سيرًا تحتَ رذاذ المطر/ الاب يوسف جزراوي



( مجموعة مِن النّصوص القصيرة) للأب يوسف جزراوي/ أمريكا


أعدُوُ بِالمسافاتِ نحوكِ

............................

وأن وقفتي على قارعةِ طريقي 

تترقبينَ وجهتي إليكِ

وتسألتي: متى أصلكِ؟

فقطْ،

ضعي أُذنيكِ على أرضكِ

وأسمعي تنهدات كمان قلبي.. 

دقاتُ النّبضِ حَتْمًا ستُخبركِ

كيفَ أعدُو بِالمسافاتِ مُسرعًا نحوكِ..

أشدُّ الخطوةُ بِالخطوةِ وألصقُها طريقًا 

لعلَّ الدُرُوبُ إليكِ تُوصلني!.


@@@@@

مُفارقةٌ

..............

كُلّما طبوعني كتابًا 

ويوزعوّنني على المكتباتِ

يلتهمون نصوصي...

النّصَ... تلو النّصَ.. 

أبصرُ مِن خلفِ واجهات المكتبات

كيفَ تنمو كروش القرّاء بالمطالعةِ

وكيفَ أخسُ الوزنَ كتابةً!.

@@@@@@@@

ومضةٌ 

..............

ولأنَّ في درُوبكِ انتظارات طويلة... 

أحيانًا توقفني صورتي في مرآةِ عينيكِ.


@@@@@@@@


ومضةٌ

...............

وأقطعُ بِالكلمةِ المسافةُ إلى مَا أُريد كتابتهُ إليكِ...

في شوارع لمْ يمرّ فيها عابرٌ سواي.


@@@@@@@@@


حلمٌ بنكهةِ الفلفلِ

...................

وقالتْ لهُ: 

كُلما اتلفظُ أو أكتبُ اسمك أو أفكرُ بكَ..

تقعُ على مسامعي أصوات دوريات الشرطة في شوارع الحي الأمريكي الذي تقطنهُ..

حينها أقفُ في باحة الدارِ  لارقب ما يجري

فاضعُ يدي على قلبي وأصلي: اللّهم خيرًا...

ومن ثم اكركرُ وأتمتمُ:

وإلى أن ألقاكَ...

أُقبّل عيناكَ وأعانقكَ في حلمي.

Write to RevYousif Jazrawy


كلمات ربما فيها فائدة / فؤاد الحاج

 


ذات يوم بعث الكاتب الساخر برنارد شو رسالة إلى عالم الفيزياء البرت اينشتاين يقول فيها ما معناه أن العلم قد زاد حياتنا تعقيداً كونه يحل مشكلة ويخلق مقابلها عشرة جديدة. بعد أيام رد عليه اينشتاين برسالة لم ينكر فيها هذه الحقيقة قائلاً: ان العلم بمثابة بقعة ضوء صغيرة تقع على مساحة كبيرة لانهائية من الظلام الموجود أصلاً (وهي الجهل). 

*** 

قالت العرب قديماً أن الرجال أربعة أصناف رجل يدري، ويعلم أنه يدري فذلك عالم، فخذوا عنه، ورجل يدري ولا يعلم أنه يدري فذلك ناسي فذكروه، ورجل لا يدري ويعلم أنه لا يدري فذلك طالب علم فعلموه، ورجل لا يدري ولا يعلم أنه لا يدري فذلك أحمق فارفضوه وهذه الصفات ربما تكون في شخص واحد. 

*** 

الحياة غابة لا يعرف الإنسان طريق الخروج منها ولا يعرف ما فيها من أسرار الوجود. 

*** 

في عصر التفاهة والفساد الاجتماعي بات الشخص غير المناسب مكان الشخص المناسب، ومن يتمعن في أوضاع أمة النكبات بالتأكيد سيجد أكثر من ذلك كما سيجد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى التدهور السريع لحال أمة كانت من خير الأمم وأصبحت كرة قدم بين أقدام الأمم. 

*** 

الجهل آفة منتشرة في هذا العصر وهذا معروف بين العوام ولكن الأخطر هو أن مدعي المعرفة لا يعرفون التمييز بين الحقائق التاريخية وما يتم بثه من سموم عبر وسائل التواصل الاجتماعي! 

*** 

الجاهل يتكلم قبل أن يفكر، والعالم يفكر قبل أن يتكلم. 

والجاهل يتصور أنه يعرف كل شيء، والعالم يدرك أنه يعرف أشياء كثيرة عن أشياء قليلة.

الأقليات في الشرق الأوسط بين الاعتراف والإنكار/ الدكتور حسن العاصي



أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا


إن استغلال الانقسامات الطائفية من قبل الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، والعنف الطائفي، والاضطهاد الذي تواجهه مختلف الجماعات العرقية والدينية، وتهديدات التقسيم أو الانفصال التي أصبحت الآن سيناريوهات حقيقية، تجعل قضية الأقليات قضية محورية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط. لا تزال إدارة التنوع معياراً حاسماً لتقييم التحولات السياسية الجارية في هذه المنطقة. أحاول تسليط الضوء على البعد السياسي والعالمي لظاهرة الأقليات، ومواجهة التفسيرات الثقافية والدينية السائدة.


إن الخطابات الطائفية والإثنية ليست جديدة. ومع ذلك، فقد تم حجبها لعقود لخدمة النزعات الاستبدادية. مع فشل الدولة القومية التي نشأت بعد حروب الاستقلال، لم تكن القوى السياسية مستعدة لمواجهة التركيبة المعقدة للمجتمع، وفضّلت الاختباء وراء أسطورة التعايش المثالي بين الجماعات العرقية والدينية. في بعض البلدان، أصبح استغلال الأقليات أداةً مُحكمة الاستخدام من قِبل القوى السياسية. في بعض الأحيان، تجاوزت الشمولية "المحلية" الاحتلال الاستعماري في تطبيق شعار "فرّق تسد". ادّعى الطغاة تجسيد الوحدة الوطنية، في حين أن كل شيء يوحي بأنهم بذلوا قصارى جهدهم لمنع استمرارها بتعليق الجنسية.


وهكذا، فإن احتجاز الأقليات العرقية والدينية رهائن أمرٌ راسخ. لقد عززت القوى السياسية، بسوء إدارتها المتعمد للتنوع، الشروخ داخل مجتمعاتها، بينما تدّعي عكس ذلك. كان من بين القوى الدافعة وراء هذه السياسة الدقيقة غرس الخوف من الآخر وتثبيط أي شعور بالانتماء الوطني. في الحالة السورية، على سبيل المثال، مارس النظام الاستبدادي قمعاً "انتقائياً" رداً على الاحتجاجات التي اندلعت عام 2011. وسواءً كان ذلك خوفاً من الانتقام أو بدافع القناعة، فقد لعب رجال الدين الرسميون، الذين أسرتهم الحكومة، دوراً رئيسياً في تعزيز هذا المناخ.


يجب إعادة النظر في مفهوم "الأقلية" باعتقادي، حتى وإن اقتصر على تعريف تقليدي. فهو في الواقع مفهوم سياسي أكثر منه طائفي أو عرقي. وبينما لا ينبغي رفض البعد الديني والعرقي رفضاً قاطعاً، يُفضّل اعتبار أن الأقلية الحقيقية هي أغلبية الشعب بكل تنوعه العرقي والمجتمعي. وبالتالي، هؤلاء هم أولئك المستبعدون من المجال العام والمحرومون من حقوقهم، وخاصة الحق في التعبير عن أنفسهم بحرية.


أصل وتطور فكرة "الأقلية" في منطقة الشرق الأوسط


منذ بداية الألفية الجديدة، شهد التاريخ الاجتماعي والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط تسارعاً هائلاً تحت ضغط القوى المتصارعة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. في هذا الإطار، يمكن اعتبار الانتفاضات العربية بمثابة ذروة سياسية، أو بالأحرى "دولة ناشئة" جديدة. شهدت خلالها موازين القوى وتسلسلاتها الهرمية السابقة تحدّياً وتفكيكاً جزئياً، وهي اليوم في طور إعادة تنظيم تدريجي من خلال تشابك المصالح والأولويات والقوى المختلفة. تُثير النتائج المباشرة لهذه العملية التحويلية الشاملة جدلاً واسعاً، مع العديد من أوجه القصور والغموض مقارنةً بالتطلعات الأولية. ولا يزال من الصعب التنبؤ بالنتائج على المدى الطويل وفهمها بشكل كامل. ويرجع ذلك أيضاً إلى أن التوترات الجيوسياسية، والرغبات الأجنبية، والتطلعات الاجتماعية والسياسية المحلية والوطنية المختلفة والمتناقضة في كثير من الأحيان، فضلاً عن المخاوف الأمنية الملحة، قد اندمجت وتداخلت بشكل غير متساوٍ، مما أدى إلى مضاعفة وتضخيم التشرذم والاستقطاب.


ومن أبرز النتائج في هذه المرحلة التحويلية المعقدة الانتشار العشوائي للعنف في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أنه سيكون من غير النزاهة تجاهل حقيقة أن القوس الحالي للصراع والإكراه يصيب معظم هذه الفئات السكانية على قدم المساواة خارج الانتماءات الدينية أو العرقية، فإن المجتمعات المسلمة وغير المسلمة هي من بين الضحايا الذين يعانون أكثر من غيرهم من هذه الفترة من الأزمة. وقد تصاعدت المخاوف بشأن قضايا الأقليات في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد أن فر مئات الآلاف من المسيحيين من المنطقة نتيجة الصراعات والحروب. ساهمت هذه الأحداث في التراجع الحاد في وجود الأقليات القومية في المنطقة. ففي القرن الماضي، أدى انخفاض المواليد وتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في معظم الدول العربية، على سبيل المثال، إلى انخفاض نسبة المسيحيين من حوالي 10% من إجمالي السكان في بداية القرن العشرين إلى ما بين 3% و5% في الشرق الأوسط.


في أعقاب هذه الأحداث والديناميكيات، سُلِّط الضوء مجدداً على وضع الأقليات الدينية ومكانتها داخل مجتمعات منطقة الشرق الأوسط والمجالات السياسية، مما أثار جدلاً حول مصيرها بين البقاء والهجرة الحتمية إلى الخارج. ومع ذلك، فإن تعريضها للخطر يُشير إلى أزمة أوسع وأعمق تُحيط بالمنطقة بأسرها وتُعقّدها، مما يجعل مفهوم الأقلية محورياً لفهم الأزمة السياسية وأزمة الشرعية اليوم. ولهذا السبب تحديداً، يجب إعادة النظر في سياق وتطور فكرة الأقلية، كمفهوم ومؤسسة، في منطقة الشرق الأوسط المعاصرة منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، وفي أي شكل عادت مؤخراً للظهور كإحدى القضايا الجوهرية في الاهتمامات السياسية الإقليمية والدولية المعاصرة.


من الأهمية العمل على تفكيك مفهوم الأقلية لتحديد دلالاته المتعددة. ويتطلب الأمر فهم مرونة هذا المصطلح لتجنب سوء الفهم والاستغلال، مع التركيز بشكل مباشر على الأسباب الجذرية لقضايا الأقليات الحالية في المنطقة وكل دولة. وتقديم لمحة عامة موجزة عن الطابع المتعدد الأوجه لقضايا الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، والعوامل المتعددة التي تغذي هذه الديناميكيات، على المستويات التاريخية والوطنية والإقليمية والعابرة للحدود الوطنية. ويكتسب هذا السياق أهمية خاصة للتأكيد على تعقيد ديناميكيات التحول السياسي في المنطقة اليوم، متجنباً النزعة الثقافية والاستثنائية. ومن ثم تحليل العلاقة التاريخية بين الأقلية، كمفهوم ومؤسسة، وسيادة الدولة، والجغرافيا السياسية.. لطالما جعلت هذه العلاقة الحميمة والبنيوية قضايا الأقليات مثيرة للجدل بشكل خاص في هذا السياق، ولا تزال تُمثل أحد أقوى القيود على إدارة التنوع. في الواقع، لطالما مثّلت الأغلبية والأقلية مجالات تنافس متنازع عليها على السلطة والقيادة الإقليمية، بدلاً من أن تكونا مصطلحين لترسيخ مواطنة حقيقية وفعالة قائمة على ضمان المساواة في الحقوق على المستويين الجماعي والفردي.


ولا يجب اختزال الأزمة الحالية في قائمة بسيطة من قضايا الأقليات المختلفة، ولا إلى نقد فكرة الأقلية في حد ذاتها. وبالمثل، على الرغم من تركيزه الحتمي على المستويين الجماعي والمجتمعي، علينا عدم التقليل من شأن التوتر القائم بين أبعاد الفرد والجماعة، وأهمية تقييم هذه الديناميكيات لفهم أهمية قضايا الأقليات الراهنة فهماً كاملًا. بل على العكس تماماً: بما أن الاستقرار المستقبلي لمنطقة الشرق الأوسط سيعتمد حتماً على فهم جديد لمعظم المفاهيم المرتبطة بهذا النحو السياسي للتنوع والديموغرافيا، يبدو من الضروري مواصلة الجهود لبحث جذورها التاريخية والمفاهيمية، بالإضافة إلى آثارها المعيارية وتكيفاتها المؤسسية، في محاولة لتفسير سبب عودة فكرة الأقلية، كمفهوم ومؤسسة، إلى هذا الدور المحوري في السياسة الإقليمية والدولية الحالية.


 فكرة "الأقلية" ومرونتها: نظرة عامة على واقع الشرق الأوسط


على الرغم من أن كلمة "أقلية" - وضمناً كلمة "أغلبية" - تبدو واضحة بذاتها، إذ تشير تقليدياً إلى العلاقات بين وحدات متميزة ذات ثقل عددي وديموغرافي متفاوت ضمن إقليم ووسط اجتماعي وسياسي ومجال محدد، إلا أن هذه النظرة العامة تنطلق من الاعتقاد بأن هذا المصطلح متعدد المعاني إلى حد كبير. فالأقلية مفهوم مرن يمثل تحدياً ومورداً في آن واحد عند استخدامه. ويمكن أن يوفر سياقه ودراسته أدلة مهمة لإعادة النظر في تاريخ النظام السياسي والدولة الحديثين على المستويين المحلي والدولي، باعتباره أحد أسس صياغة هرميات السلطة والهيمنة المعاصرة. في الوقت نفسه، قد يُضعف سوء استخدامها فهمنا للتحديات الراهنة، إذ يُدمج في كلمة واحدة عناصر وإشارات مُفرطة، مما يُؤدي إلى خلق التباسات وسوء فهم، أو حتى إلى إضفاء الشرعية، عن غير قصد، على صراعات انقسامية واستقطابات جديدة، بناءً على تقييمات سطحية وثقافية للديناميكيات والتفاعلات السياسية.


لطالما مثّلت كلمة "أقلية" حقيقة سياسية قائمة على أعداد موضوعية ومُدركة. علاوة على ذلك، يرتبط فهم الأقليات اليوم ارتباطاً هيكلياً بظهور الدولة القومية أو التمثيلية الحديثة. وسواءٌ فكّرنا في الأقلية وفقاً لمبدأ الديمقراطية بمفهومها العام للغاية، كطريقة لاتخاذ القرارات الجماعية مع نوع من المساواة، أو أحلنا هذه الفئة إلى حالة مجتمع داخل إقليم مُتميّز على أساس العرق، أو الإثنية، أو اللغة، أو الدين، أو الثقافة، فإن مصطلح "أقلية" يثير حتماً تساؤلات تتعلق بالمكانية، والزمانية، والتمثيل، والسمات المعيارية السياسية. تصف تجربة مجتمعات مثل الفلسطينيين كيف تُنشأ فئات الأقلية والأغلبية بدقة من خلال التركيبات المتغيرة والمتحولة لهذه العناصر. يساعدنا التفكير في تاريخ الفلسطينيين منذ فترة الانتداب على تقدير وفهم كيف أن الموقعية والزمانية والتمثيلية والسمات المعيارية السياسية لم تحدد فقط نضال الفلسطينيين لتأكيد هويتهم الوطنية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ولكنها ساهمت أيضاً في تحديد تجارب متعددة لكونهم أغلبية وأقلية داخل أرض فلسطين ـ"إسرائيل".


