حين يخوننا الفينيق: عبثية المعنى في قصيدة "محكومٌ عُمري بالنهايات"/ د. آمال بوحرب



مقدمة: القصيدة كفضاء لمساءلة المعنى

في زمنٍ تتهاوى فيه اليقينيات وتسقط الرموز من عليائها، يصبح الشعر أكثر من مجازٍ جمالي؛ يغدو حقلًا فلسفيًا مفتوحًا لأسئلة الكينونة والعدم، الأمل واليأس، المعنى وسقوطه.

إنّ قصيدة “محكومٌ عُمري” للشاعر جورج عازار تندرج في هذا المسار الوجودي، حيث لا تحتفي باللغة كوسيلة تعبير، بل كأداة مقاومة وتفكيك. قصيدة تنبني على قلق وجودي كثيف، وتتلبّس بطيف عبثي يمحو المسافة بين الحنين والانطفاء، وبين الرغبة في النجاة والإيمان باستحالتها.

في هذا النص، تنهار رمزية الفينيق—رمز البعث والأسطورة—وتسقط فكرة الخلاص الشعري في وجه تجربة داخلية صريحة تنكر الخلود، وترى في الأمل كذبة كونية كبرى، تُصاغ فقط كي نُطيل لحظات البقاء أمام الهاوية.


فما هي الرؤية الفلسفية التي تُملي على الشاعر هذا الموقف من الرموز والأساطير؟

وكيف تُعيد القصيدة مساءلة علاقتنا بالذات، بالموت، وبالكتابة؟

وما وجوه التداخل بين الهمّ الوجودي والرمزي والنفسي والاجتماعي في بنيتها؟


تلك هي الأسئلة التي تحاول هذه القراءة استنطاقها عبر مقاربة متعددة الأبعاد: فلسفية، رمزية، عبثية، نفسية، وأسطورية.⸻


ظلال الذات في خراب المعنى:

ليست القصيدة وصفًا للحزن، بل تجسيدًا لانهياره داخليًا. إنّها تجربة من التشظي بين صوتٍ يبحث عن معنى وصدى يردّد الفراغ.

حين يقول الشاعر إنّ الأمل مجرد “حقنة مورفين”، لا يُسقط فقط فكرة الخلاص، بل يجرّد اللغة من ادّعاء الإنقاذ. كأنّ الحرف هنا لم يعد وعدًا، بل اعترافًا بمرارة الهباء.

يتسرّب الرماد من بين الكلمات، لا ليخفي النار، بل ليكشف أنّها لم تشتعل أصلًا. هنا لا يحترق الفينيق… بل يتواطأ مع الخيبة.


لا أحد يأتي من جهة الأبد:

في هذا النص، لا نوافذ مفتوحة على انتظار. الانتظار نفسه مشكوك فيه، مشكوك في نواياه، في صدقه، في نهاياته.

الحنين ليس سوى انعكاس لما تبقّى من وهم. الأمكنة تطرد، البيوت تلفظ، والقبور تزداد بُعداً كلما ازداد الشاعر بحثاً عن حضن.

الهجرة هنا ليست حركة، بل حالة. غربةٌ لا تشبه المنفى، بل المنفى داخل الذات.

.

من رماد الأسطورة إلى فراغ الأسئلة

يتكئ الشاعر – في تهكمٍ رمزي – على “الفينيق”، فيكشف زيف بعثه. هذه الأسطورة التي طالما كانت معبراً نحو النور، تنقلب إلى قناع شاحب يغطي جثة الأمل.

لا تجدد في هذا الحطام، لا بداية تليق بنهاية مجروحة، لا ميلاد بعد الموت، فقط دورة متكررة من الخيبة.

من خلال هذا التمزّق الرمزي، تفتح القصيدة بابًا أمام سؤالٍ وجودي عارٍ: هل كان البعث دومًا كذبة شاعرية؟ وهل كان علينا أن نصدّق الخرافة كي لا نموت قبل موعدنا؟

الذات كغريبٍ في مراياها


“تتبرأُ مني ذاتي”… عبارة واحدة تختصر انفصام الشاعر عن صورته. ليست الذات هنا بيتًا، بل صدًى مشوّشًا في أروقة غريبة.

ما يظهر ليس ما يعتمل. والشاعر – وإن كتب – لا يسكن اللغة، بل يحفر فيها مجازًا هاربًا من الانطفاء. لا هو ذاته، ولا هو الآخر. كأن كل تعرّف على الذات، يُفضي إلى غربة أعمق منها.


رؤى فلسفية تتقاطع بين العدم والمقاومة

تُطلّ القصيدة من شرفة أسئلةٍ قديمة/جديدة، تتقاطع فيها الفلسفة الوجودية، والعبثية الكاموية، والنقد الرمزي، دون أن تدّعي أنها تجيب.

عند نيتشه، تنهار القيم عندما تُصاغ بوصفها أوهامًا مريحة. وهنا يرفض الشاعر رمزية الفينيق كما رفض نيتشه فكرة “العزاء” القيمي.

وعند سارتر، يغدو الإنسان حراً، لكن هذه الحرية عبء، لأنه مطالب بخلق معناه. الشاعر في “محكومٌ عُمري” لا يجد بيتًا، لا في اللغة ولا في الزمن. إنه كائنٌ منفي من الِمعنى، مطالب بالكتابة داخل الصمت.

أما كامو، فنجده بوضوح في الموقف الأخير: لا جدوى… ومع ذلك، نكتب. لا معنى… ومع ذلك، نواجه العدم بحرفٍ لا يصدأ.

مقاربات متعددة الأبعاد:

1- المقاربة الوجودية:

يغدو النص بُعدًا وجوديًا مكثفًا، يستبطن قلق الإنسان أمام هشاشة العالم. الحياة هنا ليست سلسلة من الأحداث، بل وعيٌ دائم بمحدوديتها، وانعدام قدرتها على منحنا يقينًا.

2-المقاربة العبثية:

الأمل يُعالج كمخدر. فكرة البعث تسقط رمزيًا. الزمن بلا خطية، والأحلام “أشلاء”، والبيت يلفظ… في بنية كهذه، لا يبقى إلا العبث.


3-- المقاربة النفسية:

الداخل متصدع. الروح في “طقوس عزاء”، والذات تعلن انفصالها عن ذاتها. إنها تجربة ما بعد الانهيار، حيث تصبح الكتابة بديلاً عن الفهم.


4--المقاربة الرمزية الأسطورية:

جلجاميش، الفينيق، الحمام… رموز تتحوّل إلى مرايا محطّمة. لم يعد الحمام سلامًا، بل غيابًا. لم يعد جلجاميش منتصرًا على الموت، بل ضائعًا في سؤالٍ لم يلقَ جوابًا.


الأسلوب الشعري: لغة التمزق والعمق

يُشكل أسلوب الشاعر في قصيدة “محكومٌ عُمري” مرآة لصراع الإنسان مع عبثية الوجود، حيث تتداخل الصور والرموز بأسلوب مكثف ينسج بين الشعرية والفلسفية. يختار الشاعر لغةً متقطعة أحيانًا، توازي حالة التشظي النفسي والوجودي، وفيها عبارات تختزل ألمًا عميقًا مثل “حقنة مورفين” و”عتْمة الداخل” و”بقايا قزم داكن السواد”، تعبيرًا عن فراغ يلف الروح وينسف الأمل.

القصيدة لا تستسلم لسردٍ خطي تقليدي، بل تستخدم التكرار والتضاد بين الأمل واليأس، الغربة والانتماء، الحياة والموت، مما يخلق إيقاعًا يذكّر بأن الحياة ليست قصة متماسكة بل حالة تذبذب دائم.

وبهذا، يصبح الأسلوب جزءًا لا يتجزأ من المعنى، لغةً تحمل في طيّاتها استدعاءًا مستمرًا للشكّ والرفض، مع إصرار لا ينكسر على الكتابة رغم الخراب.


خاتمة: ضد النسيان… مع الذبول:

القصيدة لا تحتفي بالنجاة، بل بالتسمية. لا تبشّر بخلاص، بل تُعلن عن مقاومة الهشاشة بالكلمة.

حين يخوننا الفينيق، لا يبقى لنا سوى الذكرى.

وحين يُجرّد الأمل من سلطته، تُولد الكتابة من رحم العدم، لا لتُنقذ، بل لتُبقينا شهودًا على سقوط الأساطير.

هكذا تتحوّل “محكومٌ عُمري” إلى شهادة شعرية في زمنٍ لم يعد يؤمن بالخلاص، لكنها رغم ذلك، تُصرّ على أن تقول: “لن أذبل"”.

تحية للشاعر جورج عازار، وللفنان كميل يعقوب، على هذا التواطؤ العميق بين الشعر والتشكيل، بين جلجاميش الإنسان وقلق الإنسان المعاصر.

بقلم: د. آمال بوحرب

30 جوان 202 ‎

المصادر والمراجع

1.  ألبير كامو، “أسطورة سيزيف”

ترجمة: عبد الله الغذامي دار الهلال، بيروت، 1984 ص. 45-78

2. جان بول سارتر، “الوجود والعدم ترجمة: محمد كمال عبد الحميد

الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990ص. 100-150

3.  فريدريك نيتشه، “هكذا تكلم زرادشت”

ترجمة: كامل الشناوي

مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970

ص. 220-260

4 صموئيل بيكيت، “في انتظار غودو”ترجمة: عبد الله الغذامي دار الساقي، بيروت، 1993

ص. 15-45

5.  أفلاطون، “الجمهورية”ترجمة: جهاد فاضل دار الطليعة، بيروت، 1981

ص. 110-145

6. رولان بارت، “اللغة والشعر”

ترجمة: يوسف الهيل

الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994

ص. 75-102

 7 إيهاب حسن، “العبث والوجود في الأدب العربي الحديث”دار المدى، دمشق، 2002

وإليكم قصيدة الشاعر جورج عازار وعي بعنوان : 

بالنِّهاياتِ مَحكُومٌ عُمري

في دَاخلي عَتْمَةٌ

وعلى شَفتي شَبحُ ابتسامةٍ

وفي رُوحي

طُقوسُ عَزاءٍ

وتَوقٌ إلى سَكينةٍ

فيها انتظارُ مَن لا يأتي

وماضٍ إلى غيرِ رَجعةٍ

قد وَلَّى

اكتبيني بين سُطورِكِ

حَرفاً أبداً لا يَصدَأُ

وانْسُجي من رُفَاتي

خُيوطَ ذِكْرى

أبداً لا تَذبُلُ

مَحكومٌ أنا يا مَعشوقتي 

بالنِّهاياتِ

فكيف مِن جَديدٍ سوفَ أبدَأُ؟

وأنا في كلِّ يومٍ إلى الخَاتِمةِ

أصيرُ أقرَبُ

أعتاشُ في كُلِّ خيبةٍ

على أملٍ كاذبٍ

وعلى أشلاءِ بِضعَةِ أحلامٍ

وشَمسي صَارتْ

بقايا قَزَمٍ داكنِ السَوادِ

وفي آخرِ النَّفقِ

أفاعٍ من ظُلمةٍ ودُخانٍ

وأنا أعلمُ 

أنَّ الفينيقَ خَديعةٌ

وحقنةُ مورفينَ سَمِجَةٌ

في غابرِ الأزمانِ صَنعوها

حينَما مَاتَ الرَّجاءُ

وعرفوا الحَقيقةَ الكُبرى

وما أنا سِوى غَريبٍ هُنا

يَلفظُني بَيتي

وتتبرأُ مِني ذَاتي

فمِن أين أشتري

ثوباً يُدفِّئُني

وكلُّ الأماكنِ

من غيرِهِ بارِدَةٌ

وكلُّ القبورِ البعيدةِ عَنه

كئيبةٌ؟

كلَّما لَمستُ حَبَّاتِ تُرابِ الأرضِ

تُصبحُ سَرباً من اليَمامِ

وإلى أبعدِ مَدى تُحلِّقُ وتَطيرُ

مَرِرتُ ذاتَ عُمرٍ

على بَوَّاباتِ السَّماءٍ

قَرعْتُ الدُّروبَ

حتى أدمتْ يَدي

الطَرَقاتُ

فلا الغَائبُ فتحَ لي في الجِدارِ كُوَّةً

ولا الحَمامُ من رِحلتِهِ البعيدةِ

إلى بيتهِ قد عَادَ

فأينَ المَفَرُّ

من مَرارةِ الخَيباتِ

وحريقِ النِّهاياتِ المُرَّةِ؟ِ

بقلم: جورج عازار

اللوحة المرفقة الممثلة لشخصية جلجاميش هي من أعمال الفنان والنحات السوري المبدع. كميل يعقوب


حُبٌّ في حانٍ/ د. عدنان الظاهر


 

جُدُرٌ تندى بَردا

تتثاءبُ من فرطِ زَحامٍ في الصمتِ

الكثرةُ لا تعني إلاّ ضيقَ مساحةِ شُرْفاتِ جيوبِ الصدرِ

صدرٌ يهوي والحاصلُ ضيقُ مرورٍ فيِ الوقتِ 

مرَّ القرُّ المُرُّ وجاءَ البدرُ يجرُّ زهورا

وتنفّسَ مولودٌ مشنوقا

تَبّاً للجُبَّ الساكنِ في قلبٍ ذئبا

يتربصُّ حَرْقاً للفرقِ

إنْ سفَّ الصفُّ وقاومَ أو أمضى

أوْ شذَّ وألقى طَرْحاً حِملا

حيثُ الصدمةُ حقلُ صفيحٍ محروقِ

ما جدوى أنّي ألبستُ التينةَ ثوباً طُهرا

سلّمتُ الزوبعَ مطعوناً رُمحا

تقليداً من بابِ التقوى أعمى

مسحوقاً بمجانيقِ ضَرامِ العِهنِ المنفوشِ سخاما

مَسَدٌ حبلٌ يتدلّى

سَرَفٌ في النظرةِ من تحتٍ للأعلى

ذئبٌ يبكي فيها عينا

ليفكّكَ أوتارَ ثقوبِ المزمارِ

يمسحُ كأسَ قلوبِ السكرى في بارِ

خَمْرُ الحانةِ ألوانُ فقاعاتِ الطوفانِ

في برقِ رحيقِ الأحداقِ

الماشي يتثاءبُ من سُكْرِ إبريقا

فنجانَ شرودِ سرورٍ مقلوبِ



صُراخٌ من قلب الهزّة الأرضيّة/ ترجمة ب. حسيب شحادة



بقلم الكاهن الأكبر، سلّوم بن عِمران  1921–2004

A Cry from the Heart of the Earthquake

 A Story by the High Priest, Sallūm Son of ˓Imrān 1921-2004


جامعة هلسنكي


בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון 2021, כרך ב’ עמ’ 579-576.


