بغداد حقبة حضارية مُضيئة في ليل المعرفة الإنسانية/ الأب يوسف جزراوي

 


 

بغداد عاصمة العراق،  مدينة السلام، حبّاها الله باثار ومعالم رائعة. كانت محطّ أنظار وأعجاب الكثيرين مِن سواح ورحالة ومكتشفين. مرت بفترة مظلمة وبحقبات ازدهار وبنيان. لعبت دورها في التّاريخ، لأنّها منبع العلم والحرف.  

كانت ولم تزلْ أمّ الدنيا رغم كلّ ما شهدته مِن ظروفٍ قاسية وأوقاتٍ عصيبة، لهذه الاسباب ولغيرها ارتايت تدبيج هذا المقال عن عاصمتي بغداد تاج العواصم وعروس الشرق،  بغية التعريف بها وتسطير بعض المعلومات التّاريخيّة للقرّاء،  سبق وأن نشرَ في بغداد قبيل عام 2003 وبعده ونشر مجددًا في صحفٍ عراقيّة ومجلات في المهجر وبعض المواقع، ويطيب لي إعادة نشره اليوم  في هذا الموقع الأغر،  فعلّنا نوفق، ومِن الله التوفيق.                                                                                

عندما عزمأبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباس(ت 775 م) على بناء مدينة جديدة لتكون قاعدة الدولة العباسيّة  الفتية ارادها ان تكون بعيدة عن معقل المعارضة واعدائه، اذ كان المنصور ودولته مهددين من قبل العلويين في الحجاز وغيرهم. ويمككنا القول أنّ المنصور أختار هذا الموقع (موقع بغداد ) لكونه حصينًا يحميه نهر دجلة من العجم ونهر الفرات من العرب، وكانت في الموقع قرية في عهد الساسانيين تدعى باسم بغداد أيّ "عطية الله". لم يكن تحديد الموقع واختياره من قبل المنصور امرًا عشوائيًا بل جاءت عملية الاختيار بشكلٍ مدروس، اذ ارسل الخليفة المنصور  أُناسًا يبحثون عن الموقع يفي بهذه الغاية، ثمَّ خرج بنفسه لارتياد الاماكن المختلفة واختار الموقع من الناحيتين الجغرافيّة والاقتصاديّة، حيث تجمع معظم المصادر على ما يلي:

لم تنشأ المدينة إلا بعد فحص موضعها وموقعها وأهميتها من النواحي العسكرية والسياسية والادارية والاقتصادية (تجارية وزراعية ) وملائمة المناخ وامكانية التوسع العمراني المستقبلي فيها، كلّ ذلك بدون تجاهل سهولة وسعة  العلاقة مع العالم المعروف آنذاك. كما كتب ابن الطقطقي عن كيفية خروج المنصور للبحث عن مكان ملائم ليبني فيه مدينته الجديدة فيقول : "خرج المنصور بنفسه يرتاد له موضعا يسكنه ويبني فيه مدينة له ولاهله ولجنده فانحدر الى جرجرايا واصعد إلى الموصل ثمَّ ارسل جماعة من الحكماء ذوي اللب والعقل وامرهم بارتياد موضع، فاختاروا له مدينته التي تسمى مدينة المنصور وهي بجانب الغربي من مشهد موسى والجواد عليهما السلام، فحضر الى هناك واعتبر المكان ليلا ونهارا فاستطابه وبنى به المدينة".

شرع المنصور بانشاء المدينة سنة 762 م على الضفة اليمنى من نهر دجلة في الزاوية المنحصرة بين مجرى دجلة  ومجرى السراة شمالاً، وفي المنطقة التي كانت تقوم عليها المزرعة المباركة. لقد اقسم الخليفة بالله تعالى ليبني مدينته، وما ادراكم كم كان عظيمًا اندفاع المنصور في تحقيق مشروعه ذاك! فقد وظف كلّ طاقات الدولة العباسيّة لبناء مدينة السلام وكان يتتبع عملية البناء بحرص شديد وبفارغ الصبر. وتجمع المصادر على انه شرع بالبناء سنة 762 م وفرغ منه سنة 766 م .

 

البناء:

استغرق بناء بغداد اربع سنوات، انفق عليها نحو 400,883,000 درهم وقيل 18 مليون دينار واستخدم نحو مائة الف من المهندسين واهل المعرفة بالبناء والفعلة من شتى ارجاء الدولة وسمى هذه العاصمة بالاضافة الى اسمها الاصلي مدينة السلام. كما سميت ايضًا بالمدينة المدورة، عقب أن جعل بناءها على شكل مستدير، علمًا أنّ اكثر الحجارة التي دخلت في بناء بغداد نزعت من انقاض طاق كسرى في المدائن، أما اللبن فاصطنعه البناءون.

-تسمية بغداد

ذكر بعض الباحثين أنّ اصل تسمية بغداد من ( بغ داد ) أيّ "الصنم اعطاني". (بغ) يعني اسم الصنم. وبالفارسي (بغ) تعني البستان و (داد) تعني "اعطى"، فيكون المعنى عطية البستان. بينما ذهب البعض الاخر ليرجع اسم بغداد الى الملك صيني اسمه بغ !!، فهنالك قصّة مفادها: كان تجار الصين اذا انصرفوا الى بلادهم بارباحهم الطائلة من اسواق بغداد قالوا "بغ داد" أيّ هذا الربح ما هو الا عطية الملك .

لقد اجتهد العديد من الباحثين في شرح وتحليل اسم بغداد، لكننا نرجح أنّ اسم بغداد يرتقي الى عهد الملك حمورابي نحو القرن 18 قبل الميلاد، حيث ذكر في لوح وجد في سبار ( يطلق عليه اليوم حبة ) مدينة باسم (بكدادا) ولا أعلم ما حملته من معنى.

 وأذكر هنا أنّ البحّاثة العراقي الأب بطرس حدّاد – رحمه الله- ذكر لي يومًا ما يلي: وقد سمعت البطريرك بولس شيخو ( ت 1989 ) أكثر من مرة يشرح أسم بغداد شرحًا لم اطالعه في المصادر العربية أو الارامية فكان يقول:

إنَّ المنصورَ ورّجاله عند زيارتهم الدير قبل بناء بغداد راوا رِجالاً عند دجلة يجدلون الخيوط وينسجون الخيام فسالوا الديراني مِن هؤلاءِ وما أسم المكان ؟. فاجابهم (بكذاذا) أيّ _بيث كذاذا_ التي تعني موضع النسيج وإعداد الخيام، فقال الخليفة ساسمي مدينتي باسم هؤلاء الفقراء

 ( حدّاد كتاب كنائس بغداد ودياراتها).

سمُيت بغداد عبر التّاريخ بتسميات عدة والشائع منها مدينة السّلام، ونقرا في كتاب المسكوكات وكتابة التّاريخ ما يلي: "ان اختيار تسميتها مدينة السلام جاء للعديد من الاسباب منها لمقاربتها لنهر دجلة وكانت دجلة تسمى قصر السلام". ويوصفها أو يسميها ياقوت الحموي بـ " أمّ الدنيا وسيدة البلاد" ويزيد فيقول عنها: "مدينة السلام جنة الارض ...عين العراق".

 ومِن اسماءها الشائعة أيضًا الزوراء. وينقل لنا الحميري بأنّها سميت بالزوراء لانعطافها بانعطاف دجلة، ويضيف قائلاً: "بعضهم يسميها الصيادة لانها تصيد القلوب" .

وفي ظني وفق قرائتي للمراجع أنّها سميت الزوراء، نسبة لتقاطر الزوار إليها. فمن يطلع على كتب الرحلات والرحالة المستشرقين الذين قصدوا العراق وعلى وجه الخصوص بغداد سيوافقنا الرأي إن قلنا : إنَّ بغدادَ مِن أكثر المدن والعواصم التي تقاطر عليها السوّاح والرحالة على مدى العصور وأكثروا في وصفها.

ومِنَ الجديرِ بالذكّر أنّ سبب تسمية بغداد بـ "مدينة السلام" هو قربها من نهر دجلة، الذي كانَ يقال لهُ: وادي السلام؛ فقيل مدينة السلام، وليس لاسباب أخرى.               

 تلك هي بغداد السّلام ،             أحرسها يا ربّ السّلام. الّلهمّ آمين.

وليس مِن قبيل المغالاة أو الغرو إذا قلت: إنّ العبد لله- كاتب هذه السطور- هو أوّل مَن أطلق تسمية " عروس الشرق " على مدينته بغداد وعاصمة بلده، في كتاب أدبي، صدرَ عن دار تموزميموزي عام 2018.

  

_ البدايات والانقتاح الحضاري

لا غرو ان قلت : إنَّ بغدادَ كانت الحجر الاساس للحضارة العربية ولغيرها من الثقافات ففي عصرها الذهبي ابان العصر العباسي عهد ازدهار والاستقرار عهد اتسم بانفتاح خلفاء بني عباس باتت فيه بغداد ملتقى لمحبي الثقافة والعلم والحكمة , ومن يتتبع تاريخ هذه المرحلة سيرى ان كل شي كان يبدو مهيئا لاقتتاح عهد حضاري جديد فانفتحت الابواب على مصراعيها أمام اصحاب الفكر والعلم والادب فتمكنوا من اضهار مواهبهم وتطوير علومهم بفضل احتضان خلفاء بني العباس لهم , ويشهد التاريخ بان العلم اجمع مدين لبغداد التي اصبحت بهذه الفترة ام الدنيا وام العلوم ومحط الانظار فقد كانت جسر الصلة بين ثقافات عدة منها اليونانية والسريانية والعربية ..... وهنا نود تعميم حقيقة جليلة مفادها : ان كل تقدم وازدهار حصل في تلك الفترة لهو بفضل الجهود الجبارة التي بذلت من قبل ابناء بغداد من علماء عللى اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم , من خلال حقيقتين مرت بها بغداد في العهد العباسي كملت احداهما الاخرى فلحقبة الاولى كانت عصر الغرس وبذر البذور فجاءت الحقبة الثانية للحصاد وجني الثمار فكانت بغداد في هذه الفترة اشبه ب البوفيه المفتوح في عرض حضارتها وثقافتها للعالم اجمع , وكان العلماء والطلبة يتقاطرون اليها بين الفينة والاخرى لينهلون منها العلم والثقافة والحضارة هكذا كانت بغداد السّلام ولا تزال.

   

مسكُ الختامِ

    صدق مَن قال : بغداد حاضرة الدنيا وماعداها بادية

وأقول بدوري : سلامٌ على بغداد مِن كلّ مكانٍ وفي أيّ زمان..

 لم أرَ مثلها  وإلى الآن لم أفطم مِن عشقها..

                 تلك هي بغداد السّلام              أحرسها يا ربّ السّلام وأرسي بها الأمان.  


أرادوها الصغيرة فظلت الكبيرة/ مصطفى منيغ



القصر الكبير شيخ المدن المغربية الوقُور ، مَن تركته الدولة مع التهميش والإقصاء حول محوره يدُور ، وما استسلمَ لليأسِ ولا لعوالم الانكسار يزُور ، بل ظل واقفاً في شموخ كُبريات النخيل وأجذاع صُغَيِّرات الزهُور ، يستقبل ريح الإهمالِ ببسالة المتحدي الجسُور ، المتمكِّن بصبرِ أيوب وتاريخ مقامه العالي على امتداد الدهُور. ظلمه الظالمون أكثر مِن مرة وكان عليهم دوماً ذاك المنصُور ، لا يعبأ بمخلَّفات ما توارثته الأيام على لسان رواة تدين ما حكموا به مساحته الطاهرة من تهوُّر ، ولا يتصدَّع ممَّن لازموا تدبير شؤون أهلهِ إذ هم كسواهم محطة عبُور ، تترقب رحيلها حيث قبُور ، جامعة مَن لحق بها اليوم أو استقرَّ وسطها من عهود انتظاراً ليومِ النُّشُور ، ليعلَمَ الشقي مِن ظلام قعرِ حريقٍ سوء فعله والمُحسن يُجَازَى عن تصرفاته الحسنة بنعيم متعةِ النُور . حسبها البعض مدينة الفرصِ المُتاحة لينهبَ مِن خيراتها كما شاء دون تأنيب ضمير ولا حبل عدالة لعنقه يَجُر ، فغنم مِن الحرام ما انتفخت به أوداجه وأركب ذويه هودج التعالي على الخَلقِ كما يتصرَّف المغرُور ، فكانت أخرته  عِلَّة أصابته ما نفع معها لا دواء ولا تمائم ولا حرقاً للبخُور ، فتبخَّرت الثروة التاركة جمعها دموع الأرامل والأيتام تُغرِق وجوده بذكريات تقهر ببشاعة أحداثها غير المقهور . مرقد لأولياء الله الصالحين هي مدينة القصر الكبير المُباركة  التي أحبوها ودعوا لها بقوة الاحتمال وعدم تعليق وجدان أهاليها بقيمة وفرة المال المُكتَسَب عن طمعٍ أو استغلال فقط التعلق بمحبة الخالق واهب الأرزاق ففي ذلك الشعور، بحلاوة الجمال الكامن في الإيمان الصادق الواضح عير المجهول أو المهجور . مَن خذلها حصد مِن زرعه خواء حتى  القشور ، ومَن صادقها عايش ربوعها وهو المعتز بأخلاقه القويمة فخور. القصر الكبير عبارة عن مُجمَّع آنساني مسالم عن تَحضُّر، راقي عن تعلُّم معمَّق عن تواضع رافع صاحبه بالحسنى منفتح كخلاصة جذور مقامه المجسِّمة لرحلة الإنسان من بدايات الزمان إلي الآن شجاع عن حق للدفاع عن الحق بالحق  منحدر من أصلٍ لأصولٍ متأصِّلةٍ أصيلة وحَّدت أجناساً مِن أقاصي بقاع الأرض للاستقرار حيث الوادي يعانق البحر والثرى في طيب العطور ، بروائح تنعش الأنوف وتريح الصدور ، باستنشاق الهواء الطلق النقي  العليل  السالك الجسور ، وصولاً لما الطبيعة حفرته على السهول والمروج والتلال و الهضاب وأعالي الصخور ، مِن مناظر تُبهج النفوس وتريح الأعصاب و تشفي كل متضايقٍ عن سبب ما مضرور .


... لم تكن قابلة للنسيان أو تُوصَف بالغفلة عن حقها مهما جار عليها الرمان فتقبع في مكانها المحصور، بين أطماع المبتلي بهم المغرب منذ عصور ، أحفاد الاستحواذ على منافع الآخرين مهما كانوا محوطين أنفسهم بأمتن صور ، لذا تعرضت المدينة لأكثر من غارة لإركاعها وسلب مقوماتها وما اختزنته من كنوز المعرفة مذ كانت نواة لزعامة راغبة في الظهور ، ما أسِّسَ في محيطها عبر مراحل بدائية بخاطرها منشور ، ليعم ما حولها فيدب الوعي وتتكاثر الطموحات المكونة لكيان دولة وأمة لها امتداد مهما كان المجال عبر المعمور ، لكن دعاة التخريب الآتين من بعيد متى سمعوا بمثل الخير يطفو زارعاً للتمدُّد الحضاري الرفيع بذور ، زحفوا صوبها معزَّزين بفؤوس الهدم لإتلاف المذكور ، في أسفار تعد المراجع الأكثر إحاطة بصدق الأخبار عما بادت من شعلة المجد (المبني طوبة بعد طوبة لرخاء حياة) في تلك البقعة سادت كأضخم ما عرفته الإنسانية في ذاك الوقت من أتَمِّ مشروع للتعمير المرصع بالانضباط والتنظيم   المُدافُع عنه حتى بقرنيات الأُظْفُور ، وكل مرة يُرَاد اندحارها تنهض ضاربة المثل الأروع في صمود لايَبُور ، وكلها عزم للبدء من جديد على نفس القاعدة الأساس بعد شبه قحط تُصبَغ اليابسة مباشرة باليَخْضُور ، وتيك إرادة تنجز مِن اللاشيء المعجزات حباً في الاستقرار حيث الماء الوفير والأفق النظير والجو المفعم بالتفاؤل لاستقبال أفضل مصير مبَشَّر به مع زقزقة العصافير كل شروق به الروتين يطير كأنه عالم مصغَّر للسعداء مَن قُدّر عليهم في ذاك التوقيت الغابر الحضور .


... سكنه البشر ما قبل التاريخ ليكون أعرق موقع يستحقّ الانتباه والمغرب يتحدث عن نواة نشأته كدولة و أمة ، رفقة "ليكسوس" التي لا زالت تُحكَى عنها ما خلَّدها تحفة جلبت ألباب مَن حجُّوا لعين المكان ، قصد التمتع بما كان ، في الدنيا جمالا للجمال كأرق بستان ، وبلسماً لحياة كانت الأحلى والأهنأ والامتع فضاء وجواً وزرعا وتآلُفاً بين مَن عاشها آنذاك في استقرار وأمان ، لتصبح الآن مطرحاً للنسيان ، مسيَّجة بما يدين القائمين على التراث كأنها وكل منطقة القصر الكبير عبارة عن سطور في كتاب أصل وطن ، المراد مسح جملها الواحدة تلو الأخرى لتبدو بما أسسته من حضارة مجرَّد لقيطة ليمر مَن يمر عليها دون أعارتها ما تستحقه  حتى من أطيب  وصفِ عطفٍ وحنان . ويغمر الأسى المتمعن في درجات الإهمال ليضاف لما تعرضت له في جانبها الظاهر المتبقي من المدفون تحت الأرض بعامل التقادم ، وكأن الفينيقيين ما وصلوا إلي هنا وجعلوا منها مدينة التفاحات الذهبية العامرة على الضفة اليمنى لنهر "اللوكوس" . "بلينيوس" عرَّفها كأقدم ما شيده  الفينيقيون بغرب البحر الأبيض المتوسط ن متداول عليها عبر الأجيال ، أن هرقل التحق بها لأخذ التفاحات الذهبية بعد قطفها من شجرة عرفتها حدائق الهيسبيريذس بعد معركة جمعت بينة وحارس الشجرة التنين العملاق .

عشتار وهمسات من الحديقة/ زياد جيوسي




   "همسات من الحديقة" هو العنوان الشاعري والحالم للمعرض التشكيلي الشخصي الأول للفنانة العراقية عشتار نصرالله، المقيمة في الأردن، والذي أقيم في قاعة "الأورفلي" في عمّان بتاريخ 14 تموز 2025م.

المعرض، وعبر عشرين لوحة، يجذب المتأمل إلى جمال مختلف، مريح للعين، مبهج للروح. فالفنانة في أعمالها استحضرت جمال الحدائق والنباتات والورود، لكن بأسلوب جمالي مختلف؛ إذ درست الهندسة في الجامعة، ودرست الموسيقى وتخصّصت بالعزف على البيانو في مدرسة الموسيقى والباليه ببغداد، وكانت تهوى الرسم. فتداخلت هذه الفنون وانصهرت في روحها، لتقدّم لنا معرضها وهمسات الحدائق التي التقطتها، محيلةً هذه الهمسات إلى حسّ بصري وموسيقى متدفقة من الطبيعة والجمال.

   الفنانة عشتار ترسم بأحاسيسها وعلى سجيتها، تاركة مساحة مفتوحة للمتأمل كي يبحث في فكرة الجمال وعلاقته بالإنسان من الداخل، دون تخطيط مسبق للوحة سوى ذاك الجمال الذي يهمس من روحها. ولهذا جاء معرضها تجريدياً تعبيرياً، وكانت لوحاتها فعلاً همسات من الحديقة؛ إذ أنسنت النباتات والأشجار وجعلتها تهمس للمشاهد، وغيّبت الأشكال الواقعية خلف التجريد والرمزية، من غير صخب ولا شكوى ولا أنين. إنه همس الجمال في الحدائق التي نراها كل يوم لكننا لا نلتفت إلا إلى المشهد العام، بينما التقطت عشتار الروح في نباتات الحدائق، استمعت لهمساتها، وباحت لنا بها بالريشة واللون.

وفي لوحاتها، وعبر تجربة بصرية وروحية، تحاول الفنانة أن تكشف عن العلاقة بين المادي واللامادي، وبين الجسد والروح. وقد انقسمت أعمالها إلى ثلاثة محاور أساسية:

1. البشر مع الأشجار والنباتات.

2. النباتات وحدها في انتظار زوارها.

3. لوحة "نخلة عشتار"، وهي الوحيدة المسماة.

وسأقتطف من كل محور بعض اللوحات بقراءة نقدية وتحليلية علّ ما أختاره يعبر عن الفكرة الشاملة للمعرض.

المحور الأول: البشر مع الأشجار والنباتات

   في هذه اللوحات نجد تجريدًا للأشخاص مع النباتات. ففي اللوحة الأولى اعتمدت الفنانة المشهد العمودي للنباتات في ستة مقاطع متجاورة، وكأن كل مقطع منها لوحة مستقلة لكنها تتداخل لتشكل اللوحة الكبيرة. تظهر النباتات بشكل عمودي وخلفها تجريد لإنسان متمازج بالألوان حتى يكاد يغيب، تأكيدًا لفكرة أن الإنسان لا ينفصل عن الطبيعة. والحضور الإنساني يظهر كأطياف شفافة أحيانًا أو بألوان داكنة أحيانًا أخرى، في انسجام مع النباتات والظلال العمودية

   ومع تدرج الألوان وتباينها، بين الأخضر والأزرق والأصفر المغبر واللازوردي ولون التراب، يتبدى الإنسان أحيانًا أكثر وضوحًا، وأحيانًا يذوب كظل خلف النباتات، في إشارة إلى أن قدرته على الإصغاء لهمسات الطبيعة هي ما يمنحه حضوره الجمالي في الوجود، ويعكس في الوقت نفسه أثره على العلاقات الإنسانية والاجتماعية.