وكذلك في الأردن، وسوريا، ولبنان، أو خارج الشرق الأوسط، مما يُعقّد التفاعل بين التعريفات الموضوعية والذاتية لما تعنيه هذه الفئات في تاريخهم. لذلك، تُعدّ الأغلبية والأقلية تعبيرات عددية لعلاقات القوة والتفاعلات السياسية، تتجاوز الخطوط الداخلية، والخارجية والرأسية، والأفقية. ويؤدي استخدامهما وظائف وصفية وتنظيمية مختلفة، وغالباً ما تكون شائعة. ويعتمد تعريف الأغلبية على وجود الأقلية، والعكس صحيح. وبالتالي، فإن هذه الفئات علاقاتية وإجرائية في حد ذاتها، تتطور وتتحول بمرور الوقت لأنها نتاج علاقات قوة هرمية داخلية وداخلية، وكذلك موضوعية ومعيارية. ويمكن أن يحمل استخدامهما معانٍ متعددة، قد لا تكون بالضرورة متوافقة، ولكنها تحمل في طياتها إشارات مشتركة وعامة إلى مجالات القوة والسلطة والشرعية.


وفقاً للمفهوم الأكثر شيوعاً، استُخدمت كلمة "أقلية" لوصف إحدى النتائج التي حددها الارتباط بين الحقائق المعيارية والديموغرافية/العددية في الدول القومية الحديثة. ومن خلال هذا الارتباط، تتشكل فئة الأقلية الحديثة كمفهوم ومؤسسة. في هذه الحالة، تُفرض أو تُقبل الأغلبية والأقلية موضوعياً وذاتياً على أساس عوامل وعناصر تُعتبر أساسية ومُهمة لتأسيس الدولة، والهويات الجماعية والتضامن، مثل السمات الإثنية، واللغوية، والدينية، والثقافية.


ومع ذلك، وكما توضح فكرة المجتمعات المتخيلة، فإن العملية الانتقائية لتفعيل هذه السمات في تكوين هويات جماعية أكثر تعقيداً وتقديراً مما يُتصور عادةً. علاوة على ذلك، تتأثر هذه العملية تأثراً عميقاً بتقنيات الإعلام والاتصال. في الواقع، تُعدّ الأقليات والأغلبيات أيضاً نتاجاً لوساطة مستمرة وإعادة تفسير لما ينبغي اعتباره أصلياً ومصطنعاً، وكذلك موضوعياً وذاتياً في نسيج هوياتهم.


من منظور الأغلبية/الدولة القومية، تُعدّ الأقلية عنصراً من عناصر المجتمع يتعارض مع مبادئه التأسيسية، وإن كانت أقل عدداً، إلا أنها تثير تساؤلات حول التكامل والاستيعاب والإدارة. وتعتمد أهمية هذه التساؤلات على مدى اعتبار وجود الأقلية تهديداً محتملاً لاستقرار وأمن مبادئ الدولة القومية. ويمكن القول إن مجرد وجود الأقلية، أو الاعتراف بها علناً، يُشكِّل تهديداً للنسيج الوطني أو يُقوِّضه. وتُشير تجارب العلويين والأكراد في تركيا الحديثة إلى عواقب اعتبار التنوع تحدياً للنسيج الوطني. فقد عانت هذه المجتمعات من أشكال التمييز لأنها اعتُبرت مختلفة عن الإطار الطائفي والعرقي الذي بُني عليه النسيج التركي المتجانس الحديث. وتُضيف حالة الأكراد مزيداً من التعقيد. نظراً لتوزعهم بالتساوي بين تركيا، وسوريا، والعراق، وإيران وتركيزهم في مناطق محددة، فقد أثار الوجود الكردي ودعوته للاعتراف به دائماً العديد من المخاوف والشكوك. من ناحية، أثار تركيزهم داخل أراضٍ محدودة شبح الانفصال في "الدولة المضيفة"، وخاصة تركيا والعراق. ومن ناحية أخرى، أصبحوا في كثير من الأحيان أهدافاً للمنافسة الإقليمية والتدخل الجيوسياسي.


وقد تضمنت التوترات بين أنقرة ودمشق في التسعينيات بشأن تطوير سدود مائية جديدة الوجود الكردي في تركيا بشكل غير متوقع، حيث اتهمت أنقرة النظام السوري بدعم حزب العمال الكردستاني (PKK) كاستراتيجية للتدخل في مثل هذه المشاريع وعرقلتها. وفي الآونة الأخيرة، يمكن أيضاً تفسير النشاط التركي والتدخل العسكري في الأزمة السورية في هذا الإطار. وبالمثل، هناك حالات أخرى سُيِّست فيها قضايا الأقليات بشكل كبير وحُوِّلت إلى قضايا أمنية بسبب الخوف من الانفصالية والنزعة التوسعية، على سبيل المثال، قضية بلوشستان بين باكستان وإيران، أو قضية خوزستان في إيران، حيث سعى صدام حسين إلى ضمها بزعم وجود سكانها العرب السنة فيها خلال حرب 1980-1988.


الأقليات القومية في دولة الشرق الأوسط


ترتبط الاستخدامات السابقة لكلمة "أقلية" تاريخياً بتعريف الأقليات القومية، أو "الأقليات القديمة"، ووضعها المحمي في فترة ما بين الحربين. وقد تطور هذا التصنيف المنهجي خلال مؤتمرات القرن التاسع عشر في فيينا (1815)، وباريس (1856)، وبرلين (1878)، ودُوّن رسمياً في مؤتمر باريس للسلام عام 1919. ويمكن أن تكون الأقلية القومية "أمة" لم تتمكن من "السيطرة" على دولتها ذات السيادة، أو وجدت نفسها منفصلة عن وطنها، بالإضافة إلى جماعات ومجتمعات ذات هويات "ما قبل قومية" تختلف نوعاً ما عن هوية الأغلبية/الأمة التي تعيش فيها، مما يثير تساؤلات حول الاندماج أو الاستيعاب. يرتبط هذا الفهم لكلمة "أقلية" في الغالب بفكرة وجود أصل بدائي لهويات الجماعات ودور العرق في التاريخ. في الشرق الأوسط الحديث، غالباً ما تم تجاهل الجانب العرقي للأقليات القومية في القوانين والدساتير. وقد أثبتت الحركات القومية، سواء كانت تركية، أو عربية، أو إيرانية، أنها أكثر عرضة لهذه المشكلة. فقد تم تجاهل التنوع العرقي اللغوي بشكل عام لبعض المكونات، أو تم احتواؤه ومواجهته طوعاً، كما هو الحال مع الأكراد. ولكن على نطاق أوسع، وعلى غرار ما حدث في سياقات ومناطق أخرى، كما هو الحال في أوروبا الشرقية، كانت فئة الأقليات القومية بحد ذاتها إشكالية بشكل عام في عملية بناء الدولة والأمة في منطقة الشرق الأوسط. وكثيراً ما تم السعي إلى إدارة التنوع من خلال النفي بدلاً من الإدماج. في الواقع، حتى عندما تم الاعتراف بوضع الأقليات ومنحها بقوانين خاصة أو أشكال من التمييز الإيجابي، مثل نظام الحصص، كان العامل الديني هو الذي يُؤخذ في الاعتبار في كثير من الأحيان في ظل الخطاب العام حول وحدة الأمة واحترام التراث الإسلامي.


وعادةً ما مُنحت المجتمعات المسيحية واليهودية وضعاً خاصاً مُكرساً، بينما لم يُمنح أي اعتراف للمسلمين غير التقليديين أو الجماعات أو المعتقدات غير المسلمة التي لا يعترف بها التراث الإسلامي تقليدياً، مثل البهائيين، واليزيديين. هذا لا يعني أن الضمانات المقدمة للمجتمعات المسيحية حمت مكانتها تماماً في المجالات العامة في منطقة الشرق، ولكن لم يُنظر إلى الاعتراف بها على أنه يتعارض مع فرضية وجود أمة موحدة، بل على أنها طوائف إسلامية مختلفة.


ومع ذلك، فقد خضعت هذه الفئة لنقاشات حوارية، ليس فقط من قِبل الأغلبية، ولكن أيضاً من قِبل مختلف الأقليات، وذلك للامتناع عن الإشارة إليها أو عزلها عن النظام السياسي والمجال العام، ومقاومة ذلك. إن رفض الأقباط وصفهم بالأقلية، أو بشكل أعم، التزام المسيحيين العرب بالقومية العربية والأحزاب الشيوعية، يشهد على رغبتهم في الاعتراف الكامل بهم في إطار سياساتهم، متجاوزين الانقسامات الدينية أو مستوعبين الاختلافات الدينية من أجل الوصول إلى الميادين السياسية الوطنية على قدم المساواة.


ولكن هناك أيضاً أمثلة أخرى تُظهر تعقيد فئة الأقلية وكيف يمكن لمرونتها أن تُنتج حقائق نمطية ومختلفة تبعًا للسياق. تُظهر حالة بدو النقب في إسرائيل، والبدون في الكويت، والقبائل البدوية في الأردن بوضوح أن فئات الأقلية والأغلبية تعتمد هيكلياً على الترابطات السياسية السياقية والنمطية. كان تعريف وجود فئة تُسمى "البدو" في الإمارة الهاشمية، ثم في المملكة لاحقاً، حاسماً في تصميم علاقة قوة متينة بين الدولة وهذه المجتمعات. لا يزال البدو في الأردن يستفيدون من نظام الحصص، وحتى سبعينيات القرن الماضي، سُمح لهم رسمياً بممارسة أساليبهم التقليدية في حل الخلافات القانونية. وعليه، ورغم أن مصطلح "الأقلية" لم يُستخدم علناً لوصف حالتهم، إلا أن تطبيق إطار الأقلية على هذه الفئة العرقية الفرعية أسفر عن عواقب محددة من حيث الموقع والتسلسل الهرمي والتمثيل، راسماً مسارات التكامل والاستقطاب والسيطرة. جعلتهم الدولة ركيزة شرعيتها، بينما اكتسب جزء من القيادات البدوية الأردنية موارد مادية ورمزية غير متوقعة بفضل وجود المملكة.


في المقابل، تشرح حالة البدون في الكويت بدقة كيف يمكن توظيف العوامل العرقية الفرعية، مثل الأنساب والقبلية، للتقسيم والسيطرة بهدف الإقصاء. وباعتبارهم إحدى القبائل التي فشلت في التسجيل أثناء تأسيس الدولة في الكويت وإعلان استقلالها، فقد تم حبس البدون ليس فقط في حالة انعدام الجنسية الدائمة، ولكن أيضاً ضمن تصنيف يحدد هويتهم الجماعية من خلال نفي حقوقهم، حيث يشير هذا المصطلح إلى عدم وجود جنسية. ثنائية الدون، أو بدونها. لذلك، في هذه الحالة، خلقت السلطة المعيارية حالة من التهميش والتبعية، مما جعلهم أقلية غير مرئية ومتجاهلة.


وأخيراً، فإن حالة بدو النقب في فلسطين المحتلة أكثر إثارة للجدل ويصعب تلخيصها، إذ تشمل كامل تعقيد السياق الإسرائيلي الفلسطيني. تحول مصطلح "بدو" في هذا السياق تدريجياً إلى فئة شبه عرقية مستقلة، تُعرّف على أساس التاريخ والثقافة والإقليمية والعرق واللغة والتهميش الاجتماعي والاقتصادي والتكامل المنفصل والعوامل الجيوسياسية. لذلك، فإن وضعهم كأقلية يتجاوز بكثير نطاق الأقلية القومية. فرض تصنيف البدو منذ فترة الانتداب هذه المجتمعات على وضع هامشي اجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً، أي وجود من الدرجة الثانية بحكم التعريف.


 أولاً: فصلهم تصنيف البدو هيكلياً عن العرب الفلسطينيين وعرب إسرائيل، مما أدى إلى فئة شبه عرقية مستقلة. ثانياً: ربط اللجوء الدائم إلى مصطلح "بدوي" هذه الجماعات هيكلياً بفكرة الترحال والتخلف، وكلاهما يتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة والمواطنة، وبالتالي يُنظر إليهما على أنهما أقل شأنًا. ازداد وضعهم كأقلية تعقيداً لاحقاً بسبب القضية الإسرائيلية الفلسطينية.


من جهة، يرى جزء من هذا المجتمع ضرورة مكافحة استخدام مصطلح "بدوي" كفئة للنأي بنفسه عن هذا التحيز الثقافي المُسبق. قد يُمثل إعطاء الأولوية للعروبة استراتيجيةً للهروب جزئياً من هذا التحيز الاجتماعي والثقافي، وتحقيق التكافؤ مع بقية السكان العرب المقيمين في إسرائيل. قد يُجنبهم هذا أيضاً ارتباطهم المتكرر بمجتمعات أخرى تعيش في سيناء. في الوقت نفسه، قد يُسفر رفض تصنيف البدو عن آثار جانبية غير متوقعة. ففقدان الخصوصية واعتبارهم عرباً إسرائيليين قد يُخمد مواقفهم ومطالبهم بمعاملة خاصة في إسرائيل نظراً لوضعهم المميز كبدو. لذلك، تُفسر حالات البدو في الأردن، والكويت، وإسرائيل التأثير المعياري والسياقي للوضعية والزمانية والعوامل العلائقية على قضايا الأقليات، وأهمية تقييم معنى فئة الأقلية القومية في كل سياق محدد.


الأقلية كشرط وسمة


منذ تأسيس الدول الحديثة، وبشكل متزايد خلال القرن العشرين، أصبح مصطلح الأقلية يُعرّف تقليديًا كلاً من حالة هشاشة الجماعات والمجتمعات الأصغر ديموغرافياً، بالإضافة إلى حالة الخضوع والتهميش التي تُحددها سلطة الجماعات الأكثر فاعلية وعلاقاتها المعيارية. وهكذا، تُنتج هذه التصنيفات التي تنقل فكرة التعارض الهيكلي بين الهيمنة النشطة (الأغلبية) والخضوع السلبي (الأقلية). وتُعتبر حالة البدون المذكورة آنفاً في الكويت مؤشراً في هذا الصدد. وفقاً لهذا المنظور، تُصبح الأقلية في الغالب مرادفاً لوصف أشكال مختلفة من الضعف والتمييز والاضطهاد أو الاستغلال المنهجي، دون أن ترتبط بالضرورة بالأعداد. يمكن استخدام مخطط الأقلية للحديث عن حالات مثل الفصل العنصري أو الأنظمة الاستبدادية، وكذلك لوصف ظروف التمييز والعزلة والإقصاء في السياسة والمجتمع التي تنطوي على سمات جنسانية وأجيالية. يوضح تصميم آليات التمييز الإيجابي المخصصة للمرأة والممنوحة تقليدياً للأقليات القومية، مثل نظام الحصص، كيف يمكن أيضاً إعادة النظر في قضايا النوع الاجتماعي في إطار الأقلية الاجتماعي والسياسي. فيما يتعلق بالاستبداد، تُستخدم كلمة الأقلية عمومًا للإشارة إما إلى الحرمان من الحقوق الذي يفرضه نظام قاسٍ أو إلى الحكم القمعي لمجتمع، أو مجموعة، أو عشيرة، أو عائلة على الآخرين. يمكن اعتبار الأنظمة الاستبدادية أو السلطوية أقلوية بحكم تعريفها، على الرغم من أنها تحكم عادةً بآليات واستراتيجيات وأساليب تُجزّئ وتُستدرج أو تُقصي بشكل انتقائي قطاعات كاملة من الأمة، وتُضفي شرعية وهمية على نفسها كأغلبية حاكمة دون الحاجة إلى التوافق الدقيق مع الظروف الديموغرافية والاجتماعية والسياسية. في هذه الحالة، ينقلب الفهم والدلالة التقليديان لمصطلح الأقلية تماماً، ليصبح معياراً لوصف انعدام الشرعية والحكم الشرس لفئة صغيرة على بقية السكان، مما يتعارض مع أي مبدأ ليبرالي وديمقراطي.


