ترتيب جميع الموجودات في الكون بين العناية الإلهية والتفسير العلمي، مقاربة كوسمولوجية/ د زهير الخويلدي



مقدمة

في قلب الكوسمولوجيا، علم دراسة الكون ككل، يقع السؤال الأزلي عن ترتيب جميع الموجودات: هل هذا الترتيب نتيجة عناية إلهية مدبرة، أم تفسير علمي يعتمد على قوانين طبيعية محضة؟

هذا السؤال يجمع بين الفلسفة، الدين، والعلم، حيث يرى البعض الكون كعمل فني إلهي يعكس حكمة خالق، بينما يراه آخرون كنظام ذاتي التطور يخضع لقوانين فيزيائية.

 المقاربة الكوسمولوجية هنا تتجاوز النظريات المجردة لتستعرض كيفية ترتيب الكائنات من الذرات إلى المجرات، مستندة إلى التوفيق بين الرؤى الدينية والنظريات العلمية.

في عصرنا، مع تطورات مثل تلك المذكورة في كتاب "الخلق الكتابي وعلم الكونيات الحديث"الذي يناقش كيفية خلق الله للكون وتوجيه تطوره، يصبح هذا التوفيق أكثر إلحاحاً.

 سنبدأ بتاريخ الفكرة، ثم ننتقل إلى التفسيرات الدينية والعلمية، وأخيراً نناقش المقارنة والآفاق المستقبلية.


تاريخ الكوسمولوجيا: من الرؤى القديمة إلى العصر الحديث

تاريخ ترتيب الموجودات في الكون يعود إلى الحضارات القديمة، حيث رأى الإغريق الكون كنظام متناسق. أرسطو، في "عن السماء"، وصف الكون ككرة مركزها الأرض، محاطة بكرات سماوية تتحرك بفعل محرك أول غير متحرك، يمثل العناية الإلهية. هذا الترتيب الهيئي يعكس تسلسلاً هرمياً: من المادة الأرضية إلى العناصر السماوية النقية. في العصور الوسطى، دمج الفلاسفة الإسلاميون مثل ابن سينا هذا مع العناية الإلهية، حيث رأى في "الشفاء" الكون كسلسلة من العقول المنبثقة عن الواحد الأول، ترتب الموجودات من العقل الأول إلى العالم السفلي، بفعل قدر إلهي. الغزالي، في "إحياء علوم الدين"، انتقد الفلاسفة لكن أكد على العناية الإلهية كمبدأ يدبر الكل.

في العصر الحديث، مع كوبرنيك وغاليلي، تحول الترتيب إلى نموذج هليوسنتري، ثم نيوتن في "المبادئ الرياضية" رأى الكون كآلة محكومة بقوانين، لكن مع عناية إلهية تحافظ على الاستقرار. هذا التحول فتح الباب للتوفيق بين العلم والدين، كما في مناقشات حديثة حول عدم تعارض الخلق التوراتي مع الكوسمولوجيا الحديثة، حيث يُرى الكون كمنشأ من قبل الله لكن يتطور وفق قوانين طبيعية.  

هذا التاريخ يظهر كيف تحول الترتيب من نموذج إلهي مباشر إلى تفسير علمي يتسع للعناية الإلهية كمبدأ أولي.


العناية الإلهية: الترتيب الكوني كعمل إلهي

في الرؤية الدينية، ترتيب الموجودات يعكس عناية إلهية مدبرة، حيث يدبر الله الكون بكل تفاصيله. في الإسلام، يُشار إلى ذلك في القرآن (سورة الملك: 3-4) بوصف الكون كبناء متناسق دون خلل، يعكس حكمة الخالق. ابن عربي، في "الفتوحات المكية"، يرى الكون كتجليات للأسماء الإلهية، حيث ترتب الموجودات في سلسلة وجودية: من الذات الإلهية إلى العرش، ثم الكرسي، فالسموات والأرض، مع العناية كقوة تحافظ على التوازن. في المسيحية، توما الأكويني في "الخلاصة اللاهوتية" يصف العناية الإلهية كحكومة الله للكون، ترتب الكائنات نحو غايتها النهائية، مستنداً إلى أرسطو لكن مع إله شخصي.


هذا الترتيب ليس عشوائياً، بل غائياً: النجوم، الكواكب، الحياة، كلها جزء من خطة إلهية.

في مناقشات حديثة، مثل تلك في "إثبات أن العناية الإلهية مسؤولة عن تطور الكون"، يُثبت أن تنظيم الكون يتوافق مع الوحي، حيث تكون العناية الإلهية مسؤولة عن تطور الكون من البداية إلى التعقيد. كذلك، في فيديو "دقة الكون ووجود الله"، يُبرز كيف تعكس دقة الثوابت الفيزيائية عناية إلهية، ترتب الموجودات للسماح بالحياة.  هذا الجانب يؤكد على الترتيب كدليل على وجود خالق مدبر.


التفسير العلمي: الكوسمولوجيا الحديثة وترتيب الموجودات

من الجانب العلمي، يُفسر ترتيب الموجودات عبر قوانين فيزيائية، دون الحاجة إلى تدخل إلهي مباشر. نموذج الانفجار العظيم، كما في "علم الكون" على ويكيبيديا، يصف بداية الكون قبل 13.8 مليار سنة من نقطة سينغولارية، متوسعاً ليشكل الهيدروجين، الهيليوم، ثم النجوم والمجرات.

 هذا الترتيب يعتمد على قوانين مثل الجاذبية النيوتونية والنسبية العامة لأينشتاين، حيث تتشكل الهياكل الكونية من خلال التكتلات: من السحب الغازية إلى المجرات، مع المادة المظلمة والطاقة المظلمة كعناصر رئيسية في الترتيب.

في الكوسمولوجيا المعاصرة، كما في "الكون خلقه وإيجاده بين نظريات العلم الحديث ومسلمات الأديان السماوية" (2024)، يؤكد العلم على الانفجار العظيم كأصل، لكن يترك مجالاً للتوافق مع الأديان.

 الترتيب هنا عشوائي جزئياً، مدفوعاً بالاحتمالات الكمومية، كما في نظرية الكون المتعدد، حيث تكون دقة الثوابت نتيجة اختيار من بين اكوان عديدة. هذا يختلف عن العناية الإلهية، لكنه يفسر التعقيد عبر التطور الكوني، من الذرات إلى الحياة عبر الانتخاب الطبيعي.


المقارنة: نقاط الالتقاء والاختلاف في المقاربة الكوسمولوجية

المقارنة بين العناية الإلهية والتفسير العلمي تكشف عن توترات وتوافقات.

في نقاط الاختلاف، يرى العلم الكون كذاتي التطور، بينما الدين يراه غائياً. على سبيل المثال، في مناقشة على ريديت " "من المستحيل التوفيق بين علم الكونيات الحديث واللاهوت العقلي"، يُبرز صعوبة التوفيق بين مركزية الإنسان في الدين واللامركزية في الكوسمولوجيا.

لكن في الالتقاء، كما في هل يشير علم الكونيات الحديث إلى وجود خالق توراتي؟، يُرى الضبط الدقيق للكون دليلاً على خالق إلهي، حيث يتفق الملحدون والمؤمنون على دقة الشروط للحياة.

في الفلسفة الإسلامية، كما في "الكون بين التوحيد والإلحاد"، يُفسر الانفجار العظيم كدليل على الخلق الإلهي، معادلاً بين العلم والتوحيد.

 أما في تغريدة أليكس غراي، يُبرز كيف يتفق العلماء والصوفيون على أصل واحد للكون، مع الإبداع كقوة كونية.

 هذا التوفيق يجعل الترتيب الكوسمولوجي جسراً بين الاثنين، حيث تكون العناية الإلهية المدبرة للكون.

التحديات المعاصرة: الكوسمولوجيا في 2025 وما بعدها

في 2025، تواجه المقاربة تحديات مثل الثقوب السوداء والكون المتعدد. في "تأملات في التوفيق بين علم الكونيات في العصور الوسطى والحديثة"، يُناقش كيف يترك الكون الحديث مجالاً للعجب الإلهي رغم فقدان النظام الوسطي.  كذلك، في تغريدة "مستكشف الفلسفة"، يستخدم بايزيان لإثبات أن الإله يفسر الدقة أفضل من الطبيعة.  التحدي الرئيسي هو العدمية، لكن العناية الإلهية توفر معنى، كما في "المفهوم اللاهوتي للعناية الإلهية".


خاتمة: نحو توحيد الرؤى الكوسمولوجية

في الختام، ترتيب جميع الموجودات في الكون يتحدد بين عناية إلهية توفر الغاية والتفسير العلمي الذي يصف الآليات. المقاربة الكوسمولوجية تظهر إمكانية التوفيق، كما في "علم الكون والدين"، حيث يتكامل الدين مع العلم لفهم الكون.  هذا الترتيب ليس تناقضاً، بل دعوة لتجاوز الثنائيات نحو رؤية شاملة تعزز الفهم البشري للوجود. فكيف يمكن الجمع دون الوقوع غي التناقض بين الاعتقاد الديني والتفسير العلمي؟


كاتب فلسفي

مُحَامي الشَّعب/ حاتم جوعيه



 [ في رثاء  الصديق والأخ  والمحامي الكبير الأستاذ سليمان الياس  سليمان ( ابو عصام ) في  الذكرى  السنوية على  وفاتة - أصله من قرية "الرامة " الجليلية..قرية الشاعر الكبير المرحوم  سميح القاسم وقد سكن في مدينة حيفا فترة طويلة ... وكان رئيسا  فخريا لرابطة الكاراتيه شوطوكان -  والتي كان  يرأسها  ويديرها  بطل الكاراتيه الدكتور جعفر ناصر الدين ، وكنت أنا عضوا فيها  [    


يا رفيقي نحو السُّهَى والمَعالي     خُضْتَ طولَ السنينَ دربَ النّضالِ 

وَلِدَمْعِ الضّعافِ مِنْ أجلِ  حَقِّ       كم  طويتَ الدُّنَى  بحربٍ  سجالِ

مَعْلَمًا  كنتَ  في  طريقِ  كفاحِ...    يا  أبِيَّا  قد  ضَمَّ  اسْمَى الخصالِ  

قُدوةٌ   أنتَ    للمحامينَ    تبقى      للطريقِ   القويمِ    خيرَ    مثالِ..

أنت  أستاذي مُرشدي  وَمناري      في  خِضَمِّ  الحياةِ   نحوَ  الكمالِ 

ويَراع   كرَّسْتهُ   للهدى   وال      النورِ .. دوما  يشعُ   مثلَ  اللالي

بكتاباتٍ  جسًّدْتَ  وضعنا ...عا       لجتَ  فيها  ما  كان  من  إهمالِ 

وحديثٍ    ينسابُ   شدوَ   كنارٍ      هو  زادُ   النفوسِ   دونَ    ملالِ 

كم    قضايا    كسبتها    بكفاحٍ       وحقوقٍ  أرجعتَ  رغم  المحالِ

خضتَ دربَ الحياةِ في كلِّ عزمٍ      لا     تبالي     لنائِباتِ    الليالي

وقطعتَ   السنينَ   كدّا   وجهدًا      أنت لم   تحفل  بالضنى والكلالِ

كم    فقير ٍ   وبائس ٍ   وحزينٍ       فيهِ  أنعشتَ  الروحَ  بعدَ  الذّبالِ

كلُّ   مظلومٍ   أنتَ  ساندتَهُ ، لا       تتوانى عن  حقِّ   ذات  الحجالِ

أنتَ ركنُ الضعافِ ثم المساكي     ن..  وعنهم    بدَّدْتَ  من  أهوالِ

وقضايا  التأمين أنت  لقد   كن        تَ   لها  خيرَ  ذائِدٍ  في  النزالِ

إن   معنى الإباءِ   فيكَ   تجلَّى        قيمٌ    قد   فاقتْ   حدودَ  الخيالِ

وكلامٍ   كالدر   عذبٍ    جميلٍ        قولُكَ  الفصلُ  فاقَ   كلَّ   مقالِ 

أنت   للعلم   شعلةٌ   من   ضياءٍ      فيك تعلو الصروحُ دون اختلال

كنت  شيخَ  المحامين   من   دو      نِ  مِراءٍ  اُلبِسْتَ  ثوبَ   الجلالِ

ومنارَ   الاجيال   نهجًا   وفكرًا       فيك   ما  قد  نرجوهُ  من  آمالِ 

وخبرتَ الحياةَ  طولا  وعرضا       ووزنتَ  الأمورَ   أحسنَ   حالِ

كنتَ تمحُو عن فكرنا كلَّ حزنٍ       وتُلَبِّي   في  الحقِّ   كلَّ    سؤالِ

للمدى  أستاذُ   المحامينَ   تبقى      لا تجارَى  في القولِ   ثم  الفعالِ

ولأجل  المبادىءِ  الذُدْتَ  عنها       قد بذلتَ  النفيسَ  من  كل  غالِ

قيمٌ قد حاربتَ من اجلها دوما        طوالَ    السنين    دونَ   اختزالِ

وأنرتَ  الطريقَ  في كل خطبٍ      أنتَ   حطمتَ    سائرَ    الاقفالِ

وزرعتَ البذارَ في أرضِ شوكٍ    كان خصبًا  قد   فاقَ   كلَّ  غلالِ

كنت في صالاتِ المحاكم رِئبا      لًا  جسورًا... بُوركتَ  من  رئبالِ 

انت لم تغرِكَ الوظائفُ حتى         منصبَ القاضي عُفتَ  بعد  نوالِ 

وتعلمنا   منك    كلَّ    إباءٍ..        كيف نبغي الصعودَ  نحو الأعالي

إنها  الدنيا   في   ثيابِ   رياءٍ        زيفها     يغرينا     بكلِّ      مَآلِ

أنت عاركتها  صغيرًا وكهلًا         وعجمتَ   الايامَ   في   استبسالِ

كنت لحنًا مدى الحياة  جميلا         يتهادى        باليُمنِ      والإقبالِ

طلعةَ  الفجرِ  في  محيَّاك  نلقى      ونشيدَ   الخلودِ    في   استرسالِ

أنت صوتُ الضميرِ في زمنٍ قد   عزَّ  فيهِ  صوتُ  الضميرِ المثالي

أيٌّ  مجدٍ   ومن  سناكَ   تجلّى          لم  يُعانق ثغرَ الظبى والعوالي

أنت روح التجديدِ في الفكر والإبْ  داعِ...والغيرُ  ظلَّ   في  الأسمالِ

قد عشقتَ الفنونَ من كلِّ لونٍ        وتذوَّقتَ    الشعر   دونَ   ابتذالِ

إن   شعري   أحببتَهُ     بهيامٍ          وهو  يختالُ  في  ثيابِ  الجمالِ

فسلكتُ  الجديدَ   فحوًى   وفنٌّا         وتركتُ  الرديئَ... بلْ  كلَّ  بالِ

وأخذتُ  العروضَ  ثوباً  مُوَشًّى       ليضمَّ    الجمالُ    كلَّ    مجالِ

نحنُ عصرُ التصنيعِ والتيكنلوجيا   ليسُ  يجدي  الوقوفُ   بالأطلالِ

أنت أستاذي في انطلاقٍ وفكر ٍ      عنكَ  فكري  هيهاتَ  يوماً  بسالِ

إنه   الموتُ    غادرٌ   وغشومٌ      هزَّنا  الموتُ   بعدَ   راحةِ    بالِ

ما  لمخلوقٍ   أن  يردَّ   المنايا        فمصيرُ  الأحياءِ   نحوَ   الزوالِ

لو    بإمكاننا...   بذلنا   جميعا        كلَّ   ما   يُقتني   مِنَ    الأموالِ

قطفَ الموتُ كلَّ زهرةَ روضٍ        لم   يُفَرِّقْ  ما  بين  عمٍّ   وخالِ

إنَّ  أيدي  المَنونِ   لا   تتوانى       أخذتْ  نبعَ  الفكرِ  خيرَ  الرجالِ

يا  صديقي  أبا عصامٍ   وداعا        بدموعٍ   جرَتْ    كنبعٍ     زلالِ

قد  فقدناكَ  في  شموخِ  عطاءٍ      فانطوَى  سفرُ العمرِ  قبلَ  اكتمالِ

قد  فقدنا  بفقدِكَ  النورَ  والإشْ     راقَ والعيشَ  الحلوَ.. بعد  انذهالِ

وتركتَ الأصحابَ في ثوبِ حزنٍ       ومُحِبُّوكَ      فوجِئوا     بارتحالِ

كلَّ   حزنٍ  يبيدُ   يوما  وذِكرا      كَ  ستبقى  مدى  الدهورِ الطوالِ

أنتَ  حيٌّ  في كلِّ  خفقةِ  نبض ٍ     أنتَ  فينا  رغمَ  الخطوبِ  الثقالِ

لم تمت لا... ذكراك دومًا ستبقى     خالدٌ   أنتَ   في   جميلِ  الفعالِ 

كنتَ  نهرًا وفي العطاء غزيرًا        كم   سقينا   من  مائِهِ  السَّلْسَالِ

وكنوزٍ   تركتَ  من  كلِّ  لونٍ         للمدى ... بالإبداعِ    والاعمالِ

فإلى    جنَّةِ    الخلودِ    انتقالاً        مع  جميعِ  الأبرارِ في الأحمالِ

أيها   الراحلُ   المقيمُ    سلامٌ         قد  تركتَ  الأحبابَ   في  بلبالِ

أنت في فردوسِ الجنانِ خلودا       والدُّنَى   ما  زالتْ   بقيلٍ   وقالِ

لن أقولَ  الوداعَ...بل أنتَ حيٌّ        مع   جميعِ   الأحرارِ  والأقيالِ

خالدٌ  أنت   في  أريج   دياري        خالد    للمدى   خلود    الجبالِ

وستبقى    طولَ  الزمانِ  منارًا        في   بلادي    وقبلةَ    الأجيالِ

  

السياسة عند فولتير بين أول الفنون وآخر المهن، مقاربة تنويرية شاملة/ د زهير الخويلدي



مقدمة:


"أحبّ الحقيقة، لكن اغفر الخطأ."

