظروف والأحوال ـ فدور المثقف يكمن في التصدي للسلطة، وكشف أي خلل أو خطأ تقع فيه: "ماذا يعني هذا في عمل المثقف غير النبي؟ إنه يعني أن التصرف واجب في التصدي لما يحدث في المجتمع أو من بعض أفراده من مخالفات عنده علم أنها ضارة، وتتناقض مع عمله بصفته شخصا يدعو إلى التغيير... فالمثقف كالنبي حارس أمين لهذا المجتمع ولأخلاقياته وأعرافه السامية البعيدة عن كل مظاهر الشر" (ص 55)، نلاحظ إصرار الباحث على تحديد صفات المثقف كشخص لا يمكن أن يقبل أن يكون تابعا للسلطة، لأنه يقوم بدور الكشاف للعيوب/ للأخطاء، ولأنه يمثل الحارس الأمين لقضايا المجتمع/ الشعب الذي ينتمي له.

ونجد الباحث يربط دور الأنبياء والرسل في الماضي بدور المثقفين اليوم، مقتبسا ما قاله "علي شريعتي": "إن مسؤولية المثقفين اليوم ودورهم في العالم يشبه أساسا الدور الذي كان يلعبه الأئمة وقادة التغيير والتبديل أي الأنبياء والرسل وأئمة المذاهب في المجتمعات القديمة" (ص 28)، وهذا المزج هو اللافت في الكتاب، فيمكن لمن يحمل توجها دينيا أن يرى فيه ما يلبي طموحه الفكري الديني، وأيضا لمن يحمل توجهات فكرية حديثة ومعاصرة أن يجد ما يتوافق مع توجهاته، وما استشهاد الكاتب بالعديد من المفكرين المعاصرين، إلا صورة عن انفتاح الباحث على الثقافات والأفكار الجديدة. 

وبما أن عنوان الكتاب "المثقف في صورة نبي" فقد أكد الباحث دور التأمل والتفكير فيما يجري، ووضع أفكارا جديدة التي ستكون برنامج التغيير، ودستورا للقائمين على التغيير: "هذا الجدل العقلي المبني على القراءة العلمية العقلية الصحيحة، تكشف عن أداة مهمة من أدوات المثقف النبي، حيث لا بد من أن يكون المثقف ذا أدوات تأملية قادرة على النفاذ إلى أعمق ما يفكر به القوم الذين يريد أن يغير في حياتهم، ويجعلها تنتقل من طور الجمود الصنمي إلى فعل الحركة الحيوية" (ص 97 و98)، اللافت في هذا المقطع أن الباحث يعطي المثقف دوره الحقيقي، حيث عليه الوقوف عند واقعه، وتحليل وتفكيك هذا الواقع، ومن ثمة الخروج بأفكار وخطط لمعالجة السلبيات والأخطاء الحاصلة، فالواقع/ المجتمع هو المنطلق الذي يعتمد عليه المثقف في خلق/ إنتاج أفكار تناسب عملية التغيير، وليس الاعتماد على نظريات خارجية/ جاهزة التي يمكن أن تعيق عملية التغيير وحتى تشوهها، وتجعلها عقيمة ومستحيلة.

والباحث يزيد على صفات المثقف، "المهنية" بمعنى أنه يريد أن يكون مستقلا اقتصاديا، غير خاضع لأي سلطة اقتصادية يمكن أن تؤثر على قراراته وأفكاره وتوجهاته، فالمهنة تعطي المثقف استقلالية اقتصادية معتمدا على (ذراعه) في تحصيل رزقه وقوت عياله: "أمر لافت للنظر، كنت ألاحظه وأنا أقرأ في قصص الأنبياء، أنهم كلهم كانوا من ذوي المهن، فلم يكن أحدهم خاليا من العمل، ولم يكن بطّالا، اتكاليا على غيره، فمن كمال شخصية الإنسان أن يكون له عمل" (ص 141)، فالمهنة نقيض الوظيفة التي تجبر الموظف أن يكون تابعا مجرورا لأوامر وقرارات المسؤول، ولطبيعة وظيفته وما فيها من التزام بقرارات وقوانين الوظيفة.

وإذا ما توقفنا عند المهنة سنجد أنها تمثل خط دفاع ثانياً عن المثقف، فغالبية الأنظمة العربية تقمع المثقف من خلال منعه من العمل في المؤسسات الحكومة، وتمنعه من السفر، وحتى تعتقله وتقتله، فإن كان صاحب مهنة/ عمل خاص به استطاع أن يؤمّن نفسه وأسرته اقتصاديا، بينما في حالة الوظيفة يمسي (في الشارع) دون أي مصدر رزق.