تجربة طفولتي الأولى


إنّ المشاهَدَ الأولى التي تراها في سنوات حياتك الأولى، تُحفَر جيّدًا في مخّك، وتعود إليك بين الحين والآخر في أحلام الليل طَوالَ كلّ حياتك. هذه حقيقة لا نِزاعَ فيها. مَن لا يتذكّر بالتفصيل الحدثَ الأوّل في حياته، الذي شاهده وترك انطباعًا عليه لا ينمحي. يولد الإنسان كلوح أملسَ، وأحداث الحياة وتجاربُها ترسم عليه أخاديدَ، الواحد تلوَ الآخر. وكلّما كثرت الأخاديد، تكبر وتتراكم التجربة الشخصيّة، دليل كلّ إنسان يحاول أن يتعلّم من تجارب الماضي بخصوص أحداث الحاضر، ويحاول تفادي أخطاء الماضي.

حاولْ أنت أن تحكي لي بأيّ عمرٍ كنتَ، عندما مررتَ بالتجربة الأولى، إيجابيّةًَ كانت أم سلبيّة، وأنت تذكرها بحذافيرها، ولن تنمحي من وعيك. ربّما حدث ذلك بعمر أربع أو خمس أو ستّ سنوات، وها أنا أراك تهزّ برأسك من الأعلى إلى الأسفل، علامة الموافقة. وأنا مررتُ بتجربة كهذه  في الطفولة، وهي تعود إليّ إلى اليوم في حُلم الليلة أو في حلم اليقظة في وَضَح النهار. هذا حدث، يحدُث وسيحدُث.


الهزّة الأرضيّة في نابلس -لا تُنسى


تجاربُ طفولتي غير المنسيّة، مرّت عليّ في سنتي السادسة في العام 1927. وأحيانًا، عند الحديث مع مجايليّ أو الأكبر منّي سنًّا بقليل، الذين عايشوا التجربة ذاتها، يتبيّن لي أنّ كلَّ ما حلّ بي في أعقابها يحلّ عليهم من حين لآخرَ أيضا. وهم أيضًا، بعضهم في دار الحقّ، لن ينسوا أبدًا ما رأت أعينهم، وبعد ذلك  فقط فهموا.

قصّة العام 1927، هي إحدى القصص التي أدّت إلى ثورة لصالح طائفتنا بالذات، بالرغم من أنّ الحديث يدور حول هزّة أرضيّة ضربت فلسطين (في الأصل: أرض إسرائيل) في السنة نفسها، وبالأساس نابلس. رُويت قصصٌ كثيرة عن تلك الهزّة. ولكن كلّ من رأى بأُمّ عينه الهزّة أوِ الانقلاب ونتائجها، يُدرك بشكل أفضلَ معنى انقلاب سدوم وعَمُوره وأدَمة وصَبُوييم ֻ [سفر التثنية 29: 23]  مدن دائرة الأردنّ.

وفي العَقد الأوّل بعد الهزّة، لم يتوقّف فِتيان الطائفة، وبخاصّة أولئك الذين أُطلق عليهم اسم الشِّلَّة، عنِ الحديث عمّا  حصل لهم في ذلك الحادث، وأخيرًا قد حان موعد نشر ذلك. 

كان ذلك في ساعات ظهر يوم حارّ بامتياز. كان كلّ الأولاد في حديقة ألعاب صغيرة، بجِوار الحيّ السامريّ القديم المدعو حتّى اليوم باسم حارة الياسمينة، بينما كنّا في الأُرجوحة، أنا في جهة والمرحوم راضي الأمين صدقة من الجهة الأُخرى، وإذا بالأرض من تحتنا بدأت تتحرّك. 

لم أتمكّن من النزول من الأرجوحة، لأنّ الهزّة الأرضيّة زادت من قوّة الدفع، اِصعد وانزل، انزل واصعد بلا انقطاع بسبب قوّة الدفع. كان ذلك كقوIة غامضة سحبتنا من الأُرجوحة وطيّرتْنا فطرحتنا أرضا. كنّا خائفين جدًّا، وكذلك الأطفال الآخرون. 

انتاب الكثيرين منهم بكاءُ شديد. لقد خِفنا كلّنا من التحرّك من مكاننا. تمايلت الأرض وتحركّت من تحتنا لبضع ثوانٍ فقط، ولكنّها بالنسبة لنا كانت بمثابة بضع سنين. رغبنا بكلّ ما أوتينا من قوّة، أن تنتهي الهزّة وهكذا كان. فورًا، وقفنا على أرجلنا المرتجفة، متوسّلين الرجوع على جناح السرعة إلى بيوت الحيّ. 

مدخل الحديقة، كان مغلقًا بكومة كبيرة من التراب والحجارة، لم تكن قبل ذلك. وقد سُمعت أصوات استغاثة لكثيرين طلبًا للنجاة. صعِدنا على الكومة وما شاهدناه لن ينمحي من ذاكرتي. بدت بيوت الحيّ، وكأنّ يدًا أُسطوريّة عِملاقة مرّت بها وطرحتها أرضًا، كما في لُعبة الورق. صيحات الذين دُفنوا تحت الأنقاض مزّقت قلوب الذين أرادوا إنقاذهم.


اِختفى الفِتيان


بالرغم من أنّنا عرفنا الطريق المؤدّي إلى بيوتنا، إلّا أنّنا لم نستطع الوصولَ إليها، لأنّ الطريق قدِ اختفت فجأةً وكأنّها لم تكن، ومكانها فُغرت حفرة كبيرة، ولم تتمكّن أرجلنا الصغيرة من اجتيازها، القفز فوقها. موقع قطعة الأرض  كان شماليّ الحيّ. قرّرنا محاولةَ الوصول إلى الحيّ، من الجهة الثانية عبرَ ملعب آخر. انطلقنا والخوف يملأ قلوبَنا من القادم، وبخاصّة منَ احتمال حدوث شيء فظيع لأحبّائنا.

ومن هم أحباؤنا، إن لم يكن آباؤنا؟ وعندما توقفّتِ الهزّة، استعاد الأهل قوّتهم، وخرجوا بلا تأخّر للبحث عنّا، وما  أعظم خوفهم حينما وصلوا الحديقة ولم يجدونا، إذ أنّنا خرجنا منها من الجهة الأُخرى.

ولمّا رأوْا الحفرة الضخمة التي انبثقت ممّا كان ملعبنا، انتاب الجميعَ هلعٌ شديد. اِنبطحوا  بجانب فوّهة الحفرة/البئر متأكّدين تمامًا بأنّنا كلّنا في جوفها. شدّ الكثيرُ منهم بشعرهم وأجهشوا بالبكاء المدوّي، نادبين فُقدان أطفالهم. وآخرون بدؤوا يصرخون لداخل البئر، آملين بسماع ردّ أحد الأطفال بصيحة خافتة. 

في تلك الأثناء، نحن تابعنا سيرنا إلى الحيّ. إنّ شقّ البحر الأحمر وعبورَه من قِبل بني إسرائيل، كانا لا شيء، مقارنةً بصعوبات قطع  الطريق إلى الحيّ. سلسلة من الأنقاض والحُفر التي سبّبتها الهزّة الأرضيّة، قد سدّت طريقنا. خُيّل لنا أنّنا نصعَد إلى تلال من الأنقاض، وننزل إلى آبار مظلمة.

المسافة من المكان إلى الحيّ السامريّ قصيرة جدًّا، ولكن بسبب تغيّرات سطح الأرض، استمرّ سيرنا بضعَ ساعات إلى أن شارفت الشمس على الغروب. وعند وصولنا لرُجمة الحجارة التي ظنناها قُبيل الحيّ، استولى علينا اليأس وخِلنا أنّ لا أحدَ سوانا قد بقي على قيد الحياة. أطلقنا كلّنا صَيْحة شديدة نحو أولئك الذين قد يكونون وراءَ الرجمة. وظهر لنا أنّ صيحتَنا قدِ استجيبت؛ سُمِعت أصواتُ رجال، نداءات متسرّعة  وصيحات أشخاص يحاولون تهدئتنا. 

تسلّق أحد جيراننا ومرّ من جانب الرجمة الثاني. أأنتم بخير؟ سأل، إنّ آباءكم قد فقدوا أملَ رؤيتكم أحياء. مسك الواحد بيد الثاني كما أمرنا، وهو مسك بيد الأوّل في الشلّة، راضي صدقة وأنا خلفه. وقد سحب الرجل كلّ الشلّة خطوة تلو الأخرى إلى خارج كومة الأنقاض العالية جدّا. ثمّة كان آباؤنا، هرولوا إلينا وكلّ واحد يُنادي باسم ابنه. والدي الكاهن عمران، كان من ضمنهم أيضا. أحنى قامته الفارعة أمامي، ضمّني بقوّة وهمس بأذني بكلمات مهدّئة، كما فعل الآباء الآخرون من حولنا.

لقد أجهشنا كلّنا بالبكاء الشديد مرّة أخرى، وسُرعان ما انضمّ إلينا آباؤنا، وعلى الرغم من الدمار الهائل من حولنا، كان ذلك بكاء الفرحة لبقاء الجميع معافين أصحّاء.


موت سلّوم بن عبد الله الدنفيّ


الجميع باستثناء واحد، وقف جانبًا صديقنا العبد بن سليم، يُجهش ببكاء شديد لا يقوى على إيقافه. علمنا في ما بعد فقط، بأنّ أباه كان الوحيد الذي لم يأتِ إلى المكان. لقد حاصرت الهزّة الأرضيّة أباه سليم عبد الله لطيف الدنفيّ عند مدخل حانوته، حجارة السقف سقطت عليه فسحقت جسده. الحزن على وفاته، امتزج بالفرح العظيم للعثور علينا. بانقضاء يوم واحد فقط على الحادث المخيف، وجد كلّ المفقودين، وعادت الحياة إلى مجاريها. 

ها نحن، عايشنا الكوارث على جلودنا!


النفاق الإنساني وازدواجية المعايير والقانون في غزة/ الدكتور حسن العاصي



أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا


يكشف رد الفعل الدولي تجاه الأسرى في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عن نفاق صارخ. يحظى الأسرى الإسرائيليون في غزة بتغطية إعلامية عالمية، وضغوط دبلوماسية، ونداءات عاجلة للإفراج عنهم. في الوقت نفسه، يُحتجز آلاف الأسرى الفلسطينيين - بمن فيهم أطفال وصحفيون وكوادر طبية - دون تهمة، ويتعرضون للتعذيب، بل ويُقتلون في السجون الإسرائيلية، كل ذلك بينما يظل العالم غير مبالٍ. هذه الازدواجية الصارخة في المعايير ليست صدفة؛ بل هي تحيز مدروس يُعزز الهيمنة الإسرائيلية ويُسكت معاناة الفلسطينيين.

تتخاذل الحكومات الغربية عن مسؤوليتها في مواجهة روايات موثوقة عن جرائم حرب تُرتكب خلال العدوان الصهيوني على غزة. إن الدعوات التي تطلقها بعض الحكومات الغربية إلى "هدنة إنسانية" تُعدّ تشتيتاً للانتباه وتنصلاً من المسؤوليات الإنسانية. وحده وقف إطلاق النار الكامل، وإنهاء الحرب كفيل بوقف إراقة الدماء.

هناك إجماع واسع النطاق على ارتكاب جرائم حرب في غزة. فقد أعلنت منظمة "أوكسفام" Oxfam، بعد أيام قليلة من بدء الرد الإسرائيلي على هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن حصار غزة يُشكل عقاباً جماعياً وينتهك القانون الدولي. وتُوثّق منظمة العفو الدولية الهجمات غير القانونية على المدنيين، وتدعو إلى التحقيق فيها باعتبارها جرائم حرب. ومع إدانة الفظائع المرتكبة ضد المدنيين. انتقدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أوامر إسرائيل بإخلاء سكان غزة منازلهم، دون الوصول إلى الضروريات الأساسية، باعتبارها تتعارض مع القانون الإنساني الدولي. واعتبرت جميع منظمات حقوق الإنسان أن سياسة التجويع التي تتبعها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني إنما هي جرائم ضد الإنسانية.

فيما يطالب المتظاهرون في شوارع العواصم والمدن الغربية الكبرى الأخرى بوقف إطلاق النار. يرفض نشطاء حقوق الإنسان اليهود في نيويورك الاعتراف بإبادة جماعية للفلسطينيين في غزة تُرتكب باسمهم. وقد دعا الآلاف من خبراء القانون البارزين حكومات بلدانهم إلى الوفاء بواجبها في ضمان احترام القانون الإنساني الدولي، وبذل كل ما في وسعها لضمان وقف إطلاق النار، ووقف تصدير الأسلحة من بعض الدول الغربية إلى إسرائيل، والعمل على التوصل إلى تسوية سلمية لهذا النزاع. في غضون ذلك، تتزايد أعداد الضحايا المدنيين العزل الذين وصل عددهم إلى أكثر من 55 ألف شهيد. وأن العدد الإجمالي للجرحى جراء الهجمات الإسرائيلية على غزة منذ بداية الحرب قد بلغ 127,593 جريحاً بحسب ما أفادت به وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.


القانون الدولي أصبح مجرد هامش

على الرغم من هذا العدد المتزايد من القتلى والدمار والخراب، يبدو أن القانون الإنساني الدولي أصبح مجرد هامش، مجرد فكرة ثانوية، حيث يُظهر حلفاء إسرائيل تضامناً ودعماً راسخين لحقٍ غير مقيد ظاهرياً في الدفاع عن النفس. ورغم أن حلفاء إسرائيل يُكررون بشكل متزايد أن هجوم إسرائيل يجب أن يتم في إطار قوانين الحرب، إلا أنهم مع تصاعد الانتهاكات، لم يُدعموا ذلك بالإدانة أو ببذل جهود لوقفها.

إن ازدواجية المعايير هنا جلية. لم يكن هناك بحق صمتٌ كهذا في أعقاب الهجوم الذي قادته حماس في السابع من أكتوبر الذي أثار غضباً عالمياً. لكن القانون الإنساني الدولي واضح: إن ارتكاب طرف في نزاع - بما في ذلك جماعة مسلحة - انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي لا يبرر ارتكاب طرف آخر لها. فلماذا يُعد قتل المدنيين الإسرائيليين جريمة، وإصابة الفلسطينيين أضراراً جانبية؟ لماذا لم ينتبه العالم لهذا الصراع المستمر منذ عقود إلا بعد فقدان أرواح إسرائيلية؟

على القادة الغربيين الحكم على أقوال وأفعال إسرائيل بنفس القدر من الوضوح الأخلاقي والشجاعة التي أدانوا فيها حركة حماس. إن ازدواجية المعايير جلية: من الواضح أن حياة الفلسطينيين أقل قيمة في صراعٍ جُرِّد فيه الفلسطينيون من إنسانيتهم، بما في ذلك تصويرهم كـ"حيوانات بشرية" من قبل مسؤولي الحكومة الإسرائيلية.