   وفي لوحة ثانية شدتني، كانت الخلفية رمادية هادئة، يتوسطها شخصان متقابلان كأنهما رجل وامرأة، يبدوان كعمود من الضوء يتبادلان الهمسات. اللوحة اعتمدت على لونين أساسيين إضافة إلى الرمادي: الأبيض الكريمي، والأصفر الداكن المائل إلى البرتقالي. النباتات تمتد بخطوط عمودية متداخلة كخيوط ضوء تلتف حول الأشخاص، وكأنها شلالات نور. فالتكوين (Composition) القائم على انثيال الخطوط العمودية أعطى انطباعًا بامتزاج همسات الحديقة مع همسات العشاق، فخلقت جمالًا آخر يفيض بالسكينة والحياد البصري. يتصاعد التدرج اللوني من الأسفل إلى الأعلى كأنه انفجار ضوئي، فيمنح اللوحة إحساسًا بالانسياب والحركة المستمرة.

   يلاحظ في اللوحة أيضا تعدد الطبقات اللونية، فتربط بين المستويات اللونية وتحافظ على التكوين اللوني والشفافية في بعض جوانب اللوحة، ما يعطي للعلاقة بين الشخصين مع النباتات والألوان نبضا حيا، وكأن المتأمل للوحة ينظر من خلف ستارة لعمق اللوحة، وخاصة مع رمزية اللون الأصفر للتجدد في الحياة والدفء والشمس، واللون الرمادي لم يكن في خلفية اللوحة فقط فقد كان في مركزها، مما جعل التباين اللوني يظهر بقوة بين الأصفر والأبيض، فالأبيض لون النقاء والصفاء أعطى مسارات رحبة للضوء الأصفر الدافئ، فكان كأنه فراغات تنفّس تمنع الشعور بالاختناق في التكوين اللوني.

   أما باقي اللوحات في هذا المحور كما في اللوحتين السابقتين، نجد أنها جميعا تتمحور حول الحضور الانساني وسط الحديقة والطبيعة والجمال، وكون أسلوب الفنانة يعتمد على فكرة التجريد التعبيري، فالانسان يظهر كأطياف شبه شفافة احيانا وبلون داكن أحيانا أخرى، والفنانة دمجت الانسان مع النبات لتظهر العلاقة بين الانسان ومحيطه وخاصة الغطاء الشجري، الذي إن اختل أدى لتغيرات مناخية وتصحر في الأراضي، والتكوين في هذه اللوحات أظهر الحضور الإنساني بجمالية رقيقة بتوازن مع الحركة، وركزت على فكرة الإنصهار بين الإنسان والطبيعة والبيئة، وشكل الأطياف سواء عبر الثنائية لوجود الأشخاص أو وجود الأشخاص على شكل مجموعة، متشابكة مع النباتات والظلال العمودية، يجعل المشهد البصري يتجه بمسار من الأسفل للأعلى بسمو وارتقاء للروح.

   ويلاحظ في هذه اللوحات تعدد الطبقات اللونية واهتمام الفنانة بالرمزية اللونية ، فرمزية الألوان كانت حاضرة بقوة: الأخضر رمز الخصب، الأبيض رمز النقاء، الأزرق رمز الهدوء، الأحمر والبرتقالي والذهبي ألوان العاطفة والدفء، وهي تشير للعاطفة في العلاقة الانسانية والورود، فالعشاق يتبادلون عادة الورود الحمراء،. أما البنفسجي والوردي فأضفيا رهافة حس، فيما الألوان الترابية ترمز إلى الوطن الذي اضطرت الفنانة لمغادرته.

   الفنانة منحت الفراغ (Space) في اللوحات وظيفة جمالية، إذ امتلأ بضربات لونية شفافة وانسيابية، ولم يعد بالإمكان فصل الأشكال عن الفضاء المحيط بها. اعتمدت خطوطًا (Lines) رشيقة متدفقة بشكل انسيابي، مبتعدة عن الحدة، لتفتح الباب أمام تساؤلات فلسفية وتأويلات متعددة: هل هذه أجساد مادية أم أطياف نورانية؟ رمزية الخطوط العمودية أوحت بالنمو والسمو، مع ارتباط راسخ بالجذور في الأرض والوطن. مضافا لذلك مدى التشابه بين أوراق بعض النباتات بالعيون البشرية كرمزية واضحة التأويل بأن البشر والشجر هم حراس الوطن والأرض.

    حتى التموجات اللونية في النباتات بدت كأنها نبض داخلي، فأضفت بعدًا عاطفيًا وتأمليًا. وهذا يشير للحالة النفسية لدى الفنانة وهي تسكب بوح روحها وأحاسيسها في اللوحات، وبالتالي تعطينا التموجات اللونية والحركية بعدا تأمليا وعاطفيا، يشجع المشاهد للعودة للتأمل أكثر من مرة، ليكتشف في كل مرة شيء جديد وصدق بصري وإنسجام في اللوحات.

ومن خلال الانسجام (Harmony) بين عناصر اللوحات وتكرار الرموز النباتية والبشرية، نشأ إيقاع بصري موسيقي، جعل الكتل (Mass) في اللوحات أقرب إلى أطياف نورانية شفافة منها إلى أجساد مادية، وكأن النباتات تبث طاقتها إلى الإنسان، لتؤكد رؤية فلسفية ترى الكون نسيجًا واحدًا لا ينفصل فيه الإنسان عن محيطه.

المحور الثاني: النباتات وحدها تنتظر زوارها

   في هذه المجموعة حضرت النباتات وحدها من غير شخوص، إلا في لوحة واحدة ظهر فيها حصان بين النباتات، حتى أني شعرت أن اللوحات تسأل عن زوارها، فاللوحة الأولى، بألوانها الذهبية والضياء الصاعد وكأنه من القمح في موسم الحصاد، أظهرت خيولًا شامخة في الثلث الأعلى، وكأنها بديل رمزي للإنسان. فالعلاقة مع الطبيعة ليست حكرًا على البشر، بل تشمل جميع الكائنات. اللون الأخضر رمز الخصب، والأزرق والأبيض ألوان صفاء، فجاءت اللوحة إشارة واضحة لعطاء الطبيعة وتجدد الحياة. ومن خلال هذا التكوين اللوني الذي يرتبط بلون القمح في موعد الحصاد تحت الشمس، نجد الخيول في الثلث الأعلى من اللوحة، وقد تكون الخيول جواد وفرس، والأغلب فرس ومهرة من حيث التدقيق بالأحجام، فهنا استبدلت الفنانة الانسان بالخيل، في اشارة رمزية أن دورة الحياة والعلاقة مع الطبيعة تشمل كل الأحياء، فالخيول عشبية الغذاء وهذا ما يربطها بالأرض والنباتات بقوة، مما يجعل من اللوحة اشارة واضحة لعطاء الطبيعة وجمالها، وقد تمازج اللوحة بألوان الأخضر رمز الخصب، وتوشيحات من الأزرق والأبيض وألوان فرحة أخرى، في ايقاع بصري من خلال التكوين اللوني، وضربات الفرشاة للألوان بتدفق جميل وإنسيابية بدون انسيالات لونية أو بثور، فأصبحت لوحة قابلة للتأويل بأكثر من اتجاه من خلال الكتلة واللون،  فكانت اللوحة أشبه بتدفق النور بين سنابل الحقول، في اشارة واضحة يراها المشاهد لتجدد الحياة وعدم خلودها للسكون، في علاقة واضحة بين اللون والضوء وما اختزنته تلافيف الذاكرة عبر حياتها من مشاهد بصرية.

   أما لوحة ثانية فقد اعتمدت أسلوب التجريد العضوي (Organic Abstraction) ، حيث تتشابك الأغصان والألوان بإيحاءات نارية توحي بصراع بين الحياة والموت. الألوان الرمادية واللون الرملي والمتعارف عليه باللون "البيج" وهي كلمة فرنسية، وتوشيحات الأحمر والبرتقالي والأسود والأبيض، وتوشيحات الأحمر والبرتقالي والأسود، مع تكوينات طولية وحلزونية، أعطت انطباعًا بجدلية النور والعتمة، والحياة والفناء. بالاعتماد على الرمزية في عناصر من الطبيعة، مستفيدة من المساحات اللونية التي تضم الأغصان والنباتات، تاركة للمتأمل أن يتخيل ويأول رموز اللوحة، من خلال التشابك بين الخطوط والألوان، وخاصة مع غلبة اللون الرمادي على خلفية اللوحة وتكوين الخطوط الطولية ككل اللوحات، اضافة للتموجات اللونية في الخطوط المنحنية. وهذا التكوين الحركي المتصاعد للأعلى واللوني للوحة جعلها قريبة للزخرفة، ومن خلال اللون الاحمر القاني والبرتقالي في مقدمة اللوحة، وهي ألوان حارة مقابل خلفية اللوحة باللون الرمادي، يشعر المتأمل أن هناك صراع بين النور والعتمة والموت والحياة.

   وفي باقي الأعمال من هذا المحور اعتمدت الفنانة الخطوط الطولية والحركة التصاعدية، بتدرجات لونية متناغمة، كما لجأت أحيانًا إلى التكوين الحلزوني في بعض اللوحات الذي ينطلق من بؤرة اللوحة نحو الأطراف كدوامة بحر، ليمنح المشاهد إحساسًا بالطبيعة في لحظة تجددها. فالنباتات في هذه اللوحات ليست مجرد أشكال، بل كائنات تنتظر تواصلًا روحيًا يعيد التوازن للحياة.

   بتدرجات للإيقاع البصري من خلال التباين اللوني الذي يشعر المتأمل بأن هناك حوار لوني، وخاصة اللون الأخضر بتدرجاته المختلفة والتوشيحات الزرقاء والبيضاء والصفراء، وتكثيف كتل أوراق الأشجار والنباتات، لتقليل الفراغ وجعله فاتح وشفاف يريح البصر، ويجعله أكثر حرية في تأمل اللوحات وتناثر الأشكال اللونية، والانسجام اللوني من خلال الألوان الدافئة المتقاربة،  فتمنح المشاهد ايحاءات من الطبيعة وجماليتها، من خلال استخدام الفنانة التكوين اللوني كوسيلة أساسية في منح المشاهد تعبيرا شعوريا مختلفا في كل لوحة رغم وحدة الفكرة. 

المحور الثالث: لوحة "نخلة عشتار"

   هذه اللوحة الوحيدة التي منحتها الفنانة اسمًا: "نخلة عشتار". لم تقصد نفسها بالاسم، بل استحضرت رمزية النخلة في حضارات وادي الرافدين. فالنخلة عند البابليين رمز للخصب والتجدد، وقد ارتبطت بعشتار، آلهة الحب والجمال والخصب والحرب. ونرى في الأختام البابلية الأسطوانية الآلهة تقف إلى جوار شجرة النخيل وعشتار معها، في قدسية تتجاوز حدود الطبيعة والتاريخ إلى الأسطورة، علما أن عشتار هي نفسها "أنانا" لدى السومريين.

   اللوحة قامت على محور عمودي مركزي، يتوسطها النخيل. الخطوط والنقاط البيضاء شكلت شبكة بصرية أنارت الخلفية الخضراء، رمز العطاء، فيما النقاط الحمراء على الأطراف أوحت بنزيف العراق في حروبه. مؤكدة الفنانة عشتار مدى ارتباط ريشتها بالطبيعة النباتية وجمالها وعلاقتها بالانسان، وخاصة أن النخيل كان من أعمدة الاقتصاد في العراق من قبل النفط وبعده، ونلاحظ أن الاحتلال الإمريكي وبشكل موثق قام بحرق مساحات واسعة مزروعة بالنخيل.

   التوازن بين الكتلة والفراغ في اللوحة، والانسجام بين الألوان الشفافة والخلفية، منحها بعدًا رمزيًا عميقًا. من خلال الكتل البيضاء الشفافة والعمق بالفراغات الخضراء، وكأن الفنانة من خلال هذه اللوحة تؤكد أن النخلة، منذ السومريين حتى اليوم، ليست مجرد شجرة، بل ذاكرة وهوية وكيان مقاوم للفناء.

الخلاصة

هذه اللوحات لم تكن مجرد مساحات لونية معلقة على الجدران، بل رحلة بصرية وروحية وفلسفية في عمق العلاقة بين الإنسان والطبيعة، بين الحضور والغياب. إنها تجربة تشكيلية متكاملة الفكرة، تدعو إلى حياة جديدة قائمة على علاقة إيجابية مع البيئة والطبيعة، ومعنى الوجود بعيدًا عن التخريب وهدر الموارد. فالمعرض يعيد رسم الواقع من خلال فضاء بصري يدفع المشاهد إلى التأمل في البعدين الرمزي والروحي للوجود.

   لوحات تجعل من كل عمل تجربة للتوازن البيئي، ومن كل خط مختبرًا للحياة المستدامة، ومن كل تماوج للخطوط نبضًا إنسانيًا حيًّا. وحين يغدو الإنسان حاميًا للموارد ومحيطه، يتحول الفن إلى فعل إنساني مستدام يسهم في استمرار الحياة، ويمنحها جمالًا أكبر. فالجمال يولد من التناقضات، والفن يفتح بابًا لفهم أعمق للروح والتأويل. وفهم هذه الرسالة هو البداية فقط نحو تحويل الفكرة إلى حياة.

نقد من الداخل أم تطبيع من الخارج؟ قراءة في لقاءات المثقفين العرب والإسرائيليين/ الدكتور حسن العاصي



كاتب وباحث أكاديمي فلسطيني مقيم في الدنمارك


في لحظة تاريخية تتسم بالدم والخذلان، حيث يُقصف الفلسطينيون في غزة بلا هوادة، وتُحاصر مدنهم، وتُهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، يطفو على السطح سؤال يبدو في ظاهره معرفياً، لكنه في جوهره أخلاقي وسياسي: هل يمكن للمثقف أو الإعلامي الفلسطيني والعربي أن يُحاور شخصية إسرائيلية "ناقدة" دون أن يُشرعن وجودها؟ دون أن يُجمّل خطابها؟ دون أن يُستخدم كجزء من آلة رمزية تُعيد إنتاج الاحتلال بلغة ناعمة؟

هذا السؤال لا يُطرح في فراغ، بل في سياق تطبيع سياسي متسارع، تُرافقه موجة تطبيع إعلامي وثقافي أكثر خطورة، لأنها لا تُعلن نفسها، بل تتسلّل عبر مفردات "الحياد"، و"التحليل"، و"الانفتاح"، و"الاختلاف"، لتُعيد تشكيل الوعي العربي تجاه فلسطين، لا عبر الإنكار، بل عبر التخفيف، والتأطير، والتجميل.

في السنوات الأخيرة، ظهرت لقاءات إعلامية بين مثقفين عرب وشخصيات إسرائيلية تُقدَّم بوصفها "ناقدة"، أو "متمردة"، أو "صوتاً مختلفاً" لكن السؤال الذي يُغفل غالباً هو: هل يمكن فصل هذا "النقد" عن البنية الاستعمارية التي تُنتجه؟ هل يمكن أن يكون "أبراهام بورغ" أو غيره من رموز المؤسسة الإسرائيلية، ناقداً حقيقياً، وهو الذي شغل منصباً تشريعياً في دولة الاحتلال، وشارك في شرعنة سياساتها؟ هل يُمكن أن يُقدّم خطاباً أخلاقياً، وهو يُساوي بين المقاومة والاحتلال، بين من يُدافع عن أرضه، ومن يُقصفه بالطائرات؟

المثقف، حين يُحاور، لا يُعبّر فقط عن رأيه، بل يُعيد تشكيل الوعي. وحين يُطلّ عبر منصة تُروّج للتطبيع، فإن مجرد ظهوره يُصبح جزءًا من الرسالة، مهما كانت نواياه. فالمنصة تُحدّد السياق، والسياق يُعيد تشكيل المعنى، والمعنى يُعيد إنتاج الموقف.

في هذا المقال، لا نُدين الحوار بوصفه فعلاً معرفياً، بل نُفكك شروطه، وسياقه، وحدوده الأخلاقية. نسأل: هل يمكن استخدام الإعلام كأداة لتفكيك الخطاب الصهيوني؟ أم أن الإعلام، حين يُدار من خارج الوجدان الفلسطيني، يُصبح أداة لإعادة إنتاج الاحتلال؟ هل يمكن للمثقف أن يُمارس النقد من داخل المنظومة، دون أن يُصبح جزءًا منها؟ وهل يُمكن للوعي أن ينجو من التواطؤ، حين يُحاور من يُنكر حقه في الأرض، والكرامة، والوجود؟

هذه الأسئلة لا تُطرح في فراغ، بل في سياق دمٍ يُسال يومياً في غزة، وتهويدٍ يُبتلع في القدس، وحصارٍ يُخنق في الضفة، ونكبةٍ مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود. فحين يُقتل الأطفال، وتُهدم البيوت، وتُحاصر المدن، يصبح كل ظهور إعلامي، وكل كلمة، وكل منصة، جزءًا من معركة الوعي، لا مجرد مساحة للنقاش.

لأن فلسطين، في النهاية، ليست موضوعاً للجدال، بل قضية للانحياز. والمثقف، حين يُراوغ، يُخسر الكلمة. وحين يُساوي بين القاتل والمقتول، يُخسر المعنى. وحين يُحاور دون مساءلة، يُخسر الموقف.


المثقف في مرمى التطبيع: هل يمكن فصل النقد عن الاحتلال؟

لقد باتت اللقاءات الإعلامية بين مثقفين عرب وشخصيات إسرائيلية "ناقدة" تُثير جدلاً متصاعداً: هل هي محاولة لفهم الداخل الإسرائيلي وتفكيك خطابه؟ أم أنها تُعيد إنتاج صورة الاحتلال بوصفه قابلاً للنقاش، لا بوصفه جريمة؟ هل يُمكن فصل النقد عن البنية الاستعمارية التي تُنتجه؟ وهل يُمكن استخدام الإعلام كأداة مقاومة، أم أن المنصة تُحدّد طبيعة الرسالة، مهما كانت النوايا؟

في هذه القراءة، نحاول أن نُقارب هذا التوتر، لا لنُدين أو نُبرّئ، بل لنُفكك. لأن المثقف، حين يُحاور، لا يُعبّر فقط عن رأيه، بل يُعيد تشكيل الوعي. وحين يُطلّ عبر منصة تُشرعن الاحتلال، فإن السؤال لا يكون فقط: ماذا قال؟ بل: أين قاله؟ ولماذا؟ ولمن؟

في لقاء مثير للجدل، أجرى الكاتب والإعلامي الفلسطيني "عصمت منصور" حواراً مع "أبراهام بورغ" الرئيس الأسبق للكنيست الإسرائيلي، عبر "بودكاست" بعنوان "ما بعد السابع" على منصة العربية والحدث.  بورغ، المعروف بمواقفه النقدية، قال إن "لا شيء يبرر جريمة حماس ولا جرائم إسرائيل في غزة". عصمت منصور، الذي يُقدّم نفسه كخبير في الشأن الإسرائيلي، أدار الحوار بلغة تحليلية، وطرح أسئلة تتعلق بالمسؤولية السياسية، وبأزمة الهوية داخل إسرائيل، وبمستقبل العلاقة مع الفلسطينيين، وبورغ من جهته، قدّم مواقف نقدية، في محاولة لموازنة الخطاب، لكنه يساوي بين الضحية والجلاد، بين المقاومة والاحتلال، بين من يُدافع عن أرضه، ومن يُقصفه بالطائرات.

اللقاء بدا وكأنه يُحاول أن يُقدّم "صوتاً إسرائيلياً مختلفاً، لكنه في السياق الإعلامي العربي، وخاصة عبر منصة تُتهم بالترويج للبروباغندا الإسرائيلية، بدا وكأنه تطبيع رمزي، يُعيد إنتاج صورة "الإسرائيلي الطيب"، ويُفرّغ القضية من بعدها الاستعماري.


من هو بورغ؟ ولماذا يُثير الجدل؟

أبراهام بورغ ليس شخصية إسرائيلية تقليدية. فهو من أبرز من انتقدوا السياسات العنصرية داخل إسرائيل، وكتب في مؤلفاته عن أزمة الهوية اليهودية، وعن فشل المشروع الصهيوني في إنتاج دولة ديمقراطية حقيقية. في كتابه "الانتصار على هتلر" يُقارن بين العقلية الأمنية الإسرائيلية والعقلية الفاشية، ويُحذّر من تحوّل إسرائيل إلى دولة أبرتهايد. لكن رغم هذه المواقف، يبقى بورغ جزءًا من المنظومة السياسية التي أسّست الاحتلال، وشارك في مؤسساتها، وكان رئيساً للكنيست، أي في قلب السلطة التشريعية التي شرّعت الاستيطان والحصار.

اللقاء أثار حدلاً واسعاً، وموجة انتقادات خاصة من حركة المقاطعة (BDS)، التي اعتبرته تطبيعاً إعلامياً مرفوضاً، فحتى لو كان بورغ ناقداً، فإنه يبقى جزءًا من المنظومة الصهيونية، وقد شغل منصباً تشريعياً في دولة الاحتلال، وشارك في شرعنة سياساتها، وإن اختلف لاحقًا مع توجهاتها. اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل أصدرت بياناً أدانت فيه اللقاء، معتبرة أن بورغ، رغم مواقفه النقدية، يبقى جزءًا من المنظومة الصهيونية التي شاركت في التهجير والاستعمار. وُجّهت انتقادات لعصمت منصور بسبب ظهوره على منصات إعلامية تُتهم بالترويج للبروباغندا الإسرائيلية، مثل العربية والحدث، واعتُبر اللقاء محاولة لتلميع رموز إسرائيلية أمام الرأي العام العربي.