وعن دور المثقف/ النبي يؤكد الباحث أهمية بث الأفكار الجديدة في المجتمع، فالأفكار هي وسيلة التغيير والانتقال إلى ما هو جديد: "من هنا فالمثقفون نظراء الرسل، وليسوا من طائفة العلماء أو من العوام المنحطين فاقدي الوعي... وذلك لأن الوعي يبدل الجماهير الضعيفة الراكدة إلى مرجل بناء في حالة هيجان، ولأن الوعي هو الخلاق للعبقريات العظيمة والقفزات الواسعة" (ص 30)، فإنتاج الأفكار مهمة المثقف، لأنها وسيلة تغيير الجماهير ونقلهم إلى ما هو أفضل ومتقدم.

والدور الثاني الذي يقع على كاهل المثقف/ النبي، البقاء بين الجماهير وعدم التخلي عنهم، أو تركهم وحيدين يواجهون مصيرهم، وهنا يستشهد الباحث بالنبي "يونس عليه السلام" بقوله: "يونس لم يصبر على قومه بل ذهب وتركهم غاضبا منهم، فعاقبه الله بالرمي في البحر والتقام الحوت له، وجعله منفردا في عالم آخر، وكذلك يجب ألّا يعتزل المثقف مجتمعه، وألّا يغضب، وعليه أن يكون صبورا حليما مجالدا ومجاهدا ومستفرغا للوسع والطاقة" (ص 44)، التماهي مع الجماهير هو الجزء المكمل لدور المثقف، فدون الجماهير يمسي المثقف/ النبي بلا دور، حتى لو وضع/ أوجد أفكارا تصلح للتغيير، فالناس/ المجتمع هو من سيقوم بالتغيير وهو من سيتغير.

الانسجام بين القول والعمل

وهنا يقدمنا الباحث من شرط آخر متعلق بعملية التغيير والذي يتمثل في الانسجام بين القول والعمل، متخذا من الآية القرآنية: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" دستورا لنجاح عملية التغيير، وهذا ما يجعل المثقف نبيا حقيقيا، دوره مماثل لدور الأنبياء الذين قرنوا القول بالعمل، فكانوا نماذج حية عن هذا الانسجام، الانسجام بين الفكرة وتطبيقها، الفكرة وقائلها والعمل بها، بحيث لم يتركوا أي هامش للمشككين الذين يسعون لهدم كل بناء جديد، لإبقاء المجتمع والناس في حالة سكون وخمول. أن ينالوا منهم ومن أفكارهم وعملهم. 

يؤكد الباحث شرط أن يكون المثقف/ النبي من خلال قرْن القول بالعمل، والعمل بين الجماهير وللجماهير بقوله: "ليست نبوة الرسالة والدعوة، إنما نبوة العمل والتغيير والصبر على المشاق والثبات مهما كانت التضحيات" (ص 85 و86)، وبهذا يكون الباحث قدم فكرة متكاملة، متصلة، وافيه عن آلية وأداة التغيير، ومن يقوم به وكيف يكون التغيير.

 السلطة

يتعامل الباحث مع السلطة كنقيض مطلق، لا يمكن التلاقي معها بأي شكل من الأشكال، ويعتبر قبول الخضوع لها ـ مهما كانت جيدة ـ خيانة لدور المثقف/ النبي، حيث يجدها الغول الذي يعمل على ابتلاع المثقف/ النبي ومحو دوره، أو استيعابه أو شطبه كعامل تغيير: "أن تمنع الآخرين عن التعبير عن مواقفهم بقرارات حكومية، لتجعل منهم أحجار شطرنج" (ص 18)، هكذا يرى الباحث الحكومات التي يراها تقوم بالاعتقالات وقتل المثقفين: "لا يؤمن للسطلة السياسية جانب، لأنهم لو لم ينفذوا أوامرها لاعتقلتهم، وربما قتلتهم" (ص 115)، وهذا الأمر نجده في التاريخ القديم من خلال "ابن المقفع، وابن رشد، والفارابي" وغيرهم، وفي الحاضر نزار بنات في فلسطين، مهدي عامل في لبنان، أحمد فؤاد نجم والشيخ أمام في مصر، سميح شقير والماغوط ونهاد قلعي في سورية، وهناك الكثير من الأمثلة في بقية الأقطار العربية.

