أنَا المارُّ بِجانبِ مزاركِ/ الأب يوسف جزراوي



مساءٌ موحشٌ والأيامُ طويلةٌٌ وثقيلةٌٌ فِي الشتاء/ / نكايةٌٌ بِالضجرِ وربّما بي ذهبتُ إلى علوٍ/ تحوطه غاباتٍ تستهويني/وَمضيتُ هناكَ لوحدي / في الطّريقِِ رأيتُ واجهةٍ كُتبَ عليها بخطِ اليدِ: الطّريقُ مسدودةٌ/ دفعني فضول الاكتشاف للسياقة قليلاً/ وركنتُ سيارتي في الجهة الأخرى على بعدٍ/ ترجلتُ سيرًا تحتَ رذاذِ المطر/ لا رفيق لي سوى ظلّي ومظلتي!.

سرتُ ولا أدري أين هِي وجهتي/ أبَذرُ قدمي خَطوةً خَطوةً فوقَ أسفلتِ الشَّوارعِِ النّديّة/ ووتَرُ الخٌطوةُ يَعزفُ في قلبي الدقّة!.

حقيقةً آسرتني الأجواء مِن أوّل خطوةٍ ونظرةٍ/ إذ أعتدتُ اللا أحدق في الطّرقِ قبل السّير بِها/لم يكنْ أحدٌ هُناك سواي/ أما صمتُ المكانِ المهجور يآسر الأفئدة والقلوب/ إذ لم يُبقِ للصّمتِ معنًى.

هدوءٌ ناصعٌ السكون/ الهواءُ نقيٌّ وآخاذٌ/ وسيمفونيّةُ الطّبيعةِ كالبحارِ لا تُضاهيها موسيقى/ للمكانِ روحٍ لا تشبه مكان آخر قد قصدته سابقًا / مكانٌ مهجورٌ/ وكأنّهُ لم يسكنه أحد / أو لم تطأه أقدام الزوار غير أقدامي/ على ما يبدو كانَ في يومٍ مَا ملئ السمع والبصر/ مضيتُ بهِ كعابرِ سبيلٍ غريبٍ عن البلادِ والعبادِ/ لا شيء سوى وقع أقدام خطواتي/ فودتُ اللا يكون حضوري عابرًا/ فالتقطتُ لهُ صورًا أدبيةٍ روحيّة بعدسةِ قلمي.

كمتفرجٍ وقفتُ متأملاً/ أستنشقُ مِنَ الهواء نقيه ومِنَ الطبيعة عبيرها/ همتُ بنظراتي / فلا المارّةُ كانوا يمرّونَ بي/ ولا مِن آثار أقدامٍ سارت على درابينه الضيّقةِ/ ولا حَتّى زعيق هورنات السياراتِ يصل صداه إليه!/ وقلتُ يَا رباه مَا الذي أتى بي إلى هُنا؟!.

مساحاتٌ خضراءٌ وأشجارٌ باسقةٌٌٌ وحشائشٌ تتوسط دربًا غير معبدة/ومضتْ بِي قدمايّ فوق الحشائشِ إلى المفترقِ/ وإذا بِثمّةِ مزارٍ مهجورٍ يُزيّنه ثمثال لمريم العذراء/ وضِعَ قبالتهُ صليبٌ وشمعدانٌ.

وقفتُ أمامهُ مذهولٌ بهِ ومزهوٌ بصمتِ الطّبيعةِ المحيطةِ حوله/ تلفّتُ حوليَّ وتسألتُ:أينَ الذين يحملون الورودَ والشّموع؟!!/ وأينَ الذينَ يوزعونَ الطعام نذرًا؟/لا مباخر ولا بخور..؟!/ لا آثار لهم/ سوى فزاعات مِنَ القشّ/ بينما صوتُ الرّيح يدوي ويعوي../ وسطَ صمتٍ مُطبقٍ وسكينةٌ أحبّذها.

على مرمى أميالٍ ثمّة كوخٍ ريفي مهجورٍ أشبه بالصومعةِ كنتُ اعاينهُ قُبالتي/ بابه شبه مفتوحةٍ/سرتُ إليهِ بتوجسٍ /طرقتهُ... ناديتُ.. فلا مِن مجيبٍ/دخلتُ ولم أجد غيرَ مرآةٍ مُكسورةٍ ضاربة في القدم/قد تكدسُ " طوزٌ مِن غبار الأتربة " عليها/حدقتُ ولم أرَ سوى صورتي المتسّخة فيها!.

خارجُ الكوخِ وعلى يمينهِ بئرٌ وجرةُ ماءٍ/ وعلى شمالهِ طاحونةٍ أشبه ما تكونَ " جاروشة" دقيقٍِ أو سمسمٍ.

خرجتُ أتبعني/ أسيرُ ورائي/ أتعكزُ عليَّ/ ولأوّلِ مرّةٍ خشوتُ الطّريق بمفردي في ليلٍ أهيمٍ/ ولا أعلمُ كم مِن خطوةٍ باتت تفصلني عن المزارِ/ سرتُ حَتّى نقطةِ النهايةِ/ وكانَ على جانبي الطريقِ أحجارٌ كبارٌ/ كُتبَ عليها كلامُ ليلٍ لزوارٍ..../ على مَا يبدو قد محوه بالنهار/ هُناك جمعتُ حطبًا وأوقدتهُ كموقدٍ/ راحَ يشتعلُ ببطءٍ ويضيءُ/ طورًا استضيء به لأكتبُ في مدونة هاتفي/ وطورًا آخر أنال الدفء منه .

وقفتُ مِن بعد حينٍ أمامَ التمثال مُصليًّا بِالقولِ: يا مريمُ- لن اتحدّثُ عنكِ اليومَ بل إليكِ عنّي/أنا المارُّ بجانبِ مزاركِ/إنّهُ مجردُ تعبٍ.. ضجرٍ لرجلٍ أحبَّ الكهنوت والكتابة/أهو صداكِ الذي كانت ترددهُ نغمات الطبيعة؟.

بجانبِ المزار المتروكِ/ وعلى مرمى أمتارٍ منه/ ثمّة أوراقٍ عتيقة متطايرة هُنا وهناك/ كتبت عليها خطاباتِ حكام وسلاطنة سقطوا مِن عروشهم/ كانوا ذات يومٍ سلاطنة أزمنتهم/ حاول بعضهم شطرِ الشِّعراء إلى شطرٍ وعجز/ٍوما فلحوا في مسعاهم.

سرتُ بي قليلاً للأمام وإذا بِثمّة شطٌٍّ إن صح القول/ أوقدتْ على ناصية مقدمته/ شموعًا ذرفت دموع مُصلّيها نجوى/ مشتْ عليه الصّلوات ولم تغرق!!. 

لقد كنتُ عابرَ سبيلٍ على ضفتيهِ في ليلٍ شتويٍّ حالك الظّلامِ/ ولا أدري هل مضى أحدُ الأشخاص في هذا الطّريق قبلي وصلى؟!.

أَنا الكتومُ/ دعوني لا أخفيكم سرًّا/ حتّى سّاعةِ الوقتِ الّتي كانت بيدي ولفّت معي الدروب إلى المزار/ على ما يبدو كانت منتشية بالمكانِ/ فنسيت أن تُتكتك حينَ دقتِ نواقيسِ العودة إلى مظاني!.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق