(بمناسبة 25 عامًا على رحيله لدار البقاء )
مُقدّمة:
نحنُ البشر بحاجةٍ دائمة لمراجعة استذكاريّة لبعض الشخصيات الثقافيّة التي غيبها الموت وما زال صدى أثرها الثقافي يتردد بيننا. وأنا هُنا لستُ مِن مُحبي البكاء على الاطلال أو التحسر على اللبن المسكوب، لكنّني أغتنم هذه الفرصة للكتابة عن شخصيّة كهنوتيّة وأدبيّة وثقافيّة رائعة.
وددتُ في هذه الصفحات أنْ أفيَّ حق رّجل، عاش حياته كشمعةٍ تشتعلُ وتتوهج في سبيل كنيسة العراق وشعبه وكنيسة المسيج الجامعة.
اليوم تحديدًا 15/10 تمرّ علينا الذكرى الخامسة والعشرون، لرحيل الأب يوسف حَبّي إلى دار البقاء. ولأنَّ الوفاءَ ميزة مِن ميزات الأحرار وشيمةُ الكبارُ، ارتأيت أنْ أفيَّ العلاّمة الخالد بعض حقه، لما لهُ من دَين في عنقي وعلى سواي!. فهو صاحبُ فضلٍ في مسيرتي الإنسانيّة والثقافيّة والكهنوتيّة،وأوّل من شجعني مع الأب بطرس حدّاد على الكتابة والتّأليف والنشر، وكان خير مرشدٍ لي، وأوّل مؤلفاتي ( لا للهجرة) كانَ مِن مراجعته واشرافه.
الأب يوسف حَبّي، علمٌ مِن أعلام العراق وكنيسة المسيح، أَلَّفَ وترجمَ وترأسَ هيئات ومؤسّسات عدة. عملَ في مشاريع عديدة، بعضها يرتبط بالكنيسة، وبعضها الآخر ببيت الحكمة والمجمع العلمي العراقي ومؤسّسات ثقافيّة كثيرة في الداخل والخارج. كانَ يحاول أن يغطي مجالات كثيرة، وكأنّهُ في سباقٍ مع الموت!.
وِلدَ فاروق داؤد يوسف حَبّي في مدينة الموصل الحدباء بتاريخ 23 كانون الأوّل مِن عام 1938، أقتبل سرّ العماذ في كنيسة مار أشعيا بتاريخ 9 شباط 1939. دَرَسَ الابتدائيّة في مدرسة كنيسة مار يوسف في حي القلعة بالموصل حتّى الصف الثّالث، ثمَّ أنتقل إلى مدرسة الطّاهرة مواصلاً تعليمه. سنة 1950 دخلَ المعهد الكهنوتي البطريركي في الموصل، فكانَ مُنكبًا على الدراسةِ ومولَعًا بالأدب العربي ومشغوفًا بالشِّعر الغربي، ومُنذ ذلكَ الوقت وبحسب شهادة الأب بُطرس حدّاد وأخرينَ، شرعَ في الكتابة ونظم الشِّعر؛ حَتّى أنّهُ ترجم قصائد ايطاليّة إلى العربيّة وكتبَ بعض المعلقات الأدبيّة قبل رحيلهِ لدار الخلد الأبدي.
لِشدّة ذكائه وتفوقه على زملائه، رشحتهُ إدارة المعهد الكهنوتي مع زميله (ناظم ميخائيل) الذي عرف فيما بعد بــــــــ ( الأب بطرس حدّاد) لاكمال الدراسة في الكلّيّة الأوربانيّة في روما، فسافرا معًا صيف 1954 إلى المدينة الخالدة، وهناكَ وجد الإكليركي فاروق المجال واسعًا لنهل العلوم والمعارف وتعلّم اللغات.
اِرتَسَمَ كاهنًا بتاريخ 20 كانون الأوّل 1961 في روما، وحصل على ا"لليسانس" في الفلسفة واللاهوت، ثمَّ حازَ على شهادة الدكتوراه في القانون الكنسي من جامعة اللاتران عام 1966، ودبلوم في وسائل الاعلام من جامعة بروديو عام 1962 ، ودبلوم في الاجتماعيات مِن معهد جيسك عام 1966. عادَ بعدها إلى مسقط رأسه( الموصل)، فخدم في دار المطرانيّة وكنيستيّ مسكنتا والطاهرة. عُيّن للخدمة في كنيسة مار أفرام في الموصل الجديدة، ثمَّ خدمَ الكنيسة الكلدانيّة في محافظة دهوك لمدة سنتين، عاد بعدها إلى الموصل، فكانَ مثمرًا كعادتهِ في كُلّ الرعايا الّتي خدم فيها.
لما اعتلى الكرسي البطريركي البطريرك الطِّيب الذّكِر البطريرك مار روفائيل الأوّل بيداويد سنة 1989، طلبهُ للخدمة في الأبرشيّة البطريركيّة ببغداد، وكانَ البطريرك صائبًا وموفقًا فيما فعل؛ فالمثقف لا يجلب إلّا المثقفين، والحكمة تقول:" قلُ لي مَن هم العاملون معكَ أقولُ لكَ مَن أنتَ".