الكتب، القرآن الكريم

يشير الباحث إلى دور الكتب وأهميتها في تعليم وتعريف المجتمع بأهمية التغيير ودوره وكيفية القيام به، فالكتب هي أداة لنقل أفكار المثقف/ النبي للجماهير: "الكتب لا تؤلف من أجل متعة الكتابة وتحقيق المجد الشخصي، وإنما لا بد من أن تكون منطلقا لأهداف كبرى، مشاريع اجتماعية وسياسية، تساعد على إصلاح حياة الناس" (ص 32)، اللافت في هذا القول توافقه مع فكرة الانسجام بين القول والعمل، فالكتاب يجب أن يكون له هدف، هدف التغيير الاجتماعي، تغيير نمط حياة الشعب/ الأمة إلى الأفضل، وتحقيق ما تصبو إليه من مجد وكرامة ورفعة، وليس تحقيق المتعة الفردية، وإمتاع القارئ.

وهنا يذكرنا الباحث بالآية القرآنية: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا" (ص 34)، فهو من خلال هذا الآية يؤكد ضرورة الاعتماد على (دستور/ نظام داخلي) يلزم ويلتزم به كل مثقف/ نبي لإنجاح عملية التغيير والاستمرار بها.

آدم عليه السلام واللغة

يتناول الباحث مجموعة من الرسل والأنبياء منهم أبو البشر "آدم عليه السلام" متناولا أهمية اللغة في إيصال الأفكار للآخرين، فاللغة هي أداة التواصل بين الناس، وأداة التعرف، التعلم، التغيير، ودون لغة لا يمكن أن ينجح المجتمع/ المجتمعات في تطوير ذاتها والتوصل فيما بينها: "فآدم عندما أنبأ الملائكة بأسمائهم إنما أراد أن يبني جسورا من التواصل بينه وبينهم، وليس مجرد الإعراب عن كونه قادرا على الإفصاح والتسمية" (ص 52)، اللافت في هذا الكلام أنه بمثابة حجر أساس في عملية بناء المجتمع/ المجتمعات، للوصول إلى التغيير، التطوير الذي يخدم الجميع، المعلم/ النبي/ المثقف، والمتعلم/ الفرد/ الشعب/ المجتمع/ الأمة.

نوح عليه السلام ومقاومة العنصرية والطبقية

الباحث يتناول قوم نوح بطريقة جديدة، فهو يتحدث عن نظرتهم الفوقية المتعجرفة: "إنه كافح فيهم نزعة الاستعلاء والتكبر التي سيطرت عليهم، فقد كان "أرذل القوم" عائقا بينهم وبين الإيمان "أنؤمن لك واتبعك الأرذلون" (ص 76)، اللافت في هذا التفسير/ التحليل أنه يمكن أخذه إلى الصهاينة في فلسطين وكيف ينظرون ويعاملون الفلسطينيين، وما يؤكد هذا الأخذ/ الإسقاط، حديث الباحث عن ابن نوح وبقائه مع الهالكين، رغم أنه من صلب نوح، وهذا الهلاك للابن يمثل (نقداً/ تفنيداً) لنقاء الجنس، شعب الله المختار الذي يستند عليه الاحتلال.

وتأكيداً على عقم الاستكبار ودوره في أخذ المستكبرين إلى الهلاك والفناء يذكرنا الباحث بهذه الآية القرآنية: "إني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا" (ص 78)، فالاستكبار يعكس صورة الجهل/ التخلف الذي هم فيه، كما أنه كان مبررا لإنزال العقاب بهم وفنائهم من الوجود كليا.

إبراهيم عليه السلام والخطاب العقلي

إبراهيم- عليه السلام- استخدم العقل والمنطق والحوار مع قومه وأبيه لينقلهم من الجهل إلى المعرفة والعلم، من عبادة ما لا يفيد ولا يقدر على الفعل أو العمل، إلى عبادة من يقدر ويفعل ويعمل ويخلق، من هنا حطم الأصنام جميعها إلا كبيرهم فقد تركه، وعندما دخل قومه ورأوا ما حل بآلهتهم، أشاروا إلى إبراهيم كمتّهم بهذا الفعل، لكنه عندما طلب منهم أن يسألوا كبير الآلهة الباقي، ولم يجدوا عنده إجابة، عرفوا أنهم جهلة، يعبدون ما يصنعون، ويبعدون ما لا يدافع عن نفسه، من لا يقدر حتى على قول لا، ومع هذا بقوا متمسكين بالخطأ/ بالجهل/ بتلك الأصنام.

فالباحث من خلال تناوله الأحداث التي مرت بإبراهيم، عليه السلام، وكيف ادعى عبادة الكوكب وعبادة الشمس، ثم خرج بنتيجة أن هناك خالقاً لا يغيب أبدا، أكد أهمية الحوار العقلي في تغيير المجتمع، وفي إقناع الآخرين بالأفكار الجديدة، من هنا سماه الباحث: "النبي إبراهيم المثقف العقلاني" (ص 93).