ولكن هناك أيضاً أشكال أخرى من "التهميش" والإقصاء التي تدخل في هذه الفئة، سواء كأوضاع أقلية وطنية أو سياسية/اجتماعية. هذه الأقليات هي لا تتناسب أو تختلف عن التعريف الرسمي لـ "الأقلية" و "الأغلبية"، إما لأنها لا تتوافق مع المعايير الدينية أو العرقية المفروضة أو بسبب التمييز الاجتماعي والاقتصادي والتحيز الثقافي. هذه الأقليات المتجاهلة ليست فقط بعضاً مما يسمى بالمجتمعات الإسلامية غير التقليدية في الشرق الأوسط، مثل العلويين في تركيا، أو البهائيين في بلدان مختلفة. مثل الغجر في أوروبا، يعاني الدوم الذين يسكنون هذه المنطقة عموماً من عزلة هيكلية لأسباب متعددة تتراوح من التحيز الثقافي والحرمان الاجتماعي والاقتصادي إلى الجهل بتاريخهم، وتقاليدهم، وأصولهم، وثقافتهم. وبالمثل، فإن السود الذين يعيشون في الشرق الأوسط ومناطق عربية أخرى يُستبعدون تقليدياً ويُقلل من شأنهم في خصوصيتهم، مستبعدين من قبل النسيج الوطني. في كلتا الحالتين، ينتج تهميشهم عن حقيقة أن "اختلافهم" لا يُحسب حتى كقضية أقلية مشروعة سواء محلياً أو إقليمياً أو على المستوى الدولي.


في الوقت نفسه، تشرح قضية ما يسمى بالزبالين ("جامعي القمامة") في القاهرة كيف يمكن تحديد أشكال التهميش من خلال مزيج من أشكال التمييز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني التي يفرضها كل من مجتمع "الأقلية"، أي المسيحيين المصريين الذين يتشاركون معهم نفس الديانة، والأغلبية، أي بقية السكان المسلمين المصريين. وبالمثل، فإلى جانب حالة الصراع المستمر مع الفلسطينيين، تقدم قضية اليهود المزراحيين في إسرائيل مثالاً آخر على العزلة والتهميش على أساس مزيج من الصور النمطية الثقافية التي تدعمها الأغلبية وتمارسها.


 الأقلية وتداعياتها المتعددة


سواء كانت سياسية، أو ثقافية، أو معيارية، أو دينية، أو عرقية، أو اجتماعية، اقتصادية أو عائلية-عشائرية، فإن الظروف التي تعزز التهميش أو الإقصاء تؤدي إلى عملية "أقلية"؛ بمعنى آخر، فإنها تضع مجموعة أو مجتمعاً أو طبقة من السكان في حالة أدنى هيكلياً (أقلية). ولكن يمكن أيضاً استخدام "الأقلية" لوصف الديناميكية التي تحفز مجموعة أو مجتمعاً معيناً على الدفاع عن حقوقه باعتباره "أقلية". وهذا يجعل كلمة أقلية مرنة للغاية وواسعة الانتشار. وكمؤسسة، يشير مصطلح الأقلية إلى الحاجة إلى اعتراف خاص وحماية وضمانات لمجتمعات عرقية لغوية أو ثقافية أو دينية متميزة ومعترف بها. وهذا هو الفهم التقليدي لمصطلح الأقلية، والذي يتوافق مع تاريخ دقيق لتدوين الحقوق الجماعية وحالة الحماية في القانون الدولي من عصبة الأمم، إلى إعلان الأمم المتحدة الأحدث بشأن الأقليات لعام 1992. كمفهوم ومبدأ، يصف هذا المصطلح ظروفاً مختلفة من القهر والإساءة، سواءً التي عانى منها أو فُرضت عليه، ويشمل "الضحايا" و"الجناة". في الوقت نفسه، تبقى التفسيرات والاستخدامات المحتملة مرتبطة بطريقة ما بأحد المعايير التي أنتجت في الأصل مفهوم الأقلية القومية، ألا وهو الإقامة والارتباط التاريخي الواضح بأرض ومنطقة. ومع ذلك، في أوقات الهجرات الجماعية، سواء لأسباب أمنية أو لأسباب سياسية واقتصادية ومناخية، قد يحتاج هذا الارتباط الإقصائي بين الأقلية والإقليمية إلى مراجعة وتطوير من أجل استيعاب ظروف أقلية جديدة أو عمليات "بناء الأقليات". إن نمو مجتمعات جديدة من السكان والعمال، غالباً على هامش "أوطانهم" الجديدة، قد يثير في المستقبل تساؤلات جديدة حول الأقليات، والتي غالباً ما يتم تجاهلها حالياً. من وجهة نظري، لا تقتصر هذه الظواهر على أوروبا والغرب ككل. في منطقة الشرق الأوسط اليوم، يُثير عدد الأفراد الآسيويين والأفارقة العاملين في المنطقة، سواءً في الشرق الأدنى أو الخليج، قضايا كبيرة تتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية، بالإضافة إلى الحقوق الجماعية والفردية. هذا لا يعني بالضرورة إدراج هذه التجارب ضمن نطاق الأقليات، ولكنه يثير تساؤلات حول ضرورة التمييز بين هذه الحالات على مستوى المجموعات والمجتمعات المحلية.


لذلك، لا ينبغي اعتبار جودة أي حالة أو وضع من أوضاع الضعف مبنياً على الأرقام فحسب، بل يجب وضعها في سياقها والبحث فيها بعمق، كل حالة على حدة، من منظور كلٍّ من فئتي الأغلبية والأقلية. عند تطبيق مصطلح الأقلية دون سياق دقيق، فإنه يميل إلى الإفراط في التعميم على أساس توزيع ضمني لا يقبل الشك للقيم بين "الضحايا" و"المضطهدين". من ناحية، ورغم أن "تهميش" المهمشين أو المعزولين أو المضطهدين يبدو وكأنه يُعطي صوتاً للمجتمعات المُجبرة على حالة من الحرمان، إلا أنه غالباً ما يُحيي شكوكاً قديمة ونهجًا ثقافية. إن الميل إلى إبراز العوامل العرقية والدينية كعدسة وحيدة لتفسير سياسات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم يُعيد باستمرار تجسيد الجهات الفاعلة والموضوعات التي تم تحليلها، مُعيداً إنتاج صورة للمنطقة وسكانها ككيانات ثابتة، قابلة للتمييز موضوعياً على أساس هوياتهم "ما قبل الحداثة" و"دون الوطنية" التي تتطلب فقط تطبيق حلول سياسية متماسكة وثابتة لم تُعتمد بعد - بالمناسبة. تُصبح الفسيفساء العرقية والدينية في منطقة الشرق الأوسط مصدراً لجميع الأزمات والصراعات. وهكذا يُعاد تنظيم الساحة السياسية إلى مجموعات ومجتمعات مُتماسكة وسهلة التمييز على أساس "الهويات الدينية" التي تُنبئ فوراً بسلوكيات وتطلعات سياسية مختلفة.


من ناحية أخرى، يميل الافتقار إلى السياق والتعميمات المُفرطة إلى تجاهل أن خطابات الأقليات تُمثل أيضاً موارد سياسية ورمزية قوية تحت تصرف المجموعات والمجتمعات. كما ذُكر سابقاً، يُمكن تأييد خطاب الأقليات إما من قِبَل نظامٍ ما لإضفاء الشرعية على حكمه، كما حدث في سوريا، أو من قِبَل جماعةٍ أو مجتمعٍ هشٍّ لتعزيز حقوقه. في الحالة الأخيرة، لا ينبغي اعتبار المجتمع الهشّ المُعرّف كأقليةٍ محروماً تلقائياً من القدرة على التأثير. هذه الأقليات ليست دائماً ضحايا سلبيين، ولكنها غالباً ما تستخدم استراتيجياتٍ مختلفةً للتفاعل مع الأغلبية، بدءًا من الوساطة والتوفيق والاندماج، وصولاً إلى التمكين الذاتي والتعبئة، وحتى خيار الهجرة المُتطرف. لذلك، تُشارك هذه الأقليات بفاعلية في تعريف هذه الفئة ووضعها في سياقها وتطويرها. على سبيل المثال، بينما طرح المؤتمر القبطي الأول عام 1911 فكرة وجود أمة قبطية، رفض جزء كبير من هذه الطائفة علناً، خلال مناقشة الدستور المصري (1922)، خطابات الأقليات ونظام الحصص القائم على انتمائهم الديني المتميز، واعتبروا مصيرهم في الأمة المصرية جزءًا كاملاً من "أغلبية" البلاد. وبالمثل، عزز تدوين المجتمعات المختلفة التي تعيش في العراق الحديث نقاشاً معقداً حول تفسير فئة الأقلية.


 في عشرينيات القرن الماضي، رفض اليهود الناطقون بالعربية في العراق تصنيفهم كأقلية، مع إعطاء الأولوية لتحديد هويتهم كعراقيين. بدلاً من ذلك، سعت الكنيسة الكلدانية إلى التوسط في هذه الفئة للحصول على اعتراف كامل باستقلاليتها الكنسية وللوصول إلى المجال السياسي العراقي، مما عزز دخول البطريرك الكلداني إلى مجلس الشعب لممارسة نفوذ مسيحي على مستوى النخبة العراقية. فسرت الكنيسة الكلدانية وضع الأقلية كمورد لحماية المجتمع، ولكن ليس لفصله عن النسيج الوطني أو جعله هامشياً سياسياً. وأخيراً، يدعم الآشوريون والأكراد موقفاً مختلفاً تماماً، حيث يستخدمون على نطاق واسع خطاب الأقلية ليكونوا مميزين ومعترف بهم في شخصياتهم.


في الواقع، فإن كلمة "أقلية" ليست "محايدة" ولا "أحادية" في دلالاتها وتداعياتها. فهي تشمل بطبيعتها العديد من المستويات التحليلية المختلفة، من المعياري إلى المؤسسي، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والتاريخي. لا ينبغي الخلط بين هذه المرونة والنسبية، مما يجعل مصطلح "أقلية" قابلًا للاستخدام دائماً. كما ذُكر في بداية هذه النظرة العامة، ينبغي وضع قضايا الأقليات في سياقها وفهمها كعملية ونتيجة للتداخل بين الموقعية، والزمانية، والتمثيلية، والسمات المعيارية السياسية. هذا الترابط هو ما يجعل قضايا الأقليات حاضرة بشكل خاص في مناطق مثل منطقة الشرق الأوسط، ولذلك تظل هذه القضايا منظوراً ذا مغزى يمكن من خلاله تحليل مسار الأزمة متعدد الأوجه الحالي في هذه المنطقة.

غزة: اختبارٌ لتسامح الرأي العام مع مستويات القتل والدمار.. تواطؤ العالم الصامت/ الدكتور حسن العاصي

 


أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا


 يُظهر الهجوم العسكري الإسرائيلي العنيف على غزة، وحشية جماعية مُدبّرة على نطاق هائل. لقد أسفر هذا العدوان عن مقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير البنية التحتية لغزة، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، بينما لا يزال معظم القادة السياسيين في العالم مترددين في إدانة هذا السلوك أو اتخاذ إجراءات فعّالة. إن صمتهم، المُشكّل بدافع المصلحة الذاتية، والشعور بالذنب التاريخي، والخوف من رد الفعل العنيف، يُثير تساؤلات مُلحّة حول المسؤولية الأخلاقية والمساءلة العالمية.


لطالما جادل الكثيرون بأن الصمت على ما يُسمّى شراً وتوحش أو انتهاكات لحقوق الإنسان، بل أبادة الإنسانية نفسها، يُعدّ تواطؤاً في هذا الشر. ومن بين هؤلاء بعضٌ من أعظم العلماء والفلاسفة الأخلاقيين ونشطاء حقوق الإنسان، مثل ـ على سبيل المثال ـ "ألبرت أينشتاين: و"المهاتما غاندي"، و"الدكتور مارتن لوثر كينغ"، الذين قيل إنهم قالوا: "إن المأساة الحقيقية ليست في ظلم وقسوة الأشرار، بل في صمت الأخيار على ذلك".


هناك الآن اعتراف واسع النطاق بأن الصمت، وخاصةً من قِبل من هم في مواقع السلطة الرسمية والقادرون على التصرف، يعني ضمنياً الموافقة على الأفعال الشريرة، إن لم يكن الموافقة الصريحة عليها. ومع ذلك، فإن الرفض المُبرر المعاصر من قِبل قطاعات واسعة ممن يُفترض أنهم "أخيار" في مواقع المسؤولية لإدانة السلوك الفظيع علناً، ناهيك عن اتخاذ إجراءات لوقفه، يُشير إلى وجود دوافع مضادة قوية تعمل.


هل يهتم أحد بالمذبحة الجماعية في غزة؟


قُتل للآن ما لا يقل عن 59,680 شخصاً ووفقاً للأمم المتحدة (حوالي 70% منهم نساء وأطفال) من سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة على يد الجيش الإسرائيلي، وذلك وفقاً لشهادات الميلاد والوفاة، بالإضافة إلى ما يُقدر بنحو 13,000 شخص آخرين في عداد المفقودين ويُفترض أنهم دُفنوا تحت الأنقاض. كما جُرح ما لا يقل عن 125,000 آخرين.


ووفقاً للأمم المتحدة، دمر القصف الجوي أو الأرضي الإسرائيلي معظم المباني والمرافق السكنية والتجارية والحكومية والتعليمية والطبية ومنشآت الإمدادات الغذائية في جميع أنحاء غزة. وقد شرد قسرًا 90% من سكان غزة، عادةً ثلاث أو أربع مرات أو أكثر، إما بسبب تعرض منازلهم للتدمير أو لأن أوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش الإسرائيلي البغيض بإشعارات قصيرة وجهتهم إلى ما يسمى "المناطق الآمنة" بعيداً عن هجوم وشيك للجيش.


غالباً ما يهاجم الجيش الإسرائيلي هذه "المناطق الآمنة" - المدارس الفارغة التي تُستخدم كملاجئ للنازحين ومناطق إيواء مؤقتة من الخيام - مما يتسبب في المزيد من الضحايا المدنيين. تعرضت جميع مستشفيات وعيادات غزة تقريباً لقصف جيش الدفاع الإسرائيلي وإطلاق النار و/أو توغلات جيش الدفاع الإسرائيلي، وأحياناً عدة مرات، وأكثر من نصفها مغلق أو يعمل جزئياً فقط.