قدِمَ الأب حَبّي إلى بغداد سنة 1990، فانيطت به خدمة كنيسة القلب الأقدس في حي الشماسيّة بمنطقة الصليخ منذ مُنتصف عام 1990 إلى عام 1993، وهو من أبدل تسميتها إلى كنيسة الحكمة الإلهيّة. وبدوري أرى أنَّ التسمية الجديدة غريبة عن مُحيطنا وعرفنا الكنسي العراقي، فجلّ كنائس بغداد لها شفيع تحتفل بذكراه سنويًا، إلّا هذه الكنيسة!. ولعلَّ الأب حبّي اشتق التسمية من جامعة الحكمة في منطقة الزعفرانيّة ببغداد التي كانت تعود للآباء اليسوعيين تخليدًا لذكراهم، بعد أن نالهم التهجير القصري. والله أعلم، وتجدرُ الإشارة سبق وأن خدمتُ في هذه الكنيسة والمعهد البطريركي وكنيسة الشالجيّة لمدة عامٍ وألفت كتيبًا عنها، فكانَ صدى أثر الأب حَبّي تتناقلهُ الأفواهُ!.
عام 1991 افتتح البطريرك الراحل بيداويد- رحمه الله- كلّيّة بابل للفلسفة واللاهوت في منطقة الدورة /حي الميكانيك /بغداد،فأُنيطت عمادتها للأب حبّي الذي بذل جهودًا جبارة مِن أجل تقدمها وديمومتها. كان يُدرّس فيها 23 مادة متنوعة: الفلسفة على تنوعها، الأخلاق، الإعلام، اللاهوت على تنوعه، القانون الكنسي، مقدّمات فلسفيّة ولاهوتيّة، علم الإجتماع.
كان رحمه الله رمزًا للنشاط والفعاليّة، منفتحًا على الآخر، مُرحبًا بالجديد، ساعيًا إلى التطوير، حلقة وصل بين أشخاص ومؤسّسات وجمعيات، همزة وصل بينَ أديانٍ، ساعيًا إلى التقريب بينَ وجهات النّظر، باحثًا في المشترك بينَ النّاس، عضوًا لامعًا في مجمع اللغة السريانيّة منذ عام 1972، وعضوًا في المجمع العلمي العراقي منذ عام 1978. ولما أصبح مجمع اللغة السريانيّة هيئة مندمجة مع المجمع العلمي العراقي عام 1996 بعد تجديده صار رئيسًا للهيئة عام 1996. مسؤولُ دائرة الفلسفة وعضو دائرة العلوم الإنسانيّة ودائرة المصطلحات في المجمع العلمي العراقي. عضو نقابة الصحفيّين العراقيّين منذ عام 1972. كما أسندت إليّه مُهمة النيابة البطريركيّة للشؤون الثقافيّة، ونظرًا لتخصصه في القانون الكنسيّ مارسَ الخدمة في المحاكم الكنسيّة في الموصل و بغداد.
كَانَ الأب حَبّي أحد مؤسسي مجلة "بين النهرين" ورئيس تحريرها منذ عام 1972 إلى يوم وفاته، وأحد أركان هيئة تحرير مجلة "نجم المشرق البطريركيّة". حبّر َ مقالات رصينة في مجلة الفكر المسيحي، مجلة مجمع اللغة السريانيّة، مجلة المجمع العلمي العراقي، آفاق عربية، المورد، التراث الشعبي، الأقلام، المثقف الثقافي، الجامعة ( الموصل)، مجلة الباراسيكولوجي التي كان يرأس تحريرها أستاذنا الراحل د. الحارث عبد الحميد،مجلة الحكمة، اصدرتها كلّيّة بابل للفلسفة واللاهوت في عهده، زدّ إلى ذلك مقالات وأبحاثًا في مجلات أجنبية وعربية. ومن أهم المجلات العربية: المشرق البيروتيّة، الرسالة البيروتية، المسرة، اللقاء، النشرة السريانيّة، حياتنا الليتورجيا.
نَشَرَ مئات المقالات والبحوث الرصينة بلغاتٍ عدة، وله ما يزيد عن 35 مؤلفًا بين تراجم وتحقيق وتأليف، أهمها: دير الربان هرمزد 1980، دير مار كوركيس 1980، دير مار ميخائيل 1986، ملحمة الثمانين (منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقيّة، بغداد 1986)، خلجات، بغداد 1995، نشوة القمم، بغداد 1996، الشموع الأوّلى، بغداد 1998، مجامع كنيسة المشرق 2002، منشورات جامعة الروح القدس، بيروت.
ومن أهم تراجمه وتحقيقاته: رحلة اوليفييه إلى العراق ( ترجمة وتعليق) منشورات المجمع العرلمي العراقي، بغداد 1988، كتاب الدلائل للحسن بن البهلول ( تحقيق وتعليق)، منشورات معهد المخطوطات العربية 1987.
فهرس المؤلفين لعبديشوع الصوباوي ( تحقيق وترجمة وتعليق)، منشورات المجمع العلمي العراقي، بغداد 1986. علم آثار بلاد النهرين لمؤلفه جان كلود ماكرون (ترجمة)، الموسوعة الصغيرة، بغداد 1986. دراسّات إنجيليّة، تأليف كسافييه ليون- دفور ( ترجمة وتعليق، الجزء الأوّل 1988. قصائد إيطالية ( ترجمة وتعليق) بغداد 1995.
وصيتهُ:
*****
جاء في وصيته التي حررها في بغداد بتاريخ 7/7/1997
"....حقٌّ وحبٌّ وحياة، شعار حياتي، أملي أن يكون شعار النّاس أجمعين.
أحببت الإنسان في كلّ مكان وكلّ حين.