موسى ومجابهة السلطة

أما موسى عليه السلام فقد تحدث الباحث عن مواجهته "فرعون" رأس السلطة مباشرة، وكيف أن هذه المواجهة كانت تستدعي وجود مقدار من (القوة، والأدوات، والاستعداد) لنجاحها، من هنا طلب من الله أن يمده بقوة الشخصية، وطلاقة الكلام، وأن يسنده بأخيه "هارون". 

وعندما تمت المواجهة وانتصر موسى على فرعون الذي استكبر، تم القضاء عليه وعلى زمرته فقط، ولم يتم هلاك المصريين، كما هو حال قوم نوح، فالعقاب هنا كان جزئياً، للفئة الطاغية، وليس لكل المجتمع.

ومن خلال توقفه عند "قصة موسى عليه السلام والعبد الصالح، يعرفنا بطبيعة المثقف الذي يرفض الخطأ وعدم سكوته عليه أو القبول به، رغم أن هناك (شرطا/ اتفاقا) تم بين موسى والعبد الصالح بعدم السؤال أو الاعتراض على ما يقوم به العبد الصالح من أفعال وأعمال، بمعنى أن المثقف (غريزيا) يواجه الأخطاء، معترضا القائمين بها، مبديا رأيه فيها، متحدثا عن ضرورة العمل بالفعل الصحيح كأساس في الحياة وسلوك الناس.

يوسف المثقف العفيف المتسامح والعافي عن الناس

قصة يوسف الذي قاوم إغواء امرأة العزيز، يمثل صورة عن المثقف العفيف الذي يرفض الانزلاق للفاحشة والرذيلة، كما أن عفة يوسف لم تقتصر عند رفضه الإغواء، بل تعداه إلى تجاهل الأذى الذي لحق به من امرأة العزيز: "وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم بي، إن ربي غفور رحيم" (ص 117)، هذا عدا تجاوزه عن ظلم إخوته وما فعلوه به، وتعدّ هذه الصورة هي المثلى للمثقف الذي يتحلى بهذا الصفات والمقدرة على تجاوز ألمه الشخصي في سبيل إيصال فكرته للناس، فكان "يوسف" نفسه هو فكرة التغيير بصورة حية وواقعية.

مريم الصديقة

يربط الباحث بين قولة عز وجل في القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام "إنه كان صدّيقا نبيا" وبين مريم عليها السلام: "صدّيقة" مما يجعلها "نبية" متجاوزا اقتصار فكرة النبوة على الذكور/ الرجل دون النساء، وهذا يقودنا إلى دور المرأة في التغيير، وعلى أنها أيضا أداة ووسيلة وغاية التغيير.

 وبهذا يكون الباحث قد لبى طموح من يحملون توجهات دينية، وأولئك الذي يحملون توجهات حديثة، مؤكدا/ رابطا أن رسالة (الأنبياء) ما زالت حاضرة ويعمل بها، وأن هناك أنبياء الآن يعملون من أجلنا ومن أجل التغيير، من أجل تخليصنا من الشوائب والعلائق التي أصابتنا بعد أن تخلينا عن استخدم العقل والمنطق، أصبحنا نتبع أفكارا صنمية، ليس لها علاقة بتطويرنا وتقدمنا. 

* ملاحظة: الكتاب ما زال مخطوطاً، لم يُنشر.


ازمة الأخلاق بين الشرق والغرب/ وفاء شهاب الدين



مصر

الأخلاق هي مجموعة من القواعد أو المبادئ التي تساعد على تحديد ما هو جيد أو سيء، أو ما هو صحيح أو خاطئ في سلوك الإنسان  وهي السجايا والصفات الداخلية للنفس الإنسانية التي تدفعها إلى التصرف بطرق معينة دون الحاجة إلى تفكير أو روية، وقد تكون فطرية أو مكتسبة بالعادة والتدريب، وتنقسم إلى أخلاق حسنة وأخرى سيئة بناءً على جودة الأفعال الناتجة عنها  وهي أساس التعامل بين أفراد المجتمع ،

منذ زمن طويل وأنا شخصياً أرصد تغيرا كبيرا في  طبيعة الإنسان العربي وفي منظومة الأخلاق التي تربينا جميعاً عليها

ففي الوقت الذي يتشدق فيه الكثيرون بالأخلاق العربية المزعومة، والتي غالباً ما تنحصر في "شرف المرأة" و"علاقة الرجل بالمرأة"، نجد الغرب قد سبقنا بمسافات طويلة في بناء مجتمع أخلاقي حقيقي، قائم على الانضباط، الإنسانية، واحترام الفرد بغض النظر عن جنسه أو دينه