ليس فولتير مجرد فيلسوف سياسي بين آخرين في القرن الثامن عشر، بل هو «المهندس السياسي» الأبرز لمشروع الأنوار بأكمله. بالمعنى الفرنسي. إذا كان مونتسكيو يضع التشخيص الدستوري، وروسو يرسم العقد الاجتماعي المثالي، فإن فولتير هو الذي يحاول تطبيق العقل على السلطة الفعلية، في الواقع التاريخي الملموس، لا في المدينة الفاضلة. من هنا تأتي أهمية القولة الشهيرة المنسوبة إليه: «السياسة هي أول الفنون وآخر المهن». هذه العبارة ليست مجرد نكتة ساخرة، بل هي مفتاح كامل لفهم نظرية فولتير السياسية، وهي تكشي – بطريقة بارادوكسية – على حبلين متوترين:


 رفع السياسة إلى مرتبة الفن الأسمى. 

تحقيرها إلى أحقر المهن عندما تُمارس من طرف غير الأكفّاء.

فكيف وضع فولتير السياسة في قلب مشروع الأنوار؟

أولا. السياسة كـ«أول الفنون»: نظرية الحاكم-الفنان

أ. جذور أرسطية – ماكيافيللية – كلاسيكية

فولتير يعيد مفهوم «الفن الملكي» الذي يعود إلى أرسطو، لكنه يُلبسه ثوباً تنويرياً جديداً. في رسائله إلى فريدريك الثاني (1740–1766) وإلى كاترين الثانية (1763–1776) يصف الحاكم المستنير بأنه «نحات شعوب» و«مهندس السعادة العامة».


السياسة فنّ لأنها:

فن الإمكان لا فن المستحيل (ضد روسو الذي يبحث عن الكمال المطلق).

فن تحويل المادة البشرية الخام (الأهواء، المصالح، التعصب) إلى نظام اجتماعي منسجم.

فن التوازنات الدقيقة بين الحرية والنظام، بين القوة والعدالة.

ب. نماذج الحاكم-الفنان عند فولتير

هنري الرابع: الملك الذي «أراد أن تكون هناك دجاجة في قدر كل فلاح» → فن الرفاه الشعبي.

بطرس الأكبر: الذي قطع لحية البويار وفتح نافذة على أوروبا → فن التحديث القسري.

فريدريك الثاني: الملك الفيلسوف الذي يكتب الشعر صباحاً ويُصلح القوانين مساءً.

كاترين الثانية: التي تُراسل فولتير وتطلب منه صياغة قانون مدني مستنير.

هؤلاء هم «الفنانون العظماء» في نظر فولتير، لأنهم استطاعوا أن يصنعوا من الفوضى البشرية لوحة جميلة ومتماسكة

.ثانيا. السياسة كـ«آخر المهن»: نقد السياسي المحترف

أ. السياسيون «الصغار» في فرنسا ما قبل الثورة


فولتير يكره ثلاث فئات بشدة:

نبلاء البلاط الذين يعيشون على المعاشات الملكية دون عمل.

البرلمانيون (مجالس العدل العليا) الذين يحتكرون السلطة السياسية باسم «الحقوق التاريخية».

رجال الدين المتعصبون الذين يتدخلون في الشأن العام («سحقوا الحقير!»).

هؤلاء جميعاً يجسدون «آخر المهن»: نشاط يُمارَس من أجل الربح الشخصي، الشهرة، الانتقام، أو السلطة الوهمية، لا من أجل الخير العام


.ب. نقد مبكر للديمقراطية الحزبية

قبل ماكس فيبر بقرنين ونصف، يصف فولتير السياسي المحترف بأنه «إنسان يبيع خطاباته ليحصل على مناصب، ثم يبيع المناصب ليحصل على المال». في «القاموس الفلسفي» (مقال «الدولة») يقول:

«إن أسوأ حكومة هي تلك التي تحكمها مهنة سياسية وراثية أو انتخابية، لأنها تجمع بين عيوب الوراثة وعيوب الانتخاب»

ثالثا. التوفيق التنويري: الاستبداد المستنير كحل وسط

يرى فولتير أن الحكمة فضيلة تتجسد في فن العيش، والفطنة، والقدرة على مواجهة مصاعب الحياة. وتوضح أقوال مثل "الحكمة تصد العواصف" و"علينا أن نزرع حديقتنا" ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة والتحكم في مصيرنا بدلًا من الاستسلام للصدفة أو اليأس. كما يؤكد فولتير على أن الحكمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة والتسامح وحرية الفكر.

فولتير ليس ديمقراطياً، وليس جمهورياً، وليس ملكياً مطلقاً تقليدياً. موقفه الشهير:

«أفضل أن أُحكَم من ملك واحد عادل محاط بفلاسفة، من أن أُحكَم من 500 ملك جاهل متعصب».

الاستبداد المستنير هو في نظره الحل الوحيد العملي في عصره لأنه:

يضع السياسة في يد «فنان» واحد قادر.

يمنع تسلل «الحرفيين» والوصوليين.

يتيح إصلاحات سريعة دون عوائق البرلمانات والتقاليد.

لكن هذا الحل مشروط بشرطين:

أن يكون الحاكم فعلاً «مستنيراً» (يؤمن بالعقل، التسامح، العدالة).

أن يحيط نفسه بفلاسفة مستقلين لا بمتملقين.

رابعا. مفارقات فولتير السياسية

يمدح فريدريك الثاني طوال عشرين سنة، ثم ينقلب عليه عندما يكتشف استبداده (1753).

يدعو كاترين الثانية إلى تحرير الأقنان، فتفعل عكس ذلك تماماً، وتستمر في مراسلته!

يكره البرلمانات الفرنسية، لكنه يدافع عن حرية التعبير أمام الملك المطلق.

هذه المفارقات ليست تناقضاً، بل دليل على براغماتية تنويرية: السياسة فنّ الإمكان، لا فن الكمال

خامسا. راهنية فولتير في القرن الحادي والعشرين


"الحكمة هي فن العيش."

الفلسفة عند فولتير هي سبيلٌ إلى الحكمة:

"الفلسفة فنُّ تعقيد الحياة بمحاولة إقناع النفس ببساطتها."

"قليلٌ من الفلسفة يُبعدنا عن الدين، وكثيرٌ منها يُعيدنا إليه."

"معظم الناس كحجر المغناطيس: لهم جانبٌ ينفّرهم وآخر يجذبهم."


في زمن:

صعود السياسيين «المحترفين» الذين لم يعرفوا في حياتهم مهنة أخرى.

تراجع فكرة «الدولة» لصالح «السوق السياسية».

عودة الشعبوية واليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا.

تبدو رؤية فولتير صادمة وملهمة في آن:

صادمة لأنها ترفض الديمقراطية الجماهيرية كحل سحري.

ملهمة لأنها تذكّرنا أن السياسة يمكن أن تكون فنّاً نبيلاً إذا مارسها أناس يملكون رؤية، شجاعة أخلاقية، وكفاءة.


خاتمة:

يبدو أن السياسة تظل في تحدٍّ أبدي بين الفن والمهنة – فولتير لا يقدّم لنا نظرية سياسية منهجية كمونتسكيو أو روسو. يقدّم لنا موقفاً وجودياً: ان السياسة يمكن أن تكون أعظم خدمة للإنسانية أو أكبر كارثة، حسب من يمسك بمقودها.

الفلسفة عند فولتير هي فن العيش والتمييز:

"الحكمة تصد العواصف."

"علينا أن نزرع حديقتنا."

"لطالما فضّلتُ جنون الأهواء على حكمة اللامبالاة."

كما يعد فولتير فيلسوف التسامح وحرية الفكر:

"الفضيلة تُذلّ بتبرير نفسها."

"تُعتبر كل عقيدة سخيفة وضارة، وكل إكراه على العقيدة بغيض؛ فرض الإيمان عبث."

القولة «أول الفنون وآخر المهن» ليست مجرد سخرية لاذعة، بل دعوة تنويرية مستمرة لكي نطالب السياسة بأن تكون فنّاً، لا مجرد مهنة. وفي زمن يغلب فيه «المحترفون» و«الوصوليون» و«المؤثرون»، تبقى كلمات فولتير صرخة في وجه التفاهة السياسية: «إذا أردتم أن تُحكم، فأعطوني فناناً… لا تاجر كلام». فأين لنا بفولتير جديد يجرم فساد هذا العصر الهلامي ويوقظ الإنسان من سباته الوجودي وينتشله من براثن الأبواق الغوغائية؟


كاتب فلسفي


 

من أين ؟/ د. عدنان الظاهر



من أينَ تؤاتيكَ السلوى


من أينْ ؟


وبأيِّ متاعبِ ماضيكَ ستمخرُ أمواجَ اللُجّةِ في بحرِ العينْ


ألأمرٍ أَحرَقتَ سفائنَ عودتهمْ في طُرفةِ عينْ


وتكبَّرتَ كثيراً


فتجاهلتَ التقبيلَ سوى فوق الخدينْ


ولماذا رمّمتَ جسورَ مودَّتهِمْ


أَفَلمْ تُدرِكْ عُمْقَ الأزمةِ ما بين الإثنينْ ؟؟


من أينَ ستأتيكَ البلوى بالسلوى، من أينْ


وبأيِّ رَباطةِ جأشٍ


تقرأُ ما خطَّ بَنانُ محبّتِهم يوماً


هل فاتكَ أنْ تقرأَ نجمَ الفُرقةِ مدسوساً ما بينَ السطرينْ


أمْ أنَّ مصيبتكَ الكبرى


أنّكَ تمشي كالأعمى فوقَ الجمرةِ حافي القدمينْ ؟؟


 مِن أينَ ومِن أينْ


يأتيكَ النومُ شِتاءً والبينُ وَشيكٌ جدّاً


بلْ أدنى من قابِ القوسينْ


إمضِ وَحدكَ في المنفى


عُريانَ الصدرِ حزيناً والبردُ مساميرُ الشفتينْ


تَصرَخُ لا نَهْرٌ يُصغي


لا بابلُ لا ما بين النهرينْ


فإلى أينَ الموجُ العاتي


يأخذُ أمثالكَ طُوفاناً من خَشَبٍ


أَبخَسَ حتّى من فلسينْ .


من أينَ ستأتيكَ السلوى


من أين ؟؟

فلسطين على أعتاب انتفاضة جديدة/جواد بولس

 


سيحلّ غدا، التاسع والعشرون من نوفمبر، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني؛ وهو اليوم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة لتبقى قضية فلسطين ماثلة على خارطة القلق الدولي وهاجسًا يستحضر ذكرى احدى كبريات المظالم التي وقعت بحق شعب في العصر الحديث.   


لم يكن اختيار يوم التاسع والعشرين من نوفمبر عشوائيا، بل لأنه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة نفسها عام 1947 القرار رقم 181 المعروف باسم "قرار التقسيم"؛ وقضت بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين: دولة يهودية ودولة عربية مع وضع القدس تحت نظام دولي خاص.


في هذا اليوم يشعر معظم الفلسطينيين بالأسى وبخيبة الأمل؛ ويتذكرون حجم المؤامرة التي حيكت ضدهم وأدّت إلى نكبتهم التي ما زالت، رغم مر السنين، تعيد انتاج افرازاتها المؤلمة دومًا والمروّعة أحيانًا، كما حدث ويحدث في العامين الأخيرين في غزة بشكل أساسي، وفي الضفة الغربية المحتلة أيضا. 


تنهال في هذه المناسبة الأسئلة وتفيض التساؤلات؛ وبعضها يستعيد أحكام الندامة في علم السياسة وعواقب سوء تقدير الأحوال والاحتمالات، وبعضها يتيه على عتبات "الاخوة الأعداء"  وعلى منابر النفاق وفي مقابر الأخلاق.


أتيت من الجليل الى القدس قبل خمسين عامًا ونيف. كانت تلك "قدس" فلسطين، تميمة الشعراء وحصن "المريمات" وخنجر فرسان العرب. وكنا، حين نذرع شوارعها، نسمع تناهيد التاريخ حتى ينام الفجر على أجفاننا ويرقص في صدورنا القمر. خمسون عامًا كنت فيها شاهدًا على كيف كانت الأحلام تزهر في حواريها حتى تضج فضاءات فلسطين بنبض ياسمينها وبأجنحة النسور وبتهاليل الأمل. خمسون خلت وصرتُ شاهدا على القدس وهي تهوي مثل سائر أخواتها، ومثلهن تداري جراحاتها بالدعاء وبالشعار ويهجر ساحاتها الفرح ويستوطنها الخوف والقلق . 


الحديث عمّا أصاب القدس، وأخواتها طبعا، يطول فلا تسعُه هذه العجالة؛ فتلك القدس التي عصيت على الغازين، أو هكذا يبدو، خذلت فتعبت وتاهت. قد تبدو أوضاع أهلها للناظرين من بعيد أفضل من أوضاع اخوانهم في الضفة الغربية، لكنهم في الواقع يواجهون قمعَ الاحتلال يوميا وحصارا مقيتا ومخططا استيطانيا واستعماريا يستهدف تهجيرهم والقضاء على هويتهم الفلسطينية والسيطرة على جميع مرافق حياتهم. "خطة الحسم" التي تنفذها حكومة اسرائيل الحالية في غزة وفي الضفة الغربية المحتلة لا تستثني القدس، فالمدينة قُطّعت أوصالها وأخضعت لهيمنة اسرائيلية كاملة ويجري "ترويض" أهلها وفق سياسات عنصرية وقوانين احتلالية جائرة وأنظمة وضعت لتضمنها مدينة التوراة اليهودية، لا تقبل اقتسامها مع آخرين ولا الشراكة في "هيكلها".