هذا النفاق الذي تتبناه الحكومات الغربية لا يخفى على العالم. إن استعداد رئيسة المفوضية الأوروبية، لإدانة الهجمات على البنية التحتية المدنية في أوكرانيا باعتبارها جرائم حرب، ورفضها المتزامن الاعتراف بالمعاناة التي ألحقها القصف الإسرائيلي بالمدنيين الفلسطينيين، ليسا استثناءً على الإطلاق. إن هذه المعايير المزدوجة واضحة للعيان لمن يعيشون في الجنوب العالمي، وهي بمثابة هدية دعائية لدول مثل روسيا والصين.


تواصل الحكومات ووسائل الإعلام الغربية تهميش الأصوات الفلسطينية.

كما كثر الحديث عن التضليل الإعلامي على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر حقائق كاذبة عن الحرب، لكن الأخطر من ذلك هو التغطية الإعلامية الغربية المشوهة التي تُضفي الشرعية على الدعم السياسي الغربي لإسرائيل. وهذا استمرار لممارسة مستمرة منذ عقود. وتهميش الأصوات الفلسطينية والتقليل من معاناتها، مع تجاهل القمع والتشريد اللذين اتسمت بهما السياسة الإسرائيلية تجاه غزة والأراضي المحتلة.

يتساءل العديد من الفلسطينيين، عن سبب دعوتهم للتحدث في وسائل الإعلام الغربية فقط بعد هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أو عن سبب دعوتهم "للتنديد" بحماس أولاً، قبل منحهم منبراً. لقد شوّهت الحكومات الغربية سمعة المتظاهرين وقيدت الحيز المدني للمعارضة، بما في ذلك من خلال حملات قمع استباقية على الحريات الأكاديمية والأصوات الفلسطينية التي تناقش تاريخ الاحتلال الإسرائيلي.

الديمقراطيات الغربية تنتهك التزاماتها الأساسية بالقانون الدولي وحقوق الإنسان. يؤكد الخبراء القانونيون أن إسرائيل، حتى وهي تتصرف دفاعاً عن النفس، لا يمكنها تبرير ارتكاب جرائم حرب مثل العقاب الجماعي للفلسطينيين، والهجمات على المدنيين، والنقل القسري للسكان المدنيين، وقصف المناطق المدنية، وعدم سماحها بدخول الإغاثة الإنسانية إلى غزة. سيُنظر إلى فشل الدول في منع هذه الانتهاكات للقانون الدولي على أنه تواطؤ. فيما يراقب العالم فشل هذه الديمقراطيات بوقف إبادة الفلسطينيين، ستظل عواقب هذا الفشل الجماعي في إدانة العنف الإسرائيلي أو وقفه ملموسة لعقود قادمة.


النفاق الدولي وازدواجية المعايير في التعامل مع قضية الأسرى

في حين ينشغل الإعلام الغربي بإدانة حركة حماس لاحتجازها رهائن إسرائيليين، ويتباكون رحمة وإنسانية على أوضاعهم المعيشية، والخشية على حياتهم. إلا أن هذا الاهتمام لم يُركز على سبب احتجاز إسرائيل لهذا العدد الكبير من الفلسطينيين المعتقلين في الزنازين الإسرائيلية في ظروف غير إنسانية. كما لا يُركز الاهتمام على كيفية وصولهم إلى هناك.

إن ازدواجية المعايير في التعامل مع قضية الأسرى والتحيز لصالح الاحتلال الإسرائيلي وروايته يُقوّض المبادئ الإنسانية الأساسية ويُضحّي بها من أجل مكاسب سياسية تُهون أمام قيم العدالة وحقوق الإنسان. وتغطي الجرائم الوحشية المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الأسرى والمعتقلين في سجونه، وتشجع استمرار صمت المجتمع الدولي وتقصيره في مواجهة هذه الجرائم والانتهاكات.

تحتجز السلطات الإسرائيلية أكثر من عشرة آلاف فلسطيني من الأراضي المحتلة بتهم أمنية مزعومة، وفقاً لمنظمة "هموكيد" HaMoked الإسرائيلية لحقوق الإنسان. وقد اعتقل عدد أكبر بكثير من الفلسطينيين منذ هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومن بين المحتجزين عشرات النساء وعشرات الأطفال.

لم يُدن غالبية هؤلاء بجريمة قط، بما في ذلك أكثر من 2000 منهم رهن الاعتقال الإداري، حيث يحتجز الجيش الإسرائيلي الشخص دون تهمة أو محاكمة. ويمكن تجديد هذا الاعتقال لأجل غير مسمى بناءً على معلومات سرية لا يُسمح للمعتقل بالاطلاع عليها. ويُحتجز المعتقلون الإداريون على افتراض أنهم قد يرتكبون جريمة في وقت ما في المستقبل. احتجزت السلطات الإسرائيلية أطفالاً ومدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء سياسيين فلسطينيين، من بين آخرين، رهن الاعتقال الإداري، لفترات طويلة في كثير من الأحيان.

يعود العدد الكبير من المعتقلين الفلسطينيين في المقام الأول إلى أنظمة العدالة الجنائية المنفصلة التي تفرضها السلطات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. يخضع ما يقرب من ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية المحتلة، باستثناء القدس الشرقية، للقانون العسكري ويُحاكمون في محاكم عسكرية. في المقابل، يخضع ما يقرب من نصف مليون مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية للقانون المدني والجنائي ويُحاكمون في المحاكم المدنية الإسرائيلية. وينتشر التمييز في جميع جوانب هذا النظام.

بموجب القانون العسكري، يمكن احتجاز الفلسطينيين لمدة تصل إلى ثمانية أيام قبل أن يُعرضوا على قاضٍ - وفي هذه الحالة، يكون القاضي العسكري هو الوحيد. ومع ذلك، بموجب القانون الإسرائيلي، يجب مثول الشخص أمام قاضٍ في غضون 24 ساعة من اعتقاله، ويمكن تمديد هذه المدة إلى 96 ساعة عند السماح بذلك في حالات استثنائية.

يمكن سجن الفلسطينيين لمشاركتهم في تجمع يضم عشرة أشخاص فقط دون تصريح حول أي قضية "يمكن تفسيرها على أنها سياسية"، بينما يُسمح للمستوطنين بالتظاهر دون تصريح ما لم يتجاوز عدد المشاركين 50 شخصاً، ويقام في الهواء الطلق ويتضمن "خطابات وتصريحات سياسية.

باختصار، يعيش المستوطنون الإسرائيليون والفلسطينيون في المنطقة نفسها، لكنهم يُحاكمون في محاكم مختلفة بموجب قوانين مختلفة، وتختلف حقوقهم في الإجراءات القانونية الواجبة، ويواجهون أحكاماً مختلفة على نفس الجريمة. والنتيجة هي عدد كبير ومتزايد من الفلسطينيين المسجونين دون مراعاة الإجراءات القانونية الواجبة الأساسية.

كما يتفشى التمييز في معاملة الأطفال. يحمي القانون المدني الإسرائيلي الأطفال من الاعتقالات الليلية، ويمنحهم الحق في حضور أحد الوالدين أثناء الاستجواب، ويحد من المدة التي يجوز احتجاز الأطفال فيها قبل أن يتمكنوا من استشارة محامٍ والمثول أمام قاضٍ.

مع ذلك، تعتقل السلطات الإسرائيلية بانتظام الأطفال الفلسطينيين خلال المداهمات الليلية، وتستجوبهم دون حضور ولي أمرهم، وتحتجزهم لفترات أطول قبل عرضهم على قاضٍ، وتحتجز من لا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً رهن الحبس الاحتياطي المطول. وجدت جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل عام 2022 أن السلطات احتجزت 72% من الأطفال الفلسطينيين من الضفة الغربية حتى انتهاء الإجراءات، بينما لم تتجاوز هذه النسبة 17.9% من الأطفال في إسرائيل.

في حين أن قانون الاحتلال يسمح بالاحتجاز الإداري كإجراء مؤقت واستثنائي، فإن الاستخدام الإسرائيلي الشامل للاحتجاز الإداري ضد السكان الفلسطينيين، يتجاوز بكثير ما يسمح به القانون.

حتى المتهمون بارتكاب جريمة يُحرمون بشكل روتيني من حقوق الإجراءات القانونية الواجبة في المحاكم العسكرية. وقد قبل العديد من المدانين الذين يقضون عقوباتهم بتهمة "جرائم أمنية" ويبلغ عددهم 2331 شخصاً صفقات إقرار بالذنب لتجنب الاحتجاز المطول قبل المحاكمة والمحاكمات العسكرية الصورية، والتي يبلغ معدل الإدانة فيها حوالي 100%.

إلى جانب غياب الإجراءات القانونية الواجبة، دأبت السلطات الإسرائيلية على مدى عقود على إساءة معاملة المعتقلين الفلسطينيين وتعذيبهم. وقد قُدّمت أكثر من 14000 شكوى تعذيب، بما في ذلك التكبيل المؤلم والحرمان من النوم والتعرض لدرجات حرارة شديدة، من قِبل جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، إلى وزارة العدل الإسرائيلية منذ عام 2001.

وقد أسفرت هذه الشكاوى عن ثلاث تحقيقات جنائية دون توجيه أي اتهامات، وفقًا للجنة العامة لمناهضة التعذيب، وهي منظمة حقوقية إسرائيلية. وأفادت منظمة "مراقبة المحاكم العسكرية" أنه في 22 حالة اعتقال لأطفال فلسطينيين وثّقتها عام 2023، قال 64% منهم إنهم تعرضوا لإيذاء جسدي، و73% منهم خضعوا للتفتيش العاري من قِبل القوات الإسرائيلية أثناء احتجازهم.

وأفادت منظمات حقوقية فلسطينية بارتفاع حاد في حالات الاعتقال وتدهور في أوضاع السجناء الفلسطينيين قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، بما في ذلك المداهمات العنيفة، وعمليات النقل الانتقامية من السجون، وعزل السجناء، وقلة فرص الحصول على المياه الجارية والخبز، وتراجع الزيارات العائلية. وقد تفاقمت هذه الأوضاع منذ ذلك الحين.

إن التمييز في الاعتقال والسجن ليس سوى جانب واحد من القمع الممنهج، الذي يُشكل أساس جرائم السلطات الإسرائيلية ضد الإنسانية المتمثلة في الفصل العنصري، والاضطهاد ضد الفلسطينيين، كما خلصت إليه منظمات حقوق إنسان إسرائيلية وفلسطينية ودولية.


حقائق وأرقام:

 منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة عام 1967، يُقدر عدد الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية بنحو 900,000. ويشكل هذا العدد حوالي 21% من إجمالي السكان الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة، وما يصل إلى 42% من إجمالي السكان الفلسطينيين الذكور.

منذ عام 1967، أصدرت إسرائيل ما لا يقل عن 82,000 أمر اعتقال إداري. ولا يزال هناك حاليًا آلاف الفلسطينيين رهن الاعتقال الإداري دون محاكمة أو توجيه تهم إليهم.

خلال عام 2024 اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي 9842 فلسطينياً، من بينهم 3267 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 10 و18 عاماً، واعتقلت 23 عضواً منتخباً في المجلس التشريعي الفلسطيني، و45 صحفياً. واعتُقل 300 فلسطيني بعد إطلاق النار عليهم وإصابتهم بالذخيرة الحية والرصاص المطاطي.

يسمح الاعتقال الإداري للمحاكم العسكرية الإسرائيلية باحتجاز الفلسطينيين في السجون دون تهمة أو محاكمة لفترات ستة أشهر قابلة للتجديد لأجل غير مسمى.

يتعرض المعتقلون الفلسطينيون للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والمهينة في السجون الإسرائيلية.

تُجيز إسرائيل استخدام إجراءات استجواب ترقى إلى مستوى التعذيب.

تحرم المحاكم العسكرية الإسرائيلية المعتقلين الفلسطينيين من الضمانات القانونية والإجرائية والحقوق التي يستحقونها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.

ووفقًا لليونيسف، فإن إسرائيل لديها نظام المحاكم العسكرية للأحداث الوحيد في العالم.

يُحرم السجناء الأطفال الفلسطينيون من مقابلة والديهم ومحاميهم.

في عام 2024، تعرض غالبية السجناء الأطفال الفلسطينيين (٦٥٪) للاعتداء الجسدي والتفتيش العاري. وتعرض ما يقرب من ٦٠٪ من السجناء الأطفال للتهديد بالعنف، بما في ذلك الاغتصاب والإخصاء وهدم المنازل والسجن مدى الحياة والحرمان من الطعام.

  يُنقل المعتقلون الفلسطينيون قسراً خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، في انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في وقت الحرب لعام ١٩٤٩.


ظروف الاحتجاز:

تُعدّ انتهاكات إسرائيل الواسعة النطاق والمنهجية لحقوق السجناء الفلسطينيين انتهاكات جسيمة لكل من القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. وتشمل هذه الانتهاكات:

النقل القسري للمعتقلين الفلسطينيين إلى سجون داخل إسرائيل. وإخضاع المعتقلين الفلسطينيين للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والمهينة. الإهمال الطبي المتعمد. سوء ظروف النظافة.

والحقيقة الظالمة أن لدى إسرائيل نظام المحاكم العسكرية للأحداث الوحيد في العالم.


التدابير التعسفية والتقييدية والعقابية

الحبس الانفرادي لفترات طويلة، بما في ذلك للقاصرين. انتهاك حقوق السجناء في الزيارة والتواصل مع عائلاتهم. ظروف الاحتجاز مزرية. بعض مراكز الاحتجاز عبارة عن مبانٍ، بينما البعض الآخر مجرد خيام نُصبت داخل معسكرات عسكرية، مما يُعرّض السجناء لظروف جوية قاسية. مرافق مكتظة. قلّصت إسرائيل، القوة المحتلة، بشكل كبير المواد المجانية التي تُقدّمها إدارة السجن لتلبية الاحتياجات الأساسية للسجناء منذ عام 1994.

يعتمد السجناء والمعتقلون حالياً بشكل رئيسي على مقصف السجن لشراء مستلزماتهم الأساسية، بما في ذلك الملابس والطعام ومستحضرات النظافة الشخصية ومواد التنظيف. يبيع المقصف المواد بأسعار تفوق بكثير سعر السوق خارج السجن.

 عدد كبير من السجناء إما جرحى أو مرضى. يوجد حاليًا 2800 معتقل فلسطيني يعانون من تدهور في حالتهم الصحية. اكتسبت عيادات السجون سمعة سيئة لتقديمها الأسبرين فقط للعلاجات الصحية، وجميع الأطباء داخل العيادات هم من الجنود.

ساعات نقل المعتقلين الطويلة من السجون الإسرائيلية إلى المحاكم العسكرية تُرهق المعتقلين.

وفقاً للأرقام الإسرائيلية، أفادت مصلحة السجون الإسرائيلية بتحقيق دخل قدره 53.82 مليون دولار أمريكي من بيع المواد الغذائية ومواد التنظيف وغيرها من المواد الأساسية للسجناء الفلسطينيين بأسعار تزيد بنسبة تصل إلى 140% عن متوسط سعر السوق.