الانتقادات التي وُجّهت لعصمت منصور لم تكن فقط سياسية، بل أخلاقية وثقافية. اعتبر اللقاء خرقاً لمعايير المقاطعة الثقافية، ووسيلة لتبييض وجه الاحتلال عبر شخصيات "نقدية" تُستخدم لتجميل الصورة.  كما اعتبر مثقفون فلسطينيون أن اللقاء يُعيد إنتاج خطاب "الحياد الأخلاقي"، الذي يُساوي بين المقاومة والاحتلال، ويُفرّغ النضال الفلسطيني من شرعيته التاريخية.

لكن في المقابل، دافع البعض عن اللقاء بوصفه محاولة لفهم الداخل الإسرائيلي، ولتفكيك الخطاب من داخل بنيته، خاصة أن بورغ يُمثّل تيارًا نقديًا نادرًا في إسرائيل، ويُقدّم مواقف تُدين الاحتلال وتُشكّك في شرعية الدولة الصهيونية.


هل يمكن للمثقفين والإعلاميين الفلسطينيين والعرب محاورة شخصيات إسرائيلية نقدية دون الوقوع في فخ التطبيع؟

هذا السؤال لا يخص عصمت منصور وحده، بل يخص كل مثقف عربي يُحاول أن يُقارب القضية الفلسطينية من موقع التحليل، لا من موقع الشعارات. هل يمكن أن نُحاور الإسرائيليين النقديين دون أن نُشرعن وجودهم؟ هل يمكن أن نُفكك خطابهم دون أن نُجمّله؟ هل يمكن أن نُستخدم المنصة الإعلامية دون أن تُستخدمنا؟

الإجابة ليست سهلة. لأن الإعلام لا يُعبّر فقط عن المعلومة، بل يُنتج المعنى، ويُعيد تشكيل الوعي. وحين يُعرض الإسرائيلي بوصفه "ناقدًا"، دون تفكيك موقعه البنيوي في منظومة الاحتلال، فإننا نُخاطر بتحويل النقد إلى تبرئة، والمساءلة إلى تلميع.

عصمت منصور يُمثّل نموذجاً مركّباً: فهو أسير محرّر كتب عن تجربة السجن، وباحث يُترجم الصحافة العبرية ويُحلّل الداخل الإسرائيلي، وإعلامي يُطلّ عبر منصات خليجية تُتهم بالتطبيع.

هذا التداخل يُنتج توتراً دائماً بين الالتزام الأخلاقي، والتحليل السياسي، وبين الذاكرة النضالية، والمنصة الإعلامية. وهو توتر لا يُمكن حسمه بسهولة، لكنه يُحتّم على المثقف أن يُعيد مساءلة أدواته، ومنصاته، وخطابه، وأن يُدرك أن التحليل لا يُعفي من المسؤولية الأخلاقية، وأن المنصة تُشكّل الرسالة بقدر ما يُشكّلها المحتوى.


هل يُمكن استخدام الإعلام كأداة لتفكيك الخطاب الصهيوني، أم أن مجرد المنصة يُحدّد طبيعة الرسالة؟

في زمن تتسارع فيه محاولات تبييض وجه الاحتلال، وتُعاد فيه صياغة المفاهيم تحت ضغط التطبيع السياسي والإعلامي، يُطرح سؤال أخلاقي وفكري بالغ الحساسية: هل يمكن للمثقف أو الإعلامي الفلسطيني والعربي أن يُحاور شخصية إسرائيلية نقدية دون أن يُشرعن وجودها؟ دون أن يُجمّل خطابها؟ دون أن يُستخدم كأداة في لعبة رمزية تُعيد إنتاج الاحتلال بلغة ناعمة؟

هذا السؤال لا يُطرح في فراغ، بل في سياق دمٍ يُسال يومياً في غزة، وتهويدٍ يُبتلع في القدس، وحصارٍ يُخنق في الضفة، ونكبةٍ مستمرة منذ 1948. فحين يُقتل الأطفال، وتُقصف البيوت، وتُحاصر المدن، يصبح كل ظهور إعلامي، وكل كلمة، وكل منصة، جزءًا من معركة الوعي، لا مجرد مساحة للنقاش.


الإعلام كمنصة: من التفكيك إلى التواطؤ

الإعلام ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل مُنتِج للمعنى، ومُعيد تشكيل الوعي، ومُهندس للسياق الذي تُفهم فيه القضايا. فهو لا يُقدّم فقط "ما حدث"، بل يُحدّد "كيف نراه"، و"من نصدّقه"، و"ما الذي يُقال وما الذي يُسكت عنه". وحين يُستضاف الإسرائيلي "الناقد"، أو "المعتدل"، أو "المفكر"، فإن ما يُعاد إنتاجه ليس فقط رأيه، بل شرعيته الرمزية، وموقعه في المشهد، وصورته أمام الجمهور العربي بوصفه "طرفاً قابلاً للحوار"، لا جزءًا من منظومة استعمارية.

هذا التحوّل ليس تفصيلياً، بل جوهرياً. فالإعلام، حين يُقدّم الاحتلال بلغة تحليلية محايدة، يُعيد إنتاج الجريمة بوصفها "نزاعاً"، ويُفرّغ المقاومة من معناها، ويُساوي بين القاتل والمقتول، تحت ذريعة "الموضوعية". وحين يُستضاف رموز المؤسسة الإسرائيلية، حتى لو بدوا نقديين، فإن مجرد ظهورهم يُعيد إنتاج صورة الاحتلال بوصفه قابلاً للنقاش، لا بوصفه جريمة مستمرة.

المنصة الإعلامية، في هذه الحالة، لا تُفكك الخطاب الصهيوني، بل تُعيد إنتاجه بلغة ناعمة، تُراوغ بدل أن تُدين، وتُحلّل بدل أن تُنحاز، وتُوازن بدل أن تُفضح. وهنا يتحوّل الإعلام من أداة مقاومة إلى أداة تواطؤ، ومن مساحة للتفكيك إلى مساحة للتطبيع الرمزي، حيث يُصبح "الاختلاف الإسرائيلي" غطاءً لتبييض وجه الاحتلال، ويُصبح "النقد الداخلي" وسيلة لتخفيف وطأة الجريمة.

إن الإعلام، حين يُفقد البوصلة الأخلاقية، يُصبح أخطر من الرصاصة. لأنه لا يُقتل الجسد، بل يُعيد تشكيل الوعي، ويُعيد بناء الذاكرة، ويُعيد صياغة فلسطين بوصفها ملفاً قابلًا للتفاوض، لا قضية للانحياز.

لهذا، فإن كل ظهور إعلامي، وكل استضافة، وكل منصة، يجب أن تُخضع للمساءلة: هل تُخدم القضية؟ أم تُخدم صورة الاحتلال؟ هل تُعيد بناء الوعي؟ أم تُعيد تشكيله وفقاً لمعادلات القوة؟ هل تُنحاز للحق؟ أم تُراوغ باسم التوازن؟

لأن الإعلام، في النهاية، ليس مرآةً لما يحدث، بل عدسة تُحدّد كيف نراه. والمثقف، حين يُطلّ عبرها، لا يُعبّر فقط عن رأيه، بل يُعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويُحدّد موقعه من الدم، ومن التاريخ، ومن فلسطين.


المثقف الفلسطيني: بين الالتزام والتحليل

المثقف الفلسطيني يعيش مأزقاً مركّبًاً من جهة، هو مطالب بأن يُحلّل، ويُفكك، ويُفهم العدو من الداخل. ومن جهة أخرى، هو محكوم بذاكرة نضالية، وبمسؤولية أخلاقية، وبدمٍ لم يجف بعد.

هل يمكن أن يُحاور الإسرائيلي النقدي دون أن يُستخدم؟ هل يمكن أن يُفكك الخطاب الصهيوني دون أن يُجمّله؟ هل يمكن أن يُطلّ عبر منصة تُروّج للتطبيع دون أن يُصبح جزءًا منها؟

كما يُشير ميثاق مواجهة التطبيع الإعلامي الصادر عن منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال، فإن مجرد الظهور على منصة تُشرعن الاحتلال، أو استضافة شخصية إسرائيلية، يُعد خرقاً أخلاقياً، حتى لو كان بهدف النقد أو التفكيك. فالمنصة تُشكّل الرسالة بقدر ما يُشكّلها المحتوى، والإعلام لا يُعفي من المسؤولية، بل يُضاعفها.

التطبيع لم يعد فقط توقيع اتفاقيات، بل أصبح رمزاً ناعماً يُعاد إنتاجه عبر الإعلام، والثقافة، والفن، والحوارات. حين يُستضاف الإسرائيلي "المعتدل"، يُعاد تقديم الاحتلال بوصفه قابلاً للنقاش، لا بوصفه جريمة. وحين يُقال إن "الطرفين أخطأوا"، يُعاد إنتاج المساواة بين القاتل والمقتول، بين من يملك الطائرات، ومن يملك الحجارة.

كما يُحذّر إعلاميون عرب في ملتقى مناهضة التطبيع الإعلامي، فإن الإعلام العربي بات يُستخدم لترويج صور تُؤلم الشعب الفلسطيني، وتُضعف الإيمان بقضيته، وتُعيد صياغة الوعي وفقاً لسياسات لا تُعبّر عن نبض الناس.


فلسطين ليست موضوعًا للنقاش.. بل قضية للانحياز

في الوقت الذي يُعاد فيه تشكيل المفاهيم، وتُختزل القضايا في لغة "الحياد" و"التوازن"، يجب أن يُقال بوضوح: فلسطين ليست موضوعاً للنقاش، بل قضية للانحياز. ليست ملفاً سياسياً يُدار في غرف مغلقة، بل جرحاً مفتوحاً في الوجدان العربي، وامتحاناً أخلاقياً دائماً لكل من يكتب، ويُحلّل، ويُحاور، ويُطلّ عبر المنصات.

حين يُقتل الأطفال في غزة، لا يكون الحياد موقفاً، بل خيانة. وحين تُهدم البيوت في رفح، لا يكون التوازن فضيلة، بل تواطؤًا. وحين تُحاصر القدس، لا يكون الحوار مع رموز الاحتلال فعلاً معرفياً بريئاً، بل فعلاً سياسياً يُعيد إنتاج الجريمة بلغة ناعمة.

المثقف الفلسطيني والعربي لا يُطلب منه أن يُحاور فقط، بل أن يُنحاز. أن يُنحاز للحق، للكرامة، للحرية، ولدمٍ لم يجف بعد. أن يُدرك أن الكلمة، حين تُقال، تُصبح موقفاً، وأن المنصة حين تُستخدم تُصبح رسالة. وأن الخطاب حين يُراوغ، يُخسر المعنى، ويُخسر القضية.

فلسطين لا تُحرّر فقط بالبندقية، بل بالكلمة التي لا تُساوم، وبالمنصة التي لا تُراوغ، وبالخطاب الذي لا يُجمّل الجريمة. فلسطين تُحرّر حين يُقال إن الاحتلال ليس طرفاً في نزاع، بل هو جريمة مستمرة. حين يُقال إن المقاومة ليست خطأً، بل حقاً مشروعاً. حين يُقال إن الحياد في زمن المجازر ليس فضيلة، بل سقوط أخلاقي.

المثقف، حين يُساوي بين القاتل والمقتول، يُخسر الكلمة. وحين يُحاور دون مساءلة، يُخسر الموقف. وحين يُراوغ باسم التحليل، يُخسر المعنى.

في النهاية، فلسطين ليست موضوعاً حيادياً، بل قضية أخلاقية، وإنسانية، وتاريخية. ليست قضية خارجية، بل مرآة للضمير. ومن لا يرى فيها قضية للانحياز، لا يرى نفسه، ولا يرى شعبه، ولا يرى التاريخ. وحين يُقتل الأطفال في غزة، وتُهدم البيوت في رفح، وتُحاصر القدس، فإن كل حوار مع الاحتلال، حتى لو كان نقدياً، يجب أن يُخضع للمساءلة: هل يُخدم القضية؟ أم يُخدم صورة الاحتلال؟ هل يُفكك الخطاب؟ أم يُعيد إنتاجه؟ هل يُنحاز للدم؟ أم يُراوغ باسم التوازن والموضوعية؟ هل يُعيد بناء الوعي؟ أم يُعيد تشكيله وفقاً لمعادلات القوة؟


الإعلام المقاوم: هل من بديل؟

لكن هذا لا يعني الانغلاق أو الانعزال، ولا يُفترض أن يُحوّل المثقف أو الإعلامي الفلسطيني والعربي إلى كائن يرفض الحوار أو يُغلق أبواب المعرفة. بل يعني أن عليه أن يُعيد تعريف أدواته، وأن يُدرك أن الإعلام ليس ساحةً محايدة، بل ميداناً للصراع الرمزي، حيث تُصاغ المفاهيم، وتُعاد كتابة التاريخ، ويُعاد تشكيل الوعي الجمعي.

الإعلام المقاوم لا يُقاس بعدد الشعارات، بل بقدرته على إنتاج خطاب يُفكك الاحتلال دون أن يُشرعنه، ويُخاطب الداخل الإسرائيلي دون أن يُجمّل صورته، ويُعيد بناء السردية الفلسطينية من موقع القوة الأخلاقية، لا من موقع التوازن الزائف.

يمكن للإعلام أن يكون أداة مقاومة فعّالة، حين يُنتج محتوى يُفضح الجرائم، ويُعرّي البنية الاستعمارية، ويُفكك اللغة التي تُستخدم لتبرير القتل، والحصار، والتهويد. حين يُعيد الاعتبار للضحايا، لا يُساويهم بالجلادين. حين يُنحاز للحق، لا يُراوغ باسم التحليل. حين يُعيد بناء الذاكرة، لا يُعيد إنتاج النسيان.

لكن هذا يتطلّب شروطاً واضحة: اولاً: استقلالاً في المنصة: لأن المنصة ليست مجرد وسيلة، بل سياق يُشكّل الرسالة. الإعلام المقاوم لا يُمكن أن يُبث من داخل مؤسسات تُروّج للتطبيع، أو تُعيد إنتاج الرواية الصهيونية بلغة ناعمة. ثانياً: وضوحاً في الموقف: لأن الغموض في القضايا الأخلاقية ليس ذكاءً، بل تواطؤ. يجب أن يُقال بوضوح: الاحتلال جريمة، والمقاومة حق، والحياد خيانة. ثالثاً: وعياً بأن كل ظهور إعلامي هو موقف: لأن الكلمة، حين تُقال، تُصبح سلاحاً. والمثقف، حين يُطلّ، يُعيد تشكيل الوعي، ويُحدّد موقعه من الدم، ومن التاريخ، ومن فلسطين.

الإعلام المقاوم لا يُراوغ، بل يُواجه. لا يُوازن، بل يُدين. لا يُحلّل فقط، بل يُنحاز.

وهو لا يُغلق باب الحوار، بل يُحدّد شروطه الأخلاقية: أن يكون الحوار أداة تفكيك، لا تلميع. أن يكون اللقاء مساءلة، لا تبرئة. أن يكون الصوت الفلسطيني هو المركز، لا الهامش.

لأن فلسطين، في النهاية، لا تحتاج إلى إعلام يُراوغ، بل إلى إعلام يُضيء. لا تحتاج إلى منصات تُساوي بين القاتل والمقتول، بل إلى منصات تُعيد بناء الوعي، وتُعيد الاعتبار للحق، وتُعيد صياغة التاريخ من موقع الضحية التي تُقاوم، لا من موقع الجلاد الذي يُبرّر.


ختاماً: المثقف العربي أمام اختبار التطبيع: جدلية الحوار والرفض

في زمنٍ يُعاد فيه تشكيل الوعي العربي تحت ضغط التطبيع، لا يعود السؤال عن الحوار مع الإسرائيليين "النقديين" مجرد جدل ثقافي، بل يصبح اختباراً أخلاقياً للمثقف، وللإعلامي، ولمن يُمسك بالكلمة في وجه آلة القتل. فحين يُقصف الفلسطينيون في غزة، وتُحاصر مدنهم، وتُهدم بيوتهم، لا يكون الحياد موقفاً، بل تواطؤًا. ولا يكون الحوار مع رموز الاحتلال، مهما بدوا "مختلفين"، فعلاً معرفياً بريئاً، بل فعلاً سياسياً يُعيد إنتاج صورة الجلاد بلغة ناعمة.

المثقف، حين يُحاور، لا يُعبّر فقط عن رأيه، بل يُعيد تشكيل الوعي. وحين يُطلّ عبر منصة تُشرعن الاحتلال، فإن مجرد ظهوره يُصبح جزءًا من الرسالة، مهما كانت نواياه. فالمنصة تُحدّد السياق، والسياق يُعيد تشكيل المعنى، والمعنى يُعيد إنتاج الموقف.

إن تفكيك الخطاب الصهيوني لا يتم عبر تلميع رموزه، بل عبر فضح بنيته، وتعرية منطقه، ومساءلة لغته. وإن مقاومة الاحتلال لا تكون فقط بالبندقية، بل بالكلمة التي لا تُساوم، وبالمنصة التي لا تُراوغ، وبالخطاب الذي لا يُساوي بين القاتل والمقتول.

فلسطين ليست موضوعًا للنقاش، بل قضية للانحياز. والمثقف، حين يُراوغ، يُخسر الكلمة. وحين يُساوي بين المقاومة والاحتلال، يُخسر المعنى. وحين يُحاور دون مساءلة، يُخسر الموقف.

في زمن الدم، لا حياد. وفي زمن الحصار، لا تجميل. وفي زمن النكبة المستمرة، لا مكان لمن يُعيد إنتاج الاحتلال بلغة التحليل. لأن فلسطين، في النهاية، لا تُحرّر فقط بالسلاح، بل بالكلمة التي تعرف أين تقف، ومع من، ولماذا.


دراسة لديوان ( هنا وطن ) للشاعرة " إيمان مصاروة " / الدكتور حاتم جوعيه

 


مقدمة :-

     يقعُ  ديوان "هنا وطن" في 100 صفحة  من الحجم المتوسط - وهو من إصدار  دار فضاءات - عمان 2013 ، ويضمُّ الديوانُ مجموعة من القصائد الشعريَّة  بعضها الكلاسيكي التقليدي، والقسم الآخر على نمط شعر التفعيلة، وتعالجُ هذه القصائد مواضيع عديدة : غزلية ووجدانيَّة  ووطنية ورثايَّة .. وأركز في دراستي هذه ،   على بعض القصائد مع الاستعراض والتحليل ، أولها قصيدة ( "القدس أمي " - صفحة 7 - 8 ).

      وأشير هنا إلى أنَّ القلائل من الشعراءِ الفلسطينيين والعرب الذين كتبوا قصائد شعريَّة لمدينةِ القدس، وحتى الشاعرالفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان - شاعر فلسطين قبل النكبة -  ذكر مدينة القدس  بشكل سريع وخاطف في قصيدة  له ، وقد يظنُّ القارىءُ لأولِ وهلةٍ أنه يتحدثُ عن مركز ومقرٍّ أو مكتب،ومطلع القصيدة*1 : 

( دارَ الزعامةِ  والأحزابِ  كانَ  لنا     قضيَّةٌ    فيكِ     ضيَّعنا    أمانيها  )


   وأما ( القدس أمِّي )  للشاعرة ابنة الناصرة إيمان مصاروة، فهي قصيدة كلاسيكييه تقليديّة على بحر الكامل  وقافيتها الهاء مع الألف الممدودة  والقصيدةُ عذبة، سلسة ، منسابة ، ومعانيها واضحة ،وتخاطبُ فيها إيمان كلَّ زائر وآتٍ  لمدينةِ القدس  وكلَّ فلسطينيٍّ مرسلٍ بالحبِّ والشوق لهذه المدينةِ العريقة والأصيلة،فتقولُ للزائر :هذه المدينة التي يشمخُ سورُها (أي إنها مدينة منيعة على مرِّ التاريخ ودائما شامخة بسورها وبأهلها وسكانها الأصائل)، هي ساح الشوق.. شوق الزائر الفلسطيني والعربي  حيث يفوحُ عبيرُها.. عبير العراقة والأصالة  والتاريخ والقداسة  والطهارة ( أولى القبلتين وثالث الحرمين ) . وتطلبُ الشاعرةُ من الزائر أن  ينهلَ ويقتبسَ  من عزِّهَا المضيءِ والمشعِّ  قصيدها . وقد تكونُ الشاعرةُ هنا تخاطبُ نفسَها بصيغة الغائب (الزائر) فالقدسُ هي ساحُ ومرتعُ  أشواقها ، وعبيرها دائما فوَّاحٌ  بالعراقةِ والقداسةِ  وعليها أن  تنهلَ  من عزِّ وأمجاد القدس فتذكي وتلهم الإيحاءَ والفن الذي يتجسد في قصائدها التي تكتبها للقدس  .   وهذه المدينة هي مضيافة  ومعطاءة، وفي سورها ، وفي أهلها الو دعاء  الأفاضل يلقون  دائما السلام والترحيب على الضيوف المسالمين الزائرين ، وهذه المدينة تعرضت وما زالت تتعرض  للكثير من الظلم والعدوان وعلى شعبها الباسل ، ولكنَّ هذا الظلمَ  مهما طال أيها الزائر فلن يضرها   ويغير  ملامحَها وطابعَها العربي الفلسطيني الأصيل والعريق وجمالها وقداستها.