فلسطين تواجه محنتها الكبرى والفلسطينيون ينامون على "ظبات سيوفهم" ويصحون على بكاء زيتونهم وعلى حسيس النار وزفيرها وهي تحرق كرومهم وبيوتهم. فهل سيدوم "رقادهم" في أحضان "قيصر" ؟ تبدو الاجابة على هذا التساؤل سهلة وحاضرة؛ فجميع المعطيات تؤيد أن الهبة قادمة لا محالة، خاصة بعد الذي جرى لغزة واتضاح معالم مخططات الحكومة الاسرائيلية وأهدافها الحقيقية. هي خطة حسم واحدة هدفها فلسطين، كل فلسطين، وعنوانها أهل فلسطين، جميع أهل فلسطين، فغزة أولا وبعدها "رام الله" وما بعد بعد رام الله. فهل ستندلع انتفاضة الخلاص ومتى؟  


ليس من الصعب على من يتابع أخبار القدس والضفة أن يستشعر مجموعة العوامل التي تنذر بأن الانفجار قريب: انسداد آفاق الحلول السلمية وتشديد الحصارات على مدن وقرى الضفة الغربية، حتى غدا الانتقال من مدينة أو قرية الى مدينة أو قرية أخرى مهمة مستحيلة أو خطوة محفوفة بالخطر وحتى بالموت؛ تفاقم اعتداءات المستوطنين الدموية على المدن والقرى الفلسطينية والتنكيل بالمواطنين والتعرض لأراضيهم ولمحاصيلهم الزراعية ولقطعان مواشيهم؛ تصعيد حملات الاعتقالات التعسفية وما يصاحبها من اقتحامات وحشية للبيوت والاعتداء بالضرب على سكانها وعلى من يؤسر ويجر لمعسكرات التعذيب والاعتقال؛ استحداث وسائل ترهيب جديدة بحق المواطنين وملاحقتهم وحرمانهم من حقوقهم الأساسية اليومية وفي طليعتها الحق بالحياة الآمنة وحرية التنقل وحرية الرأي والتعبير وحرية التعليم وحرية العبادة وغيرها من الممارسات التي أصبحت تُعرّض من يقوم بها لخطر القتل أو الاعتقال والتعذيب؛ اشتداد حالات الفقر والبطالة حتى باتت شرائح سكانية كاملة تعيش على حافة الاملاق والعوز. 


يمكنني أن أضيف المزيد من هذه "المهاميز" التي تنقر على أجساد الفلسطينيين الدامية وتذكّرهم بأن أحوالهم وصلت حدًّا من العبث الأسطوري ومن الذل والمهانة التي لا يرضى بها حر وحرة ولا شعب تعمّد "بماء السماء"  وحمل الصبر و"صليبه" وكافح لأكثر من مائة عام ولُدغ مرة من جحر حفَرَه الأعداء بمعاول الأخوة والأصدقاء، ومرة من جهله ومرة من حماقات "حُماته" ومغامراتهم في ساحات الوهم والسراب. فهل تعيش فلسطين المحتلة هذه الأيام مخاضات صدام دامٍ وخطير ؟ 


قد يحدث الانفجار في لحظة تجلٍّ تاريخية غير محسوبة ولا مخططة؛ فالتاريخ علمنا، في فلسطين أيضا، أن بعض أحداثه الكبرى اشتعلت في أعقاب حادثة هامشية أو سخيفة أو عارضة، كانت عند حدوثها  "كالخميرة السحرية" التي تسكب في عروق جسد متهالك فتحييه وتحوّله الى مارد مهيب ومقاوم عنيد. خلاف ذلك لا أرى من سيعلن عن بدء الانطلاقة؛ فالجسد الفلسطيني ممزق وتنهكه حالة الانقسام الكبرى بين حركة "حماس" وبين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وما يرافقها من انقسامات ثانوية داخل الفصائل ذاتها وأخطرها الحالة التي تعيشها حركة  "فتح" وهي كبرى فصائل المقاومة وأبرزها تاريخيا. والأهم أن معظم هذه الفصائل والحركات قد فقدت قدرتها على اتخاذ قراراتها بشكل مستقل، وصار بعضها مرتبطا بقوى خارجية تعمل وفق مصالحها بغية تحقيقها لا لصالح القضية الفلسطينية ومستقبل شعبها. لا أرى اليوم من في فلسطين سينفض عن شعبه غبار العجز وقد تفشّت فيها حالة من التيه واليأس، وتفشى كذلك الخوف، وترك المواطنين بدون أحزمة أمان أو حماية أيا كانت. 


تلقيت قبل أربعة أيام بيانا صادرا بتوقيع "القوى الوطنية والإسلامية- فلسطين" يتصدره شعار يعلن أن "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة" ، وهو عبارة عن "نداء اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني". يتضمن البيان ستة نقاط تؤكد على تثمين مواقف شعوب العالم والدول التي وقفت الى جانب حقوق الشعب الفلسطيني، ويؤكد كذلك على رفض جميع محاولات فصل قطاع غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية ومحاولات تقسيم القطاع والتحكم بمصيره، ويدين ويرفض تهديدات الاحتلال وجرائمه المرتكبة بحق الدول المجاورة ويدعو الى المشاركة الفعالة في يوم التضامن، وينوّه الى خطورة ما يقوم به الاحتلال باستهداف قيادات الفصائل والحركة الأسيرة في سجونه، وأخيرا يؤكد على "أهمية وحدة الشعب الفلسطيني على كل المستويات وعلى ضرورة تنفيذ استراتيجية وطنية جامعة لحماية الشعب ومقدّراته وتعزيز صموده على أراضي دولة فلسطين الواقعة تحت الاحتلال" وينهونه بجملة تقسم "إنها الانتفاضة ومقاومة حتى النصر". سوف يقول بعض من سيقرأ البيان بأن فلسطين، رغم اشتداد محنتها، ما زالت بسلام وأمان طالما فيها من يضخ مثل هذه الجرعات من الأمل ويزرع سماواتها بالبرق، وإن كان برقًا خلبا. وآخرون, بعد أن غزا الشيب مفارقهم، سيستعيدون قصائد الشباب، قصائد الشوق واللهفة والحنين، يوم كانت "قبائل القوميين العرب" تتغنى وتردد مع الشاعر : " نحن في شوق الى وثبتنا، يا جبال القدس ثوري واغضبي"، ويتأسّون على رحيل الشاعر ومعه اللهفة وآلاف الحالمين وقد مرّت على فلسطين مائة عام من المستحيل، وبقيت المسافة فيها بين الحياة وبين الموت بمقدار صدفة من العدم أو غضبة قدر. ويبقى الرهان قائمًا وفلسطين على أعتاب انتفاضة جديدة!    

تحولات النيوليبرالية: من الانفتاح الاقتصادي إلى الاستبداد السياسي/ الدكتور حسن العاصي



أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا


تتمتع الليبرالية الجديدة والاستبداد بروابط نظرية قوية، كما يتضح من السرد النيوليبرالي حول ضرورة وجود دولة قوية، قادرة على إعادة تشكيل المجتمع وفق أسس السوق. لا يستطيع النيوليبراليون (وخاصة الليبراليون النظاميون الألمان) التوفيق بشكل كامل بين شكوك الديمقراطية وشغفها وعقلانية السوق. يتطلب نقاء السوق وجود أوصياء، ولا يمكن دائماً اختيار الأوصياء ديمقراطياً. وهذا سيناريو شهدناه يتكشف في الأنظمة التكنوقراطية الأوروبية، ولكن أيضاً في الدول النامية، بدءًا من تجارب أمريكا اللاتينية وآسيا في سبعينيات القرن الماضي. لم يكن الركود الكبير نقطة تحول واضحة، إلا أنه أدى إلى تكثيف العلاقة بين الاستبداد والنيوليبرالية.

أصبح الأوصياء أكثر هيمنة، وغالباً ما رسموا خطاً فاصلاً بين "المواطنين الإثنيين"، الذين يُعتبرون "أكثر ملاءمة" للمنافسة العالمية، و"الأجانب"، وهم عادةً مهاجرون. لقد عادت الرأسمالية جزئياً إلى الحدود الوطنية. حتى في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، تطلّب بقاء الرأسمالية النيوليبرالية سياسات قومية واستبدادية، أعادت تشكيلها بطريقة أكثر محافظةً وقوميةً وحمائية. لقد ظهر ثلاثة أنواع من النيوليبرالية الاستبدادية. الأول هو التكنوقراطية، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الاقتصادات الأكثر تقدماً وفي بنية الاتحاد الأوروبي نفسها، وخاصةً منذ تسعينيات القرن الماضي. أما الثاني فهو شكل القومية، الذي غالباً ما يكون "إثنيًا" في محتواه ولهجته شعبوية، والذي ترسخت جذوره في العديد من البلدان (بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب)، ولكنه أكثر وضوحاً في شبه أطراف أوروبا الوسطى والشرقية. النوع الثالث هو الاستبداد التقليدي للعديد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تضافرت اقتصادات السوق غير المتقدمة مع وضع التبعية العالمي، مما أدى سريعاً إلى تحول نحو سياسات غير ديمقراطية في التسعينيات. نتناول الليبرالية الجديدة الاستبدادية بمزيد من التفصيل دراسة الثلاث نماذج ذات الصلة: التكنوقراطية في إيطاليا، والنيوليبرالية القومية في المجر، والاستبداد التقليدي في كازاخستان.


التكنوقراطية الإيطالية

كانت إيطاليا بعد التوحيد دولة هشة ذات برجوازية ضعيفة، وقد استمرت هذه السمات، إلى جانب الانقسامات المستمرة (شمال/جنوب، مدن/ريف، فاشية/مناهضة للفاشية، أحزاب موالية للغرب/شيوعيين)، حتى ثمانينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من النمو السريع الذي شهدته بعد عام 1945 (في عام 1990 كان اقتصادها سادس أكبر اقتصاد في العالم)، إلا أن إيطاليا اضطرت إلى اللحاق بركب دول شمال أوروبا، ونشرت تكنوقراطيين بشكل متكرر للبقاء في قلب الرأسمالية الليبرالية. تدخل التكنوقراط الإيطاليون في السياسة كوكلاء للجزء الليبرالي والمُدوَّل من رأس المال، وهو تقليد حليف متمركز في المدن الشمالية ومجموعات عابرة للحدود الوطنية مثل شركتي "فيات" Fiat وبيريللي  Pirelli. ومع ذلك، فقد تم استقطاب بعض التكنوقراط من قبل الطبقة البرجوازية المعارضة ذات التوجه الوطني والأكثر محافظة، والتي يتمركز معظمها في الشركات التي تسيطر عليها الدولة والشركات الصغيرة؛ وغالباً ما كانت مصالح هذه الطبقة وأعرافها ممثلة من قبل قوى قومية شعبوية مثل حزب "رابطة الشمال الإيطالية"  Lega Nord، ورئيس الوزراء الإيطالي السابق "سيلفيو برلسكوني"Silvio Berlusconi.

تتضح هذه الجدلية من خلال ثلاث فترات في العصر النيوليبرالي الإيطالي: أولاً: فترة التسعينيات، التي اتسمت بالحكومات التكنوقراطية. ثانياً: العقد الأول من القرن الحادي والعشرين التي هيمن عليها برلسكوني. ثالثاً: العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مع الحكومات التكنوقراطية الجديدة وما يصاحبها من صعود القومية الشعبوية.

سواءً أكانت تكنوقراطية أم قومية، كانت النيوليبرالية الإيطالية في الغالب تجربة من أعلى إلى أسفل، مدفوعة من قبل الدولة. لعب البنك المركزي (بنك إيطاليا) دوراً رئيسياً كحلقة وصل بين السياسة الوطنية والأفكار الدولية، وأصبح المحرك الأساسي للنيوليبرالية. تلقى خبراؤه تعليماً دولياً في كثير من الأحيان، ويعملون كـ"مثقفين عالميين" ويمكن اعتبارهم نموذجاً لبلد موحد حديثاً مثل إيطاليا. في الواقع هم يُفسرون استقلاليتهم كممثلين للأفكار والقيم الأوروبية.

بدأ صعود بنك إيطاليا بانفصاله عن وزارة الخزانة عام 1981، واستمر عندما أصبح محافظه السابق وزيراً للخزانة (1989-1992) في الفترة التي سبقت معاهدة ماستريخت. في عام 1992، انهار النظام الحزبي الإيطالي تحت وطأة التحقيقات القضائية، وتولى "التكنوقراط" زمام الأمور، متخفيين في هيئة اقتصاديين أكاديميين من يسار الوسط، وخاصةً رئيس الوزراء "ماتيو سالفيني" Matteo Salvini، وكبار المسؤولين التنفيذيين في بنك إيطاليا.

ضمت جميع الحكومات بين عامي 1992 و2001 وزراء مستقلين وغير منتخبين؛ وتألفت حكومة ديني فقط من مسؤولين مستقلين، بمن فيهم "سوزانا أنييلي" Susanna Agnelli من سلالة مالكي شركة فيات. أصبح خبراء البنك "مسؤولين تنفيذيين أساسيين" وجلبوا معهم الكفاءة و"أصولاً غير ملموسة" أخرى. في إطار الترويج لأجندة نيوليبرالية، أظهروا قدرةً ثقافيةً وسياسيةً على التأثير. وبشكلٍ عام، تبنوا وجهة نظرٍ "عالمية" مفادها أن "الأوروبية" المستدامة والانفتاح على قوى السوق وحدهما كفيلان بإيصال البلاد إلى الحداثة الكاملة. وبهذا المعنى، كانوا يتبعون أجندةً عبّر عنها بوضوح الزعيم الطموح لحزب يسار الوسط الرئيسي "ماسيمو داليما" Massimo D'Alema في رؤيته لـ"دولةٍ طبيعية": دولةٌ تتمتع بدولةٍ فعّالة، صديقةٌ للمواطنين، قد لا تكون منتجةً للحليب أو الفولاذ، لكنها تعرف كيف تُوفّر مستوياتٍ أوروبيةً من التعليم والبحث العلمي والخدمات الأساسية. دولةٌ تضمن شبكة أمانٍ اجتماعيٍّ قادرةٍ على تقديم الدعم والأمل والفرص لأضعف أفراد المجتمع، ولا تُسرّب الموارد عبر آلاف القنوات المختلفة التي تُتيحها المحسوبية.


منطقة اليورو

انضمت إيطاليا إلى منطقة اليورو منذ نشأتها، لكن الإصلاحات وسياسات التقشف (وخاصة قوانين الميزانية الصارمة) أثّرت سلباً على اقتصادها. فبين عامي 1993 و2000، بلغ متوسط النمو 1.6٪ فقط. أما المحسوبية والفساد، فلم يتراجعا، بل غذّتهما خصخصة شركات مثل عملاق النفط "إيني"  Eni، وشركة الكهرباء "إينيل"  Enel، وشركة التكنولوجيا الفائقة "فينميكانيكا" Finmeccanica. وتُظهر الأبحاث أن الفساد يزداد بعد عمليات الخصخصة عندما تكون هذه الأخيرة "ذات أهمية اقتصادية"، كما كان الحال في إيطاليا. فقد احتفظت الدولة بحصص كبيرة في الشركات المخصخصة، وعُيّنت الإدارة العليا الجديدة من قِبَل الحكومات وفقاً لمعايير سياسية. دفع ترسيخ النخبة والمحسوبية والتقشف العديد من الإيطاليين إلى التخلي عن اليسار وانتخاب "برلسكوني" عام 2001. وبغض النظر عن خطابه الصاخب، لم تُمثل سياسات "برلسكوني" انقساماً جذرياً؛ بل كانت مزيجاً من القومية الشعبوية والتكنوقراطية؛ فلم يكتفِ بتعيين اقتصاديين نيوليبراليين معروفين في مناصب مهمة؛ بل فاز أيضاً في الانتخابات بسبب قدرته المزعومة على إدارة إمبراطورية تجارية.