الإطار القانوني:

تُشكل الانتهاكات المذكورة أعلاه التي يتعرض لها المعتقلون الفلسطينيون انتهاكاً لكل من القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، وهي مُكرسة في المواد التالية: المواد (3، 7، 9، 13، 10، 17، و18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والمادة (8(2)) من نظام روما الأساسي لمحكمة العدل الدولية.

المادتان (49 و76) بشأن عدم مشروعية احتجاز الأشخاص المحميين خارج الأراضي المحتلة، والمادة 78 من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في الوقت المناسب.

اتفاقية جنيف لعام ١٩٤٩. المواد (٤، ٩(٤) و١٤) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل. اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة. القاعدة (٩٠) من القانون الدولي الإنساني العرفي للجنة الدولية للصليب الأحمر.

المادة (٧٥(٢)) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف لعام ١٩٤٩. المادة (٤(٢)) من البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقية جنيف لعام ١٩٤٩. القاعدة (٢٤) من قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء. المادة الثانية (أ) والثانية (أ)ثالثًا من اتفاقية قمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها. قرار مجلس الأمن الدولي رقم 605 لعام 1987.


التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي تجاه الأسرى الفلسطينيين:

بصفتها القوة المحتلة، تتحمل إسرائيل مسؤولية إدارية ومالية عن الأراضي المحتلة وشعبها.

تنص المادتان 98 و81 من اتفاقية جنيف الرابعة على التزامات القوة الحاجزة بشأن مخصصات الأسرى. ولا تفي إسرائيل بهذا الالتزام. والحقيقة أن اتفاقية جنيف الرابعة تُلزم إسرائيل، بصفتها القوة المحتلة، بتقديم مخصصات للمعتقلين الفلسطينيين. وتنص المادة 98 من اتفاقية جنيف الرابعة على أن القوة الحاجزة يجب أن تقدم مخصصات للمعتقلين كجزء من مسؤوليتها تجاههم.

تحظر المادة 81 من اتفاقية جنيف الرابعة أي خصم من رواتب أو دخل المعتقلين. كما يضمن تقديم الدعم للمعالين لدى المعتقلين. كما تتحمل سلطات الاحتلال مسؤولية توفير النفقة لمن يعيلهم المعتقلون عندما لا يستطيعون ذلك بأنفسهم. إن غالبية المعتقلين هم المعيلون الماليون الوحيدون لعائلاتهم، مما يعني أن إسرائيل ملزمة بإعالتهم.


الطريق إلى العدالة

إذا كان للقانون الدولي معنى، فيجب تطبيقه بالتساوي. لا يمكن للعدالة أن تكون انتقائية. الطريق إلى العدالة واضح، ويبدأ بمحاسبة عالمية. إن النفاق في معاملة العالم للأسرى الإسرائيليين والفلسطينيين هو فشل أخلاقي ذو أبعاد صادمة. فبينما يُعامل الأسرى الإسرائيليون كإنسان، ويُناضل من أجلهم، ويُنقذون، يُتجاهل الأسرى الفلسطينيون ويُشيطنون ويُتركون ليتحللوا. ويعزز هذا التناقض الروايات الإعلامية. يُوصف السجناء الإسرائيليون بـ"الرهائن" أو "الجنود المختطفين"، مما يثير التعاطف والإلحاح. أما المعتقلون الفلسطينيون، حتى لو كانوا أطفالاً أو عاملين في المجال الإنساني، فيُوصفون بـ"الإرهابيين" أو "التهديدات الأمنية".

هذا التلاعب اللغوي متعمد. وهو مصمم لتجريم أي محاولة من جانب الفلسطينيين لمقاومة الاحتلال من خلال تجريدهم من وضعهم القانوني كسجناء سياسيين. الهدف واضح: ضمان النظر إلى الفلسطينيين كمجرمين، وليس كضحايا لقوة احتلال.

تفشي النزعة العدمية بين حركة التنوير المضاد وتجارب معاداة الحداثة، مقاربة جذرية/ د زهير الخويلدي



العدمية هي فلسفة ترفض القيمة والإحساس بالوجود. لا وجود لحقيقة موضوعية أو قيمة أخلاقية أو كل شيء ولكن في الحياة. من الواضح أن هذا هو بمثابة رفض للمبادئ والوصايا الأساسية للمجتمع. يبدو أن المصطلح "عدمية" هو مصطلح لاتيني "nihil" والذي يعني "لاشيء". إنه مرتبط برؤية متشائمة للحياة، حيث لا وجود لها بكل معنى الكلمة أو الموضوع. انتشرت العدمية على يد رواية "الآباء والأطفال" التي ألفها إيفان تورغينييف في عام 1862. وقد أصبحت شخصية بازاروف، العدمي، رمزًا للفكر العدمي. وقد أثرت العدمية أيضًا على المفكرين مثل لودفيغ فيورباخ، وتشارلز داروين، وهنري بوكلي. هناك أشكال عديدة من العدمية، بما في ذلك: العدمية الوجودية: التأكيد على أن الوجود الإنساني ينبع من الإحساس والوجود. العدمية الأخلاقية: عدم وجود قيم أخلاقية للأهداف، يرفض فكرة "السعادة" و"السوء". العدمية المعرفية: ليس هناك إمكانية لمعرفة موضوعي وآمن. اما علاقة العدمية والفلسفة فلقد تم دراسة العدمية على نطاق واسع وناقشها فلاسفة مثل فريدريك نيتشه، الذين ارتبطوا بالعدمية بموت الله وأزمة القيم الغربية. استكشف مارتن هيدجر أيضًا العدمية في تفسيراته لفلسفة نيتشه. كما ارتبطت العدمية بحركات التمرد ضد النظام الاجتماعي والتقاليد. قد يكون بمثابة رد فعل على فقدان القيمة والتقليدية. ان العدمية هي فلسفة لا معنى لها ولا قيمة للوجود، وترفض أفكار الحقيقة الموضوعية والقيم الأخلاقية والحياة. هناك العديد من أشكال العدمية التي تم دراستها ومناقشتها على نطاق واسع من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع.


في استكشافه المُحفّز للعلاقة بين الحداثة والحداثة والعدمية، يُواجه شين ويلر إحدى المُشكلات المحورية في الفكر الجدلي الغربي: وجود مسارين مُتناقضين إلى اللامكان. يُمكن أن تكون العدمية حالة من الانغماس المفرط في العالم أو الانفصال المُفرط عنه. في نقد الحداثة، تُمثّل العدمية الآلية المُختلّة والوحشية التي تُجبر قيم التنوير للعقل والتقدم على بلوغ حدود مُرعبة، وهي الجبار الذي يُهيئ الوحل أولًا، ثم يُواصل الضغط بلا هوادة لإنتاج التقنيات البدئية لحروب القرن العشرين ومحرقة الهولوكوست، مُستبدلًا في النهاية المستنقع بالأرض القاحلة. ولكن هناك أيضًا عدمية الإنكار الدنيوي، والانفصال عن الحياة وقيمها الوضعية، والموقف الفلسفي والسياسي الذي ينطوي على رفض المُطلقات الأكيدة للقوة المُهيمنة. في ظل هذه الصيغة الثنائية، يكون العدمي مُطوّر عقارات وراهبًا في آنٍ واحد، ويتتبع ويلر تشوهات هذا المفهوم المُزدوج الجوانب وتطبيقاته وهو يشق طريقه عبر التاريخ كاختصارٍ مُهينٍ لأعداء المرء. تُقدم دراسة ويلر سردًا للاستحضارات الأوروبية المُختلفة للعدمية، بدءًا من أصولها اللاهوتية في منتصف القرن الثامن عشر وانتهاءً بدور العدمية في الفن والفلسفة ما بعد الحداثية. ويعود ويلر طوال الكتاب إلى نظريات فريدريك نيتشه، الذي يضعه "بلا شك أهم شخصية في تاريخ نشر مفهوم العدمية". يُشكِّل الفكر النيتشوي إنتاج دلالات عدمية مستقرة من خلال تصنيف كلٍّ من قمع أنظمة السلطة المُقيّمة ذاتيًا واستراتيجيات المقاومة ضدها على أنها عدمية. علاوة على ذلك، يُقسّم ويلر هذه الاستراتيجيات إلى أشكال "فاعلة" و"سلبية"، تطهيرٌ تمهيديٌّ وانكفاءٌ ذاتي. يدّعي ويلر أن نيتشه يُفضّل العدمية الفاعلة، المُتمثلة في القطيعة العنيفة التي شهدتها الثورة الفرنسية مع أساطير التقاليد، ويرى في تمسك المسيحية بالقيم الأخلاقية شكلاً متطرفاً من العدمية السلبية. وبالتالي، لا يقتصر الأمر على أن يتعاطى ويلر مع الخصوصية التاريخية للعدمية فحسب، بل أيضاً مع تناقضها العالمي الظاهر. وبالنظر إلى هذه المعايير، فليس من المُستغرب أن يُشدّد في بداية العمل على أنه "لا وجود للعدمية بحد ذاتها"، وأن يُصبح وصف نيتشه لها بأنها "أغرب الضيوف" لازمةً طوال تحليل ويلر. إذا كانت العدمية نقدًا للحداثة وتهمةً موجهةً إلى هؤلاء النقاد أنفسهم، فإن العدمية تشغل بالضرورة علاقةً غامضةً بالحداثة، التي يُعرّفها ويلر، بشكلٍ عام، بأنها الاستجابات الفلسفية والجمالية للحداثة. تُعرّف العدمية بهذا الشكل بأنها منافسٌ للحداثة وشكلٌ أو استراتيجيةٌ لها، ويتمثل التحدي المستمر لنهج ويلر في إثبات قدرة هذا المصطلح على الصمود أمام الضغوط الدلالية للمعنى نفسه ونقيضه. يبدأ ويلر باقتراح علاقة بين الحداثة الفلسفية والحداثة الجمالية، حيث تجد الأولى في الثانية أقوى الأدوات ضد عدمية الهيمنة. أما بالنسبة لنيتشه، فهي الفن الديونيسي، الذي تُذيب سيولته الذاتية التقييم الوضعي وتُعيد الحياة كعملية صيرورة مُفككة. بالنسبة لمارتن هيدجر، فإن شعر فريدريش هولدرلين هو الذي يُذكّر بقداسة الوجود لمجتمع نسيها، وبالنسبة لثيودور أدورنو، فإن كتابات فرانز كافكا وصمويل بيكيت، التي تُقوّض جمالياتهما في النفي اللغوي اليقينيات القمعية للاستبداد الذي تدعمه لغة القانون. وبطبيعة الحال، غالبًا ما يُرتبط هؤلاء الفلاسفة والفنانون أيضًا بالترويج للعدمية، عادةً من قِبل النقاد على اليمين السياسي، وبالتالي، كما يُشير العدمية النيتشوية، فإن معاداتهم للعدمية تُوصَم بالعدمية من قِبل العدميين الذين يسعون إلى معارضتهم. على سبيل المثال، فُسِّرت حملة نيتشه للتغلب على القيمة الأخلاقية والذاتية المُدرَكة لحداثة بيكيت المتأخرة على أنها إفناء للمعنى الموضوعي. ومع ذلك، في دائرة موبيوس هذه من الاتهامات، ما يتضح هو أن كلا جانبي العدمية يعتبران الجمالية تلعب دورًا محوريًا. من غير المستغرب أن ينحاز ويلر إلى الحداثيين. يُعدّ قسم "من فلوبير إلى دادا"، الذي يُمثّل الجسر الزمني بين نيتشه والحداثة الفلسفية والجمالية في منتصف القرن العشرين، الأقلّ إشراقًا بين فصوله، ولكن ما إن تتجاوز هذه الفترة حتى تستعيد تحليلاته قوتها الاستفزازية. في مناقشاته حول هيدجر، وألبير كامو، وموريس بلانشو، وبول سيلان، يُحدّد عمليةً تُصبح فيها استخداماتهم المختلفة للنفي، والتي تجعلهم عُرضةً لتهمة العدمية، غير مكتملة حتمًا. أي أن شيئًا ما ينجو دائمًا من النفي؛ فالعدمية نفسها تُنفي بقوتها الخاصة. ومرة أخرى، نصل إلى عتبةٍ غريبة، حيث يبقى ما يُفنى طيفيًا في حضور غيابه. يرى بلانشو أن العدمية عاجزة، ولذلك فإن العالم المنفي في كتابات كافكا يُفضي إلى تجاوز إله ميت، لا إلى فناء الإله نفسه، وهذا الإله الميت أقوى بكثير لأنه لا يُقتل مرة أخرى. في شعر بول سيلان، نجد هذا الشعور: "لا شيء كنا، نكون، سنبقى، مزدهرين: العدم، وردة لا أحد."  يُمثل هذا الإزهار في الفراغ تفاؤل، وفي بعض المعاني، أجندة سياسية، لأولئك الذين يجادلون بأن العدمية، كونها دائرة مغلقة، يجب دحرها من الداخل، وأن النفي يُوفر أرضًا خصبة بشكل غريب لظهور شيء لم يُتخيل بعد. يُذكرنا هذا بالموقف الرواقي لثورة كامو المُحكوم عليها بالفشل ضد العبث في "أسطورة سيزيف"، مع أن الرواقية، كما يُشير ويلر، قد انتُقدت أيضًا باعتبارها واحدة من أشهر الحركات العدمية في العالم.