فالأخلاق عندنا نحن العرب مشروطة بحالة العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء مازلنا نختزل الخلاق في  ثياب المرأة وحجابها ،وعدم الاختلاط بين الرجال والنساء "ونختصر كل ذلك في مقولة "شرف العائلة وعرضها والتي تقاس بسلوك الفتيات فقط ،نعاني كذلك من الفوضى في الشوارع  فمن يخرج من بيته متجهاً  إلى عمله لابد أن يحمد الله كثيراً سراً وجهراً على انتهاء يومه بسلام دون تعرضه لحادث مروري نتيجة الفوضى وسلوكيات قائدي السيارات غير المنضبطة،كمان تعاني معظم الدول العربية من استشراء الفساد في كل مفاصلها وينعكس ذلك على الخدمات المقدمة للمواطنين والتي تعتبر الأقل جودة  في العالم كما أن ملف المرأة في مجتمعاتنا هو الأسوأ على الإطلاق فنعامل كنساء على  أننا ناقصات عقل ودين بينما تغفر لرجالنا كل الخطايا وكأن الخطيئة لا تحدث بين رجل وامرأة ناهيك عن ميراث المرأة التي يصعب عليها الحصول عليه وتحدث كثير من الجرائم من بعض الأهالي تدفع فيه الفتاة أحيانا حياتها مقابل ألا تحصل على الميراث والذي تأخذ فيه نصب نصيب الرجل رغم أن التشريع الإلهي قد شرع للرجل قدر حظ أنثيين لنه المتكفل بشقيقاته وابناته وأخواته إلا أن العالم اختلف وأصبح الرجل لا يتكفل  بأحد

 في الوقت الذي فقدنا فيه قيمنا وأخلاقنا  استخدم الغرب الأخلاق كنظام حياة،

في المجتمعات الغربية، الأخلاق ليست شعارات تُرفع في المناسبات، بل هي قوانين وسلوكيات يومية:

فهناك انضباط في احترام المواعيد، النظام في الشوارع، الالتزام بالقوانين حتى في أصغر التفاصيل.

كما أن العدل الاجتماعي لديهم ممثلا في  المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، احترام حرية الاعتقاد، ورفض التمييز بأي شكل هو أسلوب حياة ،يعيش الغرب بمبدأ . الإنسانية أولاً التعامل باحترام مع الحيوان، الاهتمام بالبيئة، ومساعدة الضعيف دون انتظار مقابل. الاحترام المتبادل بين الجنسين في العمل، دون اختزال المرأة في جسدها.

،الصدق في المعاملات، حيث الثقة بين الناس أهم من "الواسطة".،المسؤولية الفردية، فكل شخص يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه المجتمع

يسوؤني كثيرًا أن  تُختزل الأخلاق  لدينا في المظاهر الخارجية

كالاحتشام" الذي يُقاس بطول فستان المرأة، بينما يُغض الطرف عن فساد الرجل طالما يحافظ على مظهره "المحترم".

الكرم" الذي يقتصر على الولائم الفاخرة، بينما يختفي  أحيانا عندما يحتاج الجار لقرض حسن.

التدين الذي يظهر في المساجد المليئة، لكنه لا يمنع الغش في التجارة أو التحرش في الشارع.

الغرب تقدم لأن الأخلاق عنده "ضمير مجتمع"، وليست "قيداً اجتماعياً". بينما نحن نربط الأخلاق بالجنس والمرأة، ثم نتفاجأ بأن العالم يتجاوزنا

حان الوقت لنتوقف عن اختزال الأخلاق في "عذرية البنت" و"شرف الرجل"، ونبني أخلاقاً حقيقية.. أخلاق النظام، المساواة، والاحترام المتبادل.

فالأخلاق ليست غطاءً للرأس، بل نورٌ في العقل والقلب.

التجديدُ في الغناءِ والموسيقى الشرقيّةِ وبعث المقاماتِ العربية/ الدكتور حاتم جوعيه



" في الذكرى السنوية على وفاة الموسيقار محمد عبد الوهاب "


  (إختلفت  المشكلات والمهام  التاريخيه  بين عبده الحامولي  (سي عبده ) ومحمد عبد الوهاب ، لكن الاساس الراسخ عندهما كان الحفاظ على الكيان العربي المستقل لهذا الفن )

        

  إنَّ شهرَ أيار - مايو- هو شهر الرَّحيل عن الدنيا  لِمُطربِ القرن العشرين محمد عبد الوهاب ، ومطرب القرن التاسع عشر عبده  الحامولي المعروف ب( سي عبده ) ، وإن  باعدت بينهما تسعون سنة  بالتمام .  هذان العملاقان  

ملآ الدنيا وشغلا الناس وتركا أعمقَ الأثار في  الغناء ِالعربي المُتقن  وبقيت

أصداءُ صوتهما لا تزاحمهما أصداء صوتٍ آخر .    فالكاتبُ العربي الكبير نجيب محفوظ كتبَ على لسان بطل ثلاثيتهِ  الرّوائية- (السيدأحمدعبدالجواد) –  قوله :  " إنَّ  دولة َ الفنِّ  قد  انتهت  بانتهاءِ  " سي عبده  "  .   أمَّا  عبد                         

الوهاب  فأنهكَ  حياته  المديدة   في   تجديدِ  الغناء  العربي  على  مراحل  متعاقبةٍ  توازي  مراحله الصوتيّة   فكانَ  له ُ في العشرينات  تجديد ،  وفي  الثلاثينيات  تجديد آخر، وفي  كلِّ عقدٍ  بين  الأربعينبات  والتسعينيات  لون آخر متميز من التجديد  .  منذ ُ فجر تاريخ الغناء العربي محمد عبد الوهاب هو أوَّلُ  ملحن ومطربٍ عربيٍّ صدرت عنه في مصر لوحدِها عشرة ُ كتبٍ  قبل أن يمضي على رحيل  عامان  فقط .  وشهر أيار -  مايو -  سنة 1901  وسنة 1991  يجمعُ  بين عملين  فنيين  يَبْدُوَان  مختلفين، لكنهما في الحقيقةِ متفقان فعبده الحامولي  في الأدوار الغنائيه يختلفُ عما   َقدَّمَهُ  عبد الوهاب  وأبدعهُ  في  تجديداتهِ  التلحينية  ولكن  يجمعُ  بينهما  إخلاصهما  والتزامها لأصولِ الغناءِ العربي المُتقن والموسيقى الشرقي الكلاسيكية الرَّاقية والعمل على توسيعها  وتطويرها وحمايتها من الهدم والتخريبِ والضياع  .  فالغناءُ العربي المُتقنُ  يَتَّسِعُ  لجميع ِ المذاهب  والمُحاولات التجديديَّة  ما  دامت لا  تستهدفُ إلغاءَ هذهِ الأصول العربيةِ وإحلال الموسيقى الأوروبية بدلا منه  .    

  تتضَّنُ الموسيقى العربية ُ في  بعض ٍ من  مقاماتِها  وايقاعاتِهَا  جميعَ  ما تحتويه ِ الموسيقى الأوروبية لأنَّ الموسيقى العربية بحرٌ  كبير لا  نهاية  لهُ ،   أما الموسيقى  الأوروبية  فهي المقامان الكبير والصغير  ويقابلهما  في  الموسيقى الشرقية  مَقامَا  النهاوند والعجم ، وهما قطرة  صغيرة من  بحر الموسيقى العربية (هذه هي العلاقة والرابطة بين أصول الموسيقى العربية والشرقية ) .    

         إنَّ جميعَ ما  دخل على الموسيقى الأوروبيه  من الأعمال التركيبيّة من    هارموني  وكونتروبوينت  الخ ...  فكله   يدورُ  في إطار  المقامين   الذين ذكرتهما  وهما   ( النهاوند  والعجم  أو المينور والماجير ) ،  بالرُّغم ِ  من اتساع  هذين  المقامين  لا  يستطيعان   إستيعابَ الحشد  الكبير الهائل   من المقامات العربيه .   ولهذا يعجزُ المستمع ُالاوروبي والامريكي  عن  تذوِّق الموسيقى  العربية  وفهم تركيبها الذي يتهادى ويتسامى أمامَ عينيه  وأذنيه .  ولهذا أيضا يقول بعضهم : إنهُ  يُفتقُرُ الى النظر العلمي من  تطويع الأغنيةِ  العربية  للعالميةِ ،  ولكن  هذا  الرأي  أو  هذه  الدعوة  العقيمة  لم   تنجَحْ   من  حيث   الاستغناء  عن  باقي  المقاماتِ   العربية  والاكتفاء   بالمقامين  الكبير  والصغير  من  أجل   تطويع  الاغنية  العربية  للعالميةِ  كما  يزعمُ البعضُ  .   وقد   برهنت على  زيفها   وعدم  صِحَّتِهَا  هذ  الدعوة   عندما اصطدمت   في  السنواتِ  الأخيرة   بالموجةِ  الغنائية  الهابطةِ   فانهزمت    تلك  الدعوة ُ المهجنة ُ الرخيصة على   الرغم  من  تقدُّم ِ الدعوة ِ والموجةِ    الهابطة   قليلا    .     