استغل "برلسكوني" خيبة أمل الإيطاليين من التسعينيات وحوّلها إلى مشروع سياسي، متجذر في الفردية الصارخة لجزء من البلاد، وخاصةً بين الشركات الصغيرة في شمال إيطاليا، ولكنه أيضاً في "صدع أخلاقي" أوسع بين اليسار واليمين التقليديين. في حين ركز خطاب "برلسكوني" غالباً على الكفاءة وريادة الأعمال، إلا أن سياساته كانت أكثر انتهازية منها ليبرالية؛ بل عملت على حماية مصالح الجزء الأكثر وطنية وقومية من رأس المال الإيطالي، والذي شمل إمبراطورية "برلسكوني" الإعلامية "ميدياست" Mediaset ، وشركات معظمها إيطالية. ورغم وعوده بتخفيضات ضريبية كبيرة، لم يُوفِ بها "برلسكوني" قط. وتعارض دفاعه عن الوضع الراهن مع الأفكار الأكثر ليبراليةً لدى بعض معاونيه، مثل الاقتصادي المستقل "دومينيكو سينيسكالكو" Domenico Siniscalco (وزير الاقتصاد 2004-2005)، الذي استقال بطريقة مثيلرة للفضائح. ومع ذلك، كانت ممارسات الليبرالية الجديدة حاضرة في سوق العمل، حيث أدت "قوانين بياجي" Piaget's laws (2003) إلى مزيد من انعدام الأمن والهشاشة. وارتفعت نسبة بطالة الشباب في الجنوب إلى 40%؛ وأثرت الوظائف المؤقتة بشكل رئيسي على الأجيال الشابة. وتغلغلت الليبرالية الجديدة في سوق العمل، بالإضافة إلى إدارات المدن والرعاية الاجتماعية المحلية.


حكومة "ماريو مونتي

بعد أزمة الديون السيادية وضغوط الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في أواخر عام 2011، أُزيح برلسكوني سريعاً، وحل محله الخبير الاقتصادي والمفوض السابق للاتحاد الأوروبي "ماريو مونتي" Mario Monti الذي أصبح مثالاً يُحتذى به في "التكنوقراطية".

لم يكن أيٌّ من مسؤولي مونتي عضواً في الحزب. تبنى "مونتي" تدابير تقشفية صارمة، لا سيما في نظام الضمان الاجتماعي، تحت ضغط الأسواق المالية.

واجهت إيطاليا ركوداً اقتصادياً حاداً، نتج جزئياً عن سياسات التكنوقراطية التي لم تتوسط فيها الأحزاب. وافق "مونتي" على الطلبات الصارمة من البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية: في عام 2012، اضطرت إيطاليا إلى التكيف مع الميثاق المالي الأوروبي وإدراج التزام بموازنة ميزانية الدولة في الدستور.

كانت حكومة مونتي مثالاً رئيسياً على الدولة الاستبدادية العابرة للحدود الوطنية في أوروبا. بعد عام 2013، استمرت التكنوقراطية والقومية الشعبوية في لعب دورهما، وغالباً ما كان ذلك معاً. تعاون خليفة "مونتي" مع اقتصاديين سابقين في الحزب الديمقراطي المسيحي وائتلافات يسار الوسط. وظلت وزارة الاقتصاد في أيدي تكنوقراط. في الوقت نفسه، جسّد "ماتيو رينزي" Matteo Renzi الذي تولى رئاسة الوزراء عام 2014 محاولةً من يسار الوسط لإقامة علاقة أكثر مباشرة بين الزعيم والناخبين، دون وساطات أو أيديولوجيات حزبية كبيرة؛ وهو نوع من الشعبوية من يسار الوسط، غنية بالشعارات، ولكنها غامضة وانطباعية بشأن الأفكار والسياسات. في غضون ذلك، واصلت النيوليبرالية شق طريقها خارج السياسة: ففي عام 2017، كان لدى إيطاليا أحد أكبر اقتصادات الظل في العالم) ونقلت شركات كبيرة (مثل فيات) مقراتها إلى الخارج؛ واستمرت الأجور في الانخفاض.

أدى هذا التوجه النيوليبرالي الزاحف والخفي إلى ظهور مشاعر معادية للنخبوية ومواقف معادية للهجرة ومشككة في الاتحاد الأوروبي، والتي أدت في عام 2018 إلى فوز "حركة النجوم الخمس" Five Star Movement وحزب "رابطة الشمال" Lega Nord (الذي كان حتى عام 2018 حزباً إقليمياً مؤيداً لاستقلال شمال إيطاليا)، والذي شكل ائتلافًا غير عادي "يساري-يميني" ذي دلالات قومية قوية. ومع ذلك، احتفظ التكنوقراط بمناصب متميزة في الدولة ومجلس الوزراء، مثل قيادة وزارتي الاقتصاد والخارجية، حيث أُسندت إلى خبراء مستقلين. في الوقت نفسه، شهدت شعبية زعيم حزب الرابطة "ماتيو سالفيني" Matteo Salvini وزير الداخلية (2018-2019)، على انتعاش القومية الشعبوية في إيطاليا. كان ذلك، من نواحٍ عديدة، عودةً إلى سياسات "برلسكوني"، وإن كان ذلك بنبرة أكثر عدوانيةً ومعاداةً للأجانب، وروحاً أقوى معاديةً لأوروبا وللهجرة.

حقق حزب "سالفيني" نجاحاً كبيراً، لا سيما بين عمال الاستقلال والمصانع، الذين يُمثلون مصدر الدعم التقليدي لحزب الرابطة. نجح النداء القومي المناهض للهجرة حيث كان انعدام الأمن الاقتصادي والمخاوف العالمية أكبر، بما في ذلك في جنوب إيطاليا، التي كانت في السابق هدفاً للوم من قِبَل حزب الرابطة. هناك أصداء لدعم الطبقة المتوسطة الدنيا للبونابرتية أو الفاشية، كما حللها المنظرين الماركسيين.

شهدت إيطاليا تحولين آخرين منذ أغسطس 2019، أولاً: أُجبرت الرابطة على الانضمام إلى المعارضة بسبب صعود ائتلاف غير متوقع بين الديمقراطيين وحركة النجوم الخمس، التي لا يزال يقودها "جوزيبي كونتي" Giuseppe Conte وهو أكاديمي قانوني ذو جذور راسخة في المؤسسات الكاثوليكية في روما. ثانياً: في خضم جائحة كورونا، استعادت التكنوقراطية كامل سلطتها، بتعيين محافظ البنك المركزي الأوروبي السابق "ماريو دراجي" Mario Draghi رئيساً للوزراء في 2021. قاد "دراجي" ائتلافاً كبيراً وحكومة تضم 9 تكنوقراط و13 عضواً في الحزب. بدت مهمته أقل توجهاً نحو الليبرالية الجديدة، حيث تعين عليه إنفاق المبلغ الكبير الممنوح لإيطاليا من صندوق الإنعاش الأوروبي. مرة أخرى، تعين على الحكومات الإيطالية غير المنتخبة إنقاذ القدرة التنافسية للرأسمالية الإيطالية والأوروبية (هذه المرة في مواجهة الولايات المتحدة والصين). لكن هل يُعد هذا انحرافاً حقيقياً عن الليبرالية الجديدة؟


النيوليبرالية القومية المجرية

عادةً ما تُربط المجر بشبه المحيط الليبرالي الرأسمالي. خرجت من سياسات نيوليبرالية قاسية بمزيج من النيوليبرالية والقومية غير الليبرالية المتمركزة حول العرق. ورغم أن هذا لم يُترجم إلى استبداد كامل، تبنى رئيس الوزراء "فيكتور أوربان" سياسات عرقية وسلطوية متزايدة منذ 2010. ساهمت المجر تاريخياً في الفكر النيوليبرالي، إذ تعود جذوره إلى خمسينيات القرن الماضي وحوار بين الشرق والغرب، حيث استخدم اقتصاديون لغة المدرسة النمساوية لاقتراح إصلاحات وانتقاد التخطيط المركزي. كما في إيطاليا، يمكن تقسيم العصر النيوليبرالي إلى أربع مراحل: الأولى من الانتقال حتى حكومة أوربان الأولى، الثانية 1998-2002 بسياسات محافظة وقومية، الثالثة حتى الانهيار المالي وتدخل صندوق النقد الدولي (2000-2010)، والرابعة عودة أوربان ببرنامج قومي أكثر استبدادية. لعب التكنوقراط دوراً مهماً في التسعينيات خلال الانتقال إلى الرأسمالية ومفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي. كان معهد البحوث المالية منذ السبعينيات ناقلاً رئيسياً للأفكار النيوليبرالية، وأصبحت توصياته عام 1987 أساساً للانتقال إلى اقتصاد السوق. قاد "جوزيف أنتال" أول حكومة بعد الانتقال (1990-1993) وأطلق إصلاحات نيوليبرالية دون علاج بالصدمة، لكنه واجه تقشفاً مع خطة "كوبا". أدى اتباع سياسات صندوق النقد الدولي إلى انتشار الفقر والبطالة، وانقسام المحافظين، وظهور حزب قومي متطرف جديد (MIEP) هاجم بيع الأصول للشركات الأجنبية.


صعود أكبر للقومية الشعبوية

كافأت انتخابات 1994 الحزب الشيوعي المُصلح (MSZP) الذي شكل حكومة مع الليبراليين، ملتزمين بالتكامل الأوروبي. فرضوا خطة تقشف صارمة "حزمة بوكروس" لخفض الرواتب والإنفاق الاجتماعي وتعزيز النمو القائم على التصدير، ما رسخ وضع المجر شبه الهامشي. تمت خصخصة شركات وبيعها لمستثمرين غربيين، ومنحت مناصب للتكنوقراط. لكن غياب برجوازية وطنية قوية أدى إلى صعود القومية الشعبوية. في 1998 فاز ائتلاف يمين الوسط، وأصبح أوربان زعيماً شاباً لحزب فيديس ورئيساً للوزراء. شكّل حكومة نصف وزرائها مستقلون، وعين ليبرالياً وزيراً للمالية، ما أبرز التكامل الغامض بين التكنوقراطية والقومية. اكتسب الخطاب القومي والشعبوي أهمية مع السياسات النيوليبرالية. قدّم أوربان تخفيضات ضريبية وتقشفاً للانضمام للاتحاد الأوروبي، وعزز برجوازية وطنية. ساعده قطب الإعلام "لاجوس سيميسكا" في تمويل الحزب. بعد 2001، عزز الأشغال العامة والبنى التحتية لدعم نخبة اقتصادية وطنية مستقلة. رغم التنافس الأيديولوجي بين القومية والنيوليبرالية، ظلت القومية محدودة بسبب أهمية الانضمام للاتحاد الأوروبي. في 2002 استعاد الاشتراكيون السلطة بفارق ضئيل، لكن تدهور الحسابات العامة وتراجع الاستثمار الأجنبي أدى لتقشف جديد في عهد رئيس الوزراء "جيوركساني" (2004). مهدت ولايته لعودة القومية، خاصة بعد خطابه السري عام 2006 الذي اعترف فيه بالكذب حول الوضع الاقتصادي. أصيب النمو بالركود وتزايدت التصورات بوجود تواطؤ بين النخب الوطنية والأوروبية، ولم يعد ممكناً إخفاء وضع المجر كاقتصاد تابع.


الانهيار الاقتصادي 2008

أثر انهيار أوروبا الغربية عام 2008 بشدة على المجر. دفع العجز وضعف العملة والمديونية "جيوركساني" لطلب دعم صندوق النقد الدولي، مقترناً بفضائح فساد، ما أدى لاستقالته عام 2009. في انتخابات 2010 انتصر اليمين القومي، وحصل حزب فيديس على 52.7% من الأصوات وثلثي المقاعد، ودخل حزب "يوبيك" المتطرف البرلمان، وعاد أوربان رئيساً للوزراء. رغم خطابه عن "الثورة"، لم تحدث ثورة فعلية. يمكن وصف نظامه بأنه "ليبرالية جديدة في بلد واحد"، حيث تتشابك السياسات المؤيدة للسوق مع القومية والعرقية الإقصائية، في مزيج من رعاية اجتماعية محدودة للمجريين "العرقيين" ونيوليبرالية قمعية للآخرين، خاصة الروما والمهاجرين. شهدت المجر في عهد أوربان معدلات متزايدة من الفقر والحرمان. بعد سداد القرض، تخلت الحكومة عن صندوق النقد الدولي، وعززت خطابها المناهض للعولمة والاتحاد الأوروبي، وأعادت تأميم قطاعات استراتيجية. ترافق ذلك مع إشادة بالتجانس العرقي، تعبئة المجريين بالخارج، واعتماد دستور جديد عام 2011 يتضمن إشارات للمسيحية و"الوطن الأم". مع ذلك، لم تحِد المجر عن النموذج النيوليبرالي، إذ اعتمد أوربان ضريبة ثابتة 16%، وبرنامج عمل اجتماعي يلزم العاطلين بالأشغال العامة، مع تخفيضات كبيرة في المزايا الاجتماعية. سُلّمت وزارات رئيسية لخبراء مستقلين، واستمر تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، خاصة من شركات السيارات الألمانية. تفسر إمكانات المجر كمستقبل للاستثمار الأجنبي محدودية ردود الفعل الأوروبية على سياساتها القومية. تشترك المجر والشركات الأوروبية في مصالح رئيسية، وسياسة أوربان الصارمة بشأن الهجرة ليست جديدة. تستمر المعارضة الاشتراكية والليبرالية في التفكك، وأصبح حزب يوبيك ثاني أكبر حزب. وهكذا، ترسخت "العرقية" كعلامة مميزة لهذا الشكل الغامض من الليبرالية الجديدة القومية.


الاستبداد التقليدي في كازاخستان

تُعد كازاخستان أغنى جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية، بمساحة تقارب الهند (2,724,900 كيلومتر مربع) وعدد سكان نحو 19 مليون نسمة، ولم تتخلَّ عن نهجها الاستبدادي منذ استقلالها عام 1991، لتُمثل نموذجاً لليبرالية الجديدة الاستبدادية. كانت موطناً لسكان رُحَّل، واستوطنها الروس تدريجياً في القرن التاسع عشر، ثم شهدت تحولاً صناعياً مكثفاً في الحقبة السوفيتية أضرّ بالبيئة وبالسكان الأصليين. منذ التسعينيات، مرّ الاقتصاد السياسي بثلاث مراحل: الأولى صراع الدولة الجديدة بقيادة "نزارباييف" مع العواصف النيوليبرالية وترسخ السلطوية، الثانية نمو قائم على الموارد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والثالثة آثار "الركود الكبير" والانفتاح على الصين وترسيخ الاستبداد الرئاسي. أدى الاستقلال إلى تحديات كبرى: غياب طبقة حاكمة أو قومية مهيمنة، إذ شكّل الكازاخستانيون 39.7% والروس 37.8% عام 1989، إضافة إلى قربها من روسيا بحدود طولها 7000 كيلومتر. تولى "نزارباييف" قيادة الدولة حتى 2019، متكيفاً مع موسكو، لكنه تبنى أيضاً توجهاً أممياً بحثاً عن فرص اقتصادية غرباً وشرقاً. لكن التحرير الاقتصادي والخصخصة بين 1991-1995 خفضا الناتج المحلي 40%، وانهار القطاع العام، وانتشر الفقر والجريمة. ورغم جذب بعض الاستثمارات، جلبت الخصخصة فساداً ومحسوبية، وظهرت رأسمالية جامحة. عززت الأزمات الاستبداد، فحدّ دستور 1995 من البرلمان، ومدد ولاية نزارباييف عبر استفتاء، ثم دعا لانتخابات بعد حظر منافسه. وفي خطابه عام 1997 أكد أن دور الدولة يقتصر على تهيئة الظروف لعمل المواطنين والقطاع الخاص.