أحببت بلدي، كنيسة المشرق العزيزة.
أحببت أهلي وأقربائي، واعتبرت الأصدقاء، بل كلّ الناس أهلي وأقاربي.
أحببت كهنوتي وعملي والثقافة...."[2].
كان الأب يوسف باحثًا جليلاً ومفكرًا قل نظيره ولاهوتيًا رفيع الشّأن، وكاتبًا لا يشقُ لهُ غبار، ومتحدّثًا لبقًا. وضع في مؤلفاته عصاره أفكاره وخلاصة أبحاثه وسهره مع دراسته رغم ضعف بصره شبه المُعدم.
آخر مقالة دبجتها أنامله الذهبيّة، كانت بعنوان "يوبيل على العالم" المنشورة في مجلة نجم المشرق البطريركيّة سنة 2000، سلمها لإدارة المجلة عشيّة سفره إلى لبنان عن طريق عمان مساء يوم السبت الموافق 14/10/2000، وبعدها استقلّ المركبة، لأننا كنا في زمن الحصار الاقتصادي، وبعد عدة ساعات تعرض لحادث مؤسف وغامض أودى بحياته قبيل وصوله إلى عمان، العاصمة الأردنيّة.
انتقل الأب حبّي إلى الأخدار السماويّة إثر حادث طريق مروّع في السيارة التي أقلّته من بغداد إلى عمان فجر يوم 15 تشرين الأول 2000، فاهتز العراق والعالم، شعبًا وكنيسةً لنبأ وفاته، وعم الحزن حياة كُلّ مَن عرفه عن قربٍ أو من بعدٍ. أقيمت له مراسيم الجناز مِن قبل الحكومة والكنيسة تليق بمفكرٍ أغنى البلد والكنيسة والحياة مِن مواهبه وأفكاره وأبحاثه وكتاباته، لم يتوانَ عن نقد مبطنٍ بشجاعةٍ.
ويخالجني شك أنَّ الرحيل الغامض الذي أدى بالمصرع المفاجئ للعلاّمة الأب حبّي لا يبدو كامل البراءة حتّى الآن وتحوم عليه الشكوك. إنَّ رحيله الغامض يمثل خسارة كبيرة للعراق وللعراقيين والعالم... ولكنيسة العراق تحديدًا.
شغلَ الأب حَبّي مناصب عديدة أهمها:
عمل سكرتيرًا لمطرانيّة الكلدان في الموصل للفترة 1966-1980، ومحاضرًا للفترة 1975-1981 في جامعة الموصل، وأستاذًا في المعهد الشرقي في روما منذ 1981 لحين وفاته. أسند له منصب عميد كلّيّة بابل للفلسفة واللاهوت منذ عام 1991- 2000، رئيس لجنة التثقيف والاعلام في المؤتمر الكلداني الأوّل في العراق سنة 1995، رئيس تحرير مجلة بين النهرين التراثية لمدة 27 سنة،
كانَ عضوًا في المؤسسات التّالية:
مجمع اللغة السريانيّة ورئيسه منذ عام 1996، مجمع القانون الشرقي منذ عام 1975، جمعية التراث المسيحي والدراسات السريانيّة منذ عام 1984، المجمع العلمي العراقي، الجمعية الدولية لتاريخ الطب في باريس منذ عام 1982، اتحاد الكتّاب والأدباء العراقي والعربي، جمعية الفلسفة العراقيّة واتحاد المؤرخين العرب، نقابة الصحفيين العراقيين. وأحد أعضاء اللجنة المركزيّة عدة سنوات في المجمع، عضو هيئة المؤتمرات السريانيّة في العالم، عضو هيئة التراث السرياني في لبنان، عضو رابطة معاهد وكلّيّات اللاهوت في الشرق الأوسط، أمين سرّ بطاركة الشرق الأوسط الكاثوليك، النائب البطريركي للشؤون الثقافيّة للكلدان.
أشرفَ على أطاريح ماجستير ودكتوراه في روما، وناقش في كلّيّة الآداب/ جامعة بغداد ثلاث رسائل ماجستير وخمس أطاريح دكتوراه، وهو صاحب فكرة موسوعة كنائس المشرق. نالَ التكريم مِنَ المعهد الشرقي في روما، وكذلكَ مِن جامعات وجمعيات أجنبية، فضلاً عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة في العراق، والاتحاد العام للكتّاب والمؤلفين في العراق. شاركَ في مؤتمرات عالميّة وندوات فكريّة عراقيّة وعربيّة، وقدم بحوثًا ومحاضرات ودراسات.
اجريت لهُ مقابلات تلفزيونيّة في" العراق، لبنان، الأردن، مصر، سوريا، ليبيا،تركيا، الدانمارك ، إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، السويد، انكلترا، الهند[3].
كان للأب حَبّي الدور البارز في إقامة مهرجان مار افرام وإسحق بن حنين سنة 1972. كما أقام مهرجان نوهدرا في دهوك للمرّة الأوّلى في 27/8/ 1986، ومؤتمر (وجه الله) في بغداد، الذي نظمته كلّيّة بابل بالتعاون مع المعهد الكهنوتي للفترة من 3-7 ايار 2000، وقد ادركت تلك الفترة. كما له مشاركات كثيرة في مؤتمرات عالميّة متعددة.
اتقن اللغات التالية: العربيّة،السريانيّة،الفرنسيّة،الإيطاليّة،الإنكليزيّة،الألمانيّة واللاتينيّة، وملمًا بالعبريّة واليونانيّة.