      وقد  كان  دعاة ُ  تغريبِ  الغناء ِ العربي  والموسيقى  العربية  ومحو  آثارهما وإحلال  الموسيقى والغناء الاوروبي محلهما يعتقدون  أنهما  على   وشك  النصر النهائي      .      

      إنَّ  الموجة َ الهابطة ( الأغاني المُهجَّنة -  فرانكو  آرب ) حجبت حاليًّا

الغناء  العربي  المُتقن  بعض  الشيء   ولم   تقتصر على   طردِ  الموسيقى الأوروبية الرفيعة الراقية، ولكن احتجابَ الغناء العربي الاصيل المتقن أمر مؤقت وستنتهي قريبا  تلك الموجة ُ الهابطة الساقطة  ويعودُ  الغناءُ  العربي الاصيل  في  مرحلته  الجديدة  المقبلة  أهمَّ  مِمَّا  كانَ  عليهِ  سابقا  وسيتخذ ُ 

طريقا  مستقلا  رائدًا  في الحداثةِ  والتطوير والابداع  وسينتصرُ  في  نهايةِ المطاف على  الفنِّ  الهابطِ  الساقط  وعلى  محاولاتِ  التغريب  التي  ترفع    شعارات (الموسيقى  الرفيعة ) واهدافها الحقيقية إزالة الموسيقى العربية من  الوجود لأنها  متطورة  أكثر وأرقى  وأوسع  وأعذب  وأجمل  ومتميزه عن  الموسيقى  الأجنبية  اذ   أنها  تخاطبُ   الجانبَ  الوجداني   والروحاني  في الإنسان فتأسرُ  لبَّهُ وتهذبُ أحاسيسه وطباعه وتحدُو به إلى عالم ٍ رومانسيٍّ  حالم  رائع .  إنَّ هذه  القضايا  التي  نحن في صددِها  قد  تصدَّى لها  محمد 

عبد  الوهاب ومعاصروه ، أمثال : محمد القصبجي  وزكريا أحمد  ورياض السنباطي ، وهم  الرباعي الأعظم  في التلحين  .  ثم تصدى  لتلك  الظاهرة التي ذكرتها الجيل الذي تتلمذ عليهم، أمثال :أحمد صدقي  ومحمود الشريف   وعبد العظيم عبد الحق ... ثم الجيل الثالث  : كمال الطويل  ومحمد الموجي  وبليغ حمدي، وبعض المغنين الملحنين أمثال فريد الاطرش ومحمد فوزي . وقد اختفى فجاة  معظم هذا الرعيل الأخير  بعد  رحيل ِ الرعيل  الاول  من  العمالقةِ وجهابذة الفن وغصَّت الساحة وامتلات بعشرات بل مئات الملحِّنين  من  جيل ( الدرابوكة) المصرية البلدية وايقاعات الديسكو  والبوب  والجاز  والروك الخ...هنالك  بعضُ الموهوبين من الذين  استسلمُوا للموجةِ  الغنائيةِ   الهابطة   ولكن  الأكثرية  من  غير  الموهوبين   وهم   يعتبرون  انتهازيين   متسلقين  دخلاء  على  التلحين  والفن  كأصحابهم  المغنيين  الجدد  الدخلاء على  الغناء  . 

              إنَّ  تسعين عاما  بين  رحيل عبده  الحامولي  (سي عبده )  سنة 1901 ورحيل  محمد عبد الوهاب سنة 1991 قد  أعادت   رسم  مشكلات الغناء  العربي بحيث كادت  تصبح مقطوعة َ الصلة ِبمشكلاتهِ  في عهد عبد الحامولي وزميله محمد  عثمان  ومحمد المسلوب  في  أواخر القرن التاسع عشر  فمهمة (سي عبده )  ومعاصريه ..  أي  رسالتهم   الفنية كانت  نفض وإزالة  التراب عن المقامات  العربية  وإحيائها  من  جديد ... هذه المقامات التي  أخذت  أسماءً   فارسية   وتركيّة   في  عصور  الانحطاط   السياسي والإجتماعي للأمةِ العربية بعد سقوط بغداد في قبضة هولاكو سنة 1258 م 