النموذج الكازاخستاني للنيوليبرالية

لم يكن بناء النموذج النيوليبرالي سهلاً، لكن ظهرت منظمات غير حكومية غربية، وتغلغلت النيوليبرالية في الرعاية الاجتماعية، فيما أسهم تأسيس العاصمة "أستانا" في تعزيز الأعمال والاستهلاك. حقق الاقتصاد نمواً بمعدل 10.2% بين 2000 و2007، مدفوعاً بارتفاع أسعار السلع، مما أدى إلى صعود التكتلات الصناعية المالية المرتبطة بالعائلة الرئاسية والنخبة. أصبح صهرا نزارباييف، "كوليباييف" و"علييف"، مليارديرين يقودان إمبراطوريات من النفط إلى الإعلام والأمن. ومع الإرث السوفيتي والتقاليد العشائرية، نشأت أوليغارشية اقتصادية متشابكة. توسعت السلطوية مع التنافسات الأوليغارشية، فحُلّ حزب الاختيار الديمقراطي عام 2005، وتوفي "علييف" في سجن بالنمسا بعد تورطه بجرائم. منذ 2007 حصل نزارباييف على امتيازات إضافية دون أن يصبح رئيساً مدى الحياة. النمو السريع المدعوم بالنفط قوّض فرص التحول الديمقراطي، إذ لم يخلق حوافز لمعارضة الاستبداد. كما أدت "الثورات الملونة" في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان إلى مزيد من التشدد في أستانا. في المقابل، عززت الروابط مع أسواق رأس المال العالمية بقاء القيادة وازدهارها. مثال ذلك شركة الموارد الطبيعية الأوراسية في لندن، وشركة "كازاخميس" بقيادة الملياردير "فلاديمير كيم". تعلمت الشركات الكازاخستانية التعامل مع العصر العالمي عبر استغلال الروابط خارج الفضاء السوفيتي. كما أطلقت الحكومة خطط تحديث تكنوقراطية، مستلهمة تجارب شرق آسيا مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية التي جمعت بين النيوليبرالية والاستبداد.


الاتجاه شرقاً

منذ "الركود الكبير"، اتجهت كازاخستان نحو الشرق، خصوصاً الصين، مع استمرار روابطها بروسيا والغرب. نمت التجارة مع الصين بشكل كبير، واستثمرت بكين بكثافة في الطاقة. أصبحتا شريكين استراتيجيين عام 2011، وأطلق الرئيس شي مبادرة الحزام الاقتصادي في أستانا عام 2013. ومنذ 2009، ربطت خطوط أنابيب الغاز والنفط البلدين بعيداً عن روسيا. كما يشتركان في منظمة شنغهاي للتعاون وأهداف مكافحة الإرهاب والانفصالية. لا يوجد دليل مباشر على دعم الصين للاستبداد، لكنها تؤيد مبدأ السيادة وعدم التدخل، ما ينسجم مع النظم السلطوية. نفوذها لا يخدم الديمقراطية، فيما حافظت النخب الكازاخستانية على روابطها الغربية. تزايد ارتباط كازاخستان بعالم الشركات الخارجية والملاذات الضريبية، حيث برزت هولندا وجزر فيرجن كمستثمرين رئيسيين. كما استثمرت الشركات الكازاخستانية في هذه الملاذات لتقليل التكاليف. وبرز الوسطاء وشركات المحاماة كحلقة وصل بين النخب والغرب. أكد مركز أستانا المالي الدولي انخراط البلاد في عالم الشركات الخارجية، مستنداً إلى القانون الإنجليزي وبدعم من بورصتي "ناسداك" و"شنغهاي". وبرزت مجموعة "كاسبي" بطرحها العام الأولي في لندن عام 2020. بدأ الاستبداد كرد فعل على مشاكل النيوليبرالية، لكنه اندمج معها تدريجياً. أصبح الاستبداد القائم على المحسوبية والقومية والتكنوقراطية وسيلة للتواصل مع الاقتصاد المالي العالمي، مانحاً النخب امتيازات وبعض الرخاء للبلاد. ويبقى السؤال: هل يصمد النظام بعد رحيل مؤسسه نزارباييف؟ 

الشعوب الحرة هي التي تصنع تاريخها بإرادتها، مقاربة حضارية/ د زهير الخويلدي


مقدمة

" الحرية الحقيقية للشعوب لا تتحقق إلا بالسيادة الكاملة على أرضها وثرواتها." د حسن حنفي

تُعتبر العبارة «الشعوب الحرة هي التي تصنع تاريخها بإرادتها، أما الشعوب التابعة فتسير في الفلك المسطور» من أكثر العبارات كثافةً في الفكر التحرري العربي المعاصر. ترددت هذه الفكرة تقريباً بنفس الصيغة عند مالك بن نبي، طيب تيزيني، حسن حنفي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، هشام جعيّط، وفي الخطاب السياسي من النضال الوطني إلى الثورة الثقافية.  لكنها ليست مجرد شعار. إنها موقف فلسفي-تاريخي عميق يضع الإرادة الجماعية في قلب فهم التاريخ، ويرفض كل من الحتمية المادية الصلبة والقدرية الاستشراقية التي ترى العرب والمسلمين «شعوباً بلا تاريخ» (هيجل). لماذا تظل الشعوب التابعة تسير في الفلك المسطور؟ وماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي تتحرر؟


 تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك هذه القولة واختبار صلاحيتها عبر ثلاثة محاور رئيسية:

  المفهوم الفلسفي للإرادة الجماعية وعلاقتها بصناعة التاريخ. 

النماذج التاريخية: الشعوب التي صنعت تاريخها والشعوب التي وجدت نفسها في «الفلك المسطور». 

التحديات المعاصرة والشروط العملية لتحوّل شعب تابع إلى شعب صانع لتاريخه.

الإرادة الجماعية بين الفلسفة والتاريخ


هيغل و«روح الشعب»:

التاريخ عنده ليس صدفة، بل تحقّق للروح العالمية عبر شعوب بعينها في لحظات محددة. الشعوب التي لا تملك «وعياً حرّاً» تبقى خارج التاريخ أو تُستَخدم كأداة ثم تُرمى (آسيا، إفريقيا في قراءته).


ماركس و«القابلية للثورة»:

يرفض الحتمية المطلقة ويقول إن «الناس هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يشاؤون». الشروط الموضوعية ضرورية، لكن الوعي والتنظيم هما اللذان يحوّلان الشعب من موضوع للتاريخ إلى فاعل.


مالك بن نبي و«مشكلة الحضارة»:

الشعوب ما بعد-المُوحدية فقدت «القابلية للحضارة» لأنها فقدت الإرادة الجماعية والروح الخلاّقة، فأصبحت «قابلة للاستعمار». الحل ليس في الثروة ولا السلاح، بل في «إعادة بناء الإنسان».


حسن حنفي : من التراث الى الثورة

حرية الشعوب عند حسن حنفي تترابط مع حرية الفكر والتعبير والسيادة، ويُعرّف الحرية بأنها القدرة على اتخاذ القرار دون ضغط خارجي. يؤكد حنفي على أهمية تحرير الفكر من التراث المتجسد كقيد، وإعادة قراءته بطرق جديدة تركز على الإنسان وقضاياه المعاصرة، بينما يرى أن الشعوب المحتلة تمارس حقها في المقاومة كشكل من أشكال الحرية من الاحتلال الخارجي.


عبد الله العروي و«الأيديولوجيا والتاريخ»:

الشعوب التابعة تعيش في «التاريخ المسطور» لأنها تتبنى أيديولوجيا الغالب (الليبرالية، القومية، السلفية) بدل أن تخلق أيديولوجيتها الخاصة. التحرر يبدأ بـ«الوعي التاريخي» الذي يجعل الشعب يرى نفسه فاعلاً لا مفعولاً به.


الجابري و«نقد العقل العربي»:

العقل العربي ظلّ أسير «البيان» و«الغنوصية» ولم ينتج «العقل البرهاني» القادر على صناعة التاريخ بالمعنى الحديث. الثورة العربية المأمولة تحتاج إلى «قطيعة معرفية» تجعل الشعب يملك أدواته الفكرية.


 نماذج تاريخية مقارنة

شعوب صنعت تاريخها بإرادتها

  اليونان في القرن الخامس ق.م: من طاليس إلى ارسطو ، ثم الديمقراطية الأثينية. 

الثورة الفرنسية 1789: شعب قرر قطعاً أن يضع حداً للملكية المطلقة ويكتب دستوره بنفسه. 

الثورة البلشفية 1917: رغم كل الشروط الموضوعية، لولا إرادة الحزب البلشفي والجماهير لما قامت. 

فيتنام 1945-1975: شعب صغير هزم أكبر قوتين استعماريتين بإرادة لا تُصدَّق (هوشي منه: «لا شيء أغلى من الاستقلال والحرية»). 


شعوب وجدت نفسها في الفلك المسطور

  الأندلس بعد سقوط غرناطة 1492: تحولت من مركز حضاري إلى أقلية مضطهدة. 

الهند قبل غاندي: كانت «جوهرة التاج» البريطاني، شعباً بلا إرادة سياسية حتى جاءت حركة اللاعنف. 

معظم الدول العربية بعد الاستقلال الشكلي: استقلت شكلياً لكنها بقيت في فلك النظام العالمي (التبعية الاقتصادية، الاستبداد الداخلي، التحالفات الإقليمية المفروضة).

الشروط العملية للتحول من التبعية إلى صناعة التاريخ

لا يكفي أن نردد الشعار. التحول يتطلب شروطاً موضوعية وذاتية:

الوعي التاريخي (العروي): أن يعرف الشعب مكانه في التاريخ العالمي ويرفض أن يكون مجرد «مفعول به». 

بناء الذاتية الجماعية (مالك بن نبي): إعادة تربية الإنسان، إحياء الروح الخلاّقة، مقاومة «القابلية للاستعمار» الداخلية. 

القطيعة المعرفية والسياسية (الجابري،): رفض استيراد النماذج الجاهزة، خلق نموذج تنموي وسياسي خاص. 

تنظيم الإرادة الجماعية: لا إرادة بدون مؤسسات (أحزاب، نقابات، جمعيات، إعلام حر). 

الوحدة الوطنية فوق الاصطفافات الفرعية: التجربة السياسية أثبتت أن الخلاف السياسي المشروع يجب ألا يتحول إلى حرب أهلية. 

الاستقلال الاقتصادي الحقيقي: لا إرادة سياسية دون سيادة غذائية وطاقية وتكنولوجية (تجربة الصين، كوريا الجنوبية، ماليزيا).


خاتمة

" الحرية الفكرية بأنها حرية الإنتاج الفلسفي المبدع، وكل إنتاج ثقافي وأدبي وفني، وجمالي وغيره، بعيدا عن الإكراهات المتحدرة من الأطر السياسية"


 د طيب تيزيني

تبدو العبارة عن الحرية الارادية صحيحة فلسفياً وتاريخياً، لكنها ليست قدراً محتوماً. لا توجد شعوب «حرة بالفطرة» ولا شعوب «تابعة بالجينات». كل شعب يصبح ما يختار أن يكون في لحظة معينة.

 لم تكن بعض الدول أكثر ثراءً ولا أكثر تعليماً من غيرها، لكنها كانت تملك في تلك اللحظة إرادة جماعية أقوى، ووعياً أعمق بإمكانية كسر «الفلك المسطور». كما قال فيكتور هوغو: «لا شيء أقوى من فكرة حان أوانها». وفي كلمات مالك بن نبي الأخيرة تقريباً: «الحضارة لا تُعطى، تُؤخذ». بهذا المعنى الشعوب الحرة ليست تلك التي لا تواجه قوى أكبر منها، بل تلك التي تقرر – رغم كل شيء – أن تكون صاحبة القرار في مصيرها. وما دمنا نملك الإرادة، فالتاريخ لم يُكتب بعد. فكيف تنتقل الشعوب العربية من السير في الفلك المسطور الى كتابة تاريخها بإرادتها؟


كاتب فلسفي

معقول/ مي اسد سمعان



معقول تغرب شمس يوم العيد

وما كون عم عيش الوفا والوعد

لبنان دقة قلب عمر جديد

والدم عم ينبض بصَون العهد


عندك علم يشهد على مجدك

وجبين عالي وغار ونياشين

عندك مدى التّاريخ ما حدك

والحب زهر الورد وبساتين


لبنان يا شمس الفلا والبحر

شط الأماني وموعد الاشواق

 والنبع يهدي دمعتو للنهر

 ورقص القصب بيغازل الأحداق 


والجيش كيف الجيش مِنْزِينو

هوّي الأصل هوّي العَلَم ع جبال

هوّي الاسد هوّي ل حِمِي سنينو

ت يضل مهد الحرف والخيّال 


وقلوب شرق وغرب عم تغلي 

الّا بعلم لبنان ما بتحلم

ايدين مرفوعا وعم تصلي

ت انت تسلم والوطن يسلم

       

          في ٢٠٢٥/١١/٢٢

الأب د. بُطرس حدّاد والخلود ( بمناسبة مرور 15 عاماً على وفاته)/ الأب يوسف جزراوي

 


              كنتُ أقرأ لهُ وعنهُ، شأنّي شأنَّ سائر القُرّاء، إلى أن أقتربتُ منهُ، يومَ أتاحت ليّ الظروف أنْ أكونَ تلميذًا وصديقًا مُباشرًا لهُ، رغمَ فارق السنّ الكبيرة؛ حيث طلبني مِن كاهن رعيتي الأب الفاضل جميل نيسان كاهن كنيسة الصعود/ عميد الكهنة  حينها( أمدَّ الله بعمره)، أيام دراستي الكهنوتيّة، لغرض المساعدة في التعليم المسيحي عام 1997 في رعية مار بثيون الّتي كانَ  يخدمها  يومذاكَ.

تقربتُ منهُ وتعاملتُ معهُ، فربطتنا صحبة جميلة، تلمستُ خلالها وعَبرَ رحلة الخدمة بِصحبتهِ، إِنّني أمامَ شخصيّةٍ ثقافيّة وكهنوتيّة استثنائيّة، تملكُ مِنَ المواهب، ولها مِنَ الخبرات الكثير وَمِن المعرفةِ والحنكة والطِّيبة، مَا يجعلها مُتميّزة بِكُلِّ المقايّيس.

وأذكرُ أَنَّنا قد التقينا في حوارٍ شخصيٍّ شيّق على مقعدين مُتقابلين في مكتبهِ بكنيسة مار بثيون في حي البلديات ببغداد، ( عجبتني خاطرتكَ في مجلة الكليّة – حلو تكتب عيني)، ولما تبادلنا أطرف الحديث، حقيقّةً  لمْ أشعر  بالوقتِ حينها كيفَ مضى، بسبب حديثه الطّلي وثقافته الواسعة وذكرياته العبقة بالتراث الموصليّ والبغداديّ وتشجيعه؛ فالرّجلُ رحمه الله كانَ صندوق ذكريات ثريًّا بالأحداث.

كما كنتُ أحظى برفقتهِ وأستمتعُ بكلامهِ المُمتِع، سيّما عندما كانَ يصطحبني معهُ إلى شارع المتنبي صباح كُلّ يوم جمعةٍ وجلوسه في مكتبتيّ المثنى والرباط وغيرهما.  ولا أعلم أيّ صمتٍ وأنتباهٍ كانَ ينتابني، يصلُ إلى حدِّ الإندهاش والإنبهار وأنا أصغي إلى حواراتهِ مع الباحثين رفعت عبد الرزاق الطائي وعبد الحميد الرشودي وغيرهما.

          ربطتني بالبحّاثة الأب د. بطرس حدّاد - رحمه الله-  علاقة أبويّة وتقاربُ أدبي، وفي أحاديثه معي وهي كثيرةٌ، كانَ يشير إلى أنّهُ راجع ليّ لغويًا وقيّم  أكثر مِن مؤلفٍ ونتاجٍ أدبي، كما وضع اسمه الرصين على بعض مؤلفاتي التاريخيّة والأدبيّة المتواضعة:( ومضاتٌ مِنَ الحياةِ، دار البطريركيّة في بغداد/على خطى يسوع /نبذة عن المعهد الكهنوتي البطريركي/ البطريرك مار يوسف أودو، كلماتٌ مِن حياة إنسان وغيرها). كما كان يُشيد بلغتي وأسلوب كتابتي منذ كنتُ تلميذًا، كما منحني ثقة الاشراف ومتابعة مراحل طباعة بعض مؤلفاته( رحلة ديللافاليه، عبرة مِن كُتب التراث، يوميات البطريركَ مار عمّانوئيل الثّاني...وغيرها[1]) . إذ إنتشاري ككاتبٍ حصلتُ عليه في سنّ صغيرة  أمام مرأى عينيه في بغداد ومكتبات شارع المُتنبي.