 فالقدسُ هي  الوحي  والإيحاء  والتجلي حيث  جرحها  النازف  يرتلُ  بالأنوار والأضواء التي تضاهي أضواء الشمس  الساطعة  حين تزورها.


 هذه المدينة التاريخية العريقة تنبئُكَ وتخبركَ عن كلِّ الأصول كرامة  وعزَّة .. هذه القدس هي  الأم  الرَّؤوم. أم الفلسطينيين  والعرب والمسلمين  وعاصمة  فلسطين  التاريخيَّة  ومهبط ومهد الوحي والأديان، ولكنها الآن حبيسة  بيد المحتلين  وتحتاج لتحرير فمن يا ترى  سيحميها وينقذها ويحررها من العدوان والاحتلال. وتتابعُ الشاعرة حديثها في القصيدة فتقول :-


( فامْرُرْ  بها  شوقا  وبادر  حزنها      ليعانق   الوجدانُ    منكَ   شعورَها 

  هي دوحةُ النسَّاكِ إن ضاقَ الرَّجا    تشفي    قلوبَ  الوجدِ  حين   تثيرُها  


 تخاطبُ الشاعرةُ الزائر، أو ربَّما تخاطبُ نفسهَا بصيغةِ الزائر\\ يا أيتها الزائرة \\ أيُّهَا الزائرُ  مُرْ بمدينةِ القدس شوقا وحنينا وبادر حزنها\\ أي انظر إلى وضعها وتجاوب  مع آلامها ومصابها  وعش  حزنها  وتجسَّد آلامِها ، وليواكب  وليعانق وجدانُكَ  الإنساني  الفلسطيني  المرهف الشفاف المكلوم  منكَ شعورَها وإحساسها الجياش والحزين لأجل أسرها  واعتقالها ، فالقدسُ هي  دوحةُ  النسّاكِ  المؤمنين  المكرِسين  حياتهم للرّبِّ جلت  قدرتهُ عندما يضيقُ بهم الرجاءُ ويعز العزاء..فالقدسُ القبلةُ والمعقلُ والعنوانُ الذي  يَتَّجهُ  ويتوجَّهُ إليهِ المؤمنُ الناسكُ  في صلاتهِ عندما يناجي الرَّبِّ في خضوع وفي جلالِ السجودِ  ويطلبُ منه المساعدة والعون .. وهذه المدينةُ  تشفي القلوبَ المكلومة  المضطرمة والمؤَجَّجَة  والتي في حالة تواجد  وحزن وألم ..حين هذه القلوب والضمائر الخيِّرة تنيرُها  بالابتهالات  والصلوات .   وتستعملُ الشاعرةُ هنا بعضَ التعابير والمصطلحات  البلاغيَّة الجميلة ، مثل : ( دوحة النسَّاك )  بدل قبلة النسَّاك ..وربما تكون هي أولَ شاعر يستعمل هذا التعبير  وأيضا تعبير( ساح شوقكَ ) وكأنمَّا هنالك حرب وصدام وصراع والأشواق مضطرمة .

 ومصطلح : قد ترتّلُ جرحَها ( الجرح يرتل وينشد ) تعبير جميل .

 واستعملت هنا كلمة  فامرُر بدل كلمة مُر .. وعبارة ( وبادر حزنها .

وللشاعرة قاموس حافل بمثل هذه المصطلحات والتعابير المبتكرة والجميلة.


  وأما قصيدة :- (" في القدس " - صفحة 9 – 13 )، فتقول فيها :


( في القدس يحتفلُ اليبُّوسيُّون بالزيتون 

يقتادون نورَ الشَّمس كي تزهو معابدُهمْ

ويهدون النسيمَ  إلى عيون الحب  //

يحتفلون في أرضِ السَّلامْ بوردةِ  الدُّفلى 

وبنطلقونَ  لفجرِ البعيدْ " ) .


 توظفُ الشاعرةُ هنا اليبوسيُّون العرب الذين بنوا مدينة القدس ( أور سالم )  واستوطنوها ،  وقد احتلها منهم الملك داود  وجعلها عاصمةً لملكهِ  فيما بعد  وتريدُ الشاعرةُ أن تؤكدَ أن القدسَ عربيَّة  منذ البداية ومنذ الأزل ، وكان اليبُّوسيون يزرعون  الزيتون  ويحتفلون  بموسم   قطفهِ ، وكانوا في قمة الحضارة ويعيشون بأمن ومحبّة وسلام  وهناء..في أرض السلام وينطلقون للفجر البعيد ..نحو الإبداع والرُّقيّ  والإنجازات العمرانيَّة .


    في هذه القصيدة توظفُ الشاعرةُ أيضا  العديد من الشخصيَّات  والأماكن التاريخيَّة  وأسماء الأعلام ، مثل : ( مدينة بابل )، الفرعون أخناتون ، وادي جهنم ، جبل المكبّر ، باب الخليل  الخنساء.. إلخ  لتصلَ إلى الهدف 

والمعنى الذي  تريدُهُ وتنشدُهُ، تقولُ الشاعرةُ :-


( في القدس تنتظرُ القبائلُ  عَرشَ أخناتون 

   تكتشفُ الصَّلابةَ في حِراب البلوط //

   والتاريخُ  يقرأ من سطوا في سطور العنفوان قصيدة //

   ويرى الإرادةَ تهزمُ الليلَ العنيدْ ) .

  وإلى قصيدة أخرى من الديوان بعنوان : ( جراح مدينتي - صفحة 19 – 20 )  وهي قد كتبت لمدينةِ القدس أيضا ..تتحدَّثُ الشاعرةُ فيها  عن أجواء القدس وطابع الحزن والأسى  وشبح الاحتلال المهيمن  على هذه المدينة الحزينة .  وتستهلُّ الشاعرةُ القصيدة بطابع  وجدانيٍّ  صامت حزين  فيظنُّ القارئُ لأول وهلةٍ  أنَّ القصيدة وجدانيَّة  ذاتيَّة، ثمَّ تنتقل بشكل تدريجي إلى الوطن الأسير والمطعون  وإلى  مدينة القدس  عاصمة فلسطين  والتي تبقى القبلة والرمز للقضية الفلسطينيّة. وأما قصيدتها ( في عينيك حكاية - صفحة 27 – 28 ) :-

 يمتزجُ فيها حبُّ الإنسان .. الحب والمشاعر العاطفيّة الذاتيَّة  مع حب الوطن، والقصيدة تفعيليه على بحر الوافر ، تقولُ فيها :-

 

( أيا عمري قد ابتلّلت بعينيك حكاياتي

  واكليلُ الهوى قد  شاخ  في نبضي وفي ذاتي 

  اتنساني وفي حزني بكارةُ حبك //  

  الآتي زهورًا في سماواتي 

  غدوت  تلفُّ  خاصرتي  // زففتٌ إليكَ أوردتي // 

 يعانق صمتك المنفى // ) .. إلخ ....

  إن القصيدة جميلة وعذبة ، وخاصة في نهايات وقفلات الجمل  حيث تلتزمُ الشاعرةُ أحيانا بقافية معيَّنة، والقصيدةُ مُشعَّة بالأجواءِ والتعابير الرومانسيَّة  الحالمةِ والساحرة وبالكلماتِ الجميلة  المُنمَّقة وبالعذوبة وبالتشبيهاتِ الحلوة ..وببعض الاستعارات البلاغيّةِ المبتكرة،ويشوبُ هذه القصيدة مزيج من الحزن والتفاؤل والأمل، والحب موجودٌ ويترعُ أجواء القصيدة وتموُّجاتها وهو إكسيرُ الحياة  بالنسبةِ للشاعرة  وبه والوطن يكتملُ كلُّ شيء  وتتحققُ معادلةُ الحياة والتوازن الكوني ..( فتبدأ بكارة حبك  - حسب تعبيرها ).. وتظهر حبها وولهها الشديد فتقول : : ( رفعتُ إليكَ  أوردتي  ).


وسأنتقلُ إلى قصيدة أخرى بعنوان : ( " لماذا أحِبُّكَ "صفحة 29 - 30 ) 

وتذكرنا وتعيد إلى أذهاننا  الشاعرة في هذه القصيدة روائع أشعار فدوى طوقان الذاتيَّة والوجدانيَّة والتي يغلبُ عليها الطابعُ الرومانسي الرومان طيقي ، وفيها الفلسفة  والحيرة والتساؤل في أمور عديدة. وتكثرُ فيها من الأسئلةِ ، وتسأل : لماذا أحبَّتْ حبيبَها .  وتقولُ في القصيدة :  

( " لماذا احبُّكَ ؟

  تشتعلُ الأسئلة  

  وتعبُ نارُ انتظاركَ في وردتي 

  وتحاصرني حيرةٌ في مساءٍ يلوِّنُهُ الشوقُ 

   يحملُ  عطرَ  الربيع  لأجفاني المثقلة 

   وتقول: ( لماذا أحبُّكَ  ؟ 

               هل يا ترى   ترى نسألُ الموجَ ذات صباح جميل

               إذا ما ترنّحَ  مرتفعا في الأعالي

                وفي راحتيهِ كؤوس معتَّقةٌ 

              أيُّها  الموجُ 

        بدأتَ  الصباح  بفاتحةِ الحب" ) .. إلخ . 

  

          والقصيدة جميلة ورقيقة  ومشعة  بالرُّومانسيَّة والمشاعر الصادقة ، وتوظف الشاعرةُ  فيها  بعض عناصر الطبيعة  فتضيف  للقصيدة  ألوانا وجمالية أكبر وأشمل  .

وتأتي بعد هذه القصيدة بالتدريج قصيدةٌ بعنوان: (" أحبّك - صفحة 31 ) .. ..وإذا قُرئت هذه القصيدة من الجملة والبيت الأول إلى الجملة الأخيرة فيها وبشكل  متواصل  تكن القصيدة كلها على بحر الكامل ، ولكن إذا تركنا الجملة الأولى من القصيدة وابتدأنا  بالبيت والجملة التي  بعدها  وقرئت القصيدة بشكل متقطع وكل جملة لوحدها حسب ما هي مدرجة ومرتبة في هذا  الديوان  نجد القصيدة أنها على وزن مجزوء الوافر..ويظهرُ هنا التفننُ والعبقريَّة في البناء الموسيقي والإيقاعي لهذه القصيدة ، ولكن كما يبدو لي أن الشاعرة  كتبت هذه القصيدة على هذا النحو بشكل عفوي وتلقائي ، ولم تكن قاصدة هذا النمط والأسلوب والشكل الغريب  والسحري  في الهرم العروضي للقصيدة ، وهذه القصيدة هي شبيهة للقصيدة التي قبلها في الأسلوب والتوجه والروح .وتقولُ فيها :-


( أنا من ملكتُ الفجرَ في عينيكَ مُبتسمًا 

وباتَ الأمسُ فيحزني لمَنْ شمتوا

  فذا    دمعي  //  وذا  شوقي // 

  تغنِّيهِ  الحكاياتُ !!

  زرعتُ الهمسَ  في عينيكَ  مُنتظرًا 

  فجاءتني  كما الأحلام خصلةُ شعرِهِ  من  نرجسٍ  يلهُو 

   تزفُّ  إليَّ  ليلتهَا  وما حملتهُ  أضلاعُ 

 منَ  الآهِ //   

فبينَ الإرثِ  والوَجعِ 

 وغيبٍ  رامَ إخضاعي  

 وقفتُ  بعشقِهِ   نخلا  

   فهانت كلُّ أوجاعي // )) .


هذه القصيدةُ قصيرة بالنسبةِ لمساحتها الجغرافية، ولكنها عريضة وواسعة في معانيها وفحواها ورسالتها . وتخاطبُ الشاعرة فيها  حبيبَها وقد تعني الوطن ، وتقول: 

أنا التي ملكتُ الفجرَ في عينيكَ مبتسمًا.." أي أنها من عينيه المُشِعَّتين بالحبِّ والصدق والأمل والحياة ملكتِ الدنيا كلها وملكت واحتوت الفجرَ البهيَّ المبتسم والحرية والانطلاق إلى  أبعد  الحدود. وانَّ  الحزنَ والأسى والإحباط ولوا وغابُوا وأصبحُوا في  خبر  الأمس  ولمن كانوا يشمتون  ويفرحون لحزنِها وانكسارها  وفشلها  ويأسها  واكتئابها . فأصبحَ الدمعُ والشوقُ الحزين تغنيه الحكاياتُ والأقاويل، ولم يعد موجودًا وملموسا على  أرض الواقع، وتستعمل الشاعرةُ هنا العديد من الجمل والمعاني  الرومانسية الجميلة والحالمة والمترعة بالأحاسيس الجميلةِ والعواطف الجياشة  واللواعج الملتهبة والصادقة .. وفي الجمل الأخيرةِ من القصيدة  يبدو المعنى والهدفُ أكثرَ وضوحا  وأنَّ المعشوق وفارس الأحلام هو الوطن الجميل والساحر والمعطاء الذي لأجله تطيبُ  وتحلو كلُّ  تضحية  .   ورغم الوجع والألم الموروث والمتواصل  ورغم الغيب  ( وتقصد بالغيب هنا كل جهة  معادية ومجهولة المصدر تريد  لها ولوطنها ولحبيبها الشر والانكسار والخضوع ) ، ورغم الشر وكلِّ  ما يأتي  من الغيب  هي وقفت  مثلَا كالنخلةِ الشامخةِ بعشقها المثالي الصادق والقوي والمكافح فهانت  كلُّ  الآلام  والأوجاع  والصعاب  أمام شموخها وصخرة إصرارها  وعزيمتها وحبها  لحبيبها  ونبض روحها وكيانها - الوطن الجميل والرائع .

وأما قصيدة:- (  أرض الكنانة " - صفحة 33) وتظهرُ فيها  الشاعرةُ محَبَّتَها وشوقها الكبير لهذه البلاد ، فتتحدَّثُ عن أمجادِ مصر الغابرة، وأن مصرَ وطنُ العروبة وقلبها النابض..وأن شهداءَها  الذين ماتوا دفاعا عن الأوطان والعروبة وفلسطين هم نفس شهداء  فلسطين  وقد  حملوا نفس الجوهر ومضمون الرسالة  المقدسة  وهي  فداء  الوطن ، فتقول  في القصيدة على بحر الكامل : -


( ونزلتُ  أرضَكِ  يا كنانةُ   فانتهى     منِّي   المدادُ  وما  ارتوَت  أقلامي )

 دارٌ  لها  في  المجدِ  محرابٌ  سما      وحنينُ     نيلٍ       نالهُ     إلهامي  

 في القلبِ يرتعشُ البيانُ  إذا  روى     وترى  الحروف  تضمَّختْ  بمُدَامي

فجرٌ    يكحلهُ    الربيعٌ     بوادِها      وطنُ   العروبةِ    مشرقٌ    بغرامي

 يا   جيلَ  حقٍّ   يكتسي    ميدانها      النصرُ   يرفعُ      بالدماءِ    مرامي 

 شهداؤُكُم   شهداؤُنا   قدسانِ   في      نظري     فألفُ     تحيَّةٍ      وسلامِ 

  تظهرُ الشاعرةُ في هذه القصيدة حبَّها الكبير  لمصر ( أرض الكنانة)  وانَّ المداد قد انتهى، أي أنها كتبت الكثيرَ لهذه  البلاد الأصيلةِ  ولشعبها الأصيل والأبي وقد جفَّ المدادُ ( الحبر) ولم تفي هذا البلادَ المباركة حقها  ومكانتها وما تستحق من تبجيل ومديح بشعرها ودررها الإبداعيَّة. وتذكرُ في هذه القصيدة أهمية  مصر ودورها التاريخي والحضاري  والوطني على مر العصور ، فهي دارُ المجد والسؤدد  ومحرابها في المجد سما للأعالي ..إلى ما لا نهاية، ونيلها العظيم واهب الخير والبركة والحياة وهو الحنان والرأفة والحياة . وهنالك أحاديث شعبيَّة  تروى دائما إن من يشرب من نهر النيل لا يستطيع بعد ذلك أن يفارق أرض مصر ويبتعد عنها  فالحنينُ  والشوقُ لهذه البلاد ولهذه الأرض يشتعلُ  ويتأجَّجُ في قلبه ووجدانه  دائما. ولقد قدمت وأعطت مصرُ وشعبُها العظيم  الكثيرَ من أجل القضيَّة الفلسطينيّة وللشعب الفلسطيني والأمة العربية من أجل وحدتها وعزتها وكرامتها وسؤددها، وقد تعانقت وامتزجت دماءُ  الشهداء المصريين مع دماء الشهداءِ الفلسطينيين في ساحات البطولة والكرامة الفداء لأجل تحرير الوطن المحتل ..والذين سطروا للتاريخ أروع وأعظم  الملاحم  في التضحيةِ والكفاح.

  واستعملت الشاعرةُ هنا الجناس البلاغي في هذا البيت وجمعت  بين كلمة النيل وكلمة نالهُ ،فالتشابهُ اللفظي بين الكلمتين يضيفُ جمالا لفظيًّا وموسيقيا لهذا البيت ويكون له أيضا  تأثيرُهُ الجميل والساحرُ على نفسية المتلقي (  وحنين " نيل نالهُ " إلهامي) . ويبدو أنَّ هذا الجناس هنا جاء بشكل عفويٍّ وتلقائي..وليس بشكل مقصود وعن تفكير وتخطيط ،ولهذا جاء تشبيها جميلا ومطبوعا  وغير  مصطنعا، ونتذكرُ  هنا  فحولَ  الشعراءِ  العرب  عندما يستعملون المحسنات  البلاغية  واللفظية  في  أشعارهم ،ويأتي الكثيرُ منها بشكل عفوي وتلقائي كما يبدو، كقول أبي للطيب المتنبي في قصيدته التي يصف فيها الأسد ويمدح  بدر بن عمار  والي مدينة طبريا :-


( وردٌ  إذا  وردَ   البحيرة   شاربا      وردَ   الفرات    زئرُهُ   والنيلا )

استعمل المتنبي هنا الجناس التام في  كلمة  ورد التي كرَّرَها ثلاث مرات وكل كلمةٍ تعطي معنى مختلف عن الأخرى (الورد الأولى من أسماء الأسد.وكلمة ورد الثانية معناها نزل الماء ليشرب . وورد الثالثة معناها وصل صوته إلى مسافات بعيدة )  .

  والشاعرةُ تريدُ أن تُعَبِّرَ وتشرحَ بإسهاب عن حبها لأرض مصر وهي الشاعرةُ الفلسطينيّةُ المبدعة المتألقة والوطنية المناضلة والملتزمة التي تحبُّ شعبها وتعتزُّ بعروبتها 


   وإلى قصيدة أخرى من الديوان  بعنوان : ( أرض السلام  - صفحة 35 - 36 ) ..  تتحدَّثُ فيها عن السلام  الحقيقي المنشود  وتطلب الشاعرةُ من السلام أن يعودَ  وترفرف أعلامُهُ  فوق  ربوع الوطن ، والقصيدة  وجدانيَّة خارجة  من أعماق القلب ومؤثّرة  وفيها الحس والطابع ألأممي، وهي لسان حال كلِّ  إنسان على  وجه المعمورة  يحبُّ السلام  وينشدُهُ  وليس الإنسان الفلسطيني  فقط  والطفل الفلسطيني المطارد من  قبل الاحتلال .. والقصيدة تفعيليه  على بحر الكامل، وفيها خروج قليل على الوزن في بداية مقطع من القصيدة حيث تنتقل الشاعرةُ إلى وزن الرجز وبشكل عفويٍّ وتلقائيٍّ وانسيابيٍّ جميل..حيثُ تقول :-

( ويا اغتسالَ الكونِ من درنِ الظلام). ونص القصيدة كاملا  كما يلي :


(الشوقُ  أرَّقنا  بكفِّ  سهادِهِ 

والهمسُ هامَ براحتيهِ مرادنا

والصبرُ فينا // سائلٌ : أين السلام ؟ 

يا كل ما نشدو  به 

يا موردًا للحبِّ يا نعمَ الوصال إذا تغنّى بالهديلِ فمُ الحَمامْ

ويا اغتسالَ الكونِ  من دَرَنِ  الظلام 

عُدْ  يا سلامُ إلى بلادي إنَّ  لي فجرا ينادي بابتسامْ

عٌدْ  يا  أمانُ مع الرياحِ وامطر الأرضَ المقدَّسةَ المضيفةَ للكرام

واخلد هنا ...

واجلدْ  بصوتكَ عاتيا  لا تتقي حرفَ الظلامْ

كُنْ عالِما ..كُنْ شاهدًا ..كُن راويًا 

 فالشَّوقُ حرَّقنا 

 وأرَّقنا الهوى 

 والصبرُ فينا سائلٌ أين السلمْ ؟؟؟ 

 واجمَعْ بظلِّكَ سائرَ  الأحبابِ في أرضِ الوطنْ

 وامسَحْ بكفِّكَ والحنانِ  دموعَ  من  ذاقَ  المِحَنْ 

 وارسمْ  بصبرِكَ قامةً في كلِّ طفلٍ عاشقٍ عرفَ الشّجَنْ

 أنتَ السلامُ فدُمْ  لنا..