بالإضافة إلى ذلك، منع الجيش الإسرائيلي جميع شحنات المواد الغذائية الأساسية والأدوية والوقود والمياه إلى غزة من 2 مارس إلى 19 مايو 2025، مما تسبب في كارثة إنسانية. حتى بعد رفع الحصار جزئياً، سُمح بدخول أقل من 20% من الشاحنات الـ 600 المطلوبة يومياً، وبمجرد دخولها، أعاقت القيود الإضافية التي فرضها الجيش الإسرائيلي وانعدام الأمن في المستودعات توزيع المساعدات. بحلول نهاية مايو، ومع المجاعة الجماعية وارتفاع عدد القتلى، تجاهلت إسرائيل - بدعم من الولايات المتحدة - شبكة المساعدات التابعة للأمم المتحدة الموجودة في غزة وفرضت منظمة مساعدات جديدة تسمى مؤسسة غزة الإنسانية (GHF). ومع ذلك، أدى قلة خبرتها المحلية إلى حالة من الفوضى، حيث أُطلق النار على عشرات من طالبي الإغاثة، ولم يُوزع سوى الحد الأدنى من المساعدات.


رفضت منظمات الإغاثة الدولية، ذات الخبرة الطويلة في غزة، الخطة الجديدة رفضاً قاطعاً، واعتبرتها ساذجة وغير عملية. يحيط الجدل بالمشروع برمته، لا سيما بعد أن تم الترويج على نطاق واسع بأن المؤسسة لا تسمح طواعيةً للحكومة الإسرائيلية بتوجيه أنشطتها والتدقيق فيها فحسب، بل أيضاً لأن مالكها الجديد، بحسب التقارير، يشغل منصب ضابط كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويمتلك شركة أمن خاصة، تُدعى "سيف ريتش سوليوشنز" Safe Reach Solutions، والتي ستعمل مع المؤسسة.


كما قامت إسرائيل بتسليح عصابات فلسطينية إجرامية - بعضها مرتبط بإرهابيي داعش - لحماية عمليات مؤسسة الإغاثة العالمية في غزة. ومع ذلك، تُمارس هذه العصابات أيضاً عمليات ابتزاز لحماية منظمات الإغاثة الأخرى.


الموقف الإسرائيلي


إن استراتيجية "حرب التضاريس المدمرة" التي ينتهجها جيش التدمير الإسرائيلي، كما هو متوقع، كانت لها عواقب وخيمة على المدنيين. فالمذبحة الجماعية المتواصلة التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين في غزة - والتي أسفرت عن مقتل 70 ضعفاً وإصابة 57 ضعفاً مقارنةً بالخسائر الإسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 - بالإضافة إلى التدمير شبه الكامل لجميع المباني والمرافق والإمدادات الأساسية ووسائل العيش، إلى جانب الحصار الكامل على الغذاء والمساعدات الإنسانية لمدة ثلاث أشهر، تشير إلى دوافع إسرائيلية غير الضرورة العسكرية. مع ذلك، لا تزال الحكومة الإسرائيلية مُصِرّة على أن القضاء التام على حماس وحده كافٍ، بغض النظر عن الموت والدمار "الجانبي". وأخيراً، في مايو/أيار 2025، رفضت العديد من الحكومات المؤيدة لإسرائيل تقليدياً (باستثناء الولايات المتحدة) علناً مبررات إسرائيل. ورغم أن غالبية سكان غزة، البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، لم يُقتلوا، إلا أن الأعداد في ازدياد، والنية المحددة للحكومة الإسرائيلية وجيشها تُطابق معايير اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948. ويبدو مسار الأحداث إبادة جماعية، أو بالأحرى إبادة جماعية أولية، وليست إبادة مُنجزة. ومع ذلك يقول البروفيسور "آفي شلايم" Avi Shlaim المؤرخ الإسرائيلي البريطاني، بأنها بالفعل إبادة جماعية بحكم الأمر الواقع. وبغض النظر عن كيفية تصنيفها، فهي بلا شك فظاعة هائلة وبطيئة الحركة.


رواية أكثر منطقية


إذن، ما هي الرواية المنطقية التي يُمكن أن تُفسر هذه الوحشية الجماعية المُدبّرة؟ هنا، نواجه تبنياً غريباً ومتناقضاً من نتنياهو، وقادة إسرائيليين آخرين، ومتحدثين رسميين، وسياسيين، والجيش الإسرائيلي. فمن جهة، يؤكدون باستمرار أن إسرائيل لا تزال في خطر واضح ومباشر من تدمير حماس لها، لدرجة تستدعي مواصلة حرب غزة بلا هوادة وقسوة. ويستمر هذا الادعاء رغم أن جيش الدفاع الإسرائيلي يمتلك 169 ألف جندي بري مسلح، بالإضافة إلى 465 ألف جندي احتياطي، مقارنةً بحماس التي كان لديها ما يُقدر بنحو 30 ألف مقاتل (انخفض الآن إلى حوالي 12 ألفاً).


كما يمتلك الجيش الإسرائيلي أسلحة أكبر، تشمل 40 ألف مركبة مدرعة، و350 قطعة مدفعية ذاتية الحركة، و171 نظام مدفعية مقطور، و50 طائرة هليكوبتر حربية، و600 طائرة - منها 272 طائرة حربية - والعديد من الطائرات المسيرة. لا تمتلك حماس أي أسلحة من هذا القبيل سوى الطائرات المسيرة والصواريخ الصغيرة والأسلحة النارية وقذائف آر بي جي، ولا تشكل سوى 7% من تعداد القوات البرية الإسرائيلية المسلحة، أو 1.9% إذا أُضيف جنود الاحتياط. لذلك فمن غير المرجح أن تُشكل تهديداً وجودياً لدولة إسرائيل.


من ناحية أخرى، يُصرّ نتنياهو، إلى جانب قادة الجيش الإسرائيلي والمتحدثين باسم الحكومة، على أن إسرائيل في إدارتها لحرب غزة تُمثّل نموذجاً أخلاقياً. ويزعمون أن البلاد تبذل جهوداً كبيرة للالتزام بلغة وهدف قوانين الحرب، وخاصةً في حماية المدنيين. وينكرون جميع الادعاءات المتزايدة، على الرغم من إحصاء الضحايا المدنيين، وأدلة الفيديو، وروايات شهود العيان، والأدلة الجنائية، والتقارير الطبية.


وقد اتهمت المحاكم الدولية إسرائيل بارتكاب جرائم حرب مختلفة، بما في ذلك الإبادة الجماعية. لا تقبل إسرائيل ولا الولايات المتحدة هذه الاتهامات ولا تعترفان بهذه المحاكم. ومع ذلك، وكما لاحظ مراقبون مستقلون مرموقون، فإن رد فعل الحكومات الأجنبية على وحشية إسرائيل الجامحة قد يطاردها لسنوات قادمة.


مع فقدان مبرر الضرورة العسكرية مصداقيته عالمياً، لماذا إذن ترغب إسرائيل في ارتكاب مثل هذه المذبحة الجماعية العبثية والدمار في غزة؟ يكمن الجواب القاطع على هذا السؤال في تفاعل معقد، وغالباً ما يكون ساماً، بين عوامل متعددة. ويشمل ذلك العقاب الجماعي الانتقامي والمعاناة التي لحقت بالسكان المدنيين رداً على الإهانات التي وُجهت لجنود الجيش الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وخدشت صورة الجيش الذي لا يهزم. تُسهم المعتقدات الدينية الراسخة ومفهوم أرض إسرائيل، إلى جانب التفسيرات الصهيونية المتطرفة للتفوق اليهودي وحقوقهم، في هذه الديناميكية. بالإضافة إلى ذلك، هناك عناصر من التطهير العرقي الانتهازي والاستيلاء على الأراضي، بالإضافة إلى الإجراءات اليائسة التي اتخذها رئيس الوزراء اليميني نتنياهو منذ عام 2004 للحفاظ على قبضته على السلطة.


لقد سمح جنون العظمة الذي يتسم به نتنياهو للجماعات الصهيونية القومية المتطرفة المتعصبة بالحصول على المزيد من النفوذ، بمنحهم مناصب في حكومته مقابل ولائهم. وهم الآن يسيطرون على نتنياهو ويُملون سياسة الحكومة. وقد شكّل هذا النفوذ خطةً شاملةً بشأن غزة والفلسطينيين، بمن فيهم أولئك في الضفة الغربية المحتلة. تهدف هذه الخطة إلى التنفيذ الكامل لقانون الدولة القومية الإسرائيلي لعام 2018، وخاصةً المادة 7 منه. تشجع هذه المادة صراحةً على مصادرة المستوطنين الإسرائيليين للأراضي الفلسطينية وطرد أصحابها.


أصبح واضحاً أن الهدف النهائي هو التهجير الكامل أو الترهيب أو الخروج القسري بالعنف لجميع الفلسطينيين من إسرائيل وغزة والضفة الغربية. لا تتضمن هذه الخطة المتطرفة تحديد وجهة حوالي 5.5 مليون فلسطيني مطرود، وقد أوضح الوزراء الإسرائيليون أن هذه ليست مشكلتهم وأنهم لا يكترثون طالما هم في عداد المفقودين!


إسرائيل الكبرى


إن أيديولوجية أرض إسرائيل ومهمة التوسع الإقليمي لإسرائيل الكبرى التي يتبناها القوميون المتطرفون والصهاينة المتطرفون، الذين يسيطرون على نتنياهو واستراتيجية جيش الدفاع الإسرائيلي، لها نطاقٌ هائل. لا يقتصر الأمر على غزة والضفة الغربية فحسب، بل يشمل أيضاً لبنان وسوريا والأردن ومناطق واسعة من العراق والمملكة العربية السعودية، بل يمتد إلى مناطق بعيدة كالكويت. ويُعد ضم غزة والضفة الغربية وطرد جميع الفلسطينيين خطوتهم الأولى.


ويُؤكد مراراً وتكراراً على مبررات هذه المطالبات الإقليمية الجريئة، مع التركيز على الاعتقاد بأن الله أبلغ إبراهيم قبل نحو 4000 عام أنه وجميع نسله سيرثون "أرض إسرائيل بأكملها". إلا أن عددًا قليلاً من اليهود المتعصبين فكرياً سياسياً عن "أرض إسرائيل" لم يستمدوا أيديولوجية "أرض إسرائيل" السياسية إلا في أواخر القرن التاسع عشر، كجزء من نشأة الحركة الصهيونية. وظهرت خرائط تُظهر امتداد "أرض إسرائيل" من مصر غرباً إلى الكويت شرقاً، وصولاً إلى الأناضول شمالًا في تركيا الحديثة.


اليوم، يُروّج المُستبدون والقادة والنشطاء القوميين الإثنيين-الدينيين الإسرائيليون بشكل مُتزمّت لتاريخ مُعدّل للوجود الفلسطيني واليهودي، ويُصرون على أن الفلسطينيين ليسوا سوى مُستوطنين حديثين لم يكن لهم أي حقوق في الأرض، وليس لهم الحق في التواجد في أرض إسرائيل.


وفقاً للتعداد البريطاني لعام 1922 لم يُمثل اليهود سوى ١١٪ من السكان، بينما بلغت نسبة المسلمين الفلسطينيين ٧٨٪. وبحلول عام 1948، وبفضل معدل المواليد الطبيعي والهجرة، ظلت هذه النسبة ٣٢٪ فقط، مقابل ٦٠٪ للمسلمين الفلسطينيين. وكما صرحت رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، غولدا مائير، بشكل قاطع عام 1970وقالت "أنا فلسطينية. ومن عام 1921 إلى عام 1948، كنت أحمل جواز سفر فلسطينياً".


يقول "بتسلئيل سموتريش" وزير المالية الإسرائيلي: "لا وجود لشعب فلسطيني. لا يوجد تاريخ فلسطيني". 19 مارس 2023. وقال: سيُحصر سكان غزة، البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، في "منطقة إنسانية" ضيقة، بينما يُدمر باقي غزة بالكامل... "سيشعرون باليأس التام، مُدركين أنه لا أمل ولا شيء يبحثون عنه في غزة، وسيبحثون عن توطين لبدء حياة جديدة في أماكن أخرى". 6 مايو 2025.


"إيتمار بن غفير" وزير الأمن القومي الإسرائيلي: حرب غزة تُتيح "فرصة للتركيز على تشجيع هجرة سكان غزة... لا أستبعد الاستيطان اليهودي هناك... إنه أمرٌ مهم". 1يناير 2024.


وقال: "لا حاجة لجلب المساعدات. لديهم ما يكفي. يجب قصف مخازن حماس الغذائية". 6 مايو 2025.


"عميحاي إلياهو" وزير التراث الإسرائيلي: "بإمكان الشعب الفلسطيني الذهاب إلى أيرلندا أو الصحاري. على الوحوش في غزة إيجاد حل بأنفسهم". عندما سُئل عما إذا كان ينبغي على إسرائيل إلقاء قنبلة نووية على غزة وقتل جميع سكانها، أجاب: "هذا خيار". 5 نوفمبر 2023. وأضاف على إسرائيل "إيجاد طرقٍ لسكان غزة أشد إيلاماً من الموت" لهزيمتهم وكسر معنوياتهم. 6 يناير 2024. كما قال: "يجب أن نوقف المساعدات الإنسانية. لا مشكلة في قصف مخزوناتهم من الغذاء والوقود. يجب أن يموتوا جوعاً". 6 مايو 2025.


"إسرائيل كاتس" وزير الدفاع الإسرائيلي: "سياسة إسرائيل واضحة. لن تدخل أي مساعدات إنسانية إلى غزة، ومنع هذه المساعدات هو أحد أدوات الضغط الرئيسية... لا أحد يخطط حالياً للسماح بدخول أي مساعدات إنسانية إلى غزة، ولا توجد أي استعدادات.". 17 أبريل 2025.


"ماي جولان" وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية: "أنا فخورة شخصياً بخراب غزة." 21 فبراير 2024. وقالت: "الاستيلاء على الأراضي هو أكثر ما يؤلمهم." إعادة بناء المستوطنات اليهودية في غزة ستكون "درساً لن ينساه العرب أبداً." 21 أكتوبر 2024.


"نيسيم فاتوري" عضو الكنيست الإسرائيلي قال: "يجب حرق غزة وشعبها." 10 يناير 2024.


"من البريء في غزة؟ خرج المدنيون وذبحوا الناس بدم بارد." على إسرائيل "فصل الأطفال عن النساء وقتل البالغين في غزة، نحن نبالغ في مراعاة مشاعرهم." ٢٤ فبراير ٢٠٢٥.


الصهيونية المناهضة للتطرف ليست معاداة للسامية.


من المرجح أن يُتهم أي شخص ينتقد الإجراءات الإسرائيلية المعاصرة ضد الفلسطينيين بأنه معادٍ للسامية من قِبل الصهاينة المتعصبين الذين يحاولون صرف الانتباه عن وحشيتهم في غزة. يُسلط الإعلامي الأمريكي/الفرنسي "بيتر إيزاكسون" Peter Isackson الضوء على عبثية هذا "التلاعب النفسي" الدفاعي، وقد أيدت محاكم مختلفة، مثلاً في الدنمارك وأستراليا هذا التمييز. في حين أن بعض منتقدي الإجراءات الإسرائيلية قد يكونون معادين للسامية، فإن الغالبية العظمى ليسوا كذلك. إنهم ببساطة ينتقدون الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة للمعايير الحضارية التي المستمرة في غزة. هذه الإدانة ليست موجهة ضد جميع الإسرائيليين، أو جميع اليهود، أو حتى ضد جميع الصهاينة منهم. بل هي ضد الأقلية الصهيونية المتطرفة المتعصبة وداعميها السياسيين الذين يُدبّرون حالياً المذبحة والتطهير العرقي للفلسطينيين في غزة (والضفة الغربية المحتلة). كل ذلك بينما يستمتعون بالإرهاب والقتل وتجويع الفلسطينيين..