            خدمتُ مع الأب الراحل بضع سنوات، يومَ كنتُ أستعد للكهنوت في المعهد البطريركي، وطالبًا في قسم الفلسفة بكلّيّة بابل الحبريّة ببغداد؛ حيث اناطني مهمة التعليم المسيحي في بيعة مار بثيون الكلدانيّة- البلديات وسلطانة الورديّة / قديسة ريتا. كما عشتُ وخدمت معه في بيعة سلطانة الورديّة ككاهن مساعد لمدة  سنة، وتلكَ أوّل رعية خدمتُ فيها بعد اقتبالي نعمة الكهنوت، فكان الأب والمرشد والمعلم والصديق رغم الاختلاف في التوجهات والسّن[2].

بُطرس حدّاد، الكاهن، الباحث، المؤرخ، الكاتب، المُترجم، قدِّمَ الكثير للكنيسة وللبلد ولمحبي التّاريخ والعلم. انطفأت شمعة حياته عقب شيخوخة مُباركة. هو نجمٌ مُضيء،  يعرفهُ القاصي والداني. كانَ بسيطًا كالخبز للفقراء، مُستقيمًا كسكةِ القطار. هو أشهر مِن نارٍ على علمٍ، له اسمٌ نظيفٌ في الكهنوتِ وتاريخ عريق في مجال الكتابة والتأليف، وإنجاز مُشرّف في الأبحاث التّأريخيّة، علاوة على خدمتهِ الكهنوتيّة. أحبّه الصغير والكبير، سواء في الموصل أو  في بغداد.

         اسمه الحقيقي ناظم ميخائيل مقدسي رفو الحدّاد، ولد في الموصل الحدباء يوم 25/11/ 1937 وليس 1938[3]، والراحل الكبير من عائلة موصليّة عريقة ومعروفة. دخل معهد شمعون الصفا في الموصل بتاريخ 24/9/ 1951، تتلمذ في المعهد المذكور لمدة 3 سنوات. أُرسل سنة 1954 إلى روما للدراسة ونيل الاختصاص، زاملهُ  الأب المرحوم يوسف حَبّي.

رسم كاهنًا في روما بتاريخ  20/12/ 1961. عاد إلى مسقط رأسه الموصل سنة 1964 بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في اللاهوت العقائدي،وتعيّن للخدمة في كنيسة أمّ المعونة.

سنة 1966 انتقل إلى بغداد للخدمة في المعهد الكهنوتي البطريركي في منطقة الدورة[4]، معاونًا للأب ( مطران) إبراهيم إبراهيم[5]، واستمر في الخدمة هُناكَ إلى عام 1968، ثمَّ تعيّن للخدمة في كنيسة مار يوسف -خربندة ككاهنٍ معاونٍ للخوري  قرياقوس حكيم، عليه رحمة الله.

.   صيف 1968 أوعز إليه الطّيب الذّكْر البطريرك مار بولس شيخو  بالعمل في أرشيف البطريركيّة الكلدانيّة، وكانت يومذاك في دير القديسة تريزيا في بغداد- السِّنك. بقيَ في العمل هُناكَ حتّى عام  1974.

عندما تسنّم  السّعيد الذكر البطريرك مار روفائيل الأوّل بيداويد الكرسي البطريركي سنة 1989 عينهُ مديرًا للديوان البطريركي ومسؤولاً عن الأرشيف فيها، وفي بعض الزيارات خارج العراق كانَ يصطحبه معه سكرتيرًٍا لهُ  أو أمينًا لِسرهِ. ولما اعتلى السُّدّة البطريركيّة البطريرك الراحل  عمّانوئيل الثالث دلّي سنة 2003، أستمرَ عمل الأب حدّاد فيها، وعملتُ تحتَ أنْظارهِ  هناكَ صيف 2004 [6]  رفقة الأب نادر إسماعيل الراهب، بدعوة من الأسقف الراحل مار اندراوس أبونا رحمه الله والأب ( المطران) باسل يلدو المعاون البطريركي الحالي لغبطة البطريركَ الكلداني  مار لويس ساكو.

سنة 1978 عُيّن للخدمة في كنيسة مار بثيون في حي البلديات، خدمها طيلة 23 سنة وأحبّها بكلِّ  مَا تحمله الكلمة مِن معنى. صيف عام 2001 انتقل لخدمة  كنيسة سلطانة الورديّة ( قديسة ريتا- أمُّ الدرج)، كرادة خارج، واحتفل بقداسه الأوّل على مذبحها  في عيد التجلي بتاريخ 6/8/2001. عُرف الأب بُطرس بمحبته وطيبة قلبه، رغم انفعالاته الكثيرة وطبعه الحاد أحيانًا، ربُّما بسبب  وحدته. ( وقد آلف النّاس كلماته،  هلو عيني – الباشا كما كان يحلو لهُ أن يناديني).

كانَ متقلب المِزَاج، رّجل موقف، تمتَّعَ  بشخصيّةٍ صريحة وشجاعة، جريء القرارات، خفيف الظلّ، صاحب طلّة لطيفة، دمث الأخلاق، ورع وتقي. خدم مذبح الربّ بِكُلّ محبةٍ وتفانٍ رغم معاناته المزمنة مِن مرض السُكر وعدم قدرته على الوقوف طويلاً، وفي سنينه الأخيرة  لطالما احتفل بالقدّاس جالسًا، وقد عاصرت ذلكَ بنفسي.

ادركتهُ كريمًا، سخي اليد، يحسن استقبال ضيوفه وزواره، يُساعد الآخرين في الخفاء، لا يحب المظاهر والتطبيّل، يُحبّذ العمل بهدوءٍ وخفاء.  وأتذكر عندما انتقل للخدمة في كنيسة سلطانة الورديّة، قصدت كنيسة مار بثيون  عدة عوائل فقيرة وابلغونا أنهم كانوا يتقاضون راتبًا من الأب حدّاد للمعيشة، ناهيك عن المواد الغذائيّة التي كان يغدقها عليهم في زمن الحصار الاقتصادي،  بعضهم مِن غير المسيحيّين.

كانَ -رحمه الله- قليل الكلام، كثير الإشتغالات والمؤلفات، قارئٌ لبيب؛ بحيث كلّما دخل عليه أحد الزوار في مكتبه، وجدهُ مُنكبًا على القراءة أو الكتابة. الكتابُ خير صديقٍ لهُ. مُواكبًا مُتجددًا، يُشجع كُلّ ما هو جديد ومفيد.  حيويّة فكره كانت متوقدة ومتجدّدة. ورغم مرضه وتقدمه بالسّن بقي صوتهُ شجيًّا الشجي،   عذبًا!.

أتقنَ ألحان التراتيل الطقسيّة ومقامات القدّاس الكلداني، خاصّة مقاميّ ( النهاوند والبيات).  أمتاز  بحسَن الخط وموهبة الرّسم.  وعلى الرغم مِن أنَّ تخصصه كانَ في اللأهوت العقائدي؛ لكنّه لم يكتب في  اختصاصه إلاّ ما ندر، بل تركزت مُعظم مؤلفاته وكتاباته حول التراث العراقي والتّاريخ الكنسيّ، فضلاً عن تحقيق المخطوطات النفيّسة وأدب الأستشراق... والحقُّ يقالُ لقد برعَ في هذا المجال وأجاد.

    كما أظنهُ كانً مُتأثرًا جدًّا بشخصيّة الخوري داؤد رمّو الموصلي (ت 1948)، سكرتير البطريرك يوسف عمّانوئيل الثّاني ( ت1947)، الذي أرَّخ حقبة زمنيّة مهمة مِن تاريخ كنيسة العراق الحديث في مخطوطه "الخواطر"[7] و"تاريخ المدرسة الكهنوتيّة البطريركيّة". وبِحسب تفحصي ومتابعتي لحياة الأب حدّاد ،أجدهُ قد سارَ على نفس النهج، لا فقط في تَأريخ حقبة زمنية مِن تاريخ كنيسة العراق المُعاصر، بل كانَ صندوق معلومات مغلق، يجود بالأجوبة النّادرة عّن كُلِّ من يسأل منهُ كبيرة أو صغيرة مِن قبل المقربين، دونَ جعلَ الوثائق تحت تصرفهم إلّا ما ندر!.

لم يكن الأب حدّاد  يبخل بشيءٍ مِن علمه على أحدٍ، فإذا سألهُ أحدهم في بحثٍ ما، أجابه عليه بِما يعرف ويرشده إلى المصادر،لكنّه كانَ ممسكَ اليدين في تقديم المخطوطات والوثائق. ومِن مزاياه الحسنة،أنّهُ يأخذ بيد طُلاّبه مِنَ الكُتّاب والباحثينَ، يشجعهم ويوليهم قدرًا مِن اهتمامه وعلمه، ولهُ في ذلكَ أيادٍ بيضاء عليَّ.            

         رغم سنوات عمله الطويلة في أرشيف بطريركيّة الكلدان واستفادته الكبيرة والكثيرة منه ، علاوة على المعلومات والوثائق التّاريخيّة والكنسيّة التي أمدها به البطريرك الراحل عمّانوئيل الثّالث دلّي -رحمه الله-، الذي شغل منصب سكرتير  البطريركيين مار  بولس شيخو ومار  روفائيل بيداويد- رحمهما الله- ألاّ أنّه فضّل عام 2006 الاستقالة مِن عمله في البطريركيّة، بسبب تردي الحالة الأمنيّة وزحمة الطرقات، وصعوبة التنقل مِنَ الكرادة خارج إلى منطقة المنصور على إيقاع الإنفجارات .

كما استفاد الأب حدّاد أيضًا من المعلومات التاريخيّة التي استقاها مِن الباحثين بطرس نعامة وكوركيس عواد، اللذين أمداه بمعلومات غنية ومخطوطات نادرة عن شخصيات وأحداث وأماكن عاصراها.

كان الأب بطرس حدّاد عضوًا في: المجمع العلمي العراقي ( هيئة اللغة السريانيّة)، إتحاد كُتّاب وأُدباء العراق، دائرة التاريخ والتراث العراقي،  إتحاد المؤرخين العرب[8].

لهُ أكثر مِن مُقابلة تلفزيونيّة محلية وخارجية. لهُ مُشاركات في العديد مِنَ  المؤتمرات الكنسيّة (محلية وعربية ودولية)،ولعلَّ مشاركاته عام 1984 في مؤتمر للدراسات السريانيّة في هولندا، جامعة خرونيكن، تعدّ مِن أهم المؤتمرات التي شارك بها وحاضّر فيها؛ حيث استعرض دراسته لكتاب حققه عام 2000  (مختصر الأخبار البيعية[9]) وكذلكَ في بيروت وعمّان...حبّر مقالاته وأبحاثة في المجلات العراقيّة والعربيّة الكنسيّة  والعلميّة وكذلك بعض المجلات العالميّة، فهو مؤرخ لغوي، ولغوي دقيق، ملكَ عين النسور في بحوثه، أنتج أكثر مِن (40) نتاجًا، بين ترجمة وتحقيق وتأليف، ولهُ مئات المقالات والأبحاث بلغاتٍ عدة[10].

أوّل مؤلّفاته (المرشد إلى القدّاس الكلداني)، وأخرها كتاب رأى النور لهُ، وهو يصارع الموت بعنوان  (رحلة مِن إسطنبول إلى البصرة 1781)، بيروت 2010.  نَشَرَ آخر ابحاثه في مجلة مسارات العدد 14، 5، 2010، في عددها الخاصّ عن المسيحيّة في العراق، وكانَ بحثهُ تحت تسمية "مسيحيو بغداد بين الماضي والحاضر". وأظنه استعان كثيرًا بكتابه الموسوم: كنائس بغداد ودياراتها، وكذلك نَشَرَ بحث ( شمّامسة كنيسة مسكنتة) في مجلة نجم المشرق، عدد (63) خريف عام 2010 [11].   وقد صدرت له بعد وفاته بعد الرحالات التي كان قد ترجمها عن الإيطالية والفرنسيّة.

أتقن الأب حدّاد السريانيّة والعربية والإنكليزيّة والإيطاليّة واللاتينيّة والفرنسيّة، ويعرف القليل عن الالمانيّة.

إنّ الرسالة التي أُريد لها أن تصلَ إلى القارئ اللبيب مفادُها: إنّ المؤرخ الكبير والبحّاثة العريق الأب بطرس حدّاد، قد اهتزت له الأوساط الكنسيّة والثقافيّة والعلميّة والوطنية وترمل شارع المتنبي إثر رحيل ذلك الصرح العريق إلى دار البقاء، ولم يزل مرجعًا، فابحاثه وكتب الاستشراق التي ترجمها وخدماته  الكنسيّة وكتاباته جعلتهُ ذو آثرٍ خالدٍ في الذاكرة شارع المتنبي وكنيسة العراق ونفوس المؤمنين؛ فهو  جهبذُ مِن جهابذة العراق وكنيسته الضاربة في القُدمِ.

توفي بنتريخ 26/11/ 2010 فدُفنَ بالعراق كما أراد، بغداد  في مقبرة بعقوبة للكلدان بجوار ضريح الأب حبّي رحمه الله؛ فصار جزءًا مِن تراب بلدنا. هو القنديلُ الذي أنطفأ نورهُ وظلّ وضاءًا!! وهذا هو الخلود بعينهِ.

أبتِ حدّاد....نمْ قرير العين، ليدم ذكركَ للأبد، على روحِكَ الطّيبة الرحمة والسّلام.آمين.


[1] بعضها تم طباعتها في شارع المُتنبي ببغداد، أما كتاب اليوميات، فطبع بمعية الأب ( المطران حاليًّا حبيب النوفلي) ضمن منشورات كنيسة مار كوركيس الكلدانيّة وصدر بعد سقوط بغداد 2003. وأذكرُ للتاريخ الرجلُ كانَ عجولاً كُلما سلم كتابًا للمطبعة، وكان يقول ( عيني إذا نمتوا وما قعدتوا أكملوا طباعة كتبي). أما سعادته كانت لا توصف مع كلّ كتابٍ له يرى النور.

[2] أن نسيت فلن أنسى يوم كنت أستعد للكهنوت كان يقول لي ولسواي: (عيني، إذا  قصدتكَ سيّدة أو فتاة إلى المكتب للإرشاد أو الإعتراف اتركَ الباب مفتوحًا، لأنَّ كلام النّاس لا يرحم).

[3]  كان رحمه الله قد طلب منّي في كلمتي التي جاءت في خاتمة كتابه "يوميات الحرب العالمية الأوّلى ط2" بأن أُسجل مواليده 1938، لانه تولد في اواخر عام 1937.

[4] عام 2005 انتقل المعهد الكهنوتي إلى بلدة عينكاوة في أربيل

[5] مطران ابرشية مار توما الكلدانية في ديترويت الأمريكيّة المتقاعد

[6]  محبة الرّجل دفعته لتزويدي بوثيقة بخط البطريرك المستقيل ( مار نيقولاس زيّا) وهي وثيقة موجهة إلى أحد الكهنة باللغة السريانيّة- الكلدانيّة، كُتبت بيد البطريرك وخطه، تحمل ختمه البطريركي وموقعًة بـ ( نيقولاس زيّا وليس زيعا)، أقول ذلك لأنني كنتُ قد صححت الأسم في إحدى مقالاتي وفي كتاب مستقل عن البطريرك المذكور أيضًا، فانتقدني على اثرهما أحد الأساتذة، اتحفظ على ذكر اسمه،احترامًا لتاريخه وتقديرًا لمكانته الكهنوتيّة والأدبيّة. وحين عملت مع الأب حدّاد في الأرشيف، وضع تحت تصرفي تلك الوثيقة المذيلة بالختم متفوهًا: "انشرها في كتابك عن دار البطريركيّة، ليعلم من انتقدك أنه كان على خطأ وأنت كنت على صواب"، وهكذا فعلت. كما أطلعني على وصية البطريرك مار يوسف السادس أودو، وأجاز لي نشرها في كتابي :البطريرك أودو، الصادر في بغداد بمناسبة رسامتي الإنجيليّة 2004، بعد الإستعانة بالهوامش التوضيحيّة التي اعدها ونشرها في مجلة المشرق البيروتيّة عام 1999. كان رحمه ممسك اليدين في تزويد الباحثين بالوثائق والمخطوطات، لكنه لم يبخل عليّ بهذا المجال  إلّا ما ندر!.

[7]  حكى الأب حدّاد صيف 2005 في جلسةٍ ليلية في مكتبه، وكلانا  اِكتوَى بحرارة شهر آب اللهاب، مع ساعات انقطاع الكهرباء المبرمجة،  كيف أنه استنسخ المخطوط الأصلي للخواطر بخط يده، بعد أن وضعه تحت تصرفه إبن شقيق الخوري رمّو، السيّد فضيل اوخر الستينيات، إذ اوصى الخوري مكتبته  إلى معهد شمعون الصفا الكهنوتي في الموصل، أمّا المخطوطات التي بخط يده سلمت لابناء اخيه. وقد قام الأب الراحل بتقديم نسخته المستنسخة بخط يده هدية إلى البطريرك الراحل مار عمّانوئيل الثالث دلّي في زيارته الأوّلى لكنيسة سلطانة الورديّة كبطريرك، يوم أحتفل بقداس عيد الميلاد سنة 2003. لأنّهُ لم يكن للبطريركيّة الكلدانيّة ( الارشيف والمكتبة) ولا لغبطته أيّ نسخة من المخطوط!، وبدوره قام البطريرك الراحل دلّي باعادتها إلى الأب حدّاد بعد الاطلاع عليها ليوضعها في الخزانة البطريركيّة.

[8]   أُعطِيتْ له صِفَة العُضو  في تلك المؤسّسات منذ مطلع السبعينيات .

[9]  الكنسيّة.

[10]  للتعرف على مؤلفاته ومقالاته أنظر كتابنا( المبدعون غرباء عن هذا العالم) سيدني 2011.

[11]  نُشرَ الجزء الثاني من هذا البحث في مجلة نجم المشرق، عدد (64).

لأننا فلسطينيون: نكتب من جهة القلب، ونحمل من جهة الذاكرة حزناً لا يُفسَّر/ الدكتور حسن العاصي



باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني


نحن الذين وُلدنا وفي أعناقنا غيابٌ لم نختره، وفي وجوهنا ملامح من فقدٍ لم نصنعه. لا أحد يعرف كيف يبدأ الحزن في الروح الفلسطينية، ولا كيف يستقر فيها دون أن يطرق بابًا أو يطلب إذنًا، لأنه ببساطة لم يغادرنا يومًا. الحزن عند الفلسطيني ليس طارئًا، بل هو جزء من تكوينه، يسكنه منذ اللحظة الأولى، يتوارثه كما يتوارث الأرض والذاكرة، ويكبر معه كما تكبر المنافي والمقابر. نحن الذين نحمل في داخلنا أسماءً لم نعد نسمعها، وأحاديثَ لم تكتمل، وصورًا باهتةً لأحبةٍ غابوا تحت التراب أو تفرّقوا في المنافي، ونظل نكتب عنهم لأن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة للبقاء.

الغربة عند الفلسطيني ليست فقط عن المكان، بل عن الزمن الذي كان فيه البيت عامرًا بالضحكات، وعن الوطن الذي صار حلمًا بعيدًا، وعن الأهل الذين صاروا ذكرى. إنه حزنٌ لا يفسَّر لأنه لا يحتاج إلى تفسير، حزنٌ يرافق الفلسطيني في كل صباح، في كل عيد، في كل أغنية، في كل شارع يشبه شارعًا قديمًا لم يعد موجودًا. هو حزنٌ يشبه الغيمة التي لا تمطر، لكنه يظل حاضرًا، يحجب الشمس، ويذكّرنا أننا أبناء غيابٍ طويل، أبناء وطنٍ لم يكتمل، أبناء ذاكرةٍ لا تنطفئ.

 

ذاكرة تتنفس في صمت

لا أحد يعرف كيف يبدأ الحزن، ولا كيف يستقر في الروح دون أن يطرق بابًا أو يطلب إذنًا. إنه لا يأتي بصوتٍ عالٍ، بل يتسلّل كنسمةٍ باردة في ظهيرةٍ صيفية، يرافقنا حين نكون وحدنا، ويزداد وضوحًا كلما حاولنا أن نبدو بخير أمام الآخرين.

الحزن لا يعلن حضوره، بل يختبئ في تفاصيل صغيرة: في ارتجاف اليد حين نكتب، في نظرةٍ طويلة إلى نافذةٍ مغلقة، في تنهيدةٍ لا يسمعها أحد.

غربتنا ليست فقط عن المكان، بل عن الزمن الذي كان فيه صوت أمهاتنا يوقظنا برفق، وضحكات آبائنا تملأ البيت دفئًا، ووجوه الأحبة تتزاحم حول مائدةٍ صغيرة لا تحمل الكثير، لكنها كانت تكفي لتشبع القلب. الآن، كل شيء تفرّق؛ منهم من رحل إلى بلادٍ لا نعرفها، ومنهم من غاب تحت التراب، ومنهم من صار غريبًا رغم قربه.

نحمل في داخلنا أسماءً لم نعد نسمعها، وأحاديثَ لم تكتمل، وصورًا باهتةً لأشخاصٍ كانوا يملؤون حياتنا دفئًا، ثم اختفوا كأنهم حلمٌ لم يُكتب له أن يكتمل. نشتاق إلى بيتٍ لم يعد موجودًا، إلى رائحةٍ لا تُصنع في المنافي، إلى لهجةٍ لا تُفهم هنا، إلى تفاصيلَ صغيرةٍ كانت تصنع يومنا، ثم اختفت فجأة دون وداع.

كلما مررنا بشارعٍ يشبه شارعنا القديم، أو سمعنا أغنيةً كانت تُشغل في المساء، يعود الحزن كأنه لم يغادر، يضع يده على كتفنا، ويقول لنا: "أنا هنا، لم أنسَ أحدًا". نحاول أن نشرح هذا الحزن، لكن الكلمات تخوننا. كيف نشرح وجع الغربة حين لا يكون المكان هو المشكلة، بل غياب من كانوا يجعلون المكان حيًّا؟ كيف نفسر شعور أننا نعيش في عالمٍ لا يعرفنا، بينما نحن ممتلئون بذكرياتٍ لا يعرفها أحد؟

ليس كل حزنٍ يُقال، وليس كل وجعٍ يُشرح. ثمة حزنٌ يسكننا، لا يعرف طريقًا إلى الكلمات، ولا يطلب تفسيرًا. هو ليس ناتجًا عن حدثٍ بعينه، ولا مرتبطًا بزمنٍ محدد. إنه كائنٌ يتنفس داخلنا، يرافقنا في الصباحات الهادئة، وفي الليالي التي يطول فيها الصمت أكثر من اللازم.

حزننا لا يصرخ، بل يهمس. لا ينهار، بل يتكئ على جدار القلب بصمتٍ عميق. أحيانًا نراه في انعكاس وجوهنا على زجاج النافذة، وأحيانًا نسمعه في صوت الأغاني التي لا نختارها، لكنها تختارنا. هو حزنٌ لا يُفسر لأنه لا يطلب تفسيرًا، ولا يرضى أن يُختزل في جملة أو تحليل.

إنه يشبه الغيمة التي لا تمطر، لكنها تحجب الشمس. يشبه الطرقات التي نعرفها جيدًا، لكننا لا نعود منها كما كنا. يشبه الذاكرة حين تتسلل فجأة، وتضع يدها على كتفنا، دون أن تقول شيئًا.

ربما هو حزنٌ قديم، ورثناه من أماكن لم نزُرها، ومن وجوهٍ لم نلتقِ بها، ومن أحلامٍ لم تتحقق لكنها بقيت معلّقة في سقف الروح. وربما هو حزنٌ جديد، يولد كلما شعرنا أننا لا ننتمي، أو أننا ننتمي أكثر مما ينبغي.

لا نطلب من أحد أن يفهمه، ولا نطلب من أنفسنا أن نشرحه. يكفينا أنه يعلّمنا الصبر، ويمنحنا قدرةً على الإصغاء لما لا يُقال. يكفينا أنه يجعلنا نكتب، ويجعلنا نبحث عن الجمال في التفاصيل الصغيرة، وعن المعنى في الأشياء التي يتجاوزها الآخرون.


ذاكرة لا تنام

ليس حزننا عابرًا، ولا طارئًا، ولا ابن لحظةٍ انكسرت فيها الأشياء. إنه مقيمٌ في داخلنا، كضيفٍ لا يُغادر، كظلٍّ لا يزول، كصوتٍ خافتٍ يهمس لنا حين ينام الجميع. هو ليس دمعةً تسقط، ولا تنهيدةً تُطلق، بل هو ذلك الثقل الذي لا يُرى، ذلك الانحناء الخفيف في ظهرنا حين نُحاول أن نبدو بخير.

حزننا لا يُفسر، لأنه لا يملك بدايةً ولا نهاية. هو ليس نتيجة، بل حالة. كأننا وُلدنا به، أو كأننا التقطناه من طريقٍ مهجور، حين كنا نبحث عن شيءٍ يشبهنا، فوجدناه ينتظرنا بصمت. أحيانًا، نُحاول أن نُسميه: هل هو حنين؟ هل هو فقد؟ هل هو خيبة؟ لكنّه يرفض كل الأسماء، ويُصرّ أن يبقى مجهولًا، كأنّ الحزن الحقيقي لا يُعرّف، بل يُعاش.

نراه في انعكاس وجوهنا حين لا أحد ينظر، في ارتباك أيدينا حين نكتب شيئًا لا يكتمل، في ارتجاف صوتنا حين نُحاول أن نشرح ما لا يُشرح. هو ليس حزنًا على شخصٍ أو مكان، بل هو حزنٌ على كل ما لم يحدث، على كل ما كان يجب أن يكون، ولم يكن. على الأحلام التي لم تُولد، وعلى الكلمات التي لم تُقال، وعلى الحب الذي مرّ بنا، ولم يتوقف.

يشبه الغروب حين يتأخر، يشبه الطرقات التي لا تؤدي إلى أحد، يشبه الأغاني التي تُبكينا دون أن نفهم لماذا. نُحاول أن نُخفيه، نُخبّئه خلف ابتسامةٍ متعبة، نُربّت عليه كطفلٍ لا يُريد أن ينام، لكنّه يُصرّ أن يبقى مستيقظًا، أن يُرافقنا في كل لحظة، أن يُذكّرنا بأننا هشّون، وأننا، رغم كل شيء، ما زلنا نبحث عن دفءٍ لا نعرفه.

حزننا لا يُفسر، لأنه ليس ضعفًا، بل هو شكلٌ آخر من أشكال البقاء. هو ذلك الجزء منا الذي لا يُساوم، الذي لا يُجامل، الذي لا ينسى. لا يُفسر لأنه شكلٌ آخر من أشكال القوة. الجزء الذي لا يتنازل. هذا الحزن لا يُفسر، لأنه ليس لحظة، بل حياة. هو ذلك الانكسار الصامت حين نُحدّق في صورٍ قديمة، هو ذلك الثقل في صدرنا حين نسمع أسماءنا ولا يردّها صوتٌ نعرفه، هو ذلك الفراغ الذي لا يملؤه شيء، مهما ازدحمت الأيام.

نحن لا نبكي كثيرًا، لكننا نحزن بصمتٍ عميق، كأننا نُحاور الغياب، ونُصادق الوحدة، ونُربّي الحنين كطفلٍ لا يكبر. وهكذا نعيش، لا نطلب تفسيرًا، ولا نبحث عن عزاء، يكفينا أننا نكتب، لعل الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي نُبقي بها من أحببناهم أحياء في قلوبنا.


ظلّ لا يُقال

ثمة ظلّ يتبعنا، لا يشبه ظلال الأشياء حين تسقطها الشمس، بل يشبه وجوه من غابوا دون وداع. ظلّ لا يُقال، لأنه ليس حكاية تُروى، بل وجعٌ يسكن بين الضلوع، يتنفس في صمت، ويكبر كلما تذكرنا أننا لم نعد نملك بيتًا نعود إليه، ولا صوتًا ينادينا بأسمائنا كما كانت تفعل أمهاتنا.

نحمل غربتنا كأنها حقيبة مثقوبة، تسقط منها الذكريات واحدةً تلو الأخرى، ولا نملك أن نلتقطها. كل الذين أحببناهم تفرّقوا: من مات، ومن رحل، ومن صار غريبًا رغم أنه كان الأقرب. لم يبقَ لنا سوى صورٍ باهتة، وأحاديثَ مبتورة، وأسماءٍ لا يردّ عليها أحد.

نجلس في الليل، لا لنرتاح، بل لنُصغي إلى ذلك الظلّ، يهمس لنا بما لا يُقال، يذكّرنا بأننا وحدنا، وأننا، مهما كتبنا، لن نستعيد من فقدناهم. الحنين لا يُشفى، والفقد لا يُعوّض، والغربة ليست في المكان، بل في القلب الذي لم يعد يعرف أين ينتمي.

هذا الظلّ لا يُقال، لأنه لا يُفهم. هو ذلك الانكسار الذي لا يُرى، ذلك الحزن الذي لا يبكي، ذلك الغياب الذي لا يملّ من الحضور. يشبه صدى خطواتٍ في ممرّ طويل، لا يصل إلى باب، ولا يختفي مهما حاولنا أن نغلق الأبواب.


ما تبقّى منّا

لم نعد كما كنا، ولا كما ظنّوا أننا سنبقى. كلّ ما كان يومًا جزءًا منا، تسرّب بصمتٍ في طرقات الغياب. نحملنا الآن كغرباء عن أنفسنا، كمن يجرّ ظلّه في مدينة لا يعرفها، كمن يبتسم للناس كي لا يسألوننا عمّا يؤلمنا.

ما تبقّى منا ليس سوى فتات ذاكرة، صورٌ قديمةٌ لأحبّةٍ رحلوا، أحاديثٌ مبتورةٌ لم تكتمل، وأسماءٌ لا يردّ عليها أحد. نجلس في الليل، لا لنرتاح، بل لنُحصي من فقدناهم، من مات، ومن تفرّق، ومن صار غريبًا رغم أنه كان الأقرب.

نحن نَحنّ إلى بيتٍ لم يعد موجودًا، إلى رائحة خبزٍ كانت توقظنا، إلى صوت أمهاتنا وهنّ يناديننا، إلى ضحكات آبائنا التي كانت تملأ المساء دفئًا. كلّ ذلك صار بعيدًا، كأننا كنا هناك في حياةٍ أخرى، ثم استيقظنا فجأة في منفى لا يشبهنا.

ما تبقّى منا هو الحنين، ذلك الذي لا يُشفى، ذلك الذي لا يُقال، ذلك الذي يجعلنا نكتب كي لا ننسى، كي لا نذوب في هذا الزحام الذي لا يعرفنا. نحن لسنا بخير، لكننا نُجيد التماسك، نُجيد الصمت، ونُجيد أن نبدو قويّين، رغم أننا، في داخلنا، نحمل ما تبقّى منا فقط.

يشبهنا هذا الحنين حين يوقظنا في منتصف الليل، يفتح دفاتر الصور القديمة، ويعيد إلينا أصواتًا كنا نظنها ماتت. نُحاول أن نُخفيه، لكنّه يطلّ من أعيننا، من ارتجاف أصابعنا، من الكلمات التي نكتبها كي لا ننهار.


حين صار البيت صورة

لم يعد البيت مكانًا نعود إليه، بل صار صورةً معلّقة في ذاكرة لا تهدأ. صورةٌ باهتة التقطناها قبل أن يغادر الجميع: أمهاتنا واقفات عند الأبواب، آباؤنا يقرأون بصمت، إخوتنا يتزاحمون حول المائدة، وضحكاتٌ كانت تملأ الزوايا. كل شيء كان حيًّا، دافئًا، بسيطًا. والآن، لا شيء سوى فراغٍ لا يُملأ، وصمتٍ لا يُكسر، وحنينٍ لا يُشفى.