 يُشدد ويلر على الطبيعة غير الغائية لهذا الشكل من العدمية كما يتجلى في الحداثة الجمالية. يُجسد بيكيت هذه الروح الأخلاقية لأنه رأى أن دور الكاتب هو التعمق في حصن اللغة للكشف عما يكمن وراءها، سواء كان ذلك شيئًا أم لا. هذا هو تمهيد الطريق للعدمية النشطة عند نيتشه، ويتتبع ويلر روحًا مماثلة مستمرة في المناورات الفلسفية والجمالية لما بعد الحداثة. في هذا القسم الأخير، ينظر ويلر في إمكانية التمييز بشكل قاطع بين ما بعد الحداثة والحداثة في علاقتهما بالعدمية، ويخلص، كما هو متوقع، إلى استحالة تحقيق تمييز "محكم" . ويجادل بأن ما بعد الحداثة تمتلك عدمية غريبة كسابقاتها، بل إن إحدى متع هذا الكتاب هي رؤية غموض جدلي مماثل يلاحق القرون. إن تخلي ما بعد الحداثة عما يسميه إرنستو لاكلو "أسطورة الأسس" لا ينتج شيئًا، بل انتشارًا لأشياء متعددة، ومع ذلك، فقد تم انتقاد هذا التبني للبنى الخطابية باعتباره تحطيمًا للعالم الموضوعي. بالنسبة لجاك دريدا، فإن العدمية هي إفناء الآخرية، ونظافة الفاشية، والتي يقاومها الأدب والدراسة التفكيكية للنصوص من خلال إنتاج مساحة تحافظ على الاختلاف. إن إنتاج مثل هذه المساحة يعني مستقبلاً وشيكاً قد يأتي ليحتلها، وهنا نرى صدى هيدجر، الذي كان يعتقد أن مجتمعه يعيش في فترة زمنية فاصلة بين رحيل مجموعة من الآلهة ووصول المجموعة التالية. تُسلَّط الأضواء على التشابكات الخانقة لمفهوم العدمية في القسم الأخير من الكتاب، حين يتساءل ويلر: "هل يُمكن إيجاد في ما بعد الحداثة الجمالية مخرجًا من عقدة الحداثة-الحداثة-العدمية؟". أحد سبل الهروب من هذه العقدة هو تفصيل "العدم"، وهي فكرة يُلمِّح إليها ويلر لكنه لا يُطوِّرها بشكل كبير. بمعنى آخر، هل "العدم" الوجودي الذي أعقب أهوال أوشفيتز هو نفسه "العدم" الأيديولوجي للعدمي الشهير تورغينيف، بازاروف؟ ستُبدَّد غرابة العدمية إلى حدٍّ ما لو وُجدت مفردات تُحدِّد فئات الفراغ المختلفة التي وجدت السياسات والفلسفات والجماليات المختلفة نفسها فيها. لا شك أن جزءًا من انزلاق العدم هو أنه يتحدى مثل هذه الخرائط، ونظراً لهذا التحدي المفاهيمي، يقدم ويلر دراسة ثاقبة بشكل ملحوظ لهذا الظل المتغير الشكل.  كيف يمكن من الناحية الفلسفية الانتصار على العدمية؟


المصدر:


شين ويلر، الحداثة والعدمية (باسينجستوك: بالجريف ماكميلان، 2011)

Shane Weller, Modernism and Nihilism (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2011.


كاتب فلسفي

بين مذبحة كنيسة "سيدة النجاة" ومذبحة كنيسة "مار الياس" المسيحية الشرقية قد هزمت / جواد بولس

 


أثار الاعتداء الإرهابي الدموي الذي نفذ يوم الاحد الفائت على كنيسة "مار الياس" في حي دويلعة في العاصمة السورية دمشق  موجة من ردود الفعل المستنكِرة والرافضة. كانت الجريمة كبيرة وبشعة، ودماء عشرات الضحايا الأبرياء استفزت الكثيرين وأدت الى موجة من الاستنكارات والشجب في سوريا وخارجها. 

يستطيع القارئ أن يتابع تفاصيل الجريمة من سيل الأخبار التي تطرقت الى هذه الحادثة. اخبار سيطويها الزمن وسيطمرها غباره، زمن الدم والحقد والجهل والتفاهة والكراهية. 

سوف تنضم هذه الجريمة الى سابقاتها من جرائم نفذت على خلفيات طائفية، واعتداءات أسقطت أعدادا من الضحايا الذين أصبحوا ذاكرة للتاريخ؛ وستُراكم، كما راكمت سابقاتها أيضا، جرعات من الخوف في نفوس من بقوا أحياء من أبناء الأقلية المسيحية، ويواجهون شرقا عليلا لا يترك لأهله فرصا للعيش، الا بمذلة وبخوف او بالبحث عن نجاة وملجأ خارج أوطانهم. لقد أعادتنا جريمة كنيسة مار الياس الى أزمة مسيحيي الشرق، وذكّرتنا بأحد أهم أسباب تناقص أعدادهم  في معظم دول المنطقة، وبالتلاشي كليا في أجزاء منها.  لا تقتصر أزمة المسيحيين العرب على سوريا وحسب، وان كانت  أحداثها تتصدر اليوم ما يجري في منطقتنا، فلقد سبقتها أزمات شبيهة في فلسطين ومصر ولبنان والعراق. في كل مرة تحدث جريمة، كتلك التي ارتكبت هذا الاسبوع في دمشق، تتزاحم اقلام الكتاب العرب في التأكيد على كون هؤلاء المسيحيين عربًا أقحاحًا، سكنوا البلاد قبل كل وافد ومحتل، وأنهم أصحاب حضارة عريقة وثقافة وهوية شرقية خالصة، وقد بنوا مع من سكنوا حاضراتهم وأسَّسوا نسيجًا راقيًا لمجتمع شرقي أضاء فضاء المنطقة والجوار. 

لقد كانت عروبتهم ساطعة وانتماؤهم لأوطانهم خالصا، وقد وقفوا وساندوا أبناء قومهم فقاسموهم الأرض والخبز، والحلم والتحدي. هكذا يمضي المحللون وبعض المؤرخين ويذكرونا بانه حتى عندما غزا بعض الطامعين أرضهم المقدسة تخندق مسيحيو البلاد مع أبناء أمتهم، وذادوا عنها في حرب أصاب من سمّاها حروب"الفرنجة" لا "الحروب الصليبية"، ليدلل على أن الصليب، الذي تمسَّح به هؤلاء الغزاة الطامعون، ما هو إلا ذريعة وأداة تمويه وخدعة. فصليب عيسى وحنا وعلي وجمال في فلسطين والشرق، كان الصليب الحق، صليب الناصرة والقدس ودمشق الذي حافظوا عليه جيلا بعد جيل  وإن كانت طريقهم طريق آلام وآمال.   

"ليل سوريا طويل" وليل فلسطين طويل وبارد، فهنا أيضا ، لا في العراق وسوريا فحسب، في مهد المسيح والمسيحية، يتبخر المسيحيون وتقل أعدادهم يومًا بعد يوم. لا حاجة لإغراق القارئ بالإحصائيات وهي كثيرة، فقد نشرها كُتَّابٌ كانوا قد تطرقوا إلى ظاهرة هجرة مسيحيي الشرق أو تهجيرهم. لقد حلل هؤلاء الكتاب وسبروا عوالم وعوالم، ولخَّصوا وأجادوا؛ فالظاهرة تقلق، لا الكتاب المسيحيون وحدهم، بل كل عاقل وغيور على ما  بُني من نسيج اجتماعي صحي في مجتمعات عرفت كيف تمتزج  فيها الثقافات والحضارات وقيم الديانات والإنسانية. 

مع كل جريمة تكثر المدائح في حق التعددية والتسامح وفضل الهوية الجامعة على خناجر الفتنة والطائفية والتكفير والقتل. يكتبون من إجل ايقاف النزف ودرء اكتمال المصيبة وتنتشر لقاءات التسامح ومنصات يملؤها رجال دين وكأنهم لا يعيشون بين مجتمعاتهم  والمصلين لا يأمون معابدهم. نسمعهم يرددون تعاليم الديانات السمحة المسالمة المحبة لمن ليس على دينهم ونقول فليكن، فبعض هذا الكلام أحسن من عدمه، نقول ونعرف ان المجزرة التالية آتية، فنتذكر أن قضية مسيحيي الشرق هي قضية كل أهل الشرق وهي أكبر من لقاء للتسامح، ومأساتهم أعمق وأعقد من وعظة عن التآخي. 

يعتقد البعض أن المشكلة تكمن في "الدين" نفسه؛ فلا دين يرضى أن يعيش في عباءة دين آخر أو تحت عمامته؛ ويقول آخر أن المشكلة ليست في الأديان نفسها بل بمن يدَّعيها بعصبية وبجهل وعندما يجند الدعاة دينهم حتى يصبح مولدات لاقصاء الغير وأدوات لذبحه، مثلما حصل مرارا في عدة معابد ومؤخرا في كنيسة مار الياس- دويلعه. 

عانى مسيحيو فلسطين ما عاناه مسيحيو الشرق كلهم، بيد أن أزمتهم  تفاقمت في عام النكبة التي "أرخت سدولها"على جميع الفلسطينيين ولم ترحم من بينهم احدا، مسلما كان أم مسيحيا، وشكلت محطة فاصلة في تهجيرهم وانقاص اعدادهم حتى باتوا في فلسطين أقلية ضئيلة في طريقها الى الاندثار. لقد كتب الكثير عن أسباب حدوث هذه الحالة، في فلسطين والشرق عامة، ، ولن أسرد في عجالة،  ما قيل وما كتب، لكنني أؤكد على أن من أخطر أسباب نشوء هذه الحالة، هو المناخ العام السائد في معظم الدول العربية والمهيمن بين مجتمعاتها. لقد تضافرت مجموعة من العوامل، بعضها من توظيف فئات محلية تعتاش على هذه المناخات المريضة، وبعضها تغذيه عناصر اجنبية ودخيلة تزرع الفرقة والفتن كي تحصد النفط والغاز والمياه والذهب، تضافروا وخلقوا فضاءات تخمّر وتحضن وتنثر بذور رفض الآخر واستعدائه، وتصنع مجتمعات يتحكم فيها الفقر والقمع والجهل وقاعدة "من ليس على ديننا فهو ليس منا". لقد تداعت هذه الحالة منذ عقود طويلة وتفاقمت حتى امست شعوب الشرق ضحايا لانظمة الاستبداد ورعاتها، وحتى سيطر الخوف على شرائح واسعة من المسيحيين وفقدوا مشاعر  الطمأنينة والاستقرار واستبدلوها بمشاعر الغربة والاغتراب وبالنزعة الى الهجرة والتفتيش عن شواطى يحسبونها أكثر أمنا وخلاصا. 

يغذّي بعض الجهلة والمغرضين من بين الفرق الاسلامية الاصولية، في سوريا وفلسطين والعراق وبيننا، مقولة تجزم بأنك:  "ما دمت مسيحيا فأنت صليبي" ومصيرك كمصير العدو دونالد ترامب وككل كافر ومرتد: الى جهنم. واذا كنت علمانيا فانت زنديق وفاسق وكافر.  يفعل هؤلاء ما يفعلونه عامدين على ترسيخ عقيدة التفرقة بين مسيحية صليبية، لا يوجد غيرها، وبين اسلامهم ؛ ويزرع هؤلاء هذه المفاهيم في عقول اتباعهم حتى يؤمنوا بأن كل مسيحي، غربي او عربي على حد سواء،  هو عدو الاسلام، ومصيره على الأرض جهنم، ويؤكدون لاتباعهم أيضا، بإن كل علماني وغير متدين هو أيضا زنديق وفاسق وكافر، ومصيره، على الأرض، أيضا  جهنم. 

كيف ولدت هذه المناخات الخطيرة وهل يمكن حسرها أو مواجهتها؟ الأسباب كثيرة وكما قلنا بعضها من صناعات محلية تربي التفاهة والاستحمار، وبعضها الأخر مستورد من غرب معربد واستعمار مستوحش، ولجميعهم مصلحة بالتنابذ وبالاقتتالات الطائفية، خاصة بعد هزيمة التيار القومي العربي الذي اغتنى واشتد ببناته العرب المسيحيين والمسلمين وشكل حاضنة وحصنا لجميعهم ، وفي فلسطين بعد هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية وتراجعها وهي التي اغتنت كذلك ببناتها من مسيحيين ومسلمين وشكلت لهم أيضًا حصنًا وحاضنة آمنة. فهل ممكن "أن تطوف سماء الشرق بالضياء وتنشر شمسها في كل سماء"? لا أظن!   

لقد سمعت كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر اليازجي في جنازة ضحايا مذبحة كنيسة مار الياس، وشعرت بقوة ايمانه واصراره على هويته السورية العربية المسيحية وتأكيده على التوجه "لكل سوري، مسلما كان او مسيحيا، في هذا البلد لأن ما حصل ليس حادثة فردية ولا تصرفا فرديا وليس اعتداء على شخص او على عائلة. انه اعتداء على كل سوري وعلى كل سوريا  وهو اعتداء على الكيان المسيحي بشكل خاص." 

هكذا قال وعتب على رموز النظام الجديد لان احدا منهم لم يأت الى مكان المجزرة لا متفقدا ولا معزيا. أحسست أنه يتهمهم  ولا يعاتبهم فقط، ربما لأنه يعرف أن ما بين مذبحة كنيسة "سيدة النجاة" في العراق عام 2010، وبين مذبحة كنيسة "مار الياس" في دمشق، هزيمة المسيحية الشرقية قد أنجزت تماما !   


صَرْحُ البَلاغةِ/ الدكتور حاتم جوعيه

 


  

 (  قصيدة  رثائيَّة  في  الذكرى  السنويَّة على  وفاة  الشاعر والأديب الكبير المرحوم الدكتور " جمال قعوار "  )  


صَرُحُ البلاغةِ طولَ الدَّهرِ مُنتصِبُ      بكَ القريضُ ارتقى والفكرُ  والأدَبُ

أبا    ربيع ٍ   مَنار  الشعرِ    سُؤدُدَهُ      تشعُ  كالبدرِ  إذ  ما  غابتِ  الشُّهُبُ

أنتَ  الذي  بجبينِ  الشَّمسِ   مُقترنٌ      لكلِّ   خطبٍ   جليلٍ   كنتَ    تُنتدُبُ

كم من نضار ٍ وَدُرٍّ  فيكَ  قد نظمُوا      الشّعرُ   يعجزُ   والأقوالُ   والخطبُ

لا المَدحُ يُعطيكَ ما قد كنتَ  أنتَ لهُ      أهلا  وَكُفئا..  ولا  التاريخُ   والكتبُ

وانتَ   أنتَ   مدى   الأيَّامِ    أغنيةٌ      في سحرها  ينتشي الأحرارُ والنُّجُبُ

أسَّسْتَ  في  عالم ِ الإبداعِ   مدرسَةً      تاهَتْ    برونقِها  ،   أيَّامُها     قشُبُ 

وَشعرُكَ  الشِّعرُ  لا   نظمًا   يُسابقهُ      كالدُّرِّ    مُؤتلِقٌ  ،   سَلسالُهُ    عَذِبُ

وَيَأسُرُ  الروحَ   والوجدانَ   رونقُهُ      لِوَقعِهِ   تنحني   الأسيافُ   والقضُبُ 

يا    فارسا   بهرَ   الدُّنيا   وأذهَلهَا       ففي    روائِعِهِ  الإعجازُ    والعَجبُ 

وَدوحةُ  الشعرِ طول الدهر  باسقةٌ       نمَّيتَهَا  أنتَ ، لم  تعصفْ  بها  نُوَبُ 

والآنَ ترحلُ عن أهلٍ  بكَ افتخَرُوا      نهارُهُمْ   كالدُّجى ،  والدَّمعُ   ينسكبُ 

تسربلوا  الحِلمَ   والإيمانُ   دَيْدَنُهُمْ       كيفَ  السُّلوُّ   ونارُ   الحزنِ   تلتهبُ

الكلُّ أضحَى رداء  الحزنِ  صبغتهُ       فالفكرُ  مضطرمٌ    والقلبُ   مُكتئِبُ 

في  جنَّةِ  الخُلدِ  أنتَ  الآنَ   مُبتهِجٌ       والجوُّ   بعدَكَ   والآفاقُ   تصطخِبُ 


الفتن والكنائس في سوريا بين المتفجرات والطائفية والمذهبية/ فؤاد الحاج

 


ملاحظة إن المعلومات الواردة في هذا النص مقتطفات منقولة عن بعض المواقع والكتب التاريخية وهي غير مرتبة تاريخياً وغير شاملة لكل الكنائس في سوريا، إنما هي لمحة تاريخية موجزة لمن يهمه أمر التعايش السلمي بين مكونات المجتمع السوري، مع التنبيه إلى أنه لا يوجد إحصاء موثق لعدد سكان سوريا وطوائفها ومذاهبها الدينية، منذ عام 2011  بعد تهجير الملايين من السوريين ومقتل مئات الآلاف في المعارك التي دارت رحاها في مختلف مناطق سوريا، إضافة إلى الذين تم قتلهم في السجون والمعتقلات، ناهيك عن المفقودين ومكتومي القيد الذين ولدوا في مخيمات اللجؤ في البلدان المجاورة لسوريا لبنان والأردن ومصر وتركيا على سبيل المثال، وكذلك في الدول الأوروبية وأستراليا وكندا وأميركا، مع تقديرات مبدئية عن تناقص أعداد المسيحيين في سوريا منذ بدء الأحداث بتاريخ 15 أيار/مايو 2011 إلى نسبة 2 في المئة في كافة المحافظات السورية، وبعد التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق بتاريخ 22/6/2025 التي تم خلالها استهداف مواطنين أبرياء وهم يؤدون صلاتهم بخشوع بلغ عددهم أكثر من عشرين شهيداً وعشرات المصابين بحالات مختلفة. 