 أنتَ  السلامْ " ))


         القصيدةُ جميلةٌ جدا وعلى مستوى فنيٍّ عالي وتعكسُ نفسية ولواعج ووجدان الشاعرة الشفاف  والمرهف  والمحب   للخير  والفضيلة  وللأمنِ وللاستقرار وللسكينة والهدوء  وللإنسانية جمعاء...وللسلام الحقيقي الشامل ،وهذا هو حلم  وأمنية كل إنسان فلسطيني في هذا الوجود. تريدُ الشاعرةُ أن تقول للعالم بأسره من خلال هذه القصيدة :إن الفلسطينيِّين  هم دعاةُ  محبة وأمن وسلام ،ولكن بسبب الاحتلال البغيض القابع والمهيمن منذ عقود على أرض الوطن.. وأنَّ الجلادين والطغاة الذين قد احتلوا بلادهم وأرضهم  شدَّدوا الحصارَ عليهم واستعملوا معهم كل وسائل البطش والقمع  وهذا مما جعل  شعبها الفلسطيني ينتهجُ الكفاحَ دينا وعقيدة  وأن يقاومَ ويدافع عن حقه في  الهواء  والماء  والبقاء...وهذا حق كل إنسان على  هذه  الأرض التي  تستحقُّ الحياة وتحلو فيها الحياة ، وكل كائن حي ، وحتى الحيوان يدافعُ عن نفسهِ وحياتهِ وبقائه ..


والشاعرةُ في هذه القصيدة التفعيليَّة  تركزُ على المقاطع اللفظيَّةِ وجماليتها وموسيقاها  العذبة وتلتزمُ   بالقوافي  في  قفلات  بعض  المقاطع والأبيات الشعريَّة ممَّا يضيفُ للقصيدة جمالا ويعطيها سحرا موسيقيا وإشراقا ورونقا مميَّزا  .

 وسأنتقل لقصيدة أخرى بعنوان : ( " أنت الذي " – صفحة 37 – 39 ) 

وهي قصيدة تفعيلية على بحر الكامل ويلتقي فيها البعدُ العاطفي مع البعد الوطني ، والقصيدةُ رومانسية وشفافة وفي منتهى الرقة وعميقة في معانيها وأبعادها الإنسانية ، وفيها الكثيرُ من الاستعارات البلاغية الحديثة المبتكرة  والصور الشعرية الجميلة والحديثة . وتقول في القصيدة :-

( " أنتَ الذي سكنتكَ  أحزاني

بهمسِ قصائدي 

عشقا عميق الوجدِ // فجَّرَ كلَّ ألحاني 

هنالكَ فوقَ نار الوعدِ  // بين حروفِ أشعاري 

يمرُّ قطارُ حبِّي وانتظاري // المعبَّأ  بالمطرْ // 

عطشى أنا للطلِّ في شفتيكَ  // فوقَ يديكَ بحرٌ قد تثاءَبَ

 متعبَ النظراتِ

 فلتجمع فتات القبلةِ الخضراء 

 كي تغدو بلادا 

أنني شطآنه اللائي أضأنَ بعشقهِ 

إني نداءُ غدٍ تلفعَ بالشَّجرْ/

وأراكّ فيَّ // أراكّ وحيا وانعتاقا / للنَّدى 

 لو طوَّقتكَ يدايَ   يومًا ما لطوّقتُ العوالمَ 

 واحتظنتُ بمقلتيَّ جميعَ أسوارِ الوطن //

مثلَ العذارى // يكتسي خدَّايَ بالأزهار ِ 

 في  عينيكَ أعرفُ صورتي 

حيرى لتهجرني طيورُ الموت 

ألقى فيكَ أمسي.. حاضري .. وغدي الذي ناجاكَ 

يا  كلَّ  الأماني  والشَّجَنْ

شوَّقتني لأعانقَ الشّمسَ اليتيمة 

في السنين العابرات

وعلى رُخامٍ  من مغيبِ العمرِ 

ليسَ يلوحُ لي إلا انتظارُ بدايةٍ

خطواتُ قلبي المستهام تعثّرَتْ فيها 

أشاهِدُهَا // فأشهقُ بالسؤالِ الموحدَّ الإلتفاتْ

لا عودة ... سفرٌ ومنفى 

من شجونكَ كالسيوفِ أصَبنَ أوردتي 

غسلنَ   غدائري 

عطِّرنَ كلَّ خطيئةٍ بدمي 

وأنتَ  أنا الحكايةُ

تشرقُ الكلماتُ في الأرض  الموات " ) .

 وإلى قصيدة أخرى على بحر الكامل أيضا وحملت  عنوان : - ( في تلك 

الحياة – صفحة 45 -  49 )  وتتحدثُ فيها الشاعرةُ عن الأم ودورها  العظيم والمقدس  في  تربيةِ وتنشئةِ أطفالها  وتضحياتها  الجسام  التي  لا  تُوَازَن وتقارَن بكل التضحيات.. وتقول في القصيدة :

( كالبحرِ  جُودًا   تنتشي   بجراحها      أمًّا    لها    في   راحتيَّ    مرادي

هي لم  تغب عن حلمها  إذ كان  في       وجعِ    الحنين     مرارةً    وتمادِ

كانت  تداعبُ   روحها  في  طفلها       فغدت  سنينُ   الوجدِ   في  إنشادي

هي  من تجلَّى  الكونُ  في  أهدابها       علمًا    يسيرُ    بطرفها    كمرادي

    القصيدةُ متسلسلةٌ  ورتيبةٌ في معانيها وانسيابها الموسيقي ،وهنالك بعض المعاني والأفكار قد تكون مألوفة ، ولكن الشاعرة صاغتها  بأسلوب ولون جديد وأضافت إليها بعضَ التقنيات واللمسات  من حسِّها  وخيالها وبنكهة خاصة مميزة فبدت الصورُ الشعريَّة  والتعابير البلاغيّة  حديثة  ومبتكرة ومميَّزة  . وفي القصيدة  بعض التشبيهات والصور الشعريَّة الجميلة والرائعة، مثل: ( كانت تُداعبُ روحَها في طفلها )..أي أن كلام في العالم  حنانُها وحبُّها لأطفالها لا يضاهيهِ ويدانيهِ حبٌّ وحنان آخر .. والطفلُ لأمِّهِ هو مثل روحِها بل أعزُّ وأغلى من الروح .. والأمُّ عندما  تُداعبُ  وتلاعبُ  طفلها فكأنها تُداعبُ وتلاعبُ  روحهَا بالضبط . والشاعرةُ هنا في هذا التشبيه والصورة الشعرية لم تضع أداة تشبيه  بل أدخلت الفكرة  بشكل مجازي .. وأنها تداعبُ روحَها في طفلها ... أي تلاعب طفلها الذي هو مثل روحها .. وهذا اللونُ من الاستعاراتِ  والتشبيهات معروف منذ القدم  ولكن القليلَ من الشعراء كانوا يجنحون إليه، ومن أشهرهم امرؤ ألقيس الكندي.. والذي في  الكثير من  تشبيهاته  وصورهِ  لم  يضع  أداوت  التشبيه ولم يستعمل التصوير الفيتوغرافي الواضح والمباشر .. أي لا يكون هنالك أوجهُ تشابه بين الموصوف وصاحب الموضوع  والمُشَبَّه  به ..


   وإلى قصيدة أخرى بعنوان : ( تحيَّة  المرأة العاملة - صفحة 47 – 48 )  حيث تتحدَّثُ فيها عن دور المرأة الهام  في المجتمع وخوضها معترك الحياة  ومجالات  العمل ، وإبداعاتها وانجازاتها.. والقصيدةُ  قريبة  نوعا ما  إلى الأسلوب والشكل التقريري وفيها الطابع والنفس المنبري، بيد أنَّ  معانيها عميقة ومترعة بالصور الشعريَّة الجميلة والعبارات الحلوة والعذبة، وتذكِّرنا بروائع الشاعرين العراقيين العربيين الكبيرين المرحومين ( جميل صدقي الزهاوي )  و( معروف الرصافي ) في قصائدهما التي كتبت للمرأة وللدفاع عن حقوقها ، وتقول فيها :-


(   فكَّتْ   إسارَ     القيدِ     واكبتِ     الحياةْ

  وتحرَّرتْ من  ربقةٍ عانتْ بها  ظلمَ  القساةْ

  هزمت زمانا كالسَّجينةِ في زنازين  الطغاةْ

  كُبتَتْ  مواهبهَا  طويلا  بالزواجِ  منَ  العُتاةْ 

 حريّةُ    التعبيرِ   ما   ذاقت   حلاوتها   فتاةْ ) 

 وتقولُ أيضا في نفس القصيدة : 

( للمرأةِ    انحنتِ   الرؤوسُ    بعزّةٍ    وإمارَهْ  

  قادت   شعوبَ    بلادِها   بعزيمةٍ    وجسارَهْ 

وترأستْ دولا  وساسَتْ حكمَها  بلقيسُ ترفع للعلا أقدارَهْ ) ... إلخ .


 وإلى قصيدة أخرى ( طيور القدس - صفحة 51 – 52 ) والقصيدةُ على بحر الوافر تتحدثُ فيها عن القدس والأقصى وفلسطين وكفاح شعب فلسطين الأسطوري  لأجل الحريَّةِ  والاستقلال ، والقصيدة جزلة وقوية في معانيها  وأسلوبها وعذبة ومتسلسلة مموسقة وتنتهي القصيدةُ بعبارة جميلة جدا  وشاملة لموضوع القصيدة وفيها الانسياب الموسيقي والتكرار اللفظي الذي يزيد البيت الشعري جمالا وتألقا:

( سأبقى  أرى   الدنيا   وتحيا        جَمالا   في  جمالٍ  في جمالِ   ) 


 وعندما نقرأ القصيدة  نتذكر مباشرة قصائد ورائع عمالقة الشعر العربي ، مثل : أحمد شوقي  والمتنبي  والجواهري .. وبالذات قصيدة المتنبي التي يرثي فيها أم سيف الدولة الحمداني ، ومطلعها *1:


( نعدُّ      المشرفيّةَ    والعوالي        وتقتلنا    المنونُ    بلا     قتالِ  ) 

والقصيدتان على نفس الوزن  والقافية ومترعتان بالصور واللوحات الشعريَّة   الجميلة   وبالمعاني والمصطلحات البلاغيَّة الجذابة والخلابة وتشوبهما النبرةُ الحماسيَّة.

  وسأعرضُ بعض الأبيات من هذه القصيدة  :-

( طيورُ القدسُ تصدحُ في الأعالي     وتنشرُ في  الدنيا  صوتَ  المعالي 

 وفي    كلماتِها     فخرٌ     أصيلٌ      وعزٌّ     ليسَ     يجنحُ     للزوالِ   

 ترى   الآفاقَ   في   أملٍ   وَحُبٍّ       ولا    ترنو    إلى    ليلِ   المحالِ 

 قلوبٌ   كالزلالِ   العذبِ   صفوًا      وأحلامٌ       عظامٌ         كالجبالِ 

 هو   التاريخُ    يعرفنا     جميعا       ويكفي   الجاهلينَ   عنِ    السؤالِ 

ومن   طلبوا  مثالا   في  التفاني        فإنَّا    في    الوجودِ    بلا   مثالِ 

 سنمضي في طريق  المجدِ  طرًّا        ونجعلُ    حبَّنا   ضوءَ    الليالي  

 ونكتبُ   من  ملاحمنا    سطورًا        بماءِ   الماسِ   أو   حبرِ   اللآلي 

لنا  إرثٌ   منَ   السيراتِ    فخمٌ       وَإرثُ  البعضِ   من  ذهبٍ  ومالِ        

وللأقصى      حوالينا     شموخٌ        وَقَدرٌ  رغمَ   غدرِ   الدهرِ   عالِ 

 هنا     الشعراءُ    ألسنةٌ    حدادٌ        أشدّث  على  العداةِ  منَ  النصالِ 

 طيورٌ   لا   تكفُّ  عنِ   التغنِّي         وإن   ذاقت    كؤوسُ   الإعتقالِ 

 كأنَّا   في  ربى  الأقصى  خلقنا        منَ  الإيمانِ   أو    ماءِ   النضالِ  

 مقدَّسةٌ         مرابعُهَا       علينا        مُنوّرةٌ     محبَّةُ     ذي    الجلالِ  

 ستبقى      درةَ   الدنيا    وتحيا        جمالً    في   جمالٍ   في   جمالِ) . 


      تتحدثُ الشاعرةُ في هذه القصيدة عن القدس والمسجد الأقصى ومكانتهِ وأهميته لدى العرب والمسلمين ، وعن الشعب الفلسطيني الأبي والمناضل وأنهُ خيرُ مثال للتضحية والتفاني لأجلِ قضيتهِ العادلة والمقدسة . وتذكرُ دورَ الشعراء الهام في المقاومة ضد الاحتلال وفي شحذ نفوس وهمم الشعب الفلسطيني وإشعال الحماس  والعزيمة  والأمل الكبير فيه  لمتابعة  النضال  والكفاح لأجل القضية الفلسطينية لأجل الحريّة والاستقلال.. فهؤلاء الشعراء  الأبطال هم كالطيور الصادحة التي لا تكفُّ عن الشدو والغناء حتى لو ذاقت كؤوس الاعتقال والتعذيب والتنكيل من قبل المحتلين .

      وإلى قصيدة أخرى بعنوان : ( عندي دم  - صفحة 59 - 60 )  وهذه القصيدة قريبة في أسلوبها وطابعها ونكهتها وتوجُّهِها إلى الشعر الفلسطيني الوطني الحماسي والمقاوم الذي نظمَ  في الخمسينيات والستينيَّات من القرن الماضي لكبار شعرائنا ، مثل : محمود درويش  وتوفيق زياد وسميح القاسم  وفدوى طوقان وراشد حسين وشفيق حبيب..الشعر الذي كُتِبَ لأجل توعيةِ الجماهير وطنيًّا وسياسيًّا وفكريًّا وإنسانيًا ولبثّ روح الحماس والشعور  والحسَّ الوطني  الجياش والوعي القومي في قلوبهم وضمائرهم وتحفيزهم وشحذهم للنضال من أجل غد أجمل ومصير أفضل..من أجل الحريَّة والفجر المنشود ، تقول فيها : -


( " عندي صلاةٌ في سهول واسعة 

 أقفالُ حزني في اللظى 

 وحصادُ بحر  قد  طما 

  عندي  رفيقٌ  واعدٌ 

 عندي زهورُ الأغنيات  اليانعة

 وذريعةٌ وشهادةٌ // وقذيفة رغمَ العِدا ..) .. 

  وتقولُ أيضا في القصيدة :

  ( " عندي دمٌ

       أبهى وأعذب  من شآبيبِ النَّدى  

أمضوا إلى أجسادِكم  

        قوموا  عراةً  كالشَّذا  

        عودوا إلى أشعاركم //  فهنا  رفيقٌ  قادمٌ 

        وَدمٌ  على جسدٍ  تعطَّرَ بالنَّدى  

        يا مَن  يُحدِّثُ أو  يقولُ الشعرَ عن حُبِّ  الوَطنْ" ) .. إلخ . 

وإلى قصيدة أخرى من الديوان بعنوان : (على قبر الختيار  -صفحة 65 - 66 )على بحر الكامل ، وهي في رثاء رمز الثورة الفلسطينيَّة القائد الخالد ياسر عرفات ...والقصيدةُ رائعة  ومتينة السبك  وعميقة بمعانيها  وحماسيّة ومؤثرة  تليقُ  بقامةٍ شامخة  وشخصيَّة  فذة  تاريخيّة ووطنيَّة  فلسطينية وعربيَّة  قلما يجودُ الزمان بمثلها وهي أبو عمار ياسرعرفات ..وتقول في القصيدة :-

( هذا    أبو  عمار   في    الأنظارِ     حجمُ    السَّما      ورفعةُ    الأقمارِ

  هو راسخٌ  كالنجم في كُتبِ  العُلا     هو   خالدٌ   كالحُبِّ    في   الأشعارِ

  وهوِ  التَّشامخ  في  الجبالِ  كأنه       قد   كان   مخلوقا   من   الإصرار

  الزّهرُ  في  كفّيهِ   ينطق   شاديا      بالصّدقِ      والإيمانِ       والإيثارِ 

  في  كلّ  أشجارِ   البلادِ  عبيرُهُ       عبقٌ    وفي   الجدرانِ    والأسوارِ

  ما هابَ يومًا ومن كؤوس  مُرَّةٍ       لو  انَّها     كانت   كؤوسَ     النار

  ما ارتدَّ  في وجهِ العدوِّ  حصانُهُ      وَلوَ   أنَّهُ   في    ساعةِ   الإعصارِ

  إن  ماتَ   مغتالا   فنفسٌ   حُرَةٌ       لا    تنحني    وَدَمٌ    زكيٌّ     جار

  لكنَّهُ    يحيا     بعيدًا     راضيًا       بنضالهِ    في     صحبةِ    الأبرارِ   

  ما  كلُّ  عيشٍ  تُستطابُ  ثمارُهُ       لا   عيشَ  إلا   عيشةُ    الأحرارِ

  لا عزَّةً  في الذلِّ  مهما  جمّعَتْ       في  بيتِ   ذلٍّ  من   بريقِ  نضارِ

تحليلُ القصيدة : تستهلُّ القصيدة  في  ذكر مناقب الفقيد الشهيد وأعماله وإنجازاتهِ الخارقة  وتضحياتهِ  وتفانيه  لأجل القضية الفلسطينيَّة  ولأجل شعبه..وتكرُ أهميَّتهُ وموقعَهُ  ووزنه الكبير بين شعبة  وأمتهِ وفي الكون بأسرهِ  فهو شخصية  أسطوريَّة، وبنظر  الجميع  في   حجم  السماءِ  ورفعة الأقمار، وهو الراسخ  كالنجم في  كتب العلا  والخالد مدى الأيام والدهور.  وهو التشامُخُ والعنفوانُ وكأنهُ الجبالُ في شموخها وكأنهُ خُلِقَ من الإصرار لثباتهِ  وصمودهِ في أحلك الظروف لأجل خدمةِ القضية الفلسطينيَّة .. وان صيته الحسن والجميل مثل أريج الورود  وفي كل مكان وفي  أشجار البلاد وفي الجدران والأسوار يتضوع  عطرهُ ... ولم  يخش يوما من  أي خطب عصيب ومن الكؤوس المرَّة والعلقم ولا من كلِّ  الرزايا والأشواكِ  واللهب والنيران التي كانت دائما في طريقه وطريق شعبه الفلسطيني الباسل والأبي .. وأن مات  اغتيالا كما يُؤكدُهُ  الجميعُ  فهو النفس والروح الحرة الخالدة التي  لم تنحن ولم  تهزم، ودمُهُ هو الدم الزكي الطاهر والجاري وسيبقى يخضبُ وجهَ التاريخ والأكوان مدى الأزمان والدهور بطهارته  ونقائهِ  وببراءته  ولعدالةِ هدفه.وتستعملُ الشاعرةُ في الأبياتِ الأولى من القصيدة بعضَ المعاني والمصطلحات الضخمة والقوية والصَّاخبة والمألوفة والتي  قد استعملت سابقا  ، وهي ملائمة لشخصيَّة عظيمة كأبي عمار الذي وَهَبَ حياته كلها لأجل شعبه والقضيَّة الفلسطينيَّة ..حيث تقول :-

 ( ما ارتدَّ  في وجهِ  العدوِّ  حصانُهُ  =  لو  انهُ   في ساعة  الإعصارِ  ) .. 

وكقولها : ( ما كلّ عيشٍ تستطابُ ثمارهُ = لا  عيشَ  إلا  عيشة  الأحرارِ //      لا عزَّة  في  الذلِّ  مهما   جمعتْ    =   في بيتِ ذلٍّ  من بريقِ  نضارِ  ) ..


والبيتُ الأخير كله حكمة ويصلحُ لكلِّ زمان ومكان .. وينطبقُ على واقع الشعب الفلسطيني وعلى الزعيم خالد الذكر أبي عمار الذي رفضَ حياة الذل والخنوع والاستسلام  وكرَّسَ حياته كلها  لأجل  النضال والمقاومة لتحرير التراب والوطن الفلسطيني .. وهذا البيت قريب جدا في فحواه ومعناه إلي هذين البيتين من الشعر للشاعر والفارس الجاهلي  المشهور عنترة بن شداد 

العبسي  ، وهما : 

(  لا   تسقني   ماءَ   الحياة    بذلة  =  بل  أسقني  بالعزِّ  كأسَ  الحنضلِ 

    ماء     الحياةِ      بذلةٍ    كجهنَّمٍ  =  وجهنّم     بالعزِّ   أطيبُ منزلِ)

وتنتقلُ الشاعرةُ بعد ذلك إلى طابع الحوار فتخاطبُ  الفقيد الشهيد :-


( يا ياسرَ  المقدامِ في أرضِ الوغى     ترضى  الحصارَ  ولا  قبولَ   العارِ

  هيهاتَ  أن  يخفوا  ضياءَكَ عندما     ملأ    السماء     بعسكر ٍ   وحصارِ

  كنتَ  الكبيرَ   بنا    وكلُّ    كبيرةٍ       دَهْياءَ   تصغرُ  في   نفوسِ   كبارِ

  كم   كنتَ   تلقاني    أبا   مُتبسِّمًا       تحنو     بعطفٍ    مُشرق    مدرارِ 

  كم كنتَ أنقى من بياضِ  سحابةٍ      وأجلَّ   ذكرًا   من    شذا   الأزهارِ 

  كم  كنتَ  ظلَّ  المتعبينَ  مواسيًا      يا    ظلَّ    حُبٍّ    يا    أبا    عمَّارِ  

  لم   نفتقدكَ   فأنتَ   حيٌ  ها  هنا      في  القلبِ   والوجدانِ   قبلَ   الدَّارِ

 ها  أنتَ  تُلهمُ  كلَّ  طالبِ  مفخر ٍ      ولقد  صمدتَ   وذاكَ   خيرُ   خيارِ

  يسقي  ثراكَ  الزائرونَ   بأعين ٍ      بخلتْ    إذا   ما    كنّ    كالأمطارِ

  وَلتبكِ إنْ  كانت عيونٌ  قصّرَتْ      كلُّ   القلوبِ   على   ثرى   الختيارِ).