إنه نقدٌ للاضطراب النفسي السادي الشامل الذي سيُصنّف إسرائيل والإسرائيليين، بجانب المذنبين كمجرمين في قائمة كوارث الإبادة الجماعية الأخرى، مثل تلك التي واجهها الأرمن في عهد العثمانيين (1915-1923)، والتوتسي والهوتو المعتدلون في رواندا (1994)، والكمبوديون على يد بول بوت والخمير الحمر (1975-1979)، والروهينجا المسلمين في ميانمار (2016-2022)، ونعم، ومن المفارقات، اليهود والأقليات الأخرى في جميع أنحاء أوروبا في المحرقة النازية (1933-1945).


كان النموذج الصهيوني الحميد الأصلي، الذي أسسه "ثيودور هرتزل" و"حاييم وايزمان"، يدور حول إقامة وطن دائم وآمن للشتات اليهودي إلى جانب العرب الفلسطينيين. وقد نصّ هذا النموذج، كما لُخّص في وعد بلفور عام 1917، على أن الفلسطينيين ستُصان حقوقهم القائمة وحمايتها كاملةً. وعلى وجه الخصوص، "لن يُؤتى بأي عمل من شأنه أن يُمسّ بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين". منذ عام 1948، حطّت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من قدر الفلسطينيين إلى مستوىً لا يُطاق، مع انتقاصٍ من حقوقهم. في القرن الحادي والعشرين، تراجع نظام نتنياهو تماماً عن منحهم أي حقوق. وبحلول مايو 2025، تحولت حرب غزة وقمعه في الضفة الغربية إلى تطهير عرقي شامل ومصادرة للأراضي.


لماذا هذا الصمت المتواطئ؟ وهل هو كامل؟


مع هذه الصورة المروعة لقطاع غزة، ليس من المستغرب أن تبدأ تقارير الأمم المتحدة بإدانة الهجمات الإسرائيلية الصارخة. علاوة على ذلك، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2024 أن على إسرائيل تفكيك احتلالها لجميع الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك غزة والضفة الغربية، بحلول 15 سبتمبر 202. وقد فشلت محاولات عديدة لتقديم قرارات أخرى ذات صلة ضد إسرائيل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو).


منذ أوائل عام 2024 كان من المتوقع أيضاً أن يكون هناك تصعيد سريع وواسع النطاق إدانة إسرائيل، إن لم يكن اتخاذ إجراءات، من العديد من الحكومات والقادة الأجانب الذين يدّعون الدفاع عن حقوق الإنسان العالمية ومعارضة الاستبداد المهيمن. ومع ذلك، وبغض النظر عن الشكاوى العرضية، فقد استغرق الأمر أكثر من عام قبل أن يبدأ القادة الأفراد، غالباً ببطء وعلى مضض وبطريقة شبه اعتذارية، في انتقاد إسرائيل. ولم تبدأ الدعوات الكبيرة لفرض عقوبات واتخاذ تدابير من قِبل الحكومات الأجنبية، التي عادةً ما تكون صديقة لإسرائيل، فعلياً إلا في ربيع عام 2025.


على سبيل المثال، ألغت إسبانيا في مايو 2025 عقوداً تزيد قيمتها عن 290 مليون يورو (330 مليون دولار) لتوريد منتجات دفاعية إلى إسرائيل، واقترحت عقوبات أوسع نطاقاً على حلفائها الأوروبيين. في عام 2024، بدأت إسبانيا في منع وصول أي سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل إلى موانئها، كما حدث في مايو ونوفمبر من ذلك العام.


فرضت المملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والنرويج عقوبات على وزيري الحكومة الإسرائيليين "بتسلئيل سموتريتش" وإ"يتامار بن غفير" في 10 يونيو 2025، بتهمة التحريض على "العنف المتطرف والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني". تشمل العقوبات حظر السفر وتجميد الأصول. ومن المرجح أن تفرض إسبانيا وفرنسا عقوبات مماثلة.


في فبراير 2024، منعت أيرلندا مرور أي أسلحة لإسرائيل عبر أراضيها. وفي مايو 2025، حظرت أيرلندا استيراد أي سلع قادمة من الأراضي الفلسطينية المحتلة.


قبل يونيو 2025، لم يتخذ سوى عدد قليل من القادة السياسيين الأجانب موقفاً علنياً ضد إسرائيل. علق وزير الخارجية الأسترالي السابق "بوب كار" Bob Carr في 26 مايو/أيار 2025، على حرب إسرائيل على غزة، قائلاً: "نعم، إنها إبادة جماعية. نعم، إنهم يُجوّعون المدنيين. نعم، هؤلاء السياسيون المتعصبون للمستوطنين هم قتلة أطفال. لا يمكن إنكار أيٍّ من هذا بعد الآن".


في 26 مايو/أيار 2025، أدان "أنتوني ألبانيز" Anthony Albanese رئيس الوزراء الأسترالي، الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة، مُضيفاً أنه "من غير المقبول بتاتاً" أن تُجوّع حكومة نتنياهو سكان غزة.


في مايو/أيار 2025، وجّه عضو مجلس النواب البريطاني المحافظ، "مارك بريتشارد" Mark Pritchard نداءً مؤثراً إلى مجلس النواب البريطاني لحماية المدنيين في غزة من الحصار الإسرائيلي المفروض على الغذاء والمساعدات.


كما برز زعيم حزب العمال البريطاني السابق "جيريمي كوربين" Jeremy Corbyn ووزيرة الداخلية في حكومة الظل "ديان أبوت" Diane Abbott في تعليقاتهما الحازمة على سلوك إسرائيل في غزة عقب هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.


ماذا عن السلطة الرابعة؟


في 12 مايو/أيار 2025، نشر كاتب عمود في صحيفة التايمز وعضو مجلس النواب المحافظ السابق "ماثيو باريس" Matthew Parris أحد أكثر الانتقادات جرأة لسياسة بريطانيا تجاه إسرائيل. كتب: "لقد وصلنا إلى حدٍّ يضطر فيه حلفاء إسرائيل الغربيون إلى قول 'كفى' - ويعنون ذلك فعلاً". اتهم باريس بريطانيا بالاختباء وراء القوة الأمريكية، بينما يرددون عبارات فارغة عن "ضبط النفس" و"القانون الدولي"، في الوقت الذي يزودون فيه إسرائيل بأقوى سلاح لديها - الصمت. وتحدى كلاً من اليسار البريطاني والمعارضة المحافظة لتخليهما عن التزاماتهما الأخلاقية. وتساءل: "لماذا، من خلال الصمت والدعم الصامت، غطينا هذه الفظاعة؟". ثم قدم إجابة صريحة. لقد شكّل الشعور بالذنب تعاطف الغرب مع نضال إسرائيل من أجل البقاء. شكّل عار ماضي أوروبا وندم الغرب المتواصل مصدر رزق سياسي عميق لدولة صغيرة مُحاصرة تنهل منه. وجادل بأن إسرائيل حوّلت الضحية إلى رصيد استراتيجي.


لكن هذا المصدر آخذ في الجفاف. لا يبدو أن هناك ما يوقف مساعي إسرائيل نحو الضم - غزة أولاً، ثم الضفة الغربية - حيث يواصل المستوطنون الاستيلاء على الأراضي بموافقة حكومية هادئة. ينتشر الآن انحلال أخلاقي بطيء ومُفسد عبر السياسات المدنية والعسكرية. وحذر باريس من أن الإسرائيليين قد يستيقظون يوماً ما ليجدوا أن العالم لا ينظر إليهم كمنارة للديمقراطية، بل مجرد نظام قمعي آخر في المنطقة.


وقد عكس تقييم باريس الصارخ التوتر الأخلاقي الذي عبر عنه محافظ بريطاني آخر، وهو كاتب عمود في صحيفة التايمز، اللورد "دانيال فينكلشتاين" Daniel Finkelstein الحاصل على وسام الإمبراطورية البريطانية. في مقاله "ما هو شعوري تجاه غزة؟"، عبّر فينكلشتاين عن ألم مشاهدة الحرب تتكشف، سواءً كيهودي ملتزم - عانت عائلته من محرقة النازية - أو كإنسان روعته معاناة غزة. كتب: "أشعر بالضيق والرعب واليأس. أشعر بالاكتئاب، واليأس، والاشمئزاز، والتحدي. وفوق كل شيء، أشعر بالهزيمة".


أدان فينكلشتاين فكرة تهجير الفلسطينيين بشكل دائم أو الاستيطان في الضفة الغربية، محذراً من أنه إذا تحولت حرب إسرائيل الدفاعية إلى حملة تهجير، فإنها ستتجاوز الحدود الأخلاقية. وكتب: "ستكون جميع العبارات التي استُخدمت للسخرية من قبل معارضي إسرائيل قابلة للتطبيق". ورفض أسلوب العقاب الجماعي، مشيراً إلى أنه إذا سعت إسرائيل إلى تدمير غزة بدلاً من حماس، فإن الخط الفاصل بين سقوط ضحايا مدنيين والإيذاء المتعمد سيتلاشى. وجادل بأن تجويع المدنيين ليس استراتيجية - بل هو ببساطة أمر غير مقبول. ويضيف أن إقامة إسرائيل الكبرى بالقوة أمرٌ لطالما اعتبره "خطأً أخلاقياً وخطأً استراتيجياً"، وأن الكثير من اليهود يتفقون معه.


أصواتٌ معارضة في إسرائيل


على الرغم من التنافر الهائل في دعاية الحكومة الإسرائيلية، وداعميها الإعلاميين، وشرائح واسعة من سكانها، وحملة ترهيب وإسكات المعارضة لحرب نتنياهو على غزة، لا تزال هناك أصواتٌ واضحةٌ داخل المجتمع الإسرائيلي لن تُسكت أو تُجبر على الامتثال.


على سبيل المثال، يندد مقال "عوديد نعمان" Oded Na’aman "الصمت المُهدد" Menacing Silence ببلاغةٍ بالإنكار المُستمر والإخفاء والرقابة الذاتية من قِبل وسائل الإعلام الإسرائيلية بشأن واقع غزة. ويشير إلى أن الجمهور الإسرائيلي مُشوَّشٌ للغاية ومليءٌ بالشك الذاتي لدرجة أنه يُصبح أهدافاً سهلةً للمتعصبين والسياسيين المُتلاعبين الذين يُقدمون مستقبلاً خيالياً. في الوقت نفسه، "لا توجد ببساطة رؤيةٌ متاحةٌ لمستقبلٍ مُحتمل". إنهم "يرفضون النظر مباشرةً إلى كارثة غزة... لأن معرفة دمار غزة هي معرفة حقيقية بدمار إسرائيل. وتصريحاتهم بالصلاح لا تقل شراسةً عن خوفهم من فسادهم".


وكما يشير البروفيسور الإسرائيلي "حاييم غانس" Chaim Gans فإن طبيعة حجج الصهاينة المتطرفين، التي تُعرّف نفسها بنفسها وتخدم مصالحها الذاتية، "لا تصلح إلا لإسرائيل"


أولئك الذين يصدقونهم"، وأنهم "لا يبذلون أدنى محاولة لتقديم حجج أخلاقية أو مقبولة عالمياً، بل يعززون تحيزات من اقتنعوا بها بالفعل". ويلاحظ أن سعي دولة متطرفة لتقرير المصير قد يطمس سعي دولة أخرى المشروع، وقد ينطوي على استيلاء إجرامي على الأراضي.


لطالما عارض رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "إيهود أولمرت" Ehud Olmert استراتيجية نتنياهو وسلوكه في حرب غزة، وبحلول ربيع عام 2025، كان يزداد خيبة أمله وقلقه. ومع تزايد مذبحة المدنيين الفلسطينيين وتكثيف قصف جيش الدفاع الإسرائيلي وإطلاق النار والنزوح الجماعي، انفجر أولمرت الغاضب أخيراً في مقابلات مع "هآرتس"Haaretz و"سي إن إن" CNN ووسائل إعلام أخرى: "ما هذا إن لم يكن جريمة حرب؟"، متهماً نتنياهو وأعضاء الحكومة اليمينيين المتطرفين "بارتكاب أفعال لا يمكن تفسيرها بأي شكل آخر... ما نفعله في غزة الآن هو حرب دمار: قتل عشوائي، بلا حدود، وحشي، وإجرامي للمدنيين". وصرح بأن "ضرراً جسيماً" قد لحق "بالنزاهة الأخلاقية لدولة إسرائيل وشعب إسرائيل". في أوائل يوليو/تموز 2025، اتهم أولمرت خطة الحكومة الإسرائيلية لإجبار الفلسطينيين الناجين في غزة على ما يُسمى "منطقة إنسانية" ضيقة، بأنها تُنشئ "معسكر اعتقال" ضخماً كجزء من عملية تطهير عرقي.


ومع ذلك، ومنذ يوليو/تموز 2024، ظهرت تقارير في إسرائيل تُفيد بتصوير جنود من جيش الدفاع الإسرائيلي وهم يعترفون بإطلاق النار على مدنيين فلسطينيين للتسلية أو بدافع الملل. ومؤخراً، نشرت صحيفة "هآرتس" اعترافات دامغة لجنود من الجيش الإسرائيلي بأن قائدهم أمرهم بإطلاق النار على فلسطينيين عُزّل يحاولون يائسين الانضمام إلى طوابير الطعام الضخمة في عدد محدود من مواقع المساعدات الغذائية التابعة لمؤسسة الغذاء العالمية، مضيفةً أن هذه الأعمال تُعتبر إبادة جماعية لا يمكن إنكارها.


لماذا التزم القادة الغربيين الصمت كل هذه المدة؟


لقد التزمت الحكومات والسياسيون الغربيون الصمت المتواطئ إزاء أفعال إسرائيل في غزة لأسباب متشابكة. بعضهم يتصرف بدافع المصلحة الذاتية، والنزاهة السطحية، والنفاق السياسي. بينما يظل آخرون مُثقلين بالذنب التاريخي والعار والندم. مُدركين أن أسلافهم خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي غضّوا الطرف عن تكشّف "الحل النهائي" لهتلر، ولم يُقرّوا بفظاعته الكاملة إلا بعد أن أصبحت الأدلة قاطعة عام 1945. يخشى الكثيرون الظهور بمظهر الجريئين أو المثيرين للجدل، غير راغبين في المخاطرة بوصمهم بمعاداة السامية لانتقادهم الانتهاكات الصهيونية المتطرفة. وبالنسبة للبعض، ينبع صمتهم من نظرة أعمق وأكثر تحيزاً ترى في الفلسطينيين تهديداً عرقياً-دينياً متأصلاً للقيم والمصالح الغربية.