أبدأ تاريحياً بفتنة سنة 1860 التي بدأت في جبل لبنان وزحلة ثم انتقلت إلى سوريا بدعم وإسناد من قوى خارجية، تماماً كما يحدث في هذه الأيان، التي تعيد إلى الأذهان ما عرف بفتنة أو (سنة الطوشة) أو (الفتنة الطائفية الكبرى)، التي انتهت بثورة الفلاحين على الإقطاعيين بقيادة طانيوس شاهين، وقد امتدت تلك الفتنة إلى سوريا حيث داهم الغوغائيين الحي المسيحي داخل مدينة دمشق، ليحرقوه ويدمروه بالكامل، بعد اندلاع الفتنة في جبل لبنان بين المسيحيين الموارنة والدروز. وقد بدأت هذه الأحداث الدامية بدمشق مع دخول فتية من المتطرفين المسلمين إلى منطقة باب توما في 7 يوليو/تموز 1860 حيث قاموا برسم شارات الصلبان على الأراضي ودوسها بأقدامهم، ما أدى إلى اعتقالهم وإجبارهم على تكنيس الشوارع التي عبثوا بها، فهب أحد الأهالي من المسلمين المتطرفين صائحاً: "يا مسلمين، يا أمة محمد، المسلمون يكنسون حارة النصارى"، فاشتد الصراخ والعويل وردّ الجمع بصوت واحد: "يا غيرة الدين" في تلك الأثناء تدفق الأشقياء و"الزعران" والمرتزقة إلى منطقة باب توما من كل حدبٍ وصوب، وقد وصل عددهم كما يروى إلى عشرين ألفاً، بالتزامن مع انسحاب القوات العثمانية النظامية من الحيّ المسيحي، وفي غضون أسبوع قتل 5000 مسيحي في دمشق، ما بين وافد من لبنان أو ساكن أصلي. وتم إحراق جميع الكنائس وتهجموا على الرهبان وقتلوا عدداً منهم، ثم تهجموا على القنصليات والبعثات التبشيرية البروتستانتية والكاثوليكية، ودير رهبان الإسبان ودير العازارية الفرنسي وعدد من المدارس ومنها المدرسة الآسية في باب توما في دمشق ومقر "أخوات الرحمة" للراهبات، الذي تأسس قبل عدة أشهر قليلة في دمشق بدعم ماليّ من الإمبراطور نابليون الثالث. إضافة إلى الكنيسة المريمية، وهُدم مصلى حنانيا الشهير، ودُمرت كنيسة سلطانة العالم للأرمن الكاثوليك في باب توما، وكنيسة سيدة النياح للروم الكاثوليك في حارة الزيتون، وكنيسة القديس منصور للآباء العازاريين في باب توما، وكنيسة القديس بولس المجاورة لدير الرهبان الفرنسيسكان، وكاتدرائية القديس أنطونيوس المارونية في باب توما، وكنيسة القديس بولس للسريان الكاثوليك في باب شرقي، وكنيسة القديس سركيس للأرمن الأرثوذكس في باب شرقي أيضاً. ووصلت يد الإجرام إلى ريف دمشق، حيث دُمرت ثلاثة بيوت مسيحية في وادي بردى، وقُتل خمسة مسيحيين في بلودان وحُرق 52 منزلاً. وقد تكرر المشهد ذاته في دمر والهامة وفي معرة صيدنايا وقرية معرونة التي ذُبح فيها 15 من شبابها المسيحيين. أما مسيحيو سرغايا فقد نجوا من القتل بمساعدة أحد أعيان المسلمين، ولم يتعرض أحد، لا إلى المسيحيين ولا إلى الكنائس في حي الميدان، خارج سور دمشق. 

دور الأمير عبد القادر الجزائري

فتح الأمير عبد القادر الجزائري أبواب داره في حي العمارة خلف الجامع الأموي، لاستقبال المسيحيين الهاربين من المجزرة. كان الأمير الجزائري نزيل دمشق منذ خمسينات القرن التاسع عشر وقد سانده في حماية المسيحيين عدد من الوجهاء المسلمين بفتح دورهم أيضا مثل صالح آغا المهايني، وصالح الموصلي، وعبد اللّه العمادي (شقيق جد وزير الاقتصاد محمد العمادي) وسعيد آغا النوري وعمر آغا العابد (الجد الأكبر لأول رئيس جمهورية محمد علي العابد) والمفتي محمود الحمزاوي (جد الشاعر خليل مردم بك)، والتاجر عثمان جبري، والشيخ سليم العطار (مدرس البخاري في جامع سليمان باشا)، والشيخ عبد الله البيطار (جد العلامة الشيخ محمد بهجت البيطار) الذي حذر من نار الفتنة وسفك دماء المسيحيين خلال خطبته على منبر جامع الدقاق في حيّ الميدان. حمل الأمير عبد القادر السلاح وخرج أمام الجموع التي وصلت إلى باب داره في حيّ العمارة، صائحا: "أهكذا ترضون نبيكم محمدا؟ لن تنالوا من مسيحي واحد هنا، فجميعهم إخوتي". أعجب العالم بشجاعة الأمير عبد القادر وحكمته، وبدأت الهدايا تنهمر على داره بصفته "حاميا للمسيحيين"، كان من بينها مسدسان حربيان مطليان بالذهب هدية من الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن، وسيف من ملكة بريطانيا، وقلادة من الحبر الأعظم في الفاتيكان، ووسام الشرف الفرنسي من الإمبراطور نابليون. في عام 1915، أطلق اسم الأمير على مدينة في ولاية أيوا الأميركية، ولاحقا سميت إحدى المنح الدراسية باسمه في جامعة فيرجينيا، كذلك أقامت الأمم المتحدة ندوة حول دوره الإنساني في عام 2006، ووضع تمثال له في إحدى قاعاتها، وسُمي كرسيّ حقوق الإنسان في اليونسكو باسمه أيضا. 

إعادة إعمار الكنائس 

نشطت بعد عام 1860 عمليات إعادة إعمار الكنائس المدمرة في دمشق، تلتها حركة خجولة لبناء كنائس جديدة، بهدف استعادة الهوية المسيحية وتدعيمها. أُنشئت كنيسة يوحنا الدمشقي للروم الأرثوذكس في عام الفتنة، شمال شرق الكاتدرائية المريمية التي أعيد إعمارها عام 1867 وضمت إلى قسمها الشرقي مساحة كنيسة القديسين كبريانوس ويوستينا وكنيسة القديس نيقولاوس. أما في قسمها الغربي، فقد وُسِّع "درب مريم" المارّ من الجهة الغربية والمؤدي إلى حي القيمرية، وما بقي منه تحول إلى مدرسة ابتدائية جديدة عُرفت باسم "القديس نيقولاوس" (مكان قصر النارنج اليوم). أما كنيسة القديس بولس (للسريان الكاثوليك) الواقعة إلى يسار باب شرقي، فقد أعيد بناؤها عام 1863، مع إعادة افتتاح كنيسة سلطانة العالم للأرمن الكاثوليك التي كانت وقتها مقرّ الرهبنة اليسوعية، وأصبحت في أربعينات القرن العشرين مطرانية الأرمن الكاثوليك. تلتهما كاتدرائية القديس أنطونيوس في باب توما عام 1864، وكنيسة القديس سركيس للأرمن الأرثوذكس التي كانت أساسا للسريان وتعود إلى ما قبل عهد الإسلام في دمشق. 

أعيد افتتاح كنيسة سيدة النياح للروم الكاثوليك في حارة الزيتون عام 1865، على مساحة أوسع، وقد زُينت برسومات "الرخمجي" العريق يوسف وردة، وعمل معه لفيف من المهندسين الدمشقيين، مثل نقولا وردة ويوسف العنيد وأنطوان منصور ووهبة بهيت، تحت إشراف المعماري ميخائيل مسدية. كذلك أُعيد بناء كنيسة القديس سركيس للأرمن الكاثوليك وكنيسة منصور للآباء العازاريين عام 1866، وأعيد بناء مزار حنانيا عام 1870. أما عن الكنائس الجديدة التي جاءت بعد عام الفتنة، فكانت هناك الكنيسة الإنجيلية الوطنية في ساحة الدوامنة، التي اشترتها الإرسالية التبشيرية عام 1845، ونظرا لعدم الاعتراف بها طائفة مسيحية مستقلة، سُجل المكان باسم مالك البيت الذي تحول لاحقا إلى كنيسة لهم وبُنيت بعد التدمير، عام 1861. وجاءت كنيسة القديس بولس على السور (داخل باب كيسان)، أي باب بولس، خلف أرض تابعة لبطريركية الروم الكاثوليك، وكانت متصلة بكاتدرائيتهم سيدة النياح في حارة الزيتون. وقد منح الفرنسيون باب بولس للكاثوليك عام 1934 فحوّلوها إلى كنيسة على اسم القديس بولس، وهذا الباب هو الذي هُرِّب بولس الرسول منه عام 35م، بإنزاله ليلا بسلٍّ كبير من فوق الباب من قبل جاورجيوس البواب، هربا من اليهود. وقد هرب بولس الرسول إلى حوران، وكان مصير البواب القتل رجما، وقبره موجود في المقبرة الأرثوذكسية المقابلة في المقام مدفن الكهنة. ومن يومها صار المسيحيون الدمشقيون يدفنون موتاهم حول قبر هذا الشهيد، وصارت مقبرة تعرف باسم القديس جاورجيوس. 

في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، فُتحت كنيسة القديسة تيريزا لطائفة الكلدان الكاثوليك في حارة بولاد بباب توما عام 1895. آخر الكنائس التي ظهرت في دمشق خلال العهد العثماني كانت كنيسة يوحنا بوسكو الإيطالية للاتين، وتقع خلف المستشفى الإيطالي، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بعام. الغريب أن فترة الانتداب الفرنسي لم تشهد بناء الكثير من الكنائس الجديدة، علماً أن الفرنسيين حاولوا تبني المسيحيين الدمشقيين كما فعلوا مع موارنة لبنان، وحاولوا أيضا إثارة الفتنة مجددا بينهم وبين المسلمين، خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925، عندما أمروا جنودهم بالانسحاب من الأحياء المسيحية، أملاً في أن يدخلها ثوار الغوطة لنهبها وتكرار مجازر 1860، ولكن هذا الأمر لم يحدث. 

في زمن الفرنسيين، شُيدت كنيسة أنطوان البادوي لطائفة اللاتين في الصالحية وفي عام 1930 بُنيت كنيسة القديس كيرلس للروم الكاثوليك في حي القصاع. وفي عام 1932 بُنيت كنيسة الصليب المقدس للروم الأرثوذكس في بستان الصليب، وهو موقع دير الصليب المقدس الذي كان رهبانياً منذ مطلع القرن الخامس إلى تيمورلنك لتدميره وذبح رهبانه. وفي زمن الاستقلال، ظهرت كنيسة جديدة واحدة فقط عام 1951، هي كنيسة القديس جرجس للسريان الأرثوذكس في باب توما، دُشنت في عهد الرئيس هاشم الأتاسي، وبدأ العمل على بناء كنيسة يوحنا الدمشقي للروم الكاثوليك في شارع الأمير شكيب أرسلان، ولكنها لم تكتمل حتى عام 1963. أما في عهد الوحدة مع مصر، فلم يُفتتح إلا كنيسة واحدة، وهي كنيسة السيدة العذراء للسريان الأرثوذكس في شارع حلب عام 1961. ونشطت حركة العمران الكنائسي في الستينات، فكانت كنيسة القديس نيقولاس للروم الأرثوذكس في منطقة المزة عام 1965، وكنيسة السيدة فاطمة للسريان الكاثوليك في شارع حلب، وخلفها كنيسة يسوع نور العالم لطائفة الاتحاد المسيحي الإنجيلية في منتصف الثمانينات. وكانت كنيسة القديس ديمتريوس مقابل حديقة السبكي بالقرب من رابطة المحاربين القدماء، وهي للروم الأرثوذكس، اشترتها البطريركية الأرثوذكسية من عائلة أرثوذكسية وحولتها إلى كنيسة عام 1990. 

وفي عام 1970 افتُتحت كنيسة القديس إغناطيوس أو كنيسة الممثلية الروسية لبطريركية موسكو في منطقة البزم (غرب المالكي) عام 1973. وفي يوم 7 أبريل/نيسان 1975، افتتحت كنيسة سيدة دمشق للروم الكاثوليك بالقرب من ساحة العباسيين. وفي عام 1980، وفي عام 1992 شُيدت كنيسة ميخائيل للروم الأرثوذكس في كورنيش التجارة، وكذلك بُنيت كنيسة القديس جاورجيوس للروم الكاثوليك شرق التجارة. وكنيسة القديس بولس الرسول التي تقع في الطبالة خارج السور الأثري لمدينة دمشق بالقرب من باب كيسان وباب شرقي في دويلعة. 

فهل هذا التفجير الإرهابي سيزيد من أعداد المهجرين مما تبقى من المسيحيين السوريين، أم هو بداية لفتنة طائفية ومذهبية كبرى تؤدي إلى تقسيم سوريا؟ وهل سيتداعى الشرفاء والأحرار وما تبقى قوى وطنية لوأد هذه الفتنة في مهدها كي لا تتكرر مأساة فتنة 1860 (تنذكر وما تنعاد)؟ 

وإلى أن تصدح أجراس كنائس المسيحيين في سوريا والعراق ولبنان وبقية بلدان المنطقة بأمان، أكتفي بهذه اللمحة التاريخية المختصرة. 