ولعلّي أفشي سرًّا هُنا[4] : إنّني لم أكن مدينًا لشخص في حياتي الثقافيّة والكهنوتيّة مثلما هو الأمر بالنسبة للأب المفكر يوسف حَبّي؛ فإليه يرجع الفضل في جدولة ذهن تلاميذه وترتيب أولوياتهم الفكريّة. وما كتبت في حياتي شيئًا أعتز به إلّا وتذكرت أستاذنا الراحل، الذي كان بحق ظاهرة لم تتكرر مِن جديد. إنّه شخصيّة استثنائيّة وموهبة فريدة بكلّ المعايير والمقاييس.
الأب حَبّي والنضج الإنساني
لقد عرفتهُ مؤمنًا بالإنسان، فعرف كيف يمضي في دروب الإنسانيّة، وكيفَ يقيم وزنًا لكرامة الإنسان وقيمه الوجوديّة. مؤمنًا بالعمل الجماعي، فأسس كوادر عمل خورنيّة- كنسيّة، وربّما هو أوّلُ المؤسسينَ لها في العراق. جمعَ حوله المُثقفين والمُبدعين، فعملوا معًا كخلايا نحل بلا مللٍّ وبِلا كللٍّ!. كان يؤمن بدور العلمانيين في الكنيسة، فرأينا أنَّ مُعظم أصدقائه والعاملين معه كانوا من العلمانيين،منهم كُتّاب وأدباء وفنانون وفلاسفة.
تبنى عراقًا حرًا ديمقراطيًا، متحضرًا، خاليًا مِنَ التعصب الديني والإنغلاق العشائري والاستبداد السياسي. أختار لنفسه مسارًا أبى فيه أنَّ يتحول لذيل حاكم وبوق نظام، كما فعل البعض، ليبقى الشامخ، العملاق، المتمرد، المنور بأفكاره التقدميّة حتّى بعد الممات.
امتازت حياته بنضج إنساني، عاش حياته لا بالطول ولا بالعرض بل بالعمق. إنّه ذلك الكاهن العراقي الذي ارتبطت به قلوب العراقيين لأنه دخلها بغير استئذان وبقي فيها إلى الآن. كان يُردد على مسامعنا مرارًا وتكرارًا:" يا كهنة المستقبل لا تنسوا أنكم ناس، قبل أن تكونوا كهنة، عيشوا انسانيتكم كما عاشها كاهننا الأمثل يسوع الانسان".
إنّهُ ظاهرة كهنوتيّة فريدة في ذاتها، وموسوعة ثقافيّة تمشي على قدمين، مهما اختلف البعض معه، فإنَّ التشكيك في قيمته يبدو نوعًا من العبث، كما أن المساس بسمعته هو تطاول لا يليق من بعض الذين كانوا يضمرون له الغيرة والحقد، فإذا أخذنا الأب يوسف حبّي الكاهن والإنسان فقط، دونما الغوص في الأفكار والأعماق والآفاق والنشاطات والكتابات، فإننا أمام عقليّة فريدة للغاية وروحانيّة عميقة تجلت في شخصيّة قوية ومواقف نبيلة جليلة، وخدمات كهنوتيّة سامية، تكللت في القدرة على التضامن والإندماج بشكلٍّ إستثنائي، لا نكاد نجد لها نظيرًا، فالرّجلُ كَانَ يفهمُ بعينيه، ويستقبل بأذنيه ويرصد كُلّ ما حوله في دقةٍ بالغةٍ وذكاء حادٍ ورؤية شاملة ولمسةٍ حنانٍ عبقريّة إنسانيّة لا تخلو مِنَ الرحمة والحُبِّ والإبداع....
ولاشكَّ أنَّ مسارَ حياته، يعتبر نموذجًا غير متكرر، ولا أظن أنَّ كاهنًا في تاريخ الكنيسة العراقيّة الحديث والمعاصر نالَ مِن حبِّ النّاس وذيوع الشهرة وانتشار الاسم والإحترام والتكريم، مثلما تحقق مع الأب حبّي.
لقد أدركتهُ مهووسًا بالقراءة والمواصلة الثقافيّة والمواكبة والتجدد، فكان يكرر على مسامعنا: "واحدكم بمجرد أن أصبح كاهنًا حتّى تركَ القراءة وأهمل الثقافة لينغمس بالعمل الخورني ....مجترًا ما تعلمه، إلى أنْ يتحول الى بركة راكدة!. تعلموا أن تتواصلوا ثقافيًا".
كانَ موسوعيًا أشبه بالمكتبة المتكاملة، مُحبًا للثقافة والتعلّم، فبرز على الساحة الدينيّة والثقافيّة والفكريّة.
ولا غرو بقولي: كانَ مرجعًا ثقافيًا للكثير مِن علماء العراق في المجمع العلمي العراقي وبيت الحكمة؛ بحيث تهافتَ عليه الكثير مِنَ العلماء والباحثين وهم يمنون النفس بأنْ يضع لهم مُقدّمة لكتبهم وأبحاثهم لكي تأخذ صداها، لما كان يتمتع به الأب الفقيد مِن اسم عريق وصيت رفيع وثقل ثقافي وانجاز علمي رصين بين مثقفي العراق والوطن العربي.