نمرّ على تلك الصورة أحيانًا، لا لنتذكّر، بل لنتأكد أننا كنا هناك فعلًا. أننا كنا جزءًا من حياةٍ لم تعد لنا. البيت الذي كان يحمينا من العالم، صار الآن مجرد إطارٍ خشبيٍّ على جدارٍ بارد. لا رائحة فيه، لا أصوات، لا دفء. فقط ملامح من أحببناهم، بعضهم مات، بعضهم رحل، وبعضهم تفرّق كأننا لم نكن يومًا عائلة.

الغربة ليست في المدن التي لا تعرفنا، بل في البيت الذي لم يعد موجودًا. في التفاصيل التي ضاعت، في الأحاديث التي لم تكتمل، في الأبواب التي أُغلقت دون وداع. حين صار البيت صورة، صار الحنين وجعنا اليومي، وصار الحزن طريقتنا الوحيدة للبقاء.

يشبه البيت الآن كتابًا أغلق فجأة قبل أن نكمل قراءته، أو أغنية توقفت عند منتصف اللحن. كلما حاولنا أن نعيد فتحه، نكتشف أن الصفحات فارغة، وأن الأصوات التي كانت تملأه صارت صدى بعيدًا لا يجيب.


وجوه لا تعود، وأماكن لا تُشفى

كلما مرّ بنا الوقت، ندرك أننا لا نعيش في الحاضر، بل في بقايا زمنٍ مضى. وجوهٌ كانت تملأ حياتنا دفئًا، صارت الآن صورًا باهتة في ذاكرة لا ترحم. نُحدّق فيها، لا لنتذكّر، بل لنتأكد أننا كنا هناك فعلًا، أننا كنا يومًا جزءًا من حياةٍ لم تعد لنا. منهم من غاب تحت التراب، ومنهم من غاب في الغياب، ومنهم من غاب في نفسه حتى صار لا يشبه من عرفناه.

أما الأماكن، فهي لم تعد كما كانت. البيت الذي كان يضحك، صار جدارًا صامتًا. الشارع الذي كنا نركض فيه، صار ممرًا غريبًا لا يعرفنا. المقهى الذي شهد أولى خيباتنا، أغلق أبوابه، وكأنّه تعب من الانتظار. كل شيء تغيّر، لكننا ما زلنا نبحث فيه عن أنفسنا، عن صوتٍ مألوف، عن رائحةٍ قديمة، عن لحظةٍ لم تُكمل دورتها.

الوجوه لا تعود مهما توسّلنا للذاكرة أن تُعيدها، والأماكن لا تُشفى لأنها لا تنسى من مرّ بها ولا من ترك فيها شيئًا من روحه. نحملنا الآن كمن يحمل أطلالًا، كمن يعيش في متحفٍ داخليٍّ لا يزوره أحد. وكلما حاولنا أن نبدو بخير، ينهض الحنين من داخلنا، يضع يده على قلوبنا، ويقول لنا: "ما زلتم هناك، حيث الوجوه لا تعود، والأماكن لا تُشفى."

يشبه هذا الحنين موجًا يتراجع ليعود أقوى، يضربنا كلما حاولنا أن نثبت أننا تجاوزنا. نُخفيه خلف ابتساماتٍ متعبة، لكنّه يطلّ من أعيننا، من ارتجاف أصابعنا، من الكلمات التي نكتبها كي لا ننهار.


خرائط القلب الممزقة

لم نعد نعرف الطريق إلى أنفسنا. كل الطرق التي كانت تؤدي إلينا، تكسّرت تحت وطأة الغياب، وتاهت في زحام الفقد. قلوبنا لم تعد كما كانت، صارت أشبه بخريطة قديمة، باهتة، ممزقة الأطراف، لا تُرشد أحدًا، ولا تحتفظ بوجهةٍ واضحة. كلّ نبضة فيها تحمل اسمًا غاب، وكلّ زاوية فيها تئنّ من ذكرى لم تُكتمل.

نُحاول أن نُعيد ترتيب هذه الخرائط، أن نرمّم ما تبقّى منها، لكنّ الأماكن التي كانت تسكننا لم تعد موجودة، والوجوه التي كانت تضيء أيامنا، صارت ظلالًا لا تُجيب. نكتب أسماءهم على جدران القلب، لكنّ الحروف تتلاشى، كأنّهم لم يكونوا يومًا هنا، كأنّنا كنا نحلم بهم، ثم استيقظنا في منفى لا يشبهنا.

كلّ خريطة في داخلنا تشير إلى بيتٍ لم يعد لنا، إلى حضنٍ لم نعد نجد فيه دفئنا، إلى صوتٍ كان يردّ على ندائنا، ثم سكت إلى الأبد. نحن لا نبحث عن طريقٍ جديد، بل نبحث عن أنفسنا في الطرق القديمة، في الأزقة التي كانت تحفظ أسماءنا، في الأماكن التي كانت تعرفنا قبل أن نضيع.

خرائط القلب الممزقة لا تُصلحها الكتابة، لكنها تمنحنا سببًا للبقاء، لنكتب، لا كي نُشفى، بل كي لا ننسى. كي نظلّ نبحث، ولو في الفراغ، عن شيءٍ يشبهنا… عن قلبٍ لا يزال يعرف كيف يحب، رغم كل ما تمزّق.

يشبه هذا القلب مدينة بلا أبواب، كلما حاولنا الدخول إليها، وجدناها مغلقة بالصمت، محاطة بأسوار من الحنين، لا تفتح إلا في الأحلام.


لا أحد ينتظرنا هناك

كلما فكّرنا في العودة، تذكّرنا أن لا أحد ينتظرنا هناك. البيت الذي كان يضجّ بالأصوات، صار صامتًا كأنّه لم يعرفنا يومًا. الشارع الذي كنا نركض فيه صغارًا، صار غريبًا، لا يردّ السلام، ولا يعرف وقع خطواتنا. حتى الباب الذي كنا نفتحه دون أن نطرق، صار مغلقًا، لا يفتح إلا للذكريات.

أولئك الذين كانوا يملؤون المكان دفئًا، رحلوا. منهم من غاب إلى الأبد، ومنهم من تفرّق في جهات الأرض، ومنهم من صار أشخاصًا آخرين، لا يشبهون من أحببناهم. لم يبقَ لنا هناك سوى رائحةٍ قديمةٍ في الجدران، وصورةٍ معلّقةٍ على الحائط، وكرسيٍّ فارغٍ لا يجلس عليه أحد.

نفكّر أحيانًا أن نعود، لكننا نخاف أن نجد المكان كما هو، ونخاف أكثر أن نجده قد تغيّر، أن يكون قد نسي وجوهنا، أن تكون الأزقة قد محَت أسماءنا من جدرانها. لا أحد ينتظرنا هناك، ولا أحد يسأل عنا، ولا أحد يفتح لنا الباب حين نقترب. وكلما اقتربنا من فكرة العودة، نبتعد أكثر، لأننا لا نحتمل أن نعود غرباء إلى المكان الذي كان يومًا كلّ عالمنا.

الغربة ليست فقط في المدن البعيدة، بل في الأماكن التي كانت تعرفنا، ثم نسيتنا. وفي الوجوه التي كانت تحبّنا، ثم غابت. وفي البيت الذي صار صورة، وفي الطريق الذي لا يردّ على خطانا. لا أحد ينتظرنا هناك… ولا أحد يعرف كم يؤلمنا ذلك.

يشبه هذا الإحساس بابًا صدئًا لا يُفتح مهما طرقناه، أو نافذةً مغلقة خلفها ضوءٌ لا يصل إلينا. كلما اقتربنا، ابتعد أكثر، كأنّ المكان نفسه يخاف أن يرانا كما صرنا.


البيت الذي لا يعرفنا بعد الآن

عدنا ذات مساءٍ إلى الحيّ الذي كنا نظنه يعرفنا، إلى البيت الذي كنا نظنه ينتظرنا. وقفنا أمام الباب كما كنا نفعل صغارًا، لكن شيئًا في الجدار كان غريبًا، كأنّه لم يرنا من قبل. لم يفتح الباب، ولم تخرج أمهاتنا لتسألننا إن كنا جائعين، ولم نسمع صوت آبائنا يطلب منا أن نهدأ قليلاً. كل شيء كان صامتًا، حتى الهواء بدا متردّدًا في التنفس.

البيت تغيّر، أو ربما نحن الذين تغيّرنا. النافذة التي كنا نطلّ منها على العالم، أُغلقت. الكرسي الذي كنا نجلس عليه لنكتب، اختفى. رائحة القهوة، صوت المذياع، ضحكات إخوتنا، كلّها غابت. كأنّ البيت نسي من كنا، أو كأنّه لم يكن لنا يومًا.

نُحدّق في الجدران، نبحث عن أثرٍ لنا، عن خربشةٍ على الحائط، عن كتابٍ تركناه ذات مساءٍ ولم نعد إليه. لكنّ الجدران صارت باردة، لا تردّ السلام، ولا تعترف بنا. نشعر أننا غرباء في المكان الذي كان أكثر الأماكن أمانًا. نشعر أننا زوّار في ذاكرةٍ كانت لنا، ثم تخلّت عنا.

البيت لا يعرفنا بعد الآن، ولا نحن نعرف كيف نكون فيه. كلّ ما تبقّى هو صورةٌ قديمة، وألمٌ جديد، وغربةٌ لا تُشفى. يشبه هذا البيت الآن قفصًا فارغًا، بلا أصوات ولا دفء، كأنّ الحياة التي كانت فيه انسحبت إلى الأبد.


كل ما تبقّى منّا

لم يبقَ منّا سوى ما لا يُقال. بعض الصور التي لم تُحرقها السنوات، أحاديث مبتورة في ذاكرة متعبة، وأماكن كانت تعرفنا، ثم نسيتنا.

كنا نضحك، نخطط، نكتب أحلامنا على جدران البيت، كنا نؤمن أن الغد لنا، وأننا سنبقى مهما تغيّر العالم. لكن العالم لم ينتظرنا، والأيام مضت كأنها تُعاقبنا على ثقتنا الزائدة.

كل ما تبقّى منّا هو ما لم نُكمله، رسائل لم تُرسل، أمنيات لم تتحقق، وأسماء نُردّدها في داخلنا كي لا تختفي. نُحدّق في وجوههم في الصور، نُحاول أن نستعيد صوتهم، ضحكتهم، تفاصيلهم الصغيرة التي كانت تصنع يومنا. لكنّ الصور لا تتكلم، والذاكرة تُرهقنا، والحنين لا يرحم.

منهم من مات، ومنهم من رحل، ومنهم من صار غريبًا رغم أنه كان الأقرب. وحدنا نُعيد ترتيب الفقد، نُربّي الحنين كمن يُربّي وجعًا لا يُشفى.

كل ما تبقّى منّا هو نحن، نحن الذين نكتب كي لا ننسى، نحن الذين نُقاوم كي لا ننهار، نحن الذين نُحبّهم رغم الغياب، ونُحبّهم أكثر لأنهم غابوا.

هذا ما تبقّى منّا… وجعٌ لا يُقال، وحنينٌ لا يُشفى، وظلٌّ لا يغادر. يشبهنا هذا الحنين حين يوقظنا في منتصف الليل، يفتح دفاتر الصور القديمة، ويعيد إلينا أصواتًا كنا نظنها ماتت. نُحاول أن نُخفيه، لكنّه يطلّ من أعيننا، من ارتجاف أصابعنا، من الكلمات التي نكتبها كي لا ننهار.


ما زلنا نبحث عن ملامحنا في الصور القديمة

نُقلّب الصور كما لو أننا نُنقّب في أطلال أنفسنا. نُحدّق طويلًا في الوجوه التي كانت تحيط بنا، في ابتسامةٍ كنا نظنها حقيقية، في نظرةٍ كانت تحمل شيئًا من الأمل، أو شيئًا منّا. نبحث عن وجوهنا بين تلك الوجوه، لكننا لا نجدها. كأننا كنا هناك أجسادًا فقط، حاضرين في الصورة، غائبين عن اللحظة.

في كل صورة، ثمة شيء ناقص. ربما هو الصوت الذي لم يُسجّل، أو الشعور الذي لم يُحفظ، أو الحزن الذي كان يختبئ خلف ابتسامةٍ مصطنعة. نُحاول أن نستعيد ملامحنا كما كانت، لكنّ الزمن غيّرنا، والغربة مزّقتنا، والفقد شطب أجزاءً منا لا تُرمّم.

نُحدّق في صورةٍ قديمة لأمهاتنا، نُراقب أيديهنّ وهنّ يمسكن بنا، كأنهنّ كنّ يحاولن أن يُبقين قلوبنا في مكانها. نُحدّق في آبائنا، في وقفاتهم الصامتة، في عيونهم التي كانت تقول كل شيء دون أن تنطق. نُحدّق في أنفسنا، ولا نجدنا.

ما زلنا نبحث عن وجوهنا في الصور القديمة، لعلّنا نُعيد ترتيب ما تبقّى منا، لعلّنا نُقنع أنفسنا أننا كنا يومًا أشخاصًا يعرفون من هم، قبل أن تُبعثرنا المنافي، وتُطفئنا الخيبات، وتُعلّقنا في ذاكرة لا تُشفى.

كل صورة هي مرآةٌ لا تعكسنا، كل لحظةٍ محفوظة على ورق، تُذكّرنا بأننا كنا هناك، لكننا لم نكن حقًا. وما زلنا نبحث، لا عن وجوهنا فقط، بل عن أنفسنا التي ضاعت في التفاصيل، ولم تعد.

يشبه هذا البحث محاولة الإمساك بظلٍّ في ضوءٍ متكسّر، أو جمع شظايا مرآةٍ تحطّمت منذ زمن بعيد. كلما اقتربنا من ملامحنا، ابتعدت أكثر، كأنّها تخاف أن نراها كما صرنا.


نكتب كي لا نموت من الحنين

نكتب لأننا لا نملك وسيلة أخرى للبقاء، لأن الكلمات هي الجسر الأخير بيننا وبين ما فقدناه. نكتب كي لا يبتلعنا الصمت، كي لا نذوب في فراغٍ لا يرحم، كي نُمسك بخيطٍ رفيع يربطنا بما كان لنا يومًا. كل حرفٍ نكتبه هو محاولة لإنقاذ ما تبقّى منّا، محاولة لإعادة الحياة إلى أصواتٍ خفتت، إلى وجوهٍ غابت، إلى أماكنٍ لم تعد تعرفنا.

الحنين ليس زائرًا عابرًا، بل موجة تتسلّل من تحت الأبواب، تجلس بجانبنا في الليل، وتفتح دفاتر الأيام التي مضت. يوقظنا حين نظن أننا تجاوزنا، يذكّرنا أن الغياب ليس مجرد مسافة، بل كرسي فارغ في زاوية الذاكرة، ظلّ لا يغادر مهما أطفأنا الضوء. نكتب لأننا لا نستطيع أن نصرخ، لأننا لا نجد من يسمعنا حين نبكي بصمت، لأن الكتابة هي نافذة نفتحها حين تُغلق كل الأبواب.

نكتب كي نُربّي حزننا، كي نُهدهده حين يشتدّ، كي نُقنعه أننا ما زلنا هنا، رغم كل ما فُقد. نكتب لأننا نخاف أن يسرقنا النسيان، أن نمحو وجوههم من ذاكرتنا، أن نصير غرباء عن أنفسنا. نكتب لأننا نريد أن نُبقيهم أحياء في السطور، أن نُبقي أصواتهم حيّة في الكلمات، أن نُقاوم فكرة أن كل شيء انتهى.

نكتب لا لنروي قصة، بل لنُبقي ما كان حيًّا فينا، لنُعيد ترتيب الخراب، لنُرمّم ما تهدّم في القلب. نكتب لأننا، في كل مرة نكتب، نعيد بناء أنفسنا من الرماد، ونقنع قلوبنا أننا ما زلنا هنا، رغم كل ما فُقد. نكتب لأننا نؤمن أن الحروف يمكن أن تكون أجنحة، وأن الورق يمكن أن يكون وطنًا حين لا يبقى لنا وطن.

نكتب كي لا نموت من الحنين… وأحيانًا، نكتب لأننا متنا بالفعل، لكننا لا نريد لأحد أن يعرف.