فقط بعد هزيمة النازيين وانتهاء الحرب العالمية الثانية، ادّعت الحكومات والسياسيون الغربيون فجأةً أنهم مُحبّون للسامية ومناصرون لدولة يهودية جديدة. عندما تتحرر فلسطين والفلسطينيون أخيراً من الهيمنة الإسرائيلية، هل ستُصرّ نفس الطبقة من القادة والسياسيين الغربيين على موقفها وتُعلن فجأةً أنها كانت مؤيدة للفلسطينيين طوال الوقت؟


قطعت بعض الدول علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل أو خفّضت مستوى تمثيلها. وتعترف الآن دولٌ أخرى كثيرة (147 من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة) رسمياً بفلسطين كدولة. عزلت إسرائيل نفسها ورسخت مكانتها كدولة منبوذة. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يتطلب الوضع ضغوطاً دبلوماسية واقتصادية ومالية وتجارية وتسليحية وثقافية مستمرة، لا سيما بعد أن أدت الهجمات العسكرية الاستباقية التي شنتها إسرائيل على إيران بدءًا من 13 يونيو/حزيران 2025 إلى صرف الانتباه عن جرائمها في غزة.

بين غزّة واللاذقيّة وباب توما والسويداء والخيط والفتنة/ سعيد نفّاع



وقفات على المفارق

الوقفة الأولى... وشسع نعل عمر بن الخطّاب

قُيّض لي عام 2015 وأنا في السجن على جُرمي الكبير زيارة سوريّا العدوّة رغم دم جدّي لأمّي المجبول في ترابها شهيدًا في الثورة العربيّة السوريّة الكبرى، والجرم الأكبر في تنظيم زيارة آخرين ل"أعدائهم"؛ ذويهم أهل هذا البلد، قُيّض لي أن أقضي ليلتين في إحدى زنازين سجن "الجَلَمِة" مع خليّة داعش التي كان ألقي القبض عليها حينها في الجليل وأميرها المحامي النصراوي. أعضاؤها كانوا يصغروني سنّا وأحدهم كان من جيل بعض أبنائي ووالده شخصيّة وطنيّة اعتباريّة تربطني به معرفة عميقة. الشباب كانوا يعرفونني ويعرفون مواقفي من الأزمة السوريّة حينها، وبدأوا حديثهم معي بتردّد ومن ثمّ انساب الحديث. لم يكن واردًا في الحسبان أن أدخل معهم في نقاش عميق، لكنّي دخلت وعمّقت وفوجئوا حين خاطبتهم بما معناه: "أجيبوني أوّلا عن... هل تتشبّهون لشسع (هكذا تمامًا) نعل عمر بن الخطّاب؟! فكيف أعطى هو العهدة العمريّة لمسيحيّي القدس وأميركم البغدادي يذبح المسيحيّين في العراق وشمال سوريّا؟! ومتى سيحين دور فلسطين وإسرائيل؟!"

على الأخيرة أجاب أميرهم: "خلال عشر سنوات!"  

الوقفة الثانية... والخيط الرفيع والأغلظ

جرت مياه كثيرة في الأردن قبل أن تمرّ العشر سنوات تلك، وسالت دماء كثيرة وأكثفها في غزّة، فلم تعد حربُ غزّة حربَ ال-7 من أكتوبر 2023 وردّة فعلٍ عليها، صارت حرب إبادة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، هذا إذا بقي هنالك معنى لإبادة في القواميس اللغويّة. ما تتعرّض له غزّة أكبر كثيرًا ممّا تعرّض له الساحل السوريّ وباب توما والسويداء، ولكن لا يستطيع المرء أن يتجاهل الخيط الذي يربط بين المواقع هذه وإن كان رفيعًا في هذا السياق. فما أرتكب في المواقع أعلاه رغم هوله لا يُقاس بما يرتكب في غزّة، وأيّ مقارنة في المظهر في هذا السياق هي استهانة بتمزيق أطفال غزّة قطعًا تتناثر مع شظايا قنابل القصف بالقنابل Made In USA، وبقتلهم أحياء بالتجويع تذكّر أجسادهم بأجساد نزلاء معسكرات في التاريخ سيّئة ذكر!  

الخيط الرفيع هو الواصل بين التنكيل والقتل هنا والتنكيل والقتل هناك لمجرّد التنكيل والقتل؛ قتل الرضيعة ولفّها في كرتونة وقتل الطفل وقطع رأسه واعتصاب الفتاة وقتلها وقتل الكهل وقصّ شاربه، وقتل المرتّل خاشعًا لربّه، وفقط لأنّهم مختلفون عرقًا أو عقيدة أو فكرًا وحتّى رأيًا، وكلّه باسم الله الذي "أمّموا" إرادته و"ملكوها" ملكًا أميريّا، فاختار هؤلاء شعبًا وفضّله، واصطفى أولاء طائفة أو فرقة للنجاة ووعدهم، وأنعم على أولئك بأرض ملكًا أبديّا أو فتحًا أزليّا، وهو من كلّ ذلك براء!   

من نافل القول وللتأكيد لا للتجديد: إنّ الخيط الأغلظ من غليظ والمغموس بكلّ قاذورات البشريّة؛ عقائديّا وحتّى كيماويّا وبيولوجيّا هو الممسوك من طرفه الأوّل بالأيادي في أروقة واشنطون ومن الثاني في تل - أبيب، ترقص طربًا على ثنيّاته تلك الأجساد صاحبة الأيادي التي تصافحت في باكوا – إذربيجان معرّجة على أنقرة فباريس في طريقها للرياض وقطر. فقط أعمى البصر والبصيرة الذي لا يرى ولا يبصر هذا الخيط بين ذرّات رمال غزّة المتعلّقة على رموش أطفال غزّة، وعلى كلّ ورقة سنديان في جبل ساحل سوريّة، أو على كلّ حجر من أحجار باب توما، أو على بركانيّة حجارة السويداء؛ يبصره ملتفّا قتلًا وتنكيلًا وتجويعًا؟!  

ولكن خيطًا أخطر باهتًا يحار المرء فيه، هو الصمت الغالب؛ العربيّ والإسلاميّ إلّا من صرخة هنا أو صرخة هنالك، وإن كان الحكّام من المُحكَمِ ربط الخيط على أعناقهم رضاءً وتسليمًا لا بل وتهليلًا أحيانًا، فأين الشعوب (سؤال استنكاريّ)؟! 

الوقفة الثالثة.... والفتنة 

عن أيّ فتنة تتحدّثون يا هؤلاء؟! فللفتنة طرفان هذا أوّلًا، وثانيًا: ما يحدث في سوريّا ليس فتنة بين سنّة وشيعة وعلويّين ودروز، هو استقواء "عصبة" من فئة على فئة؛ جهلًا عقائديّا واجتماعيّا، وانتقامًا غرائزيّا. هو كلّ شيء من الموبقات اللّهم إلَا الفتنة، فكلّ من يحاول تصنيف الأمر في سوريّا هكذا فهو يبرئ المجرم الحقيقي! 

الوقفة الرابعة... وعودة مع الأسد والشرع

غداة سقوط نظام الأسد بأيّام قليلة وتحديدًا يوم 11 كانون الأوّل 2024، نشرت مقالًا حمل العنوان: "سقوط الأسد كان في أيّار عام ال-21!" إشارة إلى يوم إعادة انتخاب نفسه، كتبت فيه: "هنا يكمن ما وراء النتائج التي نشهدها ونتائجها وعلاماتها بحكم الواقع، فهو العودة على المخطّط الانتدابيّ الفرنسيّ البائد من تقسيم سوريا. التخوّف المسنود جيوسياسيّا أنّنا بصدد أربع، إن لم يكن خمس، دويلات\ كنتونات تمامًا كما خطّط المنتدَب الفرنسيّ حينها وفشل؛ سنّية تركيّة الهوى مدينة لتركيا، وعلويّة روسيّة الهوى مدينة لروسيا، ودرزيّة إسرائيليّة- أردنيّة الهوى ومدينة لإسرائيل وربّما للأردن، وكرديّة أميركيّة الهوى مدينة لأميركا، وطلعت إيران من المولد بلا حُمّص! هذا التقسيم الميدانيّ سيبقى إلى أجل غير مُسمّى، وبغضّ النظر عن النوايا ومهما طابت، إن لم يحدث تطورٌ "فوق العادة". وأمّا الحكم المركزي فسيكون "إسلاميّا" على الطريقة التركيّة (الأردوغانيّة - حزب العدالة والتنمية) ولعلّ في ذلك بعض تغيير إلى أفضل (إشارة إلى الهامش القائم في تركيّا) ...وإلى أن يفعل الله أمرًا كان مفعولا!"

إن كان ما قيل في الاقتباس أعلاها اجتهادًا واستشرافًا يبدو أن التطوّرات الأخيرة، وخصوصًا ما حدث في السويداء، وتراجع الأكراد عن تفاهماتهم على إثرها كنتيجة حتميّة لها، صار واقعًا، ويبقى السؤال: هل أُسقِطت أردوغانيّة الشرع، ولكن ليس قبل أن يكون "المهر" دم أهل السويداء في زيجة المتعة هذه بين النظام الجديد وإسرائيل وسط تهليل "أهل العرس" من المحور السنّي "الحُكاميّ" من قطر حتّى أنقرة؟!  

الوقفة الخامسة... والخمس كلمات

هي كلمات استنفرتني مؤخّرًا لِـ كمال جنبلاط تختزل الموقف إن ارعوى السوريّون؛ وسنّتهم قبل الآخرين بحكم عددهم ومسؤوليّتهم التاريخيّة: "علّمني حبّ الحقيقة جمالَ التسوية".      


27 تمّوز 2025

للتواصل: 7208450-050    


فلسفة الإدراك البشري بين الذاتية والموضوعية، من التمايز المصطلحي إلى التكامل المعرفي/ د زهير الخويلدي



مقدمة

يُمثل الإدراك البشري (Perception) أحد الموضوعات الأساسية في الفلسفة، حيث يتناول العملية التي يترجم بها العقل البشري المعطيات الحسية إلى معرفة. يتمحور النقاش الفلسفي حول الإدراك حول سؤال أساسي: هل الإدراك عملية موضوعية تعكس الواقع كما هو، أم أنه ذاتي يتشكل وفقًا لتجارب الفرد وتصوراته؟ هذا المقال يهدف إلى استعراض التمايز المصطلحي بين الذاتية والموضوعية في سياق الإدراك، ثم استكشاف إمكانية التكامل المعرفي بينهما، مع الاستناد إلى التراث الفلسفي وآراء فلاسفة مثل ديكارت، كانط، وهوسرل، إلى جانب الإسهامات الحديثة في فلسفة العقل وعلم الإدراك.


التمايز المصطلحي: الذاتية والموضوعية

يُعرف الإدراك في الفلسفة بأنه العملية التي يتم من خلالها تفسير البيانات الحسية لفهم العالم الخارجي. يتمحور التمايز بين الذاتية والموضوعية حول مصدر المعرفة وطبيعتها:

  الذاتية (Subjectivité): تشير إلى الإدراك كتجربة فردية تتأثر بالعوامل الشخصية مثل الخلفية الثقافية، العواطف، التجارب السابقة، والتحيزات المعرفية. في هذا السياق، يُنظر إلى الإدراك كعملية داخلية تعكس حالة الذات أكثر من الواقع الخارجي. على سبيل المثال، يرى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في كتابه التأملات في الفلسفة الأولى (1641) أن المعرفة الحسية قد تكون خادعة، وأن اليقين الحقيقي يكمن في الذات الواعية ("أنا أفكر، إذًا أنا موجود"). 

الموضوعية (Objectivité): تفترض أن الإدراك يمكن أن يعكس الواقع كما هو، مستقلًا عن الذات الفردية. هذا الموقف تجسد في الفلسفة الواقعية، التي تؤكد أن هناك عالمًا خارجيًا موجودًا بغض النظر عن إدراكنا له. على سبيل المثال، يرى جون لوك في مقال في الفهم البشري (1689) أن الأفكار تنقسم إلى صفات أولية (موضوعية مثل الحجم والشكل) وصفات ثانوية (ذاتية مثل اللون والطعم).

التمايز بين الذاتية والموضوعية يطرح إشكالية فلسفية عميقة:

هل يمكن للإدراك أن يكون موضوعيًا بالكامل، أم أن الذاتية جزء لا يتجزأ منه؟ هذا السؤال قاد إلى انقسامات فلسفية بين التيارات المثالية (Idéalisme)، التي ترى أن الواقع يعتمد على الذهن (كما عند بيركلي)، والتيارات الواقعية (Réalisme)، التي تؤكد وجود عالم مستقل.


الإدراك عند الفلاسفة: من ديكارت إلى كانط

 رينيه ديكارت (1596-1650): أسس ديكارت للشك المنهجي، معتبرًا أن الحواس قد تكون خادعة، كما في مثال الشمع الذي يتغير شكله عند الذوبان، لكنه يظل شمعًا في جوهره. اقترح ديكارت أن العقل هو مصدر المعرفة الحقيقية، مما يعزز الطابع الذاتي للإدراك. 

إيمانويل كانط (1724-1804): قدم كانط في كتابه نقد العقل الخالص (1781) رؤية ثورية تربط بين الذاتية والموضوعية. يرى كانط أن الإدراك يتشكل من خلال هياكل معرفية مسبقة في العقل (مثل الزمان والمكان)، والتي تُنظم المعطيات الحسية. وفقًا لكانط، لا ندرك "الشيء في ذاته" (Noumène)، بل الظاهرة (Phénomène) كما يتشكل في وعينا. هذا النهج يُظهر تفاعلًا بين الذاتية (هياكل العقل) والموضوعية (المعطيات الخارجية). 

إدموند هوسرل (1859-1938): في الفينومينولوجيا، دعا هوسرل إلى "تعليق الحكم" (Epoché) لدراسة الإدراك كما يظهر للوعي، متجاوزًا الافتراضات حول الواقع الخارجي. يرى هوسرل أن الإدراك عملية ذاتية في جوهرها، لكنها تتيح فهمًا مشتركًا للواقع عبر التجربة الواعية.


التكامل المعرفي: جسر بين الذاتية والموضوعية

في الفلسفة الحديثة وعلم الإدراك، ظهرت محاولات لتجاوز الثنائية بين الذاتية والموضوعية من خلال التكامل المعرفي. يمكن تلخيص هذا النهج في النقاط التالية:

  الفينومينولوجيا والتجربة المشتركة: يقترح هوسرل ومن تبعه (مثل موريس ميرلو-بونتي) أن الإدراك، رغم ذاتيته، يعتمد على تجربة مشتركة بين البشر. على سبيل المثال، إدراك اللون الأحمر قد يختلف في تفاصيله بين الأفراد، لكنه يتيح التواصل بفضل السياقات الثقافية واللغوية المشتركة. 

علم الإدراك (Science cognitive ): تُظهر الدراسات الحديثة أن الإدراك يتأثر بتفاعل معقد بين العمليات العصبية والمعطيات الخارجية. على سبيل المثال، نظرية "الإدراك التوقعي" تقترح أن العقل يبني نماذج تنبؤية بناءً على المعطيات الحسية والتجارب السابقة، مما يجمع بين الذاتية (النماذج الداخلية) والموضوعية (المدخلات الحسية). 

التشابكية : هذا النهج، الذي طوره فرانسيسكو فاريلا وآخرون، يرى أن الإدراك ليس مجرد استقبال للمعطيات، بل عملية ديناميكية تنشأ من التفاعل بين الكائن الحي وبيئته. هذا التفاعل يتيح التكامل بين الذاتية (تجربة الفرد) والموضوعية (البيئة الخارجية).


التحديات والنقاشات المعاصرة

رغم محاولات التكامل، لا تزال هناك تحديات:

  الوهم الإدراكي: تُظهر الظواهر مثل الأوهام البصرية أن الإدراك قد يكون خادعًا، مما يعزز الطابع الذاتي. على سبيل المثال، تجربة "فستان الألوان" (2015) أثارت نقاشًا عالميًا حول اختلاف إدراك الألوان بين الأفراد. 