وليس مُغالاةً إنْ قلت: مِن أجل عيون د. حبّي، كرسَ الكثير مِن أعضاء المجمع العلمي العراقي وكبار الأساتذة والفلاسفة والمختصينَ في جامعات بغداد وقتهم للتدّريس وتقديم المحاضرات في كلّيّة بابل الحبريّة للفلسفة واللاهوت، بعد أن نمت وتقدمت بجهودهِ الجبارة وإدارته الحكيمة مع سواه، ومِن هؤلاء الأستاذة: فاتنة حمدي،سهيلة جواد، الأستاذ فلاح،د. محمد الصندوق، د. فيصل غازي، د. الحارث عبد الحميد، د. طه النعمة، حسام الالوسي، والأسماء لا تحصى، فكان لنا الشرف أن نتتلمذ على يد خيرة أساتذة العراق يومذاك، ناهيكَ عن كهنة أجلاء ورهبانيات كرمليّة، دومنيكية، مُخلصيّة...
كان يؤمن بتسمية (كنيسة المشرق) أو كنيسة العراق، فوجدته من المنادين بالوحدة الكنسيّة. يا ليته كان اليوم حاضرًا لأذرف الدموع دمًا على تناحرنا وتمزقنا الذي أضعف قوانا وجعلنا أقلية مسيحيّة ضعيفة وممزقة!، ولقال كلمة حقّ تفتح البصيرة، توسع الآفاق وتنير الاذهان وتُجلجل العروش.
إلى يومنا هذا، تحوم في ذاكرتي صورة مكتبته الغنية بالكتبِ والمخطوطات والتحف والاثار في صومعته بكلّيّة بابل، وأتحير في وصف تلكَ الصومعة. أهي متحفٌ؟ أم مكتبةٌ متكاملة؟!. فعلى الرغمِ مِن جسامة مسؤولياته واِنشغالاته وقحطِّ الوقت وضعف نظره وصعاب حياته...، إلّا أنّهُ كانَ يسرق ذاته ليطالع آخر الأبحاث والدراسات والإصدارات. وكانَ يقول ليّ ولغيري مِنَ الطلبة :" طالعوا إلى أن (تنعمي) عيونكم، ولا تكونوا مِن أصحاب الادمغة المتحجرة والكروش الكبيرة والتقد الهدام". كما عرفتهُ كاهن صلاة؛ ملاكًا يعتلي المذبح سواء في مُصلى الكلّيّة أو في كنيسة الشهيد مار كوركيس في حي سومر ببغداد، حائكًا بإبرة ثقافته أجمل الحكم ثوبًا للقرّاء، مُستقيًا مِن خبراته وروحانيته أعمق المواعظ، يلقيها بمفرادات سلسة تجد تقبّلاً واِستحسانًا.
أنذر محبيه الكثر أنّ موعدَ سفره الأخير قد دنا، وأنّهُ سيقفل به سجل ترحاله الطويل، إذ حصل ذات يوم، إنّني قدمت باشراف الأب حبّي بحثًا عن هجرة المسيحيين من العراق، اسعفني استفتاء اجريته شخصيًا في كنيسة مار كوركيس بمعية الأب الفقيد، وبعض كنائس بغداد، فلقيته مُعجبًا به ومتحمسًا لهُ، ونصحني بطباعته بعد أن نقحه لغويًا. نشرته على نفقة الأب( البطريرك) لويس ساكو، مدير المعهد الكهنوتي يومذاكَ. فقال ليّ الأب حبّي: "ستقدم البحث لمرحلتك[5] كمحاضرة بعد عودتي مِنَ السفر، إن عدت!". وكأنَّ قلبه كانَ يعلم أنّهُ سيذهب ولن يعود!!.
قبيل يوم واحد مِن سفره الأخير إلى عمان، كنا نصغي له وهو يلقي علينا محاضرة عن (فلسفة الاخلاق) في كُليّة بابل، وحين نهض ليهمّ مُغادرًا القاعة، حدّثنا قائلاً:" البارحة أتصل بي الكثيرون مِنَ المجمع العلمي وكُتّاب وكهنة وأصدقاء مِن داخل العراق وخارجه، وقالوا لي: "أبونا أنت ما متت!، يقولون أبونا حبّي مات". ضحك رحمه الله ببراءة الأطفال، واستطرد بلهجته الموصليّة الجميلة:" أمنيتم يغشعوني ميت"،وأضاف: "حَبّي لا يموت". ابتسم وختم حديثه قائلاً: "أحبكم". رحل الأب حبّي دون أن يودعنا إلى دار الخلد للأبد؛ حيث لا يعود النّاس!.
ذات صباح اجتمعت إدارة الكلّيّة مع الطلبة في قاعة المحاضرات الكبيرة، دخلَ الأب الراحل القاعة، رحب به الطلاب والاساتذة وقوفًا، وسرعان ما اختفى عن الأنظار بعد ذهابه للحديث مع معاونه في مؤخرة القاعة. بدأت العيون تنظر هنا وهناك والافواه تتهامس: أين ذهب أبونا حَبّي؟، وعرفنا أنه يجلس في المقاعد الخلفية، وكأنّي به أراد أن يعطينا شهادة حياتيّة ودروسًا واقعيّة عن التواضع، لئلا نتصدر الاحتفالات والجلوس في المقاعد الأوّلى. وحين اعتلى المنصة، قال وهو ضاحكٌ مرحٌ كعادته: "أعرف أنّ عضلات رقابكم قد تشنجت بغية البحث عني، ولكن اعلموا جيدًا إنكم أنتم مِن تصنعون المكان لا العكس".