 إنَّ أبا عمار هو الزعيمُ السياسي الأول والقائد الفذ والمثل الأعلى  والرمز للقضيةِ  الفلسطينية والذي ارتبط اسمه بفلسطين وفلسطين ارتبطت  به...وقد اختارت الشاعرةُ القصيدة  الكلاسيكية التقليدية  في هذا الموضوع والموقف الجليل لأن القصيدة الحديثة أو التفعليلة  لا تلائم وتناسبُ لرثاء شخصية أسطوريَّة فذة مثل ياسر عرفات، وفقط القصيدة الكلاسيكية الحماسية الخطابية تصلح لمثل هذا الموقف والمشهد العظيم وقد تفي  بالغرض المطلوب، واختارت شاعرتُنا بحرَ الكامل( ويسمى هذا البحر ببحر المتنبي) لانَّ أبا الطيب المتنبي كان يفضلُ هذا الوزن وقد نظم عليه العديدَ  من قصائده... وهو  يصلحُ  دائما  لكلِّ المناسبات والظروف ولجميع الأهداف والمواضيع : الغزلية والرثائية والوصفية.. وللفرح وللحزن ..إلخ ) .وهذه القصيدةُ لوحةٌ خالدة ومعبرة وتعكسُ جوَّ الحزن والأسى للشارع  الفلسطيني جميعه ولأجواء فلسطين  وتظهر المشهد العظيم  والرهيب يوم وفاة الزعيم الأسطوري الخالد أبي عمار مؤسس منظمة التحرير..الذي كان وما زال رمزا للقضية الفلسطينية ويرتبط دائما اسمه الخالد  بفلسطين  والقضيَّة الفلسطينيَّة .إنَّ أبا عمار  في نظر شعبه  وكلِّ الشعوب والأمم التي تناضل من أجل العزَّةِ والكرامة والحرية والاستقلال   وفي  نظر كل الشرفاء وأصحاب المبادئ والقيم في هذا  العالم هو شخصيّة  قيادية عظيمة ونادرة  قلما يجود الزمان بمثلها  لعبت دورا مصيريًّا وتاريخيًّا هاما في وقت حالك ٍ جدا ومركب ومعقد  واستطاع أن يقودَ شعبَه بكل كفاءة  واقتدار وبعزيمة صلبة وحزم  وذكاء إلى الطريق والسبيل القويم والصحيح ويدخل  ويذكي فيه الأمل والتفاؤل بتحقيق الحلم الجميل والمنشود الذي يرقبهُ  وينتظرهُ منذ عقود وهو إقامة دولته العتيدة على تراب الآباء والأجداد..إنّ أبا عمار في نظر كل الأحرار والشرفاء في العالم   في حجم السماء ورفعة الأقمار، وهو الكبير  والعظيم  بين  شعبه... وكل  كبيرة  وكل مصيبة تصغر أمامه   ويعمل على حلها لأنه الكبير وفوق كل الكبار وكل الشدات. وتذكر الشاعرةُ بعض الصفات  الرائعة لأبي عمار ، مثل دماثة الأخلاق والتواضع  وكرم النفس  وحب الناس وجميع أبناء شعبه  وحسن استقباله للزوار..وكان دائما يبتسم ويستقبل ضيوفه وزواره ببشاشة وسرور وبحسن الترحيب،والشاعرة واحدة منهم وعطفه وحنانه لا يضاهى  ولا يقارن مع الآخرين .. ودائما مشرق ومدرار .. وتستعمل هنا الشاعرة تشبيها جميلا في السماحة والكرم الأخلاقي والعطف والحنان الكبير وأنه مشرق كالشمس ومدرار..أي معطاء وغزير في الجود  والعطاء كالمطر  الغزير والذي يحيي كلَّ شيء وبدونه لا توجد حياة ..وعطف أبي عمار وحنانه  هو حياة وأمل   وسموٌّ  وانطلاق لشعبه الأبي والمحب والمكافح الذي يسير على دربه وطريقه النضالي ..وإنّ أبا عمار في نقاء معدنه وبياض طويته أنقى من السحب صفاء  بمائها العذب الصافي السلسبيل.. وكان قديما يُستعملُ مصطلح وتشبيه (أنقى من ماء المزن .. أو كماء المزن  )على حدِّ قول السمو أل  بن عاديا  الشاعر الجاهلي : -

  

(" ونحنُ كماءِ المزن ما في نصابنا =   كهامٌ   ولا   فينا   يعُّدُ   بخيلُ ) 

والتشبيهُ بالسحب كرمز للنقاء والطهارة أبلغ من تشبيه النقاء بماء المطر وأدق أيضا من ناحية المعنى ، لأن الماء عندما يهطلُ من السحب وينزل للأرض ويختلط بالتراب والأحجار والصخور تدخل إليه الأملاح والمعادن  وغيرها ولا يعود ماءً مقطرا وطاهرا كما كان في الغيوم  قبل نزوله . . وانه ( المرثي) أذكى وأعطر  صيتا وذكرا من شذا الأزهار، وهذا التشبيه قد يكون مألوفا ، ولكن وضعت  وأضافت الشاعرةُ إليه شيئا من بصماتها وحسها  وذوقها الفني الخاص فجاء التشبيه وكأنه ومبتكر. وفي هذا البيت الشعري تدخل أكثرُ من حاسَّة.. تدخلُ حاسةُ الذوق واللمس( السحاب الذي يحمل الماء العذب والنقي والطاهر) وحاسة الشم - أريج الأزهار العطرة - التي شبَّهتها بأبي عمار النقي والجميل  والمشرف  الذي يفرح ويثلج القلوب الأبية والشريفة  في كل مكان من أبناء شعبه .. وكأن أبا عمار ظلٌّ لكل المتعبين والبائسين والغلابى من أبناء شعبة ( كم كنتَ ظلَّ المتعبينَ مواسيا )  .. وهذا التشبيه قريبا في  معناه وفحواه لكلام يسوع المسيح عليه السلام كما جاء في الإنجيل : ( تعالوا  إليَّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال  فأنا أريحكم )... إلخ .. فأبو عمار هو ظل  اليائسين والمتعبين  والمعذبين نفسيا وروحيا وجسديا .. وهو الظل الدائم الذي يمنح الحب والراحة والاطمئنان لأبناء شعبه - حسب قول الشاعرة ..وهو كلام صحيح .. ولقد كان أبو عمار بالفعل هو الظل والحب والبلسم  والشفاء في كل أمر وظرف عصيب مرَّ  ويمرُّ به الشعبُ الفلسطيني ..

  وتتابعُ الشاعرةُ حديثها في القصيدة  وتخاطب المرثي أبا عمار وتقول له : أنت ما زلت حيا بيننا -  بين  أبناء  شعبكَ  ولم  تمت وأنت تحيا في قلوب ووجدان شعبك العظيم  قبل الدار .والمقصود أن روحَك وخيالك  ما زالا  موجودين وحاضرين وممتثلين بين أبناء شعبك في كل مكان - داخل الوطن وخارجه  وفي الشتات -  مع أن جسدَك غير موجود وغير ملموس في المنازل والديار .وما زلت تلهمُ كلَ  فلسطيني حر وشريف طالب فخرٍ .. أي طال بكل عمل وانجاز تقدمي نير لأجل خدمة شعبه..فمنك يكونُ الإلهامُ  والوقودُ والطاقة لمتابعة مسيرتهِ ودربه النضالي الشريف والمقدس .والقسم الثاني من البيت الشعري تتحدثُ عن صمود عرفات الأسطوري ،خاصة عندما حاصروه في رام الله ولم ييأس أو يستسلم  وبقي مستمرًّا في نضاله ولم يحفل بجميع الشدَّات والعراقيل ولم يخضع للمحتلين والظالمين . وتتابعُ الشاعرةُ مخاطبتها لأبي عمار فتقول :(يسقي ثراكَ الزائرون بأعين ) :أي الذين يزورون مرقدك ومكان إقامتك الجسديَّة على هذه الأرض هم يسقون ترابك الطاهر بأدمع غزيرة بدل المطر..وهذا الأدمع ستكونُ بخيلة وضنينة إن لم تكن غزيرة  كالأمطار وتهمي بشكل دائم  ويومي على ضريحك الطاهر .

وتنهي الشاعرةُ  القصيدة بهذا البيت :

( ولتبكِ إن  كانت عيونٌ قصَّرَتْ     كلُّ  القلوبِ   على   ثرى   الختيارِ )

 ..أي إذا  كانت العيون الدامعة عجزت عن البكاء المستمر والمتواصل ولم تفي المرثي خالد  الذكر والقائد والرائد في هذا الزمان  حقّهُ  فلتبكِ القلوبُ الظمأى في هذا الشعب المعطاء على ثرى الختيار( تعني أبا عمار) .. وتظهر في البيت الأخير حزنها وحزن شعبها الكبير على موت أو استشهاد أبي  عمار .

  و قصيدة  أخرى  من الديوان بعنوان : ( "كيوم الحشر" - صفحة 75 - 78 )  تتحدثُ فيها الشاعرةُ  عن حصار غزة   وصمود  أهلها  الشجعان ( صفحة 75 - 78 )  والقصيدة على وزن الوافر ، تقولُ فيها :-


(  كيومِ  الحشرِ في هولِهِ 

 اشتعَلتْ

سماءُ اللهِ في غزَّة 

صواريخٌ // تدكُّ البيتَ  تلوَ البيتِ يا ولدي 

وأشلاءٌ مُمَزَّقةٌ 

لأطفالٍ على  الطرقاتِ تنتصبُ 

قهرنا الموتَ // 

والأوغادُ  تحتضرُ

تحدَّينا مغولَ العصرِ // أرعبناهُمُ صبرًا 

أرعبناهم  صبرًا 

كما الجرذان إذ  فرَّتْ 

وقد ضجّت  ملاجِئُهُمْ 

منَ الجبناءِ ولدخلاءِ لا مأوى 

سيمنعهم ولا نجوى 

فهَلَّ  النصرُ تلوَ النصرِ // وارتفعَتْ

هنا وهناكَ يا  ولدي //

من الراياتِ  ألوانٌ 

تشدُّ الأزرَ // يومَ النصرِ والعزَّهْ

هنا ابتهجن كنائسنا

وناجى القلبُ والإيمانُ من سجدَا 


مساجدنا تعانقُ في الدمِ المسكوبِ نصرتنا 

فكن لدمي أيا ولدي 

أيا ذكرًا لمَن  رحلوا 

أتيتُ اليومَ استجديدكَ 

من قلبي ومن روحي 

ودمعُ العينِ منسابٌ // على خدِّي 

للمِّ الشَّملِ بالوحدة 

تئنُ الروحُ تشتعلُ 

هنا في القدسِ //

 يا غزَّه

هنا ألمٌ يناجينا 

منَ الشجعانِ  في الضفة 

فكن  نارًا على صهيونَ لا ترحَمْ

وكُنْ بحجارةِ السِّجِّيلِ من نار إذا استعجَمْ 

فلن يبقى لنا فجرٌ // بنارِ الخوفِ قد أبرَمْ 

سنمحو العارَ من دَمن //ولن  نركعْ

عقدنا العزم إصرارًا

  تعطينا الشاعرة في هذه القصيدة صورة حيَّة وكاملة  للعدوان الإسرائيلي على غزة وتصف القصف الهمجي الفتاك على  المنازل  والأهالي  العزَّل والأطفال والنساء  والشيوخ وصفا دقيقا ومخيفا وكأننا نراه الآن بأعيننا.. وانَّ سماء الله في غزة أصبحت كلها صواريخ تقصف وتدك البيت تلو البيت ( حسب تعبير الشَّاعرة ) وتقصد بعبارة سماء الله ولم تقل سماء الوطن أو سماء الشعب..أي السماء الطاهرة والنقيّة والبريئة والمسالمة والمحبّة للحياة الشريفة والجميل والمشعّة بالإيمان والمحبّة والوداعة والجمال.وبعد عبارة ( تلو البيت)  تدخلُ كلمة (ولدي) والمقصود بها كل طفل فلسطيني .. والقصيدة هي على لسان كلّ أمٍّ  فلسطينيَّة ترى بعينيها القصف  المتواصل  والرَّهيب  على المنازل ودونما انقطاع، وفي  كلِّ لحظة وكلِّ ثانية أولادها  وكلّ طفل فلسطيني وكلّ أسرة وكل بيت فلسطيني  معرَّض وللقصف والموت  تحت الأنقاض . وتخاطبُ الأمُّ أبنها : يا ولدي أشلاء الأطفال على الطرقات تنتصب .. نعم كانت الطرقات مليئة بأشلاء الأطفال الأبرياء جراء القصف الإسرائيلي الهمجي على السكان العزل في غزة ...وكانت كل أم  فلسطينيّة تقول لأطفالها هذه العبارة وهذه الكلام .. والعالم يقفُ متفرجا ومكتوفَ اليدين عمَّا يحدث في غزة من أهوال ومجازر ترتكب بحق الشعب الفلسطيني الأعزل والذي يطاب بحقوقه وحريّته وكرامته .. ولكن مع كل هذه الماسي والصعاب  تقول هذه الأم ..وكل أم فلسطينيَّة : قد تحدينا الموت  وانتصرنا  بعزيمتنا  وثباتنا   وشجاعتنا  وصمودنا...  وإنَّ  الأوغاد المعتدين  هم الذين يحتضرون  وليس نحن الذي كنا تحت القصف .. لقد تحدينا مغول هذا العصر ..( العدوان الإسرائيلي الهمجي تُشَبِّهُهُ  بالمغول وهولاكو الذين احتلوا بغداد ونكلوا يأهلوا وأحرقوا كلَّ شيء) وقد أرعبناهم بصبرنا وثباتنا وصمودنا الأسطوري ففرُّوا مثلما الفئران .. وتشيرُ الشاعرةُ في القصيدة إلى صواريخ الكاتيوشا التي كان يطلقها الفلسطينيون  من غزة إلى داخل إسرائيل  في الجنوب أثناء الحصار عليهم ، وكيف كان السكان داخل إسرائيل  يختبئون في  الملاجئ  وكانوا في مرحلة وفترة محرجة وبحالة خوف وهلع شديد  على عكس الفلسطينيين في غزة  فرغم القصف الشديد  والهمجي عليهم لم يخافوا ولم يستسلموا وينحنوا للمحتل..بل المحتل هو الذي انسحب في النهاية عندما رأى المقاومة الشديدة وغير المتوقعة من أهل غزة  الشجعان ، وقد حلَّ النصرُ والشعبُ ابتهج وفرح بعد انسحاب المعتدين .. وفي نهاية القصيدة تطلب الأمُّ من ولدها -حسب قول الشاعرة -أن يتابع درب النضال لأجل تحرير البلاد و تحقيق العدالة ... ليكن نارا على الأعداء وحجارة السجيل ( الحجارة التي رمت بها طير الأبابيل في مكة جنود أبرهة الحبشي وفيله  فقضت عليهم ولم يتمكنوا من هدم الكعبة المكرَّمة .. وقد تبدو القصيدة كأنها متطرفة وتحريضيَّة ، ولكنها في الحقيقة  قصيدة تنضحُ بالإنسانيّة وحب الحياة والنضال والكفاح من أجل حياة شريفة  ومستقبل جميل،وهذا لا يتحقق عند الشعوب المحتلَّة والقابعة تحت الاحتلال البغيض والمهضوم  حقها إلا بالنضال والمقاومة ..كما جاء على لسان الأم في القصيدة التي تطلب من ابنها متابعة الكفاح وبأسلوب وبنبرة  مترعة بالحماسة والتحدي،ونحسُّ ونشعر كأننا بالفعل موجودون في ساحة حرب ونزال  :

( " فكن  نارًا على صهيونَ لا ترحَمْ

وكُنْ بحجارةِ السِّجِّيلِ من نار إذا استعجَمْ 

فلن يبقى لنا فجرٌ // بنارِ الخوفِ قد أبرَمْ 

سنمحو العارَ من دَمن //ولن  نركعْ

عقدنا العزم إصرارًا  " )

  وهذه  القصيدة وغيرها من القصائد إيمان مصاروة المفعمة بروح النضال والمقاومة والتي تعكسُ الواقعَ الفلسطيني بكل أبعاده قد لا تروق لبعض المُسَكَّفين المُستكتبين والمأجورين الذين  يتبجَّحُون بالمعرفة وبالأدب  والنقد ويتبوَّءُون الوظائف العالية في مجال التعليم  والتربية  من قبل السلطة الإسرائيلية كمحاضري جامعات (مارتسيم) ومدراء ومفتشين  . وغيرها وهم لا يفهمون شيئا في الأدب والنقد، ولهذا لم يكتب عن الشاعرة إيمان مصاروة وعن كتبها ودواوينها الشعريّة  الصادرة  أيُّ نوقد محلي من أولئك الذين أعنيهم من موظفي السلطة وعملائها  وأذنابها  والمرضي عنهم سلطويا ...وهؤلاء المارقون والساقطون يقومون بالمهمات التآمريَّة الخسيسة  مقابل وظائفهم الحقيرة والزائلة كتخاذلهم والتغاضي  والابتعاد عن قضايا شعبهم المصيرية..ولخيانة شعبهم وقضاياه الإنسانية والوطنيّة..ومصير هؤلاء غدا إلى مزبلة التاريخ ( هم وأسيادهم )...وأنا الناقد الوحيد محليا الذي كتب دراسات نقدية عن كتبها.. وأما خارج البلاد  وفي العالم العربي فقد كُتِبَ عنها الكثيرُ من الدراسات والمقالات المطولة  من قبل كبار النقاد والأدباء .

  وإلى قصيدة أخرى بعنوان : ( " أنت كلي صفة 81 ) على بحر المتقارب ، القصيدة قصيرة  من ناحية المسافة - شعر البطاقة أو الومضة  -  وأرادت الشاعرة  هنا الاختصار   وبكلمات قليلة  عبَّرت  وقالت  كلَّ ما تريدُهُ ، وتقول فيها :-

(" أرى في بساتسين عمري شعاعْ

    ترعرعَ فيها عبيرُ الكلام 

    وميضا وحلمًا 

    وكونا لهُ في فؤادي اتساعْ 

    حواليكَ بعضي // وَجُلّكَ كلي  //  إليكَ انتمائي //

    وأنتَ معي لا أخافُ الضياع ..

     وعيناكَ فيها  أغاني الرعاة 

 عناقا وحزنا 

ولي أبدًا في مداكَ اتساعْ  ) .

    إنها لوحة شعريَّةٌ فنيَّة رائعةٌ سلسة وعذبةٌ بموسيقاها الساحرة  ومعانيها  وألفاظها الرقيقة  وأجوائِها   وشطحاتها الرومانسيَّة ، تشعُّ بالمحبَّة والبراءة والأمل  والحياة السعيدة والدافئة. وتبدو القصيدة للوهلة الأولى كأنها غزليّة محضة  كتبت للحبيب والعشيق وفارس الأحلام  ، وممكن أن تكون للحبيب ولكنها  في الكثير من معانيها  تؤكد  أنها قصيدة وطنية كتبت للوطن الجميل  المقدس والمعطاء،والوطن بالنسبةِ للشَّاعرة هو كل شيء :هو الحبيب  وهو  الأم  وهو الجمال  وهو العطاء والانتماء والهويَّة  وهو الحياة بكل  أبعادها  . وبدون الوطن لا يكون أيُّ معنى للحياة . والقصيدة على وزن المتقارب ( الرومانسي الثوري ) وهو وزن حماسي وغنائي ، والكثيرون من الشعراء الكبار في العصر الحديث يكتبون على هذا الوزن .

    والجدير بالذكر أن للشاعرةِ العديد من القصائد الصغيرة والجميلة في هذا الديوان  والتي تُسَمَّى  بشعر الومضة  أو بشعر البطاقة .هنالك الكثيرون من الشعراء العرب اليوم  يكتبون هذا  اللون والنمط  من  الشعر  إقتداء بالمثل القائل :( خير الكلام ما  قلَّ  ودل ) ..وأنه بالإمكان قول كل شيىء  والتعبير عن الفكرة والموضوع بكلمات قليلة ومقتضبة .

ومن قصائد الشاعرة في هذا الصدد -  قصيدة بعنوان ( " صلاة حوَّاء " – صفحة  63 ) :-

( "   وبدأتُ  أعلنُ عنكَ  حبًّا 

       من   على   خدِّ   القمرْ

       والليلُ يعبرُ خافقي حيثُ النهارْ 

      لا يحتويني بيتُ شعر من قصيد 

      يا أغنياتي في تراتيلِ  الوداد 

      حوَّاءُ تعلنكِ  المليك  

       وكهوف من عرفوا الجراحَ لهاث " ) .. 

   وقصيدة أخرى بعنوان : (" لأنكَ وردي  " -  صفحة 79 ) :

( " لانكَ ورديَ المزروع في قلبي وذاكرتي 

سكنتَ ملامحي في معبدِ  الأشواق

    لأنّكَ في الضفافِ تُحرِّكُ الأمواجَ في روحي 

   شربتُ قصيدة حمراءَ  // وغُصتُ بحروفها في بهجةِ الأعماق //

   لانكَ موطنُ  المعنى 

   عشقتُ الوردَ في الأسوار

   والأحزانَ في  الأحداقْ

  وإلى قصيدة أخرى بعنوان : (" نسيرُ على دروب" - صفحة  83 - 84 )

على بحر الوافر ، وتقول فيها :-

( " نسيرُ على دروب الشوق جرحى    ونحملُ في الضُّحَى  أملا  جميلا 

    ونحنُ  إذا  طغى شوكُ البراري      نقاومهُ       ونبتكرُ        الفصولا

    نسطِّرُ    فجرَنا    بعيونِ   شمس ٍ      ونعلنُهُ     غناء   أو       هديلا

 شربنا العزَّ  من  زمنٍ  قديمٍ        وكانُ     العزُّ     ماءً      سلسبيلا 

    سيبتسمُ   الزَّمانُ    وكان   جهمًا        ويضحكُ   بعدما   اعتادَ   العويلا   

    وهذا   الليلُ     يقهرُهُ     صباحٌ         وضيءٌ   ليسَ   يعرفُ  مُستحيلا 

    وَوَردٌ   في  القلوبِ    لهُ   عبيرٌ        ينيرُ   الأفقَ      فخرًا     والعقولا 

      هذه القصيدة  حماسيَّة   ومفعمة بالأريحيَّة  والعزة والإباء ، وهي لسان حال كل فلسطيني حرّ وشريف  متسربل بالمبادئ والمثل والقيم السامية ويكافح من أجل  كرامة وحريّة شعبه وبلاده .

 تتحدثُ الشاعرة  في هذه القصيدةُ  وبصيغة الجماعة ( نحن ) عن مسيرة الشعب الفلسطيني  النضاليَّة ، وهي عنصر  وجزء من هذا الشعب العظيم ، وهذا الشعب يسيرُ على دروب الأمل والشوق  وهو  مترع  ومثقل بالجراح  النازفة ، وتحملُ هي وشعبها ( نحملُ  في الضحى)  الأمل الجميل والرائع ، ولم تستعمل هنا كلمة الدجى المتشائمة بل أدخلت كلمة الضحى لتؤكدَ على الأمل والتفاؤل . وإذا طغى وظلمَ وتجبَّرَ شوكُ البراري ،والشوكُ معناه هنا  الظلم والاستبداد والرزايا والمصائب التي  واجهت  وتواجهُ  دائما  هذا الشعب المكافح ..وستقاوم هي وشعبها ( سنقاومه )  وسيبتكرون الفصول الجميلة والملائمة التي  يريدونها ..وإنه لتشبيه واستعارة جميلة وجديدة مستمدة  وموحاة من الطبيعة .. أي أنها وشعبها لن  يدعوا المحتل  والمعتدي الغاصب يتحكم في مصيرهم وحياتهم ويرسم لهم السجن  والحيز  والمجال الذي يريدهُ.، بل  هي و شعبها الفلسطيني الأبي  الشجاع بعزيمته القويَّة والمفولذة  سيتصدون لكل  محاولات القتل  والبطش والتشويه  وتزييف الخارطة  والهويّة القوميّة  للشعب الفلسطيني   وسيزيلون  كل  الأشواك  وكل  السدود وسيرسمون الفصول بشكلها الطبيعي والحقيقي وكما يريدون هم وليس المحتل الغاصب ..

  وفي البيت الثالث من القصيدة تقول  إيمان :( نسطرُ  فجرنا بعيون شمس ٍ )وهنا تشبيه جميل ويبدو كأنه عادي ولكن فيه الجماليَّة   والفحوى   والمعنى الواسع والمنشود  الذي تريده الشاعرة .. والفجرُ يرمز دائما  إلى الحريّة  وإلى الاستقلال  والسلام والهدوء والسعادة  والعيش الرغد الهانئ وتحقيق الآمال . والشمس أيضا  ترمز دائما للحريَّة  والكبرياء وللسمو والعنفوان  .. وللحق  والعدالة .. وشعبها يسطر فجره  ..أي حريته المنشودة واستقلاله ومصيره المشرق بعيون الشمس ..  أي يستمد كفاحه  ونضاله من إيمانه العميق والقوي بالله جل جلاله ، ..وهذا الفجر الذي  سطر  بعيون الشمس . . النصر القادم  والقريب  يعلن  ويرفع للملأ  كغناء  وإنشاد وهديل .. والهديلُ هو صوتُ الحمام ..واستعملت الشاعرةُ هنا كلمة هديل لترمز وتشير إلى المحبة والوداعة  والطابع الإنساني الراقي في كفاح شعبها ..فهو كالحمام المحب للسلام  ، وحتى في مسيرة كفاحه ونضاله التي أضطر واجبر أن يخوضها وسط اللهيب والمعامع دائما ينظر للسلم ويتغنى به .. ويريدهُ  أبديا  ..

 وفي الأبيات التي بعد هذا البيت  تتغنى الشاعرة بأمجاد شعبها الفلسطيني والعربي العريقة ..وتعيد إلى أذهاننا روائع شعراء الفخر والحماسة في العصر ألجاهلي والعصور الأخرى  وكقصيدة عمرو بن كلثوم ألتغليبي ..وغيرها  .

  وإلى قصيدة أخرى  بعنوان : ( "ما أروع الذكرى " -صفحة 87 – 88 ) وهي في رثاء الأديب الفلسطيني الكبير الشهيد غسان كنفاني .وتقولُ فيها :

( " ما  أروعَ  الذكرى  وأما أشهى  المنامَ   بلا  ألمْ  

    عكّا   وغسَّانُ   الجليلِ   وبحرُ  حزنٍ  من حِمَمْ 

    لبنانُ - يا أرضَ الشّقاءِ أراكِ  صرحًا  قد  هُدِمْ 

   غسَّانُ - عندَ  شواطئِ الوطنِ  العتيدِ وفي الحُلمْ 

   رُؤياكَ ما زالت  تضيءُ ، تزيحُ عن عيني الظلمْ  

   ما كنتُ  دامعةً  بحيفا .. ما  شهدتُ سوى الشَّمَمْ  

   تمضي  سنون  كالقطارِ   تزيدُ  من   شحذِ  الهِمَمْ


   ذكراكَ  يا  غسَّانُ   شعبٌ  شاهدٌ  طولَ   العُمُرْ 

   ذكراكَ   يا   غسانُ  عيدٌ   حالمٌ    فوقَ   القمَرْ

  علمٌ    وألوانٌ     وتاريخٌ    وشعرٌ    ما     فترْ  

   وطنٌ   وأحلامٌ    وآمالٌ    ينوءُ    بها   البشَرْ 

   لغةٌ  وأحقابٌ   صنعَتَ  وناطقٌ    دومًا   دُرَرْ

  قلبي   يحاكي  نجمَكَ  الدَّامي  كخفقاتِ  السَّحرْ 

  ذكراكَ  يا غسَّانُ  خضرَا مثلُ  أوراق  الشجَرْ


 ما أروعَ الذكرى وما  أشهى المنامَ  بلا   شللْ!  

 أدبٌ  وذكرى  يا  شهيدَ  الحقِّ   يا أسمى  بطلْ

مطرٌ جريىءٌ كنتَ  لا يُبقي   جَفافا إن  هطلْ 

 يا  فارسا .. يا  عالمًا..   يا  كاتبا   فطنا   يُجَلْ

 يا  راسخًا .. يا  حالمًا .. يا  ناطقا   ذكراكَ  طلْ

أنتَ   الشّهادة ُ والحصارُ   فخُذ ملايينَ  القبلْ  

ما  أروَعَ  الذكرى وما أشهى المنامَ  مع الأملْ

 هذه القصيدة  على مجزوء الكامل  وتستعملُ الشاعرةُ  فيها عدة قواف ولا تلتزم بقافية واحدة فقط وذلك للخروج من روتين  الكلاسيكية  ولإضافة جمالية خاصة وإيقاعا ووقعا أحلى للقصيدة ، وهي رثائية محضة تنضحُ بالحزن والأسى على موت الأديب الكبير الشهيد  غسان كنفاني .

 تستهلُّ الشاعرةُ القصيدة بالحديثِ عن الشَّهيد غسان وأهميتهِ وذكراه الرائعة ، وتوظفُ مدينة عكا مسقط رأس الشهيد غسان  والجليل ،وتصفه بغسان الجليل..وفي هذه الجملة الشعريّة تورية وتحمل أكثرَ من معنى وبعد بلاغي.. فغسان هو ابنُ عكا  وابن الجليل ( شمال ) فلسطين .. وهو الغسانُ الجليلُ والعالي القدر والأهمية والمكانة والذي منزلته ومكانتهُ جليلة وسامية  في نفوس وضمائر شعبه والعالم والإنسانية ولكلِّ من له قضيَّة عادلة ومقدسة يدافعُ عنها..وانَّ ذكرى استشهاد غسان هي بحرٌ من الحزن والحمم الناريَّة.وتنتقلُ الشاعرةُ بعد البيتين الأولين اللذين عبارة عن مقدمة القصيدة إلى لبنان الذي استشهد على ترابه غسان كنفاني بأيدي الطغاة السفاحين .. وتصفهُ الشاعرةُ بأرض الشقاء لأن الفلسطينيين المشردين الذين  استوطنوا واستقروا  في  لبنان  ناضلوا  وحاربوا على ترابه  جيوش الاحتلال لأجل تحرير الوطن فلسطين واستشهدَ في أرض لبنان أعدادٌ كثيرة من الفلسطينيين  من جميع شرائح المجتمع ( رجال ونساء وأطفال وشيوخ ) .. وتصفُ لبنان كأنه صرح قد تهدم لأجل الحروب إلي جرت على ترابه ،وخاصة الحرب الأهلية الطويلة بين الشعب اللبناني نفسه وحصار بيروت من قبل القوات الإسرائيلية  وقصفها   وقصف مخيمات اللاجئين وغيرها من  الحروب والمعارك.. وبعدها  تنتقلُ الشاعرةُ بشكل مباشر وتخاطبُ الشهيدَ غسان كنفاني  وتتخيَّلهُ كأنهُ  موجود على الشاطئ البعيد  حقيقة وفي الحلم أيضا لأنه  في العالم الآخر الآن . وتقولُ له :رؤياك  ما زالت  تضيء  ولم  تقل ذكراك..أي أنَّ  عينها تراه والشعب أيضا ولأنه حي في قلوب الجميع ..( والرؤيا هي نوع من الحلم الذي يتحقق أو النبوة التي يراها المؤمن أو النبي  والولي الصالح وتحدث على أرض الواقع ) وتزيلُ  َتُقصي (تزيح ) رؤياه  الظلام والسواد  والمقصود اليأس والإحباط والإست سلام .. وتقول بعدها: ما كنت دمعة بحيفا  وما عرفت سوى الشمم ..أي أنها  لتدمع عيونها ولم تيأس لما ذاقتهُ وكابدتهُ من مآسي ورزايا مع شعبها الفلسطيني المقاوم  في الشتات وفي كل مكان وتقديم قوافل الهاء بشكل متواصل لأجل هذه القضية العادلة  والمقدسة لأنها متفائلة ولم تعرف عن شعبها ووطنها حيفا وعكا وغيرها إلا الشمم والعنفوان والشموخ.. والعزة والفخار. إن غسان كنفاني لقد صنع اللغة والتاريخ والحقب  ..لغة المقاومة بالكلمة الهادفة والصادقة والمعبرة ، وهو الذي أسَّسَ مجلة فلسطين الثورة التي كانت من أهم المنابر الإعلامية   للكتاب والأدباء والمفكرين الفلسطينيين في  جميع بقاع الأرض .. وكتاباته الإبداعية أنتشرت  في كل  مكان ، وكانت أهمَّ من القنابل والرشاشات  والأسلحة الفتاكة والمتطورة بالنسبة لأعداء  شعبه الفلسطيني  واستطاع ان يُعرِّيهم ويفضح سياستهم الشوفينيَّة الغاشمة والجائرة  والمضللة  لجميع شعوب العالم .وتنتقلُ الشاعرةُ بعد هذا البيت في القصيدة إلى قافية جديدة على حرف الراء وتبقى على نفس الوزن ..وتردد وتعيد  كلمة الذكرى في البيتين الأولين في هذا القسم والجزء من  هذه  القصيدة لتؤكد على أهمية غسان كنفاني  لدي شعبه الفلسطيني وأن ذكراه باقية ودائمة لا تزول من القلوب والعقول.. وإنه ذكراه هي شهادة شعبه له بنضاله ودروه الثقافي والأدبي والإبداعي  المقاوم والرائد  طول الزمان ..وذكراهُ هي عيدٌ مضمخ بالأحلام والآمال وهذا العيد الحالم فوق القمر  ورمز العلو والسمو والجمال والأمل والحياة السعيدة الواعدة مستقبلا ...مستقبل الشعب الفلسطيني في التحرير  ونيل  حقوقه في الغد القريب . وذكرى غسان هي كل  شيء جميل نابض بالحياة والأمل للشعب الفلسطيني،هي العلم والاستقلال، وهي الألوان والتاريخ والشعر الذي الذي  لا يستكين ويهدأ ويبقى يعلو  ويجلجلُ ويقضُّ مضاجعَ  الظالمين  والمحتلين  والأشرار  ويدكُّ عروش الظلم والاستبداد . وهذه الذكرى فيها يتجلى الوطنُ بكلِّ همومه أثقاله وأبعاده وجماله، وفيها تظهرُ وتمثلُ القضية أمام كلِّ فلسطيني حر وشريف يريدُ  تحرير بلادهِ من الاحتلال البغيض ..بالذكرى تتجلى القضيةُ المقدسة والثقيلة التي لا يستطيع كلُّ شعب أن يحمل أعباءَها وقداستها على كاهله...هذه القضيَّة العادلة والعظيمة التي ينوءُ   ويتمايل  ويترنحُ من ثقلها كلُّ البشر .. وتريد أن تقول الشاعرةُ في هذه المقطوعة :إن غسان كنفاني هو أحد الرموز والأعلام الهامة للقضية  وقد ارتبطت القضية الفلسطينية باسمه في صدد المقاومة والنضال عن طريق الأدب والإبداع والنقد الأدبي وأوصل القضية الفلسطينية إعلاميا إلى جميع أنحاء العالم،وكانت هذه القضية المقدسة مجهولة لمعظم الشعوب، والقليلون كان لديهم الإطلاع والعلم والمعرفة ويسمعون ويعرفون  بتوسع عن مأساة الشعب الفلسطيني  وكارثة فلسطين  واقتلاع الشعب  الفلسطيني  بالقوة من بلاده  وتهجيره ، على عكس ما كانت تشيعه السياسة الإسرائيلية الصهيونية  ووسائل الإعلام الصهيونية والغربية الكاذبة:إن أرض فلسطين كانت بدون شعب  والشعب اليهودي جاء واستوطنها وقام بعمارها  وشيَّدَ وأقام البناء والحضارة عليها،مع أنها كانت مأهولة وعامرة بالشعب العربي الفلسطيني ألذي طرد بالقوة  من هذه البلاد  وعاش  مشردا ولاجئا في الشتات وفي الخيام .. وإن قلب الشاعرة إيمان  وقلب كل فلسطيني  صادق  وحر  يحاكي نجم  غسان الدامي كخفقات السحر..وإنه لتشبيه شاعري جميل ومبتكر .. وستظل ذكرى غسان دائما خضراء مثل أوراق الشجر ولن  تجف وتيبس في يوم ما .

  وتنتقلُ الشاعرةُ بعد هذه المقطع والجزء في هذه القصيدة  إلى قافية أخرى على  حرف اللام في هذه القصيدة ،وَتُعَدِّدُ في هذه الأبيات الأخيرة  مناقب ومآثر وصفات الشهيد  الرائعة والخالدة . وهذه الأبيات هي عبارة عن رثاء  ونواح ونديب للشهيد غسان بكل معنى الكلمة .. فنتخيل كأن غسان كنف اني أمام انا مسجى بأكفانه  والنديب والنواح يُتلى ويقالُ عليه بحزن ومرارة ودموع غزيرة ..وتستعملُ الشاعرةُ العديد من الكلمات الجميلة والصفات المثلى والرائعة تصفُ وتشبه فيها الشهيدَ غسان،فهو والمطر الجريء الذي يعطي بسخاء ويسقي اليباس  والأرض اليباب  رغم الأهوال والشداة  والمخاطر التي تحيط  به  من كلِّ جانب ، وهو الفارسُ والعلمُ  والكاتبُ المبدعُ  والفطينُ .. وهو الراسخُ والثابت في مواقفه النضالية ولا  يتزعزع ....وإن ذكراه تبقى الطلَّ والندى في الصيف والقبض فيُحيِي ويُنعشُ الزرعَ والنبات المتعطش لقطرات ماء... وهو الشهادة   بكل  معانيه والحصار والمقاومة..وكم من الضيقات والعراقيل التي واجهها في طريق نضاله   والتي لاقاها الشعب الفلسطيني،ويستحقان يأخذ ملايين القبل من شعبه  المكافح على حدِّ قول الشاعرة إيمان :(( أنت الشهادةُ والحصارُ فخُذ  ملايين  القُبَلْ )).وفي البيت الأخير من القصيدة  تعيدُ وتكررُ الشاعرةُ كلمة الذكرى ..وأنه لا شيء أروع من الذكرى..ذكرى الشهيد الأسطوري غسان  كنفاني الذي يحيا دائما في ضمائر  وقلوب  ووجدان  وذاكرة  شعبه  للأبد...وما أشهى المنام مع الأمل.. وتقصدُ الشاعرةُ  موت الشهيد غسان الجسدي  فهو كنوم  وسبات..لأن جسده فقط الغائب والنائم  وأما روحه  فهي ترفرفُ في سماءِ الوطن ،وذكراهُ وصيتهُ باقيان   وساكنان في وجدان شعبه دائما ..وإنه قد  نام ( مات جسديا واستشهد ) مع الأمل الكبير  ..أمل التحرر من الظلم والاحتلال   واستقلال شعبه وعودة اللاجئين وقيام الدولة الفلسطينية العتيدة .... إنه مات..بل عاش خالدا مع الحلم الجميل والرائع ، وهو حلم  وهاجس كل فلسطيني في التحرر والاستقلال ونيل الحقوق الوطنية الكاملة ..

 وسأنتقل إلى قصيدة أخرى بعنوان : ( " وتأخذني أحزاني  " - صفحة 89 - 90 )  والقصيدة على وزن الوافر  ، وهي رومانسيَّة خيالية حالمة  وشفافة وقوية النبرة .. وتقولُ فيها  :-

( "  وتأخذني   إليكَ    حكايةٌ  

     من شوقِ  أحلامي  جنائنها 

     ثريَّاتٌ     وأحداقٌ    وآمالُ 

     تفجَّر  قلبها   نارًا    بأرض ٍ

      تأسرُ الصلصالَ في الموتِ 

     تخيطُ  خرائطَ  الأحلامِ  والزَّمنِ 

     سأغسلهُ  وشاحًا ينجبُ  الغضبا  

  ليبقى  في  بكاراتِ الورودِ  شذى 

  يعيدُ  خطا رحيقِ دموعها وجعا // سقاهُ  الغيمُ 

 موتا  ليسَ يزهو  عندَ حدِّ  مغيبها  شفقا 

 تطرّزهُ منَ الحنَّاءِ سيّدتي  

 رحيقٌ في تسابيحِ الجنان كما لعيننيها 

  تئنّ  وضوؤُها  يشدو  بليلٍ  يسقمُ  النبضا 

 لتنسجَ من براءةِ طهرِها  الطرقاتِ أحزانا 

 وتسدلُ من حمائمها  حصادَ الوقت 

 تأخذني مسافرةً  // منَ الأوجاع 

  يطهرها  بزوغُ الفجر //  تستسقي به الغفران //

  أفتِّتُ  كلَّ  أوجاعي  بصحراءٍ ستحصُدُهَا  رياحُ الوجد 

   كي  أبقى  لهُ  شفةً  تناجي الهمس  " ) .

     القصيدة قد تبدو غزلية في مطلعها ، ولكنها وطنيَّة  وتشير إلى الوطن والكفاح والنضال والشهادة، ويمتزجُ ويتّحدُ فيها الحبُّ الإنساني المثالي  والصادق مع حب  الأرض والوطن،وهي عذبة وسلسة ومنسابة ومتناغمة  معنى ولفظي وموسيقيا وإيقاعيا  .

  والى قصيدة أخرى  بعنوان : ( " فلسطين  " -  صفحة 91 -  94 ) على بحر الوافر، وتتحدث فيها عن فلسطين ومأساة  شعبها بشكل موسَّع حيث تقول :-

( "هي الأنثى التي رسمَت بكارتَهَا  تفاصيلُ الدرب 

    تبرَّجت بهلاكِ خطوٍ // كانَ  في دمها مفاتنُ للبساتينِ

    وكانت كفنت شهداءَهَا  تَترَى  على جسدي 

 تغنّت بالظلالِ على تخومِ الشّمسِ 

  والهذيان في  قلبِ الرياحينِ   

 وماءُ البحرِ كان خريطةَ َ الغُنجِ الفريد 

على مفاتنها 

توشّحَتِ  المدائنِ  في  شراييني  

مُعتّقةٌ مواجعُها بطعمِ الحزنِ  في أحلامِنا الخضراءِ  

 عندَ تفجُّرِ الفردوس

 مثل فراشةٍ ظلَّت تُطوِّقها براكيني 

 وتلكَ مدافنُ الوجعِ العتيد 

شريدةً // 

 كانت حدائقَ تلتظى في قدسِها 

 نثرت عليها وردةَ الذكرى !!!

وما زالت كأيِّ جميلةٍ في كلِّ أرض 

تعشقُ الزيتون في العينين 

 والأهدابَ في  أحداقِها السكرى//  

  معانقةٌ بصحراء الحنينِ // غصونَهَا //

 خفقاتُها آيٌ على  أنَّ النهارَ بدايةُ الياقوتِ في وجناتِها 

 وشفاهها عزفت بهذا  اليوم :

 لم أترك ديانتيَ العرقة // والجدائلَ 

 وهي تنزفُ بين أوردتي 

  وتسكُبُني على هام الرُّبَى عطرَا !!!

  على أناتِ باخرةِ الزمان// علت هتافات البراكينِ

   رسمتُ على نوافذها قراراتٍ  كوَتْ

 جسدَ المغيب!!!

   تقاسموا خطوتات حُزنِكِ  

 في جراحِاتِ  البساتينِ

ونازَلكِ النواحُ  على ميادين الفراغ 

 بقيتِ ثمّ اسمًا مرادفُهُ انتظارْ

  يا فلسطيني 

كتبتُكِ  في مسافاتِ الهوى 

  فتنهَّدَت قيثارتي  من دِفءِ  قلبك ِ 

  ذقتَ بعدَ نعاسِها من جرحِكِ الهجرا  !!!

  رأيتُ العابرينَ ترحَّلوا  فيغربةِ الكلماتِ 

 تحت سياجِ موسيقى القوافي //

 هاجَروا 

   واليومَ أنت حكايتي 

  كلُّ السنين  تحسَّسَتْ بمخاضِكِ  الفجرا 

  وإعصارُ الجنونِ

  تمرُّ ريحُكِ بينَ طيفِ  التَّتسميات 

  على هتافِ الدَّمع  

 تصبحُ نخلةً قربَ الغيومِ تُرتّلُ الشعرَا 

  ***

أرى العشَّاقَ  قد سكنوك رائحةً منَ العنبرْ

بنوكِ حكايةً وقصورَ ذاكرةٍ 

 وغيمة  ليلةٍ  // غسلت صراخَ  الأرض //

ضوءُ لهاثِ نجمِكِ  أمس كانَ خطيئةَ َ الماضي 

  أقامَ على وجوهِ الحُور // 

  مثل شظيّةٍ  تصحو بها  الأحزانُ

 وازدحمَ الزَّمانُ برملكِ الأحمر 

  أحبُّكِ   // تلتقي روحي وروحُكِ 

  لا  يحدُّهُمَا سوى  سُورٍ منَ  الكلماتِ 

  ترسُمُهُ كخدِّ حديقةٍ أخضرْ //  " ) .

   هذه القصيدةُ عميقة جدا بمعانيها وأبعادها ، فيها الغموضُ والإبهامُ وفيها الوضوحُ والإشراقُ، وفي بعض المقاطع قريبة للسرياليةِ .وتوظفُ الشاعرةُ  وتدخلُفيها  الكثيرَ من الاستعاراتِ الدلاليَّة الحديثة والجميلة . 

 في بداية القصيدةِ  يظنُّ  القارىءُ كأنَّ الشاعرةَ تتحدثُ عن فتاة  كاملة  الأوصاف ومتألقة في كل شيء ، هي رمز الأصالة والنقاء والسمو  والعزة والإباء .. وهذه الفتاة  عانت الكثير  في هذه الحياة ، وإنها الفتاة التي رَسمَت بكارتها تفاصيل الدروب ..أي تعرضت للاعتداء  والاغتصاب ( الاحتلال )  .. وتبرجت بهلاك خطو ..وتزوجت بالألم  والهلاك والموتِ في كل خطوة .. ودمها النازف منذ فترة طويلة كأنه مفاتن للبساتين ..ومن هذه الدماء النازفة سيكون الخص والغلالُ..وستخضرُّ البساتينُ وتورقُ الأشجارُ وتزهو البلاد وسيتحققُ  الحلمُ  المنشود حلم  الحرية  وعودة الشعب اللاجئ إلى وطنه  الأم  ( فلسطين ).. وهذه  الفتاة  الشماء والرائعة ( فلسطين) هي التي كفنت شهداءها  بشكل  مستمر...وشهداؤها  تثرى على  جسدي ..( أي على جسد الشاعرة )، فكل شهيد  يقضي لأجل القضية ولأجل فلسطين  فكأن الشاعرة هي التي استشهدت  وقوافل الشهداء تترى  وتتواكبُ وتمرُّ على جسدها ... وبعد المقاطع الأولى من القصيدة تبدو المعاني واضحة نوعا ما ويستدركُ القارىءُ أن الشاعرة تتحدثُ عن فلسطين  والقضية بكلِّ أبعادها وتماوجتها وبلغة شعرية مميّزة وراقية جدا ومترعة ومكللة بالمعاني العميقة والصور الشعرية الجديدة والتعابير البلاغية الحديثة . وتقول الشاعرة : -

( يا فلسطيني // كتبتُكِ في مسافات الهوى //

فتنهدت قيثاتي من دفء قلبك /// ذقت بعد نعاسها من جرحك الهجر !!// 

رأيتُ العابرين ترحلوا في غربة الكلمات //

تحت سياج موسيقى القوافي //  هاجروا // واليوم أنت حكايتي 

كلُّ السنين  تحسَّسَتْ بمخاضك الفجرا // وإعصار الجنون // 

تمرُّ  ريحُكِ بينَ طيفِ النسماتِ 

على هتافِ الدّمع 

تصبحُ نخلةً  قربَ  الغيومِ  تُرَتّلُ  الشِّعرا  ) .

إن المعاني هنا مع أنها عميقة  تبدو الفكرةُ واضحة والفحوى مفهوم .. والشاعرة  بدورها  تظهرُ حبها وعشقها الكبير لوطنها فلسطين التي كتبت لها أحلى  وأجمل القصائد ( كتبتك في مسافات  الهوى )،وقيثارتها  الرنانة الساحرة لقد تنهدت وأطلقت الآهات من دفء قلب فلسطين الوطن.. ويظهر هنا  التعاضد والتناغم والتلاحم والانصهار الكامل بين الشاعرة..أو بالأحرى بين  الإنسان الفلسطيني الحر والشريف وبين أرضه ووطنه ( الوطن فلسطين )...وتتحدثُ الشاعرةُ عن العابرين ( اللاجئين والمشردين ) وهم العابرون الذين سيرجعون آجلا أو آجلا إلى وطنهم فلسطين .. ورغم  طول السنين  وامتداد مسلسل  المآسي  والرزايا  ما زالت الشاعرةُ التي هي لسان حال شعبها  ولسان كل فلسطيني تتحسُ وتشعرُ بالمخاض القريب  وإعصار الجنون -  الثورة العارمة والنصر الكبير وولادة الفجر المنشود  .

 وفي المقاطع الأخيرة من القصيدة  تظهرُ الشاعرةُ أهمية ومكانة فلسطين  ودررها وموقعها الجغرافي والتاريخي والحضاري والإنساني .. ومكانة وموقع شعبها الأبي الباسل ونضاله الأسطوري الرائد..ويتجلى الحبُّ الكبير والعارم للوطن  فلسطين .((  بَنوكِ حكايةً وقصور ذاكرةٍ //  وغيمة ليلةٍ //غسلت صراخَ الأرض // ضوءُ لهاثِ نجمكِ أمس كان خطيئة الماضي //  أقامُ  على وجوهِ  الحُور // مثلَ شظيَّةٍ  تصحو بها الأحزانْ //  وازدحَم الزمانُ برملكِ الأحمر // أحبك // تلتقي روحي وروحك // لا يحدهما سوى سور من الكلمات // ترسمه كخدِّ حديقة أخضر //  ) .

  وإلى القصيدة الأخيرة من بعنوان : (( " مدارات أخرى لعواصف القلب " – صفحة 95 - 96 ))، والقصيدة غنيَّة بالمعاني العميقة ، وفيها العديدُ من التشبيهات والصور والاستعارات البلاغيَّة الجديدة والجميلة ، وفيها بعضُ المقاطع القريبة للسرياليّة . تقول فيها :-


( "  أغنّي  غيابَ   أشجارِ  اللوز ِ

 عندَ  عتباتِ  قصيدةِ   النهايةِ 

  توقّفتِ الحروفُ عندَ أبجديَّاتِها  

  جاءَ خافقُ الصَّمتِ  

  لثمَ  سحرَ الموت   

 قتلها مطرُ الجرح  وعلى أهدابها 

هذا الليلُ  يجتاحُ  روحي  

 يراقصُ  حكمةَ الصَّمتِ

 في خطواتٍ أضحَت حلمًا 

  لا يبقيه إلا وجلُ الشَّمسِ 

  حينَ  تشرقُ خيوطها  على أغنية الصباح !!

 تجتاحُ روحي مواويلُ  يرسُمها مليون سهمٍ 

 يفرُّ من خيوطِ الزَّمانِ 

 يلبسني قصَّةَ عشق ٍ  لا يعرفُها  حدٌّ

تلدُ وطنا ذبيحًا .. مُعتّقا على جسدي// لا يبقيهِ إلا  بضعُ نغماتٍ راثيةٍ 

 أحملها في كفي وهي تغرفُ  انهياراتِ قلبٍ صغير ٍ  

 وظلَّ نزْفا  سكنهُ الجنون  

 عانقيني يا قدسُ 

 لأبكي .. لأفتحَ  نافذةً أخرى  للحياةِ //  وحتى لا يلومني قاموسُ الهجرِ ِ 

  وعندَ دفّةِ الإنتظار

  ليشعلَ في بابي قناديلَ  سبعة تتدلّى حروفُها  عندَ  أبوابكِ 

 ببراءةِ  طفلٍ يبكي أمَّهُ  

 عندَ حتاءِ الفجيعةِ 

  يسكبُ فيها بوصلَة َ الجراح 

  ليخلّدَ  نبضَ غُنج ٍ 

  على منحًى من همس ِ

  هو  بتولُ المعجزاتِ  

   فيهِ أنتِ كلك ِ قدسي  " ) 


تحليلُ القصيدة :  -

هذه القصيدة هي على لسان كل لاجىءٍ فلسطيني شُرِّدَ من أرضه ووطنهِ بالقوة ورغما عنه .. فالشاعرة في بدايةِ القصيدة  تغني غيابَ أشجار اللوز ..وتريدُ أن تقولُ :إنَّ اللاجئ المشرد يتذكرُ أشجارَ اللوز دائما التي زرعها  هو وآباؤُهُ وأجدادُهُ وكبرت وأثمرت ..وقد أبعِدَ عنها عنوة  وأصبح لاجئا في بلادِ الغربة .وأشجارُ اللوز مثلها مثل  أشجار الزيتون والصبر والتين التي ترمزُ دائما إلى الأرض والوطن فلسطين ..ولأنَّ معظمَ الأراضي الفلسطينية كانت وما زالت بعد النكبة مزروعة ومغروسة بهذه الأشجار المباركة  نجد الكثيرين من الشعراء الفلسطينيين ذكروا أشجار اللوز في إشعارهم وأدبهم ، مثل محمود درويش ،حيث يقول*2: 

( " وكرمُ   اللوزِ   سيَّجَهُ   =   أهلي  وأهلكِ   بالأشواكِ   والكبدِ 

في البال أغنية  يا أختُ عن بلدي =  نامي لأكتبها وَشما على جسدي//

وكقول الشاعر توفيق زياد*3:( والله لزرَعَكْ بالدار يا عود اللوز الأخضر)

وهذه الأشجار تتغنّى  بها الشاعرةُ عند عتبات قصيدة النهاية . وعندما تكونُ في قمة التوهج العاطفي والحنين العارم والقاتل للوطن ( الشاعر والإنسان اللاجئ ).. وهي تتجسَّدُ الإنسانَ الفلسطيني ومشاعره وأحاسيسه ولواعجة الذاتية وتطلعاته وأحلامه وطموحاته نحو التحرر والنصر والرجوع للوطن المقدس الذي نزح عنه مرغما  .وقد تقصدُ أيضا بأشجار اللوز اللاجئين الفلسطينيين المهجرين الذين يعيشون الآن في الغربةِ والشتات..فهم  كأشجار اللوز الأصيلة  المزروعة  والمتجذرة في تراب الوطن . وتقول الشاعرةُ : 

  إن الحروف توقفت عند بدياتها ( وإنه لتشبيهٌ واستعارة جميلة وموفقة )... أي إن اللغة والتعابير اللفظيَّة والبلاغة وقفت وصمتت لهولِ المأساة والحزن الكبير لجرح الفلسطيني النازف منذ عقود طويلة  فكأنَّ خافقَ الموتِ قد جاء .. والصمتُ هو الموت أيضا والسكينة ، ولكنه يخفقُ وقد لثمَ وقبلَ سحرَ الموت ... قبَّلَ المأساة  والجرحَ النازف .وتوظفُ الشاعرةُ هنا العديدَ من الكلمات المعبرة والهادفة والموفقة للهدفِ المنشود ولتصفَ الوضعَ السائدَ وأحوال وأجواء الشعبِ الفلسطيني- الوضع :النفسي والاجتماعي والسياسي والمعيشي وحالتها هي الخاصة  وموقعها وموقفها كشاعرةٍ  مبدعة  وإنسانة فلسطينية مناضلة  بالكلمة  والفن  والأدب  وبكل إمكانياتها وطاقاتها لأجل قضية شعبها الفلسطيني الأبي،مثل كلمات :( مطر الجرح ،حكمة الصمت، وَجل الشمس، أغنية الصباح، خيوط الزمان، أغنية الصباح، قاموس الهجر، حناء الفجيعة .. إلخ )) .وفي القصيدة مزيج  من التناقضات الحسيَّة واللاشعورية  وغير المباشرة : كاللوعة والحزن والفرح والأمل والاغتراب والنضال واليأس والأمل والليل والفجر والشروق الشمس الساطعة ...ومن الصور الشعريَّة البلاغية الجميلة في القصيدة : ( تجتاحُ روحي مواويلٌ يرسمُها مليونُ سهم //  يفرُّ من خيوطِ  الزَّمان ) ... والمواويل تعني هنا الجمالَ   والحبَّ  والعيش  الجميل  والحرية  والفجر والتحرُّر  من  القيود  والتعب  والخروج من الضبابية  واليأس والحزن .. وروحها -( روح الشاعرة ووجدانها  وكيانها   ككل )  تجتاحُها المواويلُ الجميلة ،واستعملت كلمة اجتياح كقوة وإقدام وغزو ولم تستعمل كلمة لطيفة وضعيفة ،مثل تنساب..لتدلَّ على الوضع الصعب والمأساوي إلي تعيشه هي وشعبها سياسيا  وإنسانيا .. وهذه المواويل ..يرسمها مليون سهم .. والسهم والسهام  هي الصعاب والرزايا وهي  الجراح   والنزيف  والألم والقهر والمعاناة والشدة  والملاحقة  والقمع .. فالصعوبات  والرزايا التي عصفت بالشاعرة وبشعبها  جعلت المواويلَ  - الأمل  والحب   والتفاؤل  والإصرار تجتاحها  وتتبلور فيها وتصقلها من جديد هيكلا  وطودا وكيانا قويا  واثقا من استقلاله الكامل وتحقيق أهدافه وطموحاته الوطنية والإنسانية رغم العسف والاحتلال البغيض الجاثم على كاهل الشعب الفلسطيني من عقود ... وهذا المعنى هنا  قد  يكون  قريبا  نوعا  ما  إلى  مقطع شعري  للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في قصيدة الخالدة ( مديح الظل العالي )  التي  يتحدث فيها عن الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان  وحصار بيروت ، حيث يقول : (( مليون سهمٍ شدَّ خاصرتي  ليدفعني أماما ) .. إلخ .

 وفي نهاية القصيدة تذكرُ الشاعرةُ مدينة القدس  عاصمة فلسطين الأبدية والتي هي رمز لقسطين  وللقضيَّة الفلسطينيّة ، ومعاني المقاطع الأخيرة في القصيدة قد تكون مفهومة  وأكثر وضوحا   وسطوعا   من المقاطع والجمل الأولى في القصيدة .. وتطلبُ الشاعرة من مدينة القدس أن تعانقها  لكي  تبكي فرحا وتفتح نافذة أخرى للحياة .. والتي لا يلومُها قاموس الهجر عند دفَّةِ الانتظار..ولكي يشعل في بابه سبعة قناديل وليس قنديلا واحدا...وهذا رمزُ للتوهج  والفرح العظيم .. وتتدلى حروفُ القناديل عند أبواب القدس كبراءة طفل يبكي أمه التي  هو بحاجة إليها .. فالوطن ( القدس // فلسطين ) هو الأم والمهد  والبداية والنهاية للإنسان الفلسطيني الحر والشريف ، ولا يرضى بوطن آخر غير هذا الوطن - فلسطين ... وبكاء هذا الطفل - هو بوصلة الجراح - الجراح المقاومة والمناضلة والتي ستصل عاجلا  أو آجلا  للهدف   السامي والفجر المنشود ... وهذا الطفل هو بتول المعجزات ، أي المعجزات الجديدة والرائدة التي لا ولم  ولن يحدث مثلها  على مرِّ التاريخ ( قضية الشعب  الفلسطيني  المعقدة  والمتشعبة  ومأساته  الأسطورية أمام الصمت الدولي والعالمي )..وبتول المعجزات هذا  الطفل  الحزين والباكي هو القضية - الشعب واللاجئ والمشرد وكل معالم وتضاريس فلسطين..( هو بتول المعجزات // فيه أنتِ كلكِ قدسي ) وبتول المعجبات  تبقى القدس وفلسطين فيه متجسدة .والشاعرةُ تخاطب القدس مباشرة.. وتقول في الجملة الأخيرة من القصيدة : كلك قدسي .. أي هي   فيها ساكنة ومتجسدة القدس العاصمة والرمز لقسطين وقضيتها وفلسطين كلها قدسها  .

وأخيرا :سأكتفي بهذا القدر من استعراض وتحليل القصائد الشعريَّة من هذا الديوان ( هنا وطن )  للشاعرة والأديبة  والإعلاميَّة الفلسطينيّة الكبيرة  " إيمان مصاروة "..وآمل أن أكون قد ركزت الأضواء على جميع الجوانب والأمور الهامة  فيه وأعطيت هذه الشاعرة لو جزءا  وحيزا مما تستحقه من مكانة سامية : أدبيًّا وشعريَّا ووطنيّة  ونضالا. 

ولأنها قامة شعرية وأدبيَّة إبداعيَّة باسقة ومميزة على الصعيد الفلسطيني والعالم العربي، ولكنها لم تأخذ حقها ومكانتها على الصعيد المحلي .. وأما ( خارج البلاد ) - عربيا وعالميا- فقد كتبَ عنها وعن دواوينها الشعريَّة وكتبها الأدبية الصادرة كبارُ الأدباء والنقاد  في العالم العربي  وحققت شهرة كبيرة وانتشارًا واسعا جدا، ومستواها  الشعري لا يقلُّ جودة وإبداعا وروعة وتميُّزًا عن مستوى شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان، بل ربما إيمان تمتازُ  وتتفوق عليها في بعض الجوانب والمواضيع  ..ولقد أطلقوا على فدوى طوقان  سابقا  لقب خنساء فلسطين لأجل المصائب التي نزلت بها  حيث توفي شقيقها الشاعر الكبير إبراهيم طوقان وبعده شقيقها الصغير نمر في حادث سقوط طائرة وهما  في ريعان الشباب ورثتهما بأجمل وأروع القصائد*4..وشاعرتنا إيمان مصاروة هي أيضا مرت بظروف صعبة وأليمة وعصفت بها الرزايا والمصائب والمحن من كلِّ جانب ،فقد توفي زوجُها ثم شقيقتها الشاعرة( سناء مصاروة ) وهما في ريعان الشباب  أيضا ، وعانت إيمانُ الكثيرَ في  سبيل العيش وتربية أولادها ولأجل قضايا وطنها وشعبها، وقد واكبت قضايا ونضال شعبها عن كثب  وليست  مثل معظم  الشعراء  والكتاب  والفنانين  الذين يعيشون في القصور والفيلات  ويقبعون في بروج عاجية  ويتبجَّحون بالوطنية والنضال المزعوم  ..وقد أصيبت برصاصة في رجلها عندما كانت تقوم بمهمةٍ صحفيّة  لتغطية هذه مظاهرة إعلاميًّا ..وهي تستحقُّ لقبَ خنساء فلسطين  وشاعرة فلسطين بجدارة مثل  فدوى طوقان .وفي الداخل ( داخل الخط الأخضر) عتموا عليها إعلاميا، وخاصة من قبل أجهزة الإعلام الصفراء والمشبوهة ولم تأخذ حقها  ولم تسلط عليها  الأضواء كما يجب ولم  يكتب عن دواوينها وكتبها الصادرة أي ناقد وأديب محلي إلا أنا كدراسات مطولة وموسعة وعميقة ثم الأديب الناقد الزميل شاكر فريد حسن  حيث كتب عنها مقالا  صغيرا ومختصرا - رغم مكانتها الأدبيَّة والثقافيَّة ومستوى شعرها العالي والراقي .

......................................................................................

أسماء المصادر والمراجع  :

*1 ) ديوان  أبي الطيب المتنبي 

*2 ) محمود درويش - المجموعة الشعرية الكاملة -  دار العودة  - بيروت -  لبنان 

* 3  توفيق زياد في مجموعة من  أعماله الشعريَّة والنثريّة .

* 3 ) فدوى طوقان – الأعمال الشعرية الكاملة - إصدار : دار العودة بيروت - لبنان