التحيزات المعرفية: تؤثر التحيزات مثل تأثير التأكيد على الإدراك، مما يجعل الموضوعية الكاملة أمرًا صعب المنال. 

الذكاء الاصطناعي: مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت فلسفة الإدراك تواجه أسئلة جديدة: هل يمكن للآلات أن تدرك بطريقة موضوعية، أم أن إدراكها يعتمد على برمجة ذاتية؟


خاتمة

فلسفة الإدراك البشري تكشف عن توتر دائم بين الذاتية والموضوعية، لكنها تُظهر أيضًا إمكانية التكامل المعرفي. من ديكارت الذي ركز على الذات الواعية، إلى كانط الذي جمع بين هياكل العقل والواقع الخارجي، إلى الإسهامات الحديثة في الفينومينولوجيا وعلم الإدراك، يتضح أن الإدراك عملية مركبة تجمع بين التجربة الفردية والبيئة الخارجية. التكامل المعرفي، كما يظهر في التشابكية ونظريات الإدراك التوقعي، يقدم أملًا في فهم أعمق لهذه العملية. ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة، مما يجعل الإدراك موضوعًا حيويًا للنقاش الفلسفي والعلمي في القرن الحادي والعشرين. فكيف جعلت فلسفة الذهن من الادراك تجربة أساسية للكائن الحي ؟

كاتب فلسفي


 


همسات مع نص "المغرور" للشاعرة تفاحة بطارسة/ زياد جيوسي



   نصٌّ جميلٌ للشاعرة والكاتبة تفاحة بطارسة، يُضاف إلى ما سبق من دواوين الشعر وكتب الوجدانيات والأدب التي نشرتها. وقد كان من دواعي سروري أن قرأت معظم ما صدر من كتبها، وكلّ ما أهدتني إياه، وبعضها لم أقاوم فيه إشراقة اللحظة، فكتبت عنها قراءات نقدية مفصّلة. وفي العادة، نادرًا ما أكتب عن نصٍّ منفرد، إذ إن التمتّع والإبحار في ديوانٍ من الغلاف إلى الغلاف يمنح روحي جمالًا آخر. ولكن حين قرأت هذا النص، لم أستطع مقاومة الرغبة في نسخه إلى حاسوبي، وتسجيل ملاحظات أوليّة عليه إلى حين التفرّغ لإعادة الكتابة، والتحليق في فضاء هذا النص الذي جذبني منذ قرأت عنوانه "المغرور"، مرورًا بنسيج الشعر والكلمات، حتى خاتمته اللافتة.


   وجدتُ نفسي أمام نصّ باحت به روحٌ تحمل طاقة وجدانية هائلة، بثّته في قالبٍ مكثّف وصورٍ شعرية مرسومة  باحترافية، يقوم على فكرة الاحتجاج الصارخ على ما يتعرض له الإنسان من قسوةٍ وحرب وتجويع وظلم واستغلال، بنبرةٍ غاضبةٍ ممزوجة بالحزن والألم، في مواجهة واقعٍ مأساويٍّ مأزوم. ويمكن إسقاطه على كلّ المناطق التي تعاني من الحروب والاضطهاد، في مواجهة "المغرور" الظالم والمجرم المغتر بقوّته، مؤكّدةً على الحلم بالتغيير، كما قال الشاعر أبو القاسم الشابي: "لا بد لليل أن ينجلي / ولا بد للقيد أن ينكسر"، فالشعوب المقهورة تريد الحياة، والظلم لا بدّ أن يزول، كما أكّدت الشاعرة في قولها: "لن تمضي بك الأيام إن ولّى النهار.".


   نصٌّ يُصنّف ضمن شعر التفعيلة القريب من الحداثة، يتجلّى فيه الاحتجاج القويّ الموجَّه إلى شخصية أو جهة ما، بدءًا من "بحرٍ يطاردني"، وهو وصفٌ رمزيّ يشير إلى الخوف من خطرٍ قادمٍ لا يرحم، وإلى حجم الظلم واتّساعه. هذا الاستهلال الرمزي يفتح للقارئ أبواب التأويل، إذ إن البحر – كما هو في المأثور – غدّار، وهنا نراه يغدر بالمتحدثة باسم المظلومين، فتقول: "ويسلب ما حملتُ من الحكايات التي تغتالني"، ثم تُكمل في صورة بلاغية مؤلمة: "تتركني بلا لحمٍ ولا عظم"، في إشارة واضحة لما يقوم به هذا الظالم من سلبٍ وتدميرٍ للأبرياء، جسديًا ونفسيًا، وماديًا وإنسانيًا. وتخاطب هذا الظالم بقولها: "يا أيها الولد الشقيّ". وهنا استخدامٌ ذكيّ للتضمين الرمزيّ بين شخصيتي "الولد الشقي" و"المغرور"، للدلالة على العبث الذي يمارسه رأس القوة الغاشمة، مع فارقٍ بيّنٍ بين براءة شقاوة الأطفال، وقسوة ظلم الكبار. وتُكمل: "بأي حقٍّ تقتل النبضات في قلبي؟"، فالفعل هنا أبعد من شقاوة، إنه قتلٌ متعمّد للحياة نفسها.


   وتواصل الشاعرة رسم صورٍ بالغة القسوة والعنف، فتقول: "تجتاز بي تحت الركام، وخلف أشباح الدمار"، مشيرةً إلى أن هذا المحتل لا يعرف سوى القتل والخراب، ولا يكتفي بذلك، بل ينهب الموارد كما تقول: "وتنهب ما ادّخرتُ من الموارد للكبار والصغار". في هذه الصورة يتجلّى البعد الواقعي للنص، إذ يستدعي مشهد العصابات المدعومة من الاحتلال، التي تسطو على المساعدات المخصصة لأبناء غزة، في حرب إبادة وتجويع متواصلة منذ قرابة عامين.


   ورغم هذا السواد، لم تتخلّ الشاعرة عن الأمل. تخاطب العدوّ بقولها: "لن تمضي بك الأيام إن ولّى النهار". فنهار الظلم لا يدوم، وتقول بقوة: "فالليل آتٍ مع أنين الظلم"، وهو تعبيرٌ غير مألوف، إذ اعتدنا القول إن "الفجر آت". لكن يبدو أنها اختارت الإشارة إلى استمرار الألم حتى في الليل، في إشارة خفية إلى أن الفجر المنتظر لا يزال خلف ستار الحزن والتشرّد والدموع، لكنها تُبقي بؤرة الضوء حاضرة، إذ إن الليل لا بدّ أن ينجلي.


   نصّ قويّ ومعبّر، بإيقاعٍ داخليّ وانسيابية موسيقية، جمع بين الشعور الزمني المتمثّل بطول الليل، وحجم المأساة الإنسانية، مستندًا إلى الرمزية كأسلوبٍ فنيّ لممارسة النقد الاجتماعي والسياسي، في قالبٍ شعريّ جميل متماسك، في زمنٍ تكاد الأصوات الحرة أن تخفت تحت ركام القهر، يأتي هذا النصّ ليوقظ فينا نبض الاحتجاج، ويذكّرنا بأن الكلمة الصادقة، حين تُصاغ من وجع الشعوب، تصبح سلاحًا أشدّ مضاءً من الرصاص. فالمغرور، مهما تعاظمت سطوته، لا يستطيع أن يطيل عمر الظلام، لأن القصيدة حين تُولد من رحم المأساة لا تنكسر، بل تفتح نوافذ الضوء، وتزرع في جراحنا بذور الحياة.


"عمَّان 24/5/2025"


 


المَغرورُ


تفاحة بطارسة


بحرٌ يُطاردني


وَيَسلبُ مَا حَملتُ


مِنَ الحِكاياتِ التي تَغْتَالني


تَجتازُ بِي تَحتَ الرُّكامِ


وَ خلفَ أَشباحِ الدَّمَار


يَا أيُّها الولدُ الشَّقِيِّ


بِأيِّ حقٍّ تَقتلُ النَّبضاتَ


في قَلبِي


وَتتركُنِي بلا لَحمٍ ولا عَظمٍ


وَ تّنهبُ مَا أدّخرْتُ


منَ المَواردِ للكِبَارِ وَ للصّغارْ


يَا أُيّها المَغرورُ


لنْ تَمضِي بِكَ الأَيّامُ إنْ ولّى النّهارْ


فَالليلُ آتٍ مَع أنينِ الظُلمِ


مع ألمِ التَّشردِ


معَ دموعِ المُتعَبِين الجَائعِينَ


منَ الصِّغار..

هرتصل واللغة العبريّة/ بروفيسور حسيب شحادة



جامعة هلسنكي


يبدو لنا أنّ قلّة قليلة من المثقّفين عامّة، تعرف حقيقة العلاقة التي كانت قائمةً بين أبي الحركة الصهيونيّة السياسيّة، بِنْيامين زِئيڤ ثيودور هِرتصِل (بالهنغاريّة: Tivadar Herzl)،  2 أيّار 1860 - 3 تمّوز 1904 واللغة العبريّة الحديثة، التي أخذت تنمو كلغة محكيّة خلال سِني حياته القصيرة. هنالك شِبه أُسطورة، مُفادها أنّ هرتصل لم يكن على أيّة صلة تُذكر، بأصله اليهوديّ حتّى محاكمة  الضابط الفرنسيّ اليهوديّ، ألفرد درايْفوس عام 1895، والتي جعلته بين ليلة وضُحاها، زعيمًا صهيونيًّا مرموقا.  في تلك الفترة 1891-1895، كان هرتصل في فرنسا مراسلًا لأهمّ صحيفة نمساويّة، ”صحافة جديدة حرّة“.  تمتّعت عائلة هرتصل بوضع اقتصاديٍّ مزدهر، ولم تكن منصهِرةً في المجتمع الذي عاشت فيه، بل كانت قريبة من تراثها اليهوديّ، فالجدّ المولود عام 1805، كان متديّنًا متزمّتًا، وانتزع احترام أبناء طائفته الذين أسْندوا إليه عدّة مهامّ دينيّة، مثل شرف النفخ بالبوق في عيد رأس السنة العبريّة، حتى شيخوخته وهو ابن ثمانٍ وثمانين سنة. وقد تلقّى والد بنيامين، زئيڤ، تربية دينيّة منذ صغَره، وحافظ على الشعائر الدينيّة، وكان تاجرًا ثريًّا ونشيطًا في طائفته، في مدينة زملين في بولندا، وفي الحركة ”אהבת ציון/محبّة صهيون“.

وُلد هرتصل في بودابست، وعندما أصبح ابن ستّ سنين، التحق بالمدرسة اليهوديّة حيث تعلّم بعض العبريّة، إلّا أنّه ترعرع في جوّ حِقبة التنوير (هَسْكَلاه) الألمانيّ اليهوديّ، واهتمّ كثيرًا بالصحافة والأدب والمسرح. وفي كلمة له لمناسبة الاحتفال بـ בַּר מִצְוָה/بار مِتْسڤاه، (ابن الواجب الدينيّ ؛ بار كلمة آراميّة معناها ابن) أي عند بلوغ الصبيّ اليهوديّ ثلاثة عشر عامًا من العمر، يُصبح في عِداد البالغين ومسؤولًا عن نفسه دينيًّا، أقسم أن يبقى وفيًّا ليهوديّته في كلّ الأحوال والظروف. في الواقع، لم ينفّذ هرتصل هذا القسَم في قادم الأيّام، بل كانت اليهوديّة بعيدةً عنه، أو ربّما قبَعَت راكدةً في اللاوعي، إلى حين اندلاع الأحداث المعادية لليهود، والتي توصف عادة بالمصطلح الشائع وغير الموَّفق ـ اللاساميّة، إذ ليس اليهود وحدهم ينتمون إلى ذُريّة سام، الابن الأكبر لنوح، كما ورد في الإصحاح العاشر من سِفْر التكوين. تربّى هرتصل، الصحفيّ والمحامي والأديب والسياسيّ على أُسس الثقافة الألمانيّة، وتأثّر بالفيلسوف الألمانيّ جورج ويلهلم فريدريك هيچِل (1770-1831) بشأن المنطق، وفلسفة الروح وفلسفة الطبيعة. 

في ربيع العام 1895، كانت الفكرة في ضرورة إنجاز مشروع ما لصالح اليهود، قد اختمرت في ذِهن هرتصل العلمانيّ والعالميّ بثقافته لتمكِّنه من أربع لغات، الألمانيّة والفرنسيّة والروسيّة والإيدش/والييدِش (مزيج من ألمانيّة القرون الوسطى والعبريّة)، وكان مُغرمًا بالثقافة الغربيّة. وفي كلمته الافتتاحيّة في المؤتمر الصهيونيّ الأوّل أعلن ”إنّ الصهيونيّة هي العودة إلى اليهوديّة قبل الرجوع إلى  بلد اليهود. بعبارة وجيزة، كان هرتصل مقتنعًا أن المخرَج من ويلات اليهود، هو الرجوع إلى دينهم، يهوديّتهم. وعندها أخذ هو بنفسه بتطبيق ما نادى به، ليكون قُدوة حسنة للآخرين، درس أسفار العهد القديم، التَناخ/المِقْرا، ذا الأربعة والعشرين سفْرًا، وَفْق الترتيب اليهوديّ، فهو لبّ اليهوديّة. هذه النقلة النوعيّة، لا تعني بالضرورة، معرفة اللغة العبريّة، إذ أنّه من المعروف، أن هنالك امكانيّة لاكتساب ثقافة يهوديّة بدون لغة يهوديّة، وهذا الأمر ينسحب على أعراق أُخرى. توجد كوكبة من عُظماء اليهود، الذين لم يعرفوا لا العبريّة ولا الإيدش، أمثال آينشتاين، وفرويد وآينشتاين، وتجنشتاين، وشينيبرغ، وماهلر، وبروست، وفيليب روث. فرانْس كافكا مثلًا، بدأ بتعلُّم العبريّة، إلّا أنّ ذلك كان في خريف حياته القصيرة.  

في العام  1878 انتقلت أُسرة هرتصل من هنغاريا إلى النمسا، حيث درس الشابّ بنيامين زئيڤ في كلّيّة الحقوق في جامعة ڤيينا، وحصل على شَهادة الدكتوراة بعد ستّ سنوات. وفي غضون العَقد 1882-1992، كان جوهر الفكرة الصهيونيّة قد تطوّر، إلى أن ترسّخ في عقل هرتصل، وذلك في أعقاب مطالعته لكتابين ضد اليهود واليهوديّة بقلم ينسن وديرينج. وفي كتابه، دولة اليهود: البحث عن حلّ عصريّ للمسألة اليهوديّة، الصادر بالألمانيّة عام 1896 والذي تُرجم  إلى لغات كثيرة، في عشرات الطبعات، كتب هرتصل ما ترجمتُه: لا يمكن أن يتحدّث الإنسان اليهوديّ إلى أخيه بالعبريّة. مَن منّا يعرفها لدرجة كافية تُمكِّنه من ابتياع بِطاقة قطار؟ لا وجود لشخص كهذا بيننا. كان من الجليّ لهرتصل منذ صباه، أنّ اللغة العبريّة لغةُ طقوس دينيّة، كما انعكس ذلك في كتابه: Altneuland أي البلاد القديمة الجديدة، رواية يهوديّة يتطرّق فيها مثلًا إلى وُجوب منْح المساواة للعرب؛ صدرت في العام  1902. كما أعرب في بداية نشاطه الصَّهيونيّ عن اقتناعه بأنّ العبريّة القديمة أي التوراتيّة، التي يرجع تاريخها إلى قُرابة ثلاثة آلاف سنة، غيرُ صالحة أو مناسبة لأن تُصبح لغة الكلام الدارج، في الحياة اليوميّة في دولة عصريّة، حتّى ولو كان ذلك على أرض فلسطين. لم يكن هرتصل وحيدًا إزاءَ هذه النقطة، إذ شاطره هذا الرأيَ جميعُ الأدباء اليهود الكبار مثل مِنْدلي شلوم يعقوب أبراموڤيتش، أي مِنْدلي موخير سِفَريم  1836-1917، ويوسف حاييم برِنر 1881-1921 وزعماء معروفون في الحركة الصهيونيّة، إمّا جهرًا وإمّا سرّا. وقد كتب شِمْعون برنفلد، 1860-1940يقول ”إنّ جعل اللغة العبريّة لغة محكيّة بالمفهوم العاديّ أمرٌ مستحيل تمامًا في اعتقادي، لم يحدث هذا بالنسبة لأيّة لغة في العالم حتّى ولا لأيّة لهجة، أن يُحْيوها بعد أن توقّفت عن كونها لغة محكيّة، إناء زجاجيّ إذا كُسر فلا إصلاحَ له، ولغة انقطع تطوّرها الطبيعيّ، ولم تعُد حيّة جاريةً على ألسنة الشعب الناطق بها تغدو، بحسب الأمثلة التاريخيّة، لغة تاريخيّة أدبيّة دينيّة، ولكن ليست لغة حيّةً طبيعيّة، شعبيّة.