في مؤتمر (وجه الله) شهدتُ بعيني وسمعت بأذنيّ كيف أنَّ أحد الحاضرين مِنَ المجمع العلمي العراقي وهو الفيلسوف حسام الالوسي وصف الأب حبّي بـ:" الفيلسوف الكبير والنجم الساطع في سماء العراق". وكيف وصفه الشيخ العلاّمة جلال الحنفي شيخ جامع الخلفاء ومفتي الجمهويّة العراقيّة وقتذاكَ: "الفيلسوف العراقي العلاّمة، همزة الوصل بين الأديان والحضارات والبلدان. كنز من كنوز العراق، بل نعمة العلي للعراقيين". وكيف أشادَ به د. الحارث عبد الحميد: شكري ومحبتي وتقديري لأخي الكبير وصديقي العزيز- أخي في الإيمان، وصديقي في التقوى ومحبة الواحد الأحد الدكتور يوسف حبّي..."[6].
ولم يغبْ عن ذهني أبدًا ما حصل في مؤتمر الكنيسة من أجل السّلام ورفع الحصار عن شعب العراق المظلوم، الذي عقدت جلساته في فندق بابل ببغداد في آيار سنة 2000 ؛ إذ تحدث المذيع القدير شمعون متي قائلاً: "الأخوة الحضور (العراقيون) أرجو الخروج من القاعة لاتاحة المجال للوفود العربية والغربية والضيوف المشاركة بالجلوس. واستطرد بعدها قائلاً: "والآن كلمة الكنيسة الكلدانيّة يلقيها عليكم الأب د. يوسف حبّي المحترم ليتفضل". انتصب الأب حبّي وقال بنبرة إنزعاج بلهجته الموصليّة التي عُهد بها:" الرجاء لا تتركوا القاعة.العراقيون ليسوا مسحوتين( مطرودين)". وأضاف رحمه الله:" كلمتي هذه لا تمثل الكنيسة الكلدانيّة وحسب، بل كنيسة العراق، لا بل شعب العراق بأجمعه".
بوفاته جُرحت الكلمة وصمت القلم وترملت الثقافة العراقيّة، حتّى أنّ النّاس على اختلاف فئاتهم ومشاربهم توافدوا في يوم تشييعه مِن مختلف المحافظات العراقيّة، من الشرق والغرب بكثرة عجيبة، وكانَ الوجوم والحزن يُخيّمان على الجميع. لقد غاب العالم العراقي!. كانَ الكثيرون يبكون بدموع تصهر القلب، يحاولون لمس جثمان أبيهم الروحي وأستاذهم الجليل، الذي حملهم في حُبٍّ كبير سنوات طويلة في صلاته وقلبه وفكره وكتاباته ومحاضراته.
حُمِل النعش على الأيدي، وطافوا به مِن كلّيّة بابل على أنغام تراتيل طقوس الجنازة الكنسيّة، في مسيرة شعبيّة في الطرقات بين كلّيّة بابل وكنيسة الرسولين، يتقدمهم رجّال الدين المسيحيون والمسلمون وغيرهم وأعضاء المجمع العلمي العراقي وشخصيات مِن بيت الحكمة، وعمداء كلّيّات وجامعات ومثقفون وموفدون مِن الخارجِ.... رُفعت خلال طواف الجنازة صوره في زمنٍ لا يحق للمرء ألا رفع صورَ رئيس البلاد!.
انطلق النعشُ، وانطلقت معه الصيحات والدموع وسط الآلاف الواجمة والباكية، علامات الصدمة والتأثر بادية على الجميع. وصل النعش إلى كنيسة الرسولين مار بطرس وبولس ومن ثمَّ إلى الكنيسة التي خدمها - مار كوركيس. وهناك تمت مراسيم صلاة الجناز على جثمانه الطاهر. تُليت رسائل وبرقيات تأبين من مختلف أرجاء المعمورة؛ مِن بابا الفاتيكان، ورؤساء دول وكنائس وشخصيات علميّة وأدبيّة وثقافيّة حكوميّة وفنيّة.
أُنزلَ النّعش في أرضٍ تقع في مدخل كنيسة المقبرة الكلدانيّة- طريق بعقوبة، بجوار شاهد قبر الأب فيليب هيلاي، خلافًا لوصيته، حيث كان قد أوصى بأنَّ يدفن في كلّيّة بابل، لكن بعض الرؤساء الروحيين كانوا يخشون أفكاره ويتضايقون مِن محبة النّاس وشعبيته بينهم، خشية أن يتحول قبره إلى مزار، ففضلوا دفنه هناك.
لقد جمع الأب حبّي ووحد الجميع حتّى في مماته. وليس مِنَ المغالاة إن قلت: إنّ الحياة بعد رحيل الأب يوسف حَبّي اختلفت عندي عنها في حياته، فلقد خبا النجم، وخفت الضوء، ورحل العالم الجليل إلى حيث لا يعود النّاس!. لقد رحلَ المآسوف عليه أشد الأسف قبل آوانه، وهو في أوج عطائه، والعراق بأمس الحاجة لعالم مثله، سيّما بعد أن تحسن نظره. لعلَّ ربّنا دعاه ليتمتع برؤية ملكوته البهي!.