 .  فمهمة ُهؤلاء الرواد  الفنانين العمالقة هي إنطاق هذه  المقامات  العربيّة العائدة من غربتها الطويلةِ ، بلغةٍ ولهجةٍ جديدة   في  الغناء ،  تختلفُ  عن اللهجةِ ( العثمانية ) التي سادت أكثر من أربعمئة سنة على  الأقطار العربية ...  بإختصار فالحامولي  ومعاصروه  من الفنانين عملوا على ردِّ  وإرجاع فنّ الغناء في عصرهم الى تلك الاصول العربية الصحيحة ... وقد فعلوا كلَّ هذا بدقة واخلاص .          قبل مجيء عبده الحامولي  لم  يكن متداولا  في  مصر حينذاك سوى مقامات السيكاه والبيات والراست وشذرات من مقامات أخرى بلهجات بدائية  .  ويبدو هذا الامر واضحا في البحوث  العلمية  التي أجراها  علماء  الحملة  الفرنسية   الإستعمارية  التي  قادها   نابليون  على مصر عام 1798م  .    وهذه   البحوث   مدونة ٌ ولا  خفاء  بها . إنَّ  كتابَ "سفينة الملك"  للشيخ  شهاب الدين هو الذي  لفتَ الانظار  ونبَّه َ  الحامولي   ومن  سبقوهُ  ومن عاصروه  في  القرن  التاسع  عشر  إلى  ثراء  المقامات  العربية وكثرتها .      وفي زيارةِ  الحامولي  لاسطانبول  افتتحت  له أبواب  أخرى  في  التعرف الى  مقامات عربية غير  متداولة  في  مصر ومعروفة في اسطانبول ناطقة بلهجة غنائية عثمانية  ، مثل  مقام  حجاز كار وأجناسه  ، ومجموعة   من  المقامات  التي   تبدأ  بكلمة "شوق " مثل : ( شوق افزا)  و (شوق انكيز)     و ( شوق طرب ) .     وغيرها  ...    هذا   فضلا  عن   الماهور   والشاهيناز   والستنيكار  والدلنشين  وراحة  الارواح  ،  وغيرها من المقامات العربية  التي  أطلق َ عليها  الأتراكُ   والفرس  أسماء ً  تركية وفارسية بعد سقوط البلدان العربية في ايديهم

       إنَّ مهمة َ(سي عبده ) كما ذكرتُ سابقا هي بعث وإحياء وإعادة الوجه العربي إلى المقامات التي استعجمت ، فأدَّى  ( سي عبده ) ومعاصروه  هذه المهمة بنجاح كبير ، وتركوا للذين جاؤوا بعدهم تراثا رائعا  من الموشحات  والقصائد والأدوار تجسدت  وارتسمت  فيه  ملامحُ  معركتِهم  العنيفة  ضدَّ عوامل  الإنقراض التي  تجمعت وتآمرَتْ  ضد َّ الغناءِ  العربي  خلال  تلك الحقبة التاريخية الطويلة المظلمة .  

              كان لعبده الحامولي  (سي عبده ) صوتٌ رائع عظيم  وقال عنه معاصروه إنهُ يحتوي على ثلاثة دواوين ، أي أربعة وعشرين مقاما . وهذه المساحة ُالواسعة لم ُتتحْ لصوتٍ بعد صوت عبده الحامولي  إلى يومنا  هذا .                  

فأقصى ما بلغته مساحة ُصوت محمد عبد الوهاب الذهبي في العشرينيات لم تزد  على   خمسة عشر مقاما ،  وأقصى  ما  بلغه  صوت  أم  كلثوم  خلال العشرينيات سبعة عشر أو ثمانية عشرمقاما  .   لا يُقاسُ  الصوتُ بمساحتهِ فقط بل بجمالهِ أيضا ومقدرته وندرةِ معدنه ِ وقد جمع الحامولي كما قال عنه النقاد الفنيون سعة المساحة إلى جمالها ومقدرة  الأداء ونفاسة  المعدن .  لقد سيطر عبده  الحامولي  على الساحةِ  الفنية  بمذهب  الغنائي  المتطور الذي انبعثت  فيه  مقاماتُ  الغناء  العربي انبعاثا  جديدا من خلال الحانه  وألحان معاصريه   من   عمالقة  الفن   مثل :  محمد   عثمان   ومحمد  المسلوب .

       وأخيرًا : مهما  اختلفت المشكلاتُ  والمهام ُ التاريخية   بين محمد عبد  الوهاب وعبده   الحامولي  (سي عبده )  فإن  الأساسَ   الراسخ المتين الذي بنى عليه  كل منهما هو حلّ مشكلة الغناء في عصره  والحفاظ  على الكيان  العربي المستقل لهذا  الفن الأصيل، وانطاقه  بلهجةِ عصرهِ ، وتوسيع  آفاقِهِ   وطرد  المغرضين  والمتسلقين على  الدوحة  الفنية  من المغنيين  الساقطين المهجنين التعبين  أعداء الأغنية  والفن العربي الراقي  العريق ، ومن  شتى أنواع الدخلاء والأدعياء  .