25/6/2025 


الغطرسة العالمية والاستكبار الأمريكي/ الدكتور حسن العاصي



أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

استُخدم مصطلح الغطرسة (ὕβρις) في اليونانية القديمة، لوصف شكل من أشكال الغطرسة أو الكبرياء المُفرط الذي - على الأقل في عالم الأساطير اليونانية - كان يسبق السقوط دائماً. الغطرسة بهذا المعنى الأصلي ليست مجرد كبرياء، بل هي نوع من الثقة بالنفس الجامحة التي لا تعرف حدوداً، وتدوس على المحرمات دون أي اعتبار للعواقب. كان للغطرسة أيضاً معنى قانوني في المجتمع اليوناني، يعني شيئاً مثل السلوك الشائن أو العنيف الذي يُهين الآخر، خاصةً عندما يكون دافعه الاحتقار بدلاً من المكسب الشخصي - مثل الاعتداء على شخص لمجرد إثارة الهيمنة.


عند الإغريق، تجسدت الغطرسة في شخصيات مثل "بينثيوس" Pentheus  و"بروميثيوس" Prometheus و"إيكاروس" Icarus، وهي شخصيات مأساوية لاقت حتفها جميعاً بعد تعديها على الآلهة. رفض "بينثيوس"، ملك طيبة، الاعتراف بأن "ديونيسوس" Dionysus، إله الاحتفالات والخمر وحالات النشوة والخلود، إله شرعي، وانتهى به الأمر إلى أن تُمزقه الثعابين، أتباع "ديونيسوس" النشوان. اشتهر "بروميثيوس" بسرقة النار من الآلهة لاستخدام البشر، وعوقب بنسر ينقر كبده يومياً إلى الأبد. أما "إيكاروس"، الذي صنع أجنحة من الشمع والريش، فتجاهل التحذيرات بعدم الطيران عالياً، وسقط حتفه في البحر بعد أن ذابت أجنحته عندما اقترب كثيراً من الشمس.


الغطرسة العالمية


الغطرسة العالمية مصطلح يُستخدم عامياً لوصف الهيمنة الثقافية والاقتصادية للولايات المتحدة على الدول الأخرى. وهي تختلف عن مفهوم الإمبريالية، حيث تحتل دولة أخرى مادياً.


لاحظ الكاتب الأمريكي "توماس فريدمان" Thomas  Friedman في عام 1999 أن الغطرسة العالمية هي "عندما تكون ثقافتك ونفوذك الاقتصادي قويين ومنتشرين على نطاق واسع بحيث لا تحتاج إلى احتلال الآخرين للتأثير على حياتهم". في ذلك العام كتب "فريدمان" افتتاحية في مجلة نيويورك تايمز، ذكر فيها أنه لاحظ أن الحكومة الإيرانية بدأت تُطلق على الولايات المتحدة لقب "عاصمة الغطرسة العالمية" بدلاً من "الشيطان الأكبر". وأضاف أن الإيرانيين ليسوا الوحيدين، حيث كتب: "الفرنسيون، والألمان، واليابانيون، والإندونيسيون، والهنود، والروس، يُطلقون على الولايات المتحدة هذا اللقب الآن". وقد علّق أكاديميون وكتاب آخرون على تصريحات فريدمان.


في كتابها الصادر عام 2005، "رسم خريطة الديمقراطية العابرة للحدود الوطنية: ما وراء الغطرسة العالمية"Mapping Transnational Democracy: Beyond Global Hubris,، كتبت الباحثة الأمريكية في العلاقات الدولية "جاني ليذرمان"Janie Leatherman أن الطلاب الإيرانيين هم أول من وصفوا الولايات المتحدة بأنها "عاصمة الغطرسة العالمية". تواصل إيران الاحتفال بذكرى الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 باعتباره "يوماً وطنياً للحملة ضد الغطرسة العالمية"، ولا يزال هذا المصطلح يُستخدم في الصحف الإيرانية للتنديد بالسياسة الخارجية الأمريكية. تُستخدم الصورة النمطية للغرب ككيان متغطرس بشكل رئيسي في الصحف المحافظة؛ وهي أقل شيوعاً في الصحف الإصلاحية.


 بعد حرب العراق 2003-2011، ازدادت اتهامات الغطرسة الموجهة للولايات المتحدة. واجهت الولايات المتحدة تاريخياً اتهامات بالغطرسة، بما في ذلك خلال حرب فيتنام.


 تقول "ليذرمان" إن مفهوم الغطرسة العالمية لا يقتصر على الغطرسة الأمريكية المزعومة، بل يشمل مجموعة كاملة من نخب النظام السياسي والاقتصادي العالمي. إنهم متأصلون في شبكات وطبقات نظام الحوكمة العالمية - بدءًا من المؤسسات الرئيسية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة الدول السبع، والدول الرائدة، والمنظمات غير الحكومية الرئيسية في شمال العالم في المجتمع المدني العالمي. تعتبر "ليذرمان" إن الغطرسة العالمية، كالسلطة، تنتقل وتتدفق عبر هذا النظام، مما يُصعّب تحديد مصدرها. ووفقاً لعالم الاجتماع السياسي الألماني "ماكس ويبر"، Max Weber فإن الغطرسة تُشير إلى السياسة لا إلى الناس؛ ويرى أن على الآخرين الاستماع والفهم والموافقة والتصرف وفقًا لما تُظهره السياسات؛ وأنها تُمثّل مشكلة لأنها "سلوكٌ يُعيق التنافس بفعالية في سوق الأفكار العالمي في القرن الحادي والعشرين".


وحول الغطرسة العالمية للولايات المتحدة، كتبت الأمريكيتان "ديانا زويل" Diana Zuel، و"جيل جوزيفسون" Jill Josephson، أن الغطرسة عادةً ما تُفهم في سياق السياسة الخارجية، لكن سياسات الولايات المتحدة الداخلية لمكافحة الفقر قد تكون دليلًا على فشل الهيمنة وعجز الحكومة عن توفير الموارد الأساسية من وظائف وخدمات اجتماعية لشريحة كبيرة من سكانها. ووفقاً لهما، تُستخدم تكاليف الحرب العالمية على الإرهاب لتبرير خفض الإنفاق الاجتماعي في الداخل.


وصف رجل الدين الإيراني البارز "حسين نوري حمداني" المدينة المنورة في القرن السابع بأنها "مركز الصهاينة"، وصوّر القتل الجماعي لسكانها اليهود كخطوة ضرورية لتقوية الإسلام وسحق "معقل الغطرسة العالمية". وفي عام 2021، اتهمت مجلة "السياسة الخارجية" Foreign Policy الأمريكية، جمهورية الصين الشعبية بالغطرسة العالمية، معتبرةً أن حكومة جمهورية الصين الشعبية تُكرر الأخطاء الأمريكية. كما يشير مصطلح "متلازمة سلسلة العالم" إلى غطرسة بطولة البيسبول المحلية الأمريكية التي تُسمى سلسلة العالم، على الرغم من مشاركة الفرق الأمريكية فقط، حتى عام 1969، عندما تم قبول بطولة "مونتريال إكسبوز" Montreal Expos الكندية.


الحجج


يعتبر الباحث الديني الأمريكي "دانيال إيمري برايس" Daniel Emery Price ، أن العولمة في العديد من دول العالم الإسلامي أداةً للهيمنة الأمريكية يجب مقاومتها. وفي كتابها "روح العدالة" The Spirit of Justice، كتبت أستاذة الفلسفة الأمريكية "سينثيا ويليت"  Cynthia Willett:


"نخشى الأصوليين الإسلاميين لأنهم يهددون بالعنف باسم مبادئ راسخة. ومع ذلك، نرفض أن نفهم كيف يمكن للقوى الاقتصادية والثقافية للدول القوية أن تضر بمواطني الدول الأضعف بتدمير ثقافتهم وسبل عيشهم، وبجعل دولهم تابعة للقوى الأجنبية". وتقتبس "ويليت" من الصحفي والسياسي الأمريكي "توماس فريدمان"  Thomas Friedman، الذي تقول إنه يُلقي نظرة ثاقبة على المشاعر المعادية للغرب من خلال الإشارة إلى الحماسة الكامنة وراء الخطاب الغربي، قوله: "نحن الأمريكيون رسل العالم السريع، وأنبياء السوق الحرة، وكهنة كبار للسلطة العليا، والتكنولوجيا. نريد "توسيع" قيمنا ومطاعم بيتزا هت الخاصة بنا. نريد أن يحذو العالم حذونا ويصبح ديمقراطياً ورأسمالياً، بموقع إلكتروني في كل وعاء، وبيبسي على كل لسان، ومايكروسوفت ويندوز في كل جهاز كمبيوتر. هل من الواضح من هم "الأصوليون"؟ لست متأكداً تماماً. يتابع الصحفي: "لا عجب إذاً أن الاستياء من أمريكا يتزايد عالمياً". نميل أحياناً إلى رؤية المبالغة في الآخر ما ننكره في أنفسنا.


تؤدي العولمة إلى غطرسة عالمية قائمة على القوة الناعمة (الثقافة والتكنولوجيا والاقتصاد) بدلاً من الاحتلال والإمبريالية. ويُنظر إلى جهود الولايات المتحدة لتجنب التدقيق الدولي ورفض التوقيع على المعاهدات الدولية المتعلقة بالاحتباس الحراري أو المحكمة الجنائية الدولية، على أنها علامات على الغطرسة والنوايا الإمبريالية. ويجادل الكثير بأن العولمة تعني فرض الهيمنة الأمريكية. أي دولة تتمرد أو تتبنى نهجاً مختلفاً يجب معاقبتها بالحصار والتهديدات العسكرية أو الهجوم المباشر كما حدث مع السودان، والعراق، وإيران، وليبيا. ينطوي هذا الفرض على ثقافة أمريكية قائمة على المادية والمصلحة الذاتية والحريات المطلقة. وهكذا، فإن العولمة التي تقودها الولايات المتحدة مدفوعة بغطرسة وغرور فرعون غير مبرر، يضطهدون البشرية لصالح أقلية ضئيلة.


يعتقد الأكاديمي الأمريكي ـ الإيراني "علي فرازمند" Ali Farazmand  أن الصور النمطية العالمية الحالية ضد الإسلام التي تروجها حكومة الولايات المتحدة، ووسائل الإعلام والمؤسسات التجارية ذات الأغلبية المسيحية، قد خلقت صورة عالمية للمسلمين كإرهابيين، ولشعوب الشرق الأوسط كمتعصبين يجب أن يستنيروا باليهودية المسيحية. إن هذه الدعاية الأيديولوجية والسياسية العالمية ضد الإسلام لا تخدم إلا الغطرسة العالمية، والانقسامات الدينية العالمية، والعداء بين الأمم، وتعزز الغطرسة العالمية المتمثلة في التفوق المسيحي المزعوم.


ارتبط تصور الناس في إيران للولايات المتحدة غالباً على أنها "أرض اللبن والعسل" بصورة أخرى من العداء والغطرسة. ووفقاً للصحفي والمحاضر الإيراني "إحسان بخشندة" Ihsan Bakhshanda فإن معظم الإيرانيين يكرهون الغرب ليس لأنهم يرفضون القيم الغربية، بل لأنهم عانوا من سياسات غربية عدائية. ويقول إن استخدام مصطلح "الغطرسة العالمية" لتصوير الغرب يمكن أن يُعزى إلى تاريخ العلاقات بين إيران والغرب، وخاصةً الطريقة التي عامل بها الأمريكيون الإيرانيين.


أعتبر الأكاديمي الاقتصادي الأمريكي "كارلوس بارودي" Carlos A. Parodi إن تفكك الاتحاد السوفيتي منح الولايات المتحدة حرية أكبر في استخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها. ويقتبس عن المفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي"  Noam Chomsky الذي قال: لم يكن من المفاجئ أن يحتفل الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش" George Bush بالنهاية الرمزية للحرب الباردة، أي سقوط جدار برلين، بغزو بنما فوراً وإعلانه صراحةً أن الولايات المتحدة ستُقوّض انتخابات نيكاراغوا من خلال الحفاظ على قبضتها الاقتصادية الخانقة وهجومها العسكري ما لم ينتصر "جانبنا".


وصدرت انتقادات من خارج الولايات المتحدة أيضاً؛ فقد تحدث المرجع الديني اللبناني "محمد حسين فضل الله" عن "الصراع المتواصل بين قوى الغطرسة والقمع الدولية (الممثلة بالولايات المتحدة والقوى الغربية وإسرائيل) والدول المضطهدة، التي تشمل العالمين العربي والإسلامي، وبشكل أعم، دول الجنوب العالمي"، وقال إن الغطرسة الدولية تبذل قصارى جهدها لإضعاف المسلمين حتى لا يصبح الإسلام قوة ضاربة في العالم، ولزرع الفتنة بين المسلمين. وفي خطاب له قال مرشد الثورة الإيرانية "علي خامنئي": "عندما لا تنظر حكومة إلى الولايات المتحدة باحترام وترفض اعتبارها قوة عظمى، فإنها لا تستطيع تحمل ذلك بعد الآن". كما اعتبر كلاً من آية الله روح الله الخميني وعلي خامنئي الغرب مصدراً للهيمنة الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، التي أضرّت بدول العالم الثالث. إن جهود الولايات المتحدة لضمان الرخاء الداخلي تبدو وكأنها مبرر لقمع الآخرين واستغلالهم. إن الغزو العسكري الأمريكي للعالم الإسلامي - غزوان للعراق وغزو لأفغانستان - إلى جانب دعم الطغاة في المنطقة، هي محاولات للسيطرة على قيمة الموارد الطبيعية، مثل النفط، لمصلحتها الخاصة.


صورة أمريكا الدولية


تبدو الصورة العامة للولايات المتحدة إيجابية بشكل عام لدى شرائح واسعة من الجمهور في أمريكا الشمالية، وأوروبا، ومنطقة آسيا، والمحيط الهادئ. إضافةً إلى ذلك، يحظى العمل العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش في العراق وسوريا بتأييد واسع، ويقول الكثيرون إن أمريكا لا تزال قائداً عالمياً مهمًا كما كانت قبل عقدين من الزمن.


ترتبط صورة الولايات المتحدة، جزئياً، بانطباعات الناس عنها. فبشكل عام، يُنظر إلى الأمريكيين على أنهم متفائلون ومجتهدون، على الرغم من انقسام المقيمين خارج الولايات المتحدة حول إمكانية وصفهم بالتسامح. وعند النظر إلى الصفات السلبية، يربط كثيرون حول العالم الأمريكيين بالغطرسة والجشع والعنف.


أظهرت أغلبية في 13 دولة من أصل 15 دولة شملها استطلاع أجراه "مركز بيو للأبحاث" Pew Research Center عام 2024 آراءً إيجابية تجاه الولايات المتحدة. في العديد من هذه الدول، ولا سيما فرنسا، وبولندا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة، واليابان، استمرت الآراء الإيجابية تجاه الولايات المتحدة منذ عام 2009، عندما تولى الرئيس باراك أوباما منصبه لأول مرة. واليوم، تحصل أمريكا على أعلى تقييمات لها من البولنديين (74%) والإيطاليين (72%) واليابانيين (72%) والسويديين (69%).