بعد رحيله عن عالمنا هذا، وللأسف أطلق عليه البعض مِن ضعفاء النفوس شائعات مُغرضة ومغزيّة لا تليق بكاهنٍ إنساني ومفكر عبقري، كانَ ذلك لتشويه اسمه العريق وتحجيم شعبيته، بعد أن فشلوا في حياته بحياكة المؤامرات له؛ ولكن الذين صلبوا السيّد المسيح ظنوا أنهم بموته سيمحون اثاره، فانقلب الصليب مِن لعنة إلى بركةِ، وهكذا هي الحال مع الأب يوسف حبّي، إذ سطع نجمه أكثر ممّا كان على قيد الحياة.
أدركتُ الفقيد كثير العناد في الحقِّ، صاحب موقف قاطعٍ وقرار قطعي، بيدَ أنّهَ طيب القلب، حلو اللسان، سريع البديهة، ودود مع النّاس، إنساني الطلّة، فاهمٌ ومتفهم للآخرين، يتقن فنّ التواصل مع الآخر على تنوعه وإختلافه. مؤمنًا بالتنوع والتعدديّة والإختلاف. مثقفٌ عالم، باحث فيلسوف ولاهوتي أديبٌ مواكب، إنسان متجدد في اواخر الخمسين، صاحب طلة مشرقة تصحبها اِبتسامة صادقة ونكتة تحمل المعنى واراء تغني الفكر وتنعش الذات، مشجع لكلّ عمل فيه بصيص أمل وفائدة خير ولمسة إبداع.
ولكَم كنتُ أتمنى أن تفرد كنيسة العراق أو الحكومة العراقيّة كتابًا خاصًا يروي سيرته. وكَم وَدِدتُ أن أرى له تمثالاً في كلّيّة بابل التي بذل لاجلها الغالي والنفيس، فعلى عهده غدت كلّيّة مرتبطة بجامعة بروبغندا الإيطاليّة سنة 1998. وكَم حلمت أن أرى له تمثالاً في أحد شوارع الموصل أو بغداد أو العراق، لأنّهُ أحد رموز العراق الفكريّة، وسفير لكلّ العراقيين في المحافل الدوليّة، كالعلم الخفاق فوق الساريات. مبدع طوى صفحاته ومشى إلى دنيا الخلود، بعد أن أصبح الخلود بعينه.
حفرَ صورته فوق المنابر الكنسيّة الأدبيّة والعلميّة، نثر كلماته كما ينثر الفلاح الحقل بالبذور. آمن بالكلمة الحرّة، المتحررة والمُحررة، إيمانًا منه أنّ الكلمةَ كانت في البدء وستبقى سرًّا يعجز الوجود عن فكّ أسرارها.
رحم الله الأب يوسف حبّي بقدر ما غرس في قلوبنا المحبّة، وفي عقولنا البصيرة، فهو لا يزال علامة مُضيئة في حياتنا الكهنوتيّة والثقافيّة، ونموذجًا للمرء العراقي الذي يعتصم بالرؤية الموضوعيّة والفكرة العميقة والكلمة البنّاءة الحُرّة،عارفًا التوحيد لا التفرقة، محتضنًا الجميع.
تغمد الله الأب حبّي برحمته الواسعة بقدر ما قدم لشعبه وبلده وكنيسه مِن أعمال جليلة سوف تبقيه دائمًا في ضمير التّاريخ المعاصر لكنيسة العراق وشعبه الأصيل.
إنه الأب د. يوسف حبّي الذي عرفته عن قربٍ، فوجدتُ فيه الكاهن الغيور والعراقي المحب لبلده وشعبه وكنيسته، تجاوز الخطوط الحمراء في نقد الظلم والفساد، وخرج عن المألوف في أفكاره المكتوبة والمنطوقة، فنَشَرَ أنواره المضيئة المستمدة مِن تعاليم الإنجيل، ولم يكن كاهنًا تقليديًا أو مفكرًا طيعًا بكلّ المعايير. بل كاهنًا مثقفًا معجونًا بالكلمة، استقى مِنَ الكلمة الأزليّة التي ترعرعت في النفسِ فضاءات مشرقة منفتحة على نوافذ عديدة، ومفكرًا حلّق باجنحة المحبة، يُغرد زبدة الأفكار، تحلّيقًا بأجنحة، لا بجناحين فحسب، وفي البصر الجديد منفتحًا على آفاقٍ واسعة رحبة بألوانٍ متنوعة.
بعد هذه الصفحات، أتراني أنعى يوسفًا إلى كلّ الناس؟، لربّما. ولكني أنعاه، بالأخص إلى محبيه. إنّه الأب يوسف حَبّي الذي كانَ ولا يزال واجهةً عراقيّة مشرقة في كلّ زمان، لا سيّما في هذا الزمان الرديء.
جاء إلى الحياة كنسمة، وعلى هذه الشّاكلة غادرها، لنفتقد كاهنًا ومفكرًا وعالمًا كان أيقونة جيل الستينيات.. رحمه الله ونفعنا بصلواته. آمين.
هذه الصورة التقطت العام الدراسي 1998- 1999 في المعهد الكهنوتي البطريركي/ ببغداد
يظهر كاتبُ هذه السّطور عن يمين الصورة.
مرثية للأب حبّي كنتُ قد نشرتها بمناسبة الذكرى العاشرة على رحيله:
رحلَ حبّي فلتتوشح الكتب والمنابر بالسواد، وليعلم الاكليروس والعلماء و الأدباء بات لهم مزار حبر مُقدّس في أرض طاهرة تدعى بغداد.مؤسفٌ حقًا أن نستقبل يوسفَ ميتًا في وطنه، بدلاً من أن نكرمه حيًا.