من ضمن الزعماء في الحركة الصهيونيّة، هنالك بِرل كَتْسِنِلْسون 1887-1944 التراثيّ الذي رفض التحدّث بالعبريّة، مُعللا ذلك بأنّها ليست لغة محكيّة. إذا كان هذا الاعتقاد سائدًا بين ظهرانَي مثل هؤلاء الأدباء التراثيّين، وغيرهم من الذين عاشوا في فلسطين، فلا غرايةَ إذن في موقف هرتصل المعارِض للعبريّة، إذ أنّه في شبابه كان بعيدًا عن الثقافة اليهوديّة التقليديّة، قديمها وحديثها، وكانت تلك المحاولات الناجحة في إحياء العبريّة الحديثة حديثًا وكتابة في الأراضي المقدَّسة، لا سيّما في القدس، في وادٍ وهذا الزعيم الصهيونيّ في واد آخرَ. ومن المحتمل، أن يكون موقف هرتصل هذا، قد تغيّر بمرور الوقت، كما أعلن عن ذلك معلّمه للعبريّة وسكرتيره ومترجمُه من الألمانيّة للعبريّة ميخائيل بِركوڤيتش 1935- 1865، في النصّ العبريّ لدولة اليهود وفي الأصل الألمانيّ دولة يهوديّة. 

حاول هرتصل تعلُّمَ العبريّة بضع مرّات، ويُحكى أنّه طلب من ناحوم سوكولوف 1859-1946، الكاتب والصحفيّ ورئيس الهِسْتَدْروت الصهيونيّة، ابتكارَ وسيلة سهلة وسريعة لتعلّم هذه اللغة المقدَّسة، ولكن دون جدوى، فقد أخفق في ذلك، ربّما لانشغاله التامّ والمنصبّ في تحقيق فكره الصهيونيّ. ويُروى عن هرتصل، أنّه نادرًا ما كان يرى أفراد أُسرته ناهيك عن محادثتهم. كان هذا الزعيم، والمفكّر الصهيونيّ يقوم بنشاطاتٍ سياسيّة  وفكريّة وأدبيّة وتنظيميّة جمّة. التقى بقيصر ألمانيا وليم الثاني عام 1898، والبابا في روما، وزعماء أتراك وبريطانيّين، والبارون إدموند دي روتشلد. أضِف إلى ذلك، جلّ زعماء الحركة الصهيونيّة آنذاك، لا سيّما في العالم الغربيّ، لم يكونوا على معرفة بالعبريّة. وقدِ انتقد بعض الكتّاب اليهود وعلى رأسهم أَحاد هَعام/ أشير غِنْسبورغ، 1856- 1927 مواقفَ هرتصل التي تجسّدت في منعه لإجراء أيّ بحث شامل للثقافة العبريّة في المؤتمرات الصهيونيّة، ومردّ ذلك يعود لاعتقاد هرتصل الراسخ في التركيز أوّلًا على الجانب السياسيّ للقضية اليهوديّة. وكما قال سوكولوف، المقرَّب من هرتصل، إنّ الأخير أرجأ الولوج في البحث، عن إيجاد الحلول للمشاكل الداخليّة الخطيرة، إلى ما بعد لمّ الشتات اليهوديّ في فلسطين. وكان في اعتقاد أحاد هَعام أنّ خلاص الشعب اليهوديّ قد يتأتّى فقط، من خلال نهضة روحيّة ثقافيّة وليس عن طريق إقامة دولة سياسيّة. 

وانطلاقًا من التقدير الداخليّ الذي كان يكُنّه هرتصل للغة العبريّة، منذ سِني بلوغه سِنّ الرشْد، دأب على تطعيم كتاباته بالألمانيّة بكلمات وعبارات عبريّة، كان على ما يظهر، قد التقطها في البيت، أو في الكنيس منذ نُعومة أظفاره. من هذه الاستعمالات ما معناه: السنة القادمة في القدس، حظٌّ سعيد، إن شاء الله، انتقام، هدف، حكم، كوهن، لاوي، مِزوزاه،(أي: لفافة من الرَّق مدوّنة عليها الآيات من سفْر التثنية، الإصحاح السادس من الآية الرابعة وحتّى التاسعة، وكذلك الإصحاح الحادي عشر من الآية الثالثة عشرة وحتى الواحدة والعشرين، توضع هذه اللفافة داخل عُلبة خشبيّة أو معدنيّة مستطيلة الشكل، وتثبّت على باب البيت للتبرّك بها) مجنون. وكلّ ذلك عادة بالحرف اللاتينيّ. وتروي حِمْداه، زوجة إليعزر بن يهودا، 1858-1922، مُحيي اللغة العبريّة الحديثة، أنّ هرتصل وقّع اسمه بأحرف عبريّة في رسالة بعث بها إلى زوجها، يُخبره فيها أنّه اخْتير بالإجْماع عضوًا في لَجنة  صفْوة/مختاري الأمّة.

بالرغم ممّا قيل، كان هرتصل واعيًا للدور الهامّ الذي تلعبه اللغة العبريّة، بالنسبة للشعب اليهوديّ والحركة الصهيونيّة على حدّ سَواء. لذلك حَرَص، على ما يبدو، على أن يتعلّم أبناؤه، باولينا وهانس وطرودا نويمان العبريّة. زِد إلى ذلك، أنّ هرتصل قد قام بتقديم بعض الدعم المادّيّ، لمشروع بن يهودا في مُعجمه الشامل للغة العبريّة، وذلك عن طريق اللجنة التنفيذيّة الصَّهيونيّة. وفي زيارته لفلسطين في العام 1898، عبّر عن موقفه الإيجابيّ إزاءَ تجديد/تجدّد العبريّة الحديثة، وعند مُكوثه في مستوطنة رِحُوڤوت ضيفًا على الخواجة موسى، مُوشِه سميلانْسكي، الأديب المعروف  1874- 1954، أخذ على عاتقه محاولة التحدّث بالعبريّة في زيارته المقْبلة. بعض الجُمل العبريّة، كان قد تعلَّم لا أكثر. ومن اللافت للنظر، أنّ ابن هرتصل الوحيد- هانس- ذا الاسم الألمانيّ، تمّ ختنُه في العام الخامس عشر من عمره، في حين أنّ الدين اليهوديّ يُحتّم القيام بهذه الفريضة الدينيّة الأساسيّة، في اليوم الثامن للولادة (اُنظر سفْر التكوين 17: 10-14). ويذكر أنّ هانس كان قد تنصّر في مرحلة معيّنة من عمره القصير، ثمّ عاد إلى اليهوديّة قبل انتحاره، ويذكر أنّ أُمَّه لم تكن يهوديّة. ونسل هرتصل لم يعمّر طويلًا. فقدِ انقرض بعد بضع عشرات السنين بطُرق مأساويّة، وقد تمّ مؤخّرًا إعادة رُفات عِظام الأوّلين إلى مَقبرة جبل هرتصل، حيث يرقُد والدهم في القدس، أمّا جُثّة طروده فقد حُرقت في فرنسا.

هرتصل، هذه الشخصيّة شِبه الأُسطوريّة، قدِ اتّسم برؤْيا ثاقبة، وبنظرة سياسيّة شاملة، وقدرة فائقة على التنظيم المدروس، كلّ ذلك مشفوع بالعمل الدؤوب، رغم أصوات المعارضة الكثيرة والشديدة، والإحباطات التي واجهها من رجال الصحافة، ورجال المال والليبراليّين. آمنَ بكلّ 248 أعضائه، كما يقال في اللغة العبريّة، أي بكلّيّته جسمًا وروحًا، رغم أنف مرض القلب الذي عانى منه، بهدف سامٍ مقدَّس. هذا الهدف، كان تأسيس وطن قوميّ لليهود في فلسطين. وآنذاك طُرحتِ اقتراحات عديدةٌ مثل الأرجنتين، قبرص، شِبه جزيرة سيناء، أوغندا، العراق، كما ورد في برنامج بازِل المنبثق عن المؤتمر الصهيونيّ الأوّل، من التاسع والعشرين إلى الواحد والثلاثين من آب العام 1897. 

كما شدّد هرتصل على تبنّي العِلم والتكنولوجيا، في تطوير وطن اليهود العتيد، وإقامة مجتمع تعاونيّ. ويُشار إلى أنّ سيرته الذاتيّة الممتدّة على خمسة مجلَّدات، مترجمة إلى الإنچليزيّة تتطرّق إلى نواحٍ كثيرة في مجالات الحياة المختلفة. وممّا يجدُر ذكرُه أنّه قُبيل انعقاد هذا المؤتمر، كان إليعزر بن يهودا قد نشر المعجَم العبريّ الحديث الأوّل، وبين دفّتيه ألف كلمة، وقد ابتيعت نسخُه كلُّها على الفور، وفي ذلك العام كان نصف يهود العالم في روسيا، وثمانية وتسعون بالمائة منهم كانوا قد صرّحوا بأنّ الإيدش لغتهم، وهي لغة غير ساميّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ بن يهودا (پيرلمان سابقا)، كان قد فكّر بوطن قوميّ لليهود، قبل هرتصل بعَقْدين من الزمان، وشدّد على ضرورة توفّر الأرض واللغة بغية إنشاء أمّة يهوديّة. أمّا هرتصل، فذهب إلى عدم الحاجة للغة مشتركة لتوحيد الناس.  

خِتامًا، لا بُدّ من ذِكر جملة هرتصل الشهيرة التي يعرفها كلّ فتىً وفتاة في إسرائيل ”لا مستحيلَ أمام الإرادة“، وفي العبريّة אִם תִּרְצֶה אֵין זוֹ אַגָּדָה وفي الإنچليزيّة If you will, it is no fairytale.

هرتصل تعلّم أربعَ لغات وأجادها، إلّا أنّه لم يُفلح في اكتساب الخامسة، اللغة العبريّة، ربما لأنّه لم يسعَ إلى ذلك بجدّ لكثرة مهامّه، وعدم ضَرورة ذلك لتحقيق هدفه الأساسيّ، أن يعيش الشعب اليهوديّ في نهاية المطاف حرًّا على تراب وطنه، وفي بيته يموت بسلام، دولة اليهود وبالكاد دولة يهوديّة؛ لم يحلُم بدولةٍ كسائر الدول، بل بواحدة تكون مثلًا يُحتذى به لكلّ الشعوب على غِرار سويسرا، متعدّدة اللغات. وقد نضيف أنّ لطبيعة بُنية اللغة العبريّة القديمة الساميّة المختلفة كثيرًا عن اللغات الأربع التي عرفها هرتصل، دورًا ما في صُعوبة اكتسابها. ووصيّته لشعب إسرائيل كانت: ”أقِم دولتك بشكل يشعُر فيه الغير بالرضا بينكم“. وبسبب هذه التوقّعات والأحلام بعيدة المنال في حينه، نعته البعض بلفظتين عبريّتين ذاتي القافية نفسها חוֹזֶה הוֹזֶה أي ”حالمٌ هاذٍ“.  ما فاته، حاول أن يحظى به أبناؤه الثلاثة، إلّا أن ذلك لم يتحقّق كلّيّة ولأمد طويل، إلّا أنّ الوطن الذي حلم  عنه، قد تحقّق بعد قُرابة أربعة عُقود من موته، وفيه أكثرُ من خمسة ملايين من اليهود الناطقين بالعبريّة الحديثة، بعد أن كانت لغة مكتوبة ولغةَ الطقوس الدينيّة سبعةَ عشرَ قرنًا من الزمان. عن هذا الوطن، عبَّر هرتصل ساعةَ احتضاره ”غرست دم فؤادي من أجل بلادي“. أمّا بن يهودا فقد حظِي على الأقلّ بسَماع الخبر الذي أعلنه الانتداب البريطانيّ عام 1922، والقاضي بوجود ثلاث لغات رسميّة في فلسطين، الإنچليزيّة والعربيّة والعبريّة. وهكذا غدتِ العبريّة اللغة المحكيّة الوحيدة في العالَم التي انبثقت من لغة مكتوبة قديمة، بعكس سُنّة الطبيعة، لغات محكيّة تُصبح لغاتٍ مكتوبة. وينبغي التنويه بأنّ العبريّة، لم تكن لغة ميّتة تمامًا كاللغة الأكّاديّة أو الأوغاريتيّة، على سبيل المثال، بل كانت تُكتب وتُسمع على الدوام في المناسبات الدينيّة. ومن المعروف أنّ إحياء اللغة الإيرلنديّة، لم يتكلّل بالنجاح، رغم شُيوعها ولكن في صفوف قسم ضئيل من القرويّين والصيّادين. 

هذا الشابّ الليتوانيّ أصلًا، الأورشليميّ لاحقًا، بن يِهودا، أبو اللغة العبريّة الحديثة، آمن وهو في ربيعه العشرين، بقُدرته على إقناع ملايين اليهود في أوروبا آنذاك، على التكلّم بالعبريّة بدلًا من الإيدش، رغم معارضة اليهود الأرثوذكس على وجه الخصوص، أنجز جُلَّ معجمِه الكبير للغة العبريّة القديمة والحديثة، ووصل فيه إلى باب נֶפֶש, النفس، وكأنّ لا شيءَ جوهريًا يُنجز دون تضحية. ويضمّ هذا المعجم، الذي أكمله موشِه تسڤي سِچال ونَفْتالي هرتص طور- سيناي عام 1958، قُرابة نصف مليون ثبْت من التراث  العبريّ. في البداية، جرت عمليّة إحياء العبريّة الأدبيّة في مدن أوروبا، والعبريّة المحكيّة في فلسطين، وقد التقت الاثنتان في مستهلّ القرن العشرين، وعلى وجه التحديد، عند قدوم الشاعر القوميّ اليهوديّ، حاييم نحمان بيالك، إلى فلسطين عام 1924.

صفْوة من المفكرين والأدباء اليهود، شكّكوا في إمكانيّة تحقيق حُلمَي هِرْتصل وبن يِهودا، الدولة واللغة، بدون أحلام لا واقع، والتركيز كان على الناحيتين القوميّة والثقافيّة.