في أوروبا، يُقيّم متوسط 63% من الدول العشر التي شملها الاستطلاع الولايات المتحدة بشكل إيجابي. في بعض الدول الحليفة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا، تراجعت الآراء حول الولايات المتحدة منذ عام 2015. انخفضت الآراء الإيجابية بنسبة 11 نقطة مئوية في إيطاليا وبنسبة 6 نقاط مئوية في إسبانيا، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بمستويات عالية من الإيجابية في كلا البلدين (72% و59% على التوالي). من ناحية أخرى، تحرك الرأي العام الألماني في الاتجاه المعاكس. قبل عام، كان نصف الألمان فقط ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي، بينما أصبحت الأغلبية الآن 57% من هذا الرأي. اليونان هي الدولة الوحيدة التي شملها الاستطلاع والتي تنظر فيها الأغلبية (58%) إلى الولايات المتحدة نظرة سلبية - وهو موقف لم يتغير كثيراً منذ عام 2012. نصف الصينيين ينظرون بإيجابية إلى الولايات المتحدة، بزيادة قدرها 6 نقاط مئوية منذ عام 2015، وربما يعود ذلك إلى الاجتماعات الثنائية بين زعيمي البلدين.


في بعض الدول، تحصل الولايات المتحدة على درجات أعلى بين الشباب، أولئك على اليمين. الشباب أكثر إيجابية تجاه الولايات المتحدة في بعض الدول.


وجدت استطلاعات سابقة لمركز بيو للأبحاث فجوات عمرية واسعة في الآراء تجاه الولايات المتحدة، حيث يميل الشباب عادةً إلى الولايات المتحدة بشكل أكثر إيجابية. نرى هذا النمط يتكرر في عدة دول: الصين، وبولندا، والمجر، والهند. الفجوة هي الأكثر دراماتيكية في الصين، حيث يوجد فرق قدره 25 نقطة مئوية بين غالبية الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً والذين لديهم رأي إيجابي عن الولايات المتحدة والأقلية من أولئك الذين تبلغ أعمارهم 50 عاماً فأكثر والذين يتفقون معها. تبرز السويد كدولة واحدة حيث ينعكس نمط الأعمار: 77٪ من السويديين الأكبر سنًا لديهم موقف إيجابي تجاه الولايات المتحدة مقارنة بـ 59٪ فقط من السويديين الأصغر سنًا.


الآراء حول احترام الولايات المتحدة للحريات المدنية


انقسام أوروبي حول احترام الحكومة الأمريكية للحريات الشخصية. حيث يعتقد كثير من الناس في أمريكا وخارجها أن الحكومة الأمريكية تحترم الحريات الشخصية لمواطنيها. في 11 دولة من أصل 16 دولة شملها الاستطلاع، يتبنى أكثر من النصف هذا الرأي، بما في ذلك أغلبية كبيرة في اليابان (76%)، وإيطاليا (75%)، وبولندا (73%)، والمجر (63%)، والصين (61%).


لا يتفق الجميع في أوروبا فيما يتعلق بوضع الحريات المدنية في الولايات المتحدة: ففي فرنسا والسويد، على سبيل المثال، يقول ما يقرب من نصف المشاركين في كل دولة (51%) إن الحكومة الأمريكية لا تحترم الحريات الشخصية داخل حدودها. وتشترك نسبة أقل بقليل في اليونان (46%) وإسبانيا (43%) في هذا الرأي. في الهند، يعتقد 41% أن حكومة الولايات المتحدة تحترم حريات مواطنيها، لكن نسبة مماثلة تقريباً لا تُبدي رأيها.


تغيرت بعض الآراء في أوروبا حول احترام الولايات المتحدة للحريات الشخصية مقارنةً بما كان عليه الحال قبل ثماني سنوات، انخفضت نسبة من يعتقدون أن حكومة الولايات المتحدة تحترم حقوق مواطنيها بشكل ملحوظ في فرنسا، وألمانيا، وبولندا. وكان الانخفاض حاداً بشكل خاص في فرنسا، حيث انخفضت نسبة من قالوا إن الولايات المتحدة تحترم الحريات المدنية بمقدار 21 نقطة مئوية منذ عام 2008. وخلال الفترة نفسها، انخفضت نسبة الألمان الواثقين.


انخفض مؤشر حماية الحريات الشخصية في الولايات المتحدة بمقدار 17 نقطة. ويُرجَّح أن يُعزى هذا الانخفاض جزئياً إلى الكشف عام 2013 عن برامج المراقبة التي أجرتها وكالة الأمن القومي الأمريكية. بين عامي 2013 و2014، وهي الفترة التي كُشِف خلالها عن تنصت وكالة الأمن القومي الأمريكية على هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، انخفض الرأي العام في البلاد حول احترام الولايات المتحدة للحريات الشخصية بمقدار 23 نقطة مئوية.


من المحتمل أن يكون التقييم النقدي لسجل الولايات المتحدة في مجال الحريات المدنية قد تراجع في بعض الدول. على سبيل المثال، شهدت الآراء الألمانية تحسنًا طفيفاً، حيث يرى 53% الآن أن الحكومة الأمريكية تحترم الحريات الشخصية لمواطنيها، مقارنةً بـ 43% ممن أعربوا عن هذا الرأي عام 2015.


كما شهدت الصين تحسناً في احترام الحكومة الأمريكية لحقوق مواطنيها. تعتقد أغلبية في الصين (61%) أن الحريات الشخصية مُحترمة في الولايات المتحدة (بزيادة قدرها 16 نقطة مئوية عن عام 2015). ويُعدّ الشباب الصينيون (67%) أكثر ميلاً من كبار السن الصينيين (52%) إلى تبني هذا الرأي.


في الولايات المتحدة، يقول 58% من الأمريكيين إن حكومتهم تحترم الحريات المدنية لمواطنيها، بزيادة عن 51% في العام 2022، ولكنها لا تزال أقل بكثير من مستويات ما قبل فضيحة وكالة الأمن القومي (69% في عام 2013). وتميل النساء (63%) أكثر من الرجال (53%) إلى الاعتقاد بأن الحكومة الفيدرالية تحمي الحريات الفردية. كما أن هناك فجوة حزبية كبيرة حول هذه القضية: إذ يقول 72% من الديمقراطيين إن حكومتهم تحترم الحريات المدنية، مقارنة بـ 50% من الجمهوريين الذين يقولون الشيء نفسه.


القيادة الأمريكية في العالم مستقرة على مدى العقد الماضي.


يرى اليابانيون تراجعاً في نفوذ الولايات المتحدة، بينما يرى الهنود أن نفوذها آخذ في الازدياد. في جميع الدول التي شملها الاستطلاع، يرى الكثيرون أن الولايات المتحدة لا تزال بنفس أهمية وقوة قيادتها العالمية كما كانت قبل عشر سنوات. في أحد الأطراف، يرى حوالي ستة من كل عشرة يابانيين (61%) أن أهمية الولايات المتحدة قد تراجعت خلال السنوات العشر الماضية. في المقابل، ترى أغلبية الهنود بنسبة 57% أن الولايات المتحدة تلعب دوراً أكثر أهمية وقوة كقائد عالمي مما كانت عليه قبل عقد من الزمان.


في الوقت نفسه، في الدول الأوروبية الرئيسية – فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وإسبانيا، والسويد - فإن الرأي السائد هو أن الولايات المتحدة لا تزال بنفس أهمية وقوة ما كانت عليه قبل عقد من الزمان.


فجوة بين الجنسين في الحملة العسكرية ضد داعش


يُعدّ الفرنسيون الأكثر تأييداً لمثل هذا العمل، حيث قال 84% منهم ذلك. وكانت النسبة نفسها تقريباً (81%) قد أعربت عن هذا الرأي في عام 2015، قبل هجمات باريس في نوفمبر 2015، التي أعلن داعش مسؤوليته عنها.


كما أن الدعم قوي بين الأعضاء الآخرين في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والذي يشن غارات جوية في العراق وسوريا: هولندا (77%)، الولايات المتحدة (76%)، أستراليا (75%)، المملكة المتحدة (71%)، وكندا (68%). كما أن حوالي ثمانية من كل عشرة (81%) في السويد، وهي دولة غير عضو في التحالف، تدعم أيضاً الجهود التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش.


تدعم الأغلبية الجهود التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش في ألمانيا (71%)، إيطاليا (67%)، بولندا (65%)، وإسبانيا (62%). انقسم اليونانيون، حيث أيد 48% منهم الحملة العسكرية لهزيمة داعش في العراق وسوريا، بينما عارضها 45%.


في 10 من أصل 15 دولة طُرح فيها هذا السؤال، كان الرجال أكثر ميلاً من النساء لدعم جهود مكافحة داعش التي تقودها الولايات المتحدة. وتُعتبر الفجوة بين الجنسين الأوسع في اليابان وكندا وإسبانيا، بينما تُعتبر الفجوة الأضيق في الولايات المتحدة.


الأمريكيون: متفائلون ومجتهدون


يربط سبعة من كل عشرة أشخاص أو أكثر في جميع الدول الأوروبية العشر التي شملها الاستطلاع التفاؤل بالأمريكيين. ويقول 80% من الإسبان، والبولنديين، والسويديين هذا الرأي. كما تصف نسبة ساحقة من اليابانيين، والأستراليين، والكنديين، الأمريكيين بأنهم متفائلون في نظرتهم المستقبلية. يُنظر إلى الأمريكيين على نطاق واسع على أنهم يتمتعون بأخلاقيات عمل قوية. ففي 14 من أصل 16 فئة شملها الاستطلاع، وصفت الأغلبية الأمريكيين بأنهم مجتهدون. وأبدى الإسبان إعجابهم بهذه النتيجة بشكل خاص، حيث ربط 86% منهم الأمريكيين بالعمل الجاد. ويمثل هذا زيادة قدرها 12 نقطة مئوية عن عام 2015، عندما طُرح السؤال آخر مرة في إسبانيا. كما ينسب ما لا يقل عن 57% في كل دولة من الدول الأوروبية الأخرى التي شملها الاستطلاع الاجتهاد للأمريكيين، على الرغم من أن هذه السمعة قد تراجعت قليلاً في فرنسا (-8 نقاط مئوية) وألمانيا (-7) على مدى السنوات العشر سنوات الماضية.


كما يُنظر إلى الأمريكيين في الولايات المتحدة على أنهم متسامحون. على الجانب الآخر من المحيط الهادئ، تُوافق الأغلبية في أستراليا (68%) والهند (56%) على ذلك؛ ومع ذلك، فإن الأقليات فقط في الصين (39%) واليابان (26%) تصف الأمريكيين بأنهم مجتهدون.


كثيرون لا يعتبرون الأمريكيين متسامحين.


صورة الأمريكيين المتسامحين أقل رسوخاً من سمعة التفاؤل أو العمل الجاد. إلى جانب الولايات المتحدة (65%)، فقط في بولندا (70%) واليابان (59%) وألمانيا (51%) وإيطاليا (51%) يصف حوالي نصف الأمريكيين أو أكثر بأنهم متسامحون. بعض الجماهير منقسمة حول هذه القضية، ولكن في الصين (59%) والسويد (58%) وأستراليا (56%) لا تربط الأغلبية الأمريكيين بالتسامح.


في بعض البلدان، تنقسم الآراء حول التسامح الأمريكي بشكل حاد على أسس أيديولوجية، حيث يميل أولئك الذين ينتمون إلى يمين الطيف الأيديولوجي إلى القول إن الناس في الولايات المتحدة يُظهرون هذه السمة أكثر من أولئك الذين ينتمون إلى يساره. هذا هو الحال في أستراليا (احتمال أعلى بـ 18 نقطة)، وفرنسا (+15)، وكندا (+14)، وإسبانيا (+12).


يربط الكثيرون الغطرسة والجشع والعنف بالأمريكيين.


تقول الأغلبية في اليونان وأستراليا والمملكة المتحدة وإسبانيا إن الأمريكيين متغطرسون وجشعون وعنيفون. وسأل الاستطلاع أيضًا عما إذا كان المجيبون يربطون ثلاث سمات سلبية - الغطرسة والجشع والعنف - بالأمريكيين. يعتقد متوسط 54% أن الغطرسة سمة من سمات الأمريكيين، ويقول ما يقرب من نفس النسبة الشيء نفسه عن الجشع (متوسط 52%). ويعتقد عدد أقل قليلاً في الدول التي شملها الاستطلاع أن الأمريكيين عنيفون (متوسط 48%).


تربط الأغلبية أو الكثرة في تسع دول الغطرسة بالناس في الولايات المتحدة. يربط حوالي سبعة من كل عشرة يونانيين وكنديين وأستراليين شعورًا بالتفوق بالناس في الولايات المتحدة، ويوافق ستة من كل عشرة أو أكثر في المملكة المتحدة (64%) وإسبانيا (62%) والصين (60%) على ذلك.


تُقرّ أغلبية الأمريكيين بنسبة 57% بأن الصورة النمطية للأمريكي الجشع تنطبق عليه. وتتفق نسبة مماثلة تقريباً من الإسبان (59%)، والهولنديين (59%)، والكنديين (58%)، والأستراليين (58%)، والبريطانيين (56%)، والسويديين (55%) على أن الأمريكيين جشعون.


 وفي اليونان، تربط نسبة أكبر (68%) الأمريكيين بالجشع. وفي أماكن أخرى، وجد الاستطلاع أن حوالي النصف أو أقل يوافقون على أن الأمريكيين جشعون. وتُعدّ هذه النظرة أقل شيوعاً في إيطاليا، حيث يُنسب الجشع إلى الأمريكيين بنسبة 21% فقط. وفي الوقت نفسه، انخفضت نسبة البولنديين (-13 نقطة مئوية)، والبريطانيين (-9 نقاط مئوية)، والصينيين (-8 نقاط مئوية) الذين يُنسبون الجشع إلى الأمريكيين بشكل كبير منذ آخر مرة طُرح فيها هذا السؤال عام 2015.


وفي جميع البلدان التي شملها الاستطلاع، وصفت نسب كبيرة الأمريكيين بالعنف. في أربع دول، تُشكّل هذه النسبة رأي الأغلبية: أستراليا (68%)، واليونان (63%)، والمملكة المتحدة (57%)، وإسبانيا (55%). آخر مرة اختُبرت فيها هذه السمة كانت في عام 2015، كانت نسبة الفرنسيين الذين يصفون الأمريكيين بالعنف أعلى بمقدار 15 نقطة مئوية (63% مقابل 48%). وتبدو فجوات أصغر، وإن كانت لا تزال كبيرة، واضحة في كندا (64% في عام 2005 مقابل 53% اليوم) والصين (61% مقابل 52%).