لا، لم يَمُت ولن يموتَ، فكما أنستاس الكرملي خالدٌ، هكذا سيبقى حبّي. كتبهُ تُخبِرُ عنه، تتناقلها الألسنُ والمجالس الثقافيّة، تتناجى بها القلوبُ، خلجاته تعزفُها آلاتنا الموسيقيّة.
أبكيك يا حبّي في زمنٍ جفت فيه مآقي النّاس، وتحجرت قلوبهم!،
أبكيكَ لأننا ما زلنا مصلوبين على خشبِه القلق من فساد حاكم أرعن في عراق المزيفين.
أبكيكَ بعد أن رافقتُ جثمانكَ في الصّباح كالظلِّ، وفي المساء وقفتُ أنا وغيري أمامَ الشاشة العراقيّة جامدين كالثلج، باكين كالأطفال مِن حرارة الفراق. فمِنَ الصعب أن أتصور أنّ كُلَّ تلك الحركة الّتي فيكَ والنشاط تنتهي إلى سكونٍ.
أبكيكَ.. أنتَ الّذي شئت أن تكونَ للوطنِ لسانًا، يوم لم يكن للشّعبِ وجود لسان.
اضطهدوك وحاربوكَ وأذاقوك مرّ المؤامرات، ولكنّك لم تتراجع يومًا، فما مِن مفكرٍ مصلحٍ عرفت خطواته التراجع. وما مِن كاهن مُحب سمحَ لليأسِ أن يكبّلهُ وللنقود أن تحجب إصلاحه وللمناصب أن تشتريه.
خافَ مِن فكركَ الحاكم وأحبّك المحكوم. ارتعش منكَ الرؤساء، فاحبك المرؤوسون .
حلمت بوطنٍ حرّ ، فحاربوك. حلمت بكنيسة متجددة، فعارضوكَ....
أحببت شعبًا عراقيًا، تمنيته متقدمًا، مستقرًا، سعيدًا، مُرفهًا، فاغتالوك.. .
آهٍ.... مِن مبادئكَ التي كتبتها ونطقتها وعلّمتها، كانت كحد السيف. بل نار محرقةٌ يتلظى فيها كلّ حاكم ظن الديكتاتوريّة عقيدة، لا يرى في مرآة الوطن سوى صورته الوحيدة.
"أبونا" حبّي، يا زينة المآذن والنواقيسَ والكنائسَ والمنابر، يا وردة العراق الفوّاحة، يَا علم كنيسة المسيح في كُلِّ الأرجاء يا مَن زَيَّنتَ أيامنا بورودِ الحروف البنّاءة، وزرعت في طرقاتنا بذار الكلمات الجميلة. أُهديكَ كلماتٌ مِنَ الورد، أفرشُها على شاهد قبركَ، فيه الأسمُ حيٌّ لا يموت، وكيف يموت؟!. وكتاباتكَ شمعة مضيئة نعود إليها كُلّمَا حَلِكَ ليلنا سوادًا وتبعثرت آمالنا سدى!. لقدَ رحلتَ وبقي آثركَ خالدًا لا يضاهييه خلودَ كلكامشَ...
في الواقعِ أنَّ أستاذنا و حبيبنا حَبّي، أَشتعِلَ كبيدرٍ مِنَ القشِّ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ بعد أن ماتَ.
لقد غلبَ الخلود بخلوده... ربع قرن قد مضى ولم ولن ينُسى!.
أرقد بِسلامٍ.... عليكَ رحمة الله.
[1] سبق وأن نشرتُ مقتطفاتٌ مِن هذه الكلمة بعد رحيل الأب حَبّي في مجلة الحكمة التابعة لكليّة بابل، والتي كنتُ أشغل منصب سكرتير رئيس تحريرها وقتذاكَ، وقمت بإعادة نشرها في المواقع الالكترونيّة بعد عام 2003 ، وكذلكَ في الذكرى العاشرة والرابعة عشر لرحيل الأب حَبّي، وقد نشرتها بعد تعديلات كثيرة في كتابي ( مبدعون عرفتهم عن قربٍ- نخيلٌ في بُستانِ الذّاكرة) سيدني 2016
بطبعتيه سيدني وبيروت الصادر عن دار سطور والرافدين.
ويطيبُ لي اليوم نشرها بمناسبة 25 عامًا على رحيلِ علاّمتنا الأب يوسف حبّي عليه كُلّ المراحم.
[2] سبق وأن كان الأب حدّاد قد أطلعني على نص وصيته بخط يد الأب حَبّي، ثمَّ نَشَرَ مقتطفات منها في مجلة نجم المشرق سنة 2000 بعنوان الأب حَبّي وداعًا. وكانَ الفقيد قد أدرج فقرة في وصيته تنص على تخصيص جزءًا مِن أمواله لطباعة مؤلفاته ولمساعدة للفقراء..
[3] هذا ما جاء في كراسٍ صدر في يوم تأبينه بمناسبة الأربعين
[4] تيمنًا بالأب يوسف حَبّي ابدلت اسمي إلى يوسف قبيل سيامتي الإنجيليّة، آملا أن اقدم شيئًا يسيرًا ممّا قدمه، فحسنًا للتلميذ أن يكون مثل معلمه.
[5] المرحلة الثانية في قسم الفلسفة.
[6] أنظر مجلة بين النهرين، العدد 111- 112، ص 202، بغداد 2000.


.png)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق