عشتار السومرية العراقية/ د. عدنان الظاهر

 


في سجن مسرات الأحزانِ

في بيتِ ظلامِ الوحشةِ والشوقِ لنارِ الرمضاءِ

جسدٌ يتهرا

يتآكلُ جنساً بخساً عُشاً عُشا

أربيعٌ خابَ ولم يدخلْ مرآة الدورانِ

يشرحُ لي صدري

يتركُ لي طاقاتٍ أخرى

تسرح ما بين حبالِ الريحِ ورملِ جنوحِ البيداءِ

أربيع هذا

أتعاطى فيه الجنسَ البائسَ تحت صفيرِ الإنذارِ

لا يلعبُ ساعةَ إنصافٍ أوتاري

لا يعرفُ جُرحَ الشرفةِ في ناري

فأصولُ اللعبةِ في رحلةِ جلجامشَ ضاعتْ

في السعي وراءَ اللاتِ وتمثالِ عقيقٍ يتلألأُ في جسدِ العُزّى

(( أهواها لاتاً كانتْ أمْ عُزّى - أنكيدو ))

ما اللاتُ وما العُزّى ؟

أسماءٌ قدّسها ربُّ الأربابِ

تدخلُ بيتي قبلَ حلولِ طقوسِ الأعراسِ

تلعبُ أحجارَ السحرِ على شمعِ النبراسِ

علَّ الغائبَ يأتي مخموراً

جبّارَ القوّةِ والبأسِ .


في قبوِ رطوبةِ بيتِ الشيطانِ

يتوقفُ فصلُ الأمطارِ

لتجيءَ الأحلامُ بأختامِ شموعِ الأقوامِ

ما هذا البطرُ المتورّمُ شيطانا

يتمرّدُ في طُرُقاتِ الأسفارِ أمامَ نواعيرِ الطغيانِ

لا يعرفُ للراحةِ في جسدِ المخلوقةِ من طينةِ أعضائي طعما.


في بيتِ مليكةِ أنكيدو

صوَرٌ تتدلّى

فوقَ مساميرِ صخورِ الجدرانِ

قدَراً محموماً أعمى

يجلدني مائةَ سوطٍ في اليومِ

هل أعبرُ جسرَ الإنسانِ

أو أهربُ فوق محطاتِ الريحِ وأفقدُ أحجارَ عدالةِ ميزاني ؟

عشتارُ تخونُ عشيرَتها

وتنامُ وجلجامشَ فوق الأسوارِ

فالطقسُ مِرايا عرشِ المُلْكِ بأسواقِ الوركاءِ ...

لا أعرفُ دنياً أخرى تزني

تتكاثرُ في حُجرةِ عشتارِ

وتنامُ قبيلَ صياحِ الديكِ على رغبةِ أبراجِ السلطانِ

كي تقرأَ في صُحُفِ الموتى

منقوشاً في معبدِ كهّانِ الوركاءِ

ما شطبَ النمرودُ وما أبقى حيّا .



في سوق الخردة/ بن يونس ماجن



في سوق الخردة

تتناسل عروش الحكام العرب


الغيمة السوداء التي لا تمطر

لا يمكن التحكم فيها


هل هناك في شبكة النت

مقبرة للبريد الالكتروني


الأقنعة الزئبقية

تحللت وكشرت عن أنيابها


كثير من الخونة العرب

يستحمون في مستنقعات الذل والهوان


زعماء بلا شرف ولا نخوة

بأظلافهم الغليضة يكنسون زرائب العبيد


ثمة توأمان شريران

على خريطة العالم يتمددان


عملاء على وشك الانقراض

الخيانة لعبتهم المفضلة


في الحرب الأخيرة وقف بيدق أمام رقعة شطرنج

فصفع الجنود والخيول والملوك


في مدينتنا متمرس في التماطل

يدعونه  ليقدم نصائح مجانية في التخاذل


اذا لم تصنع عدوا افتراضيا

فأنت انسان تافه غير صادق مع نفسك


العالم الذي أصابه العمى

يرتدي نظارات الهلوسة ويتغاضى عن جرائم الصهاينة


المهاجر الذي قذفته الأمواج العاتية نحو الضفة الأخرى

هل يموت كما يموت السمك أكثر من مرة؟


كيف يمكن تحنيط فراعنة هذا الزمان

وتحويلها الى مومياوات ليحتضنها وحل العفن


رائع أن ترى سيجارة تحتضر في منفضة

ويتشلخ دخانها بين أنامل الحسنوات


أحيانا أتساءل:  النفس الأخير لعنقاء الرماد

هل له علاقة بنهاية العالم؟


يخامرني شعور أن الذكاء الاصطناعي

وراء رسم خطوط يدي


اختراق باب واحد لا يكفي

لاعادة الامور الى نصابها


ثمة وطن مغلق منذ سوات طويلة

لقد تم فتح أبوابه للغربان وعلقوا على أطلاله شراشف الأكفان

قصَائِدُ الشَّهْدِ والبَلسَم للعُشَّاق - عن ديوان عاشق من الجليل للدكتور حاتم جوعيه/ د. بطرس دله


 لماذا  يحاول ُالشُّعراءُ أن  يكتبوا عن  العشق والهوى ؟!  لماذا يحلو  لهم دائما، شعراء وشاعرات أن يطرقوا هذا البابَ  فتذوبُ الكلماتُ رقَّة وعذوبة ً وننفعلُ  معها  نحن  جمهور القرَّاء  ونحفظُ  منها ما نحفظ  نُرَدِّدُهُ في  كلِّ مناسبة ؟! هل لأنَّ  حديثَ القلوب أكثر وقعا في النفوس من أحاديث العقول ؟! أم  لأنَّ الشاعر َيستمطرُ الكلمات على من  يحبُّ  فتطيعُهُ دون عناء ؟! .. إحدى الشاعرات كتبت ذات يوم  تقول  : " أحبُّ الرجلَ الهادئ  ليمتعني الانتصار حين أثيرُهُ ". وفي مكان آخر كتبت :" يعجبني أن أكون امرأة فالرجل تقتلهُ النساء. أما   شاعرنا  فيرى  نفسَهُ معبودَ كلَّ النساء الجميلات  فيُحَوِّلَهُنَّ خدمًا وجواري من حوله في  قولِهِ :

(" وَلو  أردتُ جميعَ  الغيدِ  تعبُدُني     لكانتِ  الغيدُ  كلُّ  الغيدِ   كالخَدَم ِ") 

   هذه  المقارناتُ  بين الرجل والمرأة ، بين  نظرة هذه  ونظرة  ذاك تحبِّب  لنا قراءة الشعر، لأنهُ حديثُ القلوبِ، يثيرُ  فينا مشاعرَ دفينة وينطق بألسنتنا لأننا عشقنا ونعشق ذكورا واناثا، فالعشقُ هو جوهرُ الحياة والمحبَّة زهورها ورياحينها التي تجمّلها على الرغم من مشاكلها وهو هو نفسه صناعة الحياة وصعوباتها.                                                         

     قدَّمتُ لمقالي هذا بعضَ هذه الكلمات لأنَّنا  ازاء ديوان  عنوانه " عاشق من الجليل ". والدكتور " حاتم جوعيه " يرى نفسَهُ عاشقا  ليس فقط  للجنس  الآخر. .فالعشقُ عندهُ إلى جانب الجنس الآخر هو عشق الوطن، عشق الإنسان لأخيه الإنسان  في الإنسانية ،عشق من تبَنَّى القضيَّة  الفلسطينيَّة، عشق من                          

ضَحَّى  بجميع الوظائف  والمناصب  قربانا للحقِّ ، عشق  مَنْ حملَ صليبَهُ  فداءً  للحقيقة  ممتثلا  بقول السيد المسيح : "ماذا ينفعُ الإنسان لو ربحَ العالمَ  كلهُ وخسرَ نفسَهُ . وهو قولٌ رائعٌ وموعظة فلسفيَّة لِمَن يُريدُ ان يتّعض!!.   

  بعد قراءةٍ ممتعةٍ  في ديوان هذا العاشق ، تجلَّت أمامي شاعريَّةٌ  متفجِّرة  من  تلال المغار الجليليّة - وشاعرنا  يحبُّ  هذا الانتماء  إلى الجليل -  ولهُ  مقدرةٌ  كبيرة  على الإبداع  بشكل  ملفتٍ  للنظر، هذا إلى جانب  الكثير من  الصُّور البلاغيَّة الرائعة والتّشابيه والاستعارات التي صَبغَت الديوان بصبغةِ التجربةِ  الفذة وعُمق الفكرة  وجزالة  الأسلوب   وفوق  كلّ  ذلك الوطنيَّة  الصَّادقة  مع شيء  كثير من الثقة  بالنفس والاعتداد بها  إلى درجةِ  عبادة الذات وحتى المبالغة في مدح الذات !!..ونحنُ نذكرُ المثل الذي يقول: "مادح نفسهُ  مذموم لدى الناس " ! .. إلا أنَّ شاعرَنا يحاورُ في هذا المجال  بعض ضعاف النفوس والمغرضين الحاقدين والعملاء وأذناب السلطة الذين خانوا شعبهم .. مِمَّن تجنُّوا عليه وهاجموهُ  بسبب ما يكتبُ وبغير حق ! وهو الذي قاسى الأمرين من ملاحقةِ السلطة وعملائِها لهُ، لمواقفهِ الوطنيَّة الشريفة والصادقة  فهو  خاضَ معركة  طويلة في هذا الصَّدد  وكرسَ كلَّ طاقاتهِ وشعرهِ  وحياتهِ وشبابه للقضيَّة الفلسطينيَّه وللشعب الفلسطيني في الضفَّة  والقطاع في انتفاضته الجبَّارة ..ولو أنّ موضوع نضالهِ هذا وعدم رضوخهِ لسياسة السلطةِ مقابل لقمة العيش والوظيفة والمركز العالي  لم  يُكتب ولم ينشر عنهُ في الصحف ووسائل الإعلام ! وهو يعتقد ُاعتقادًا راسخًا  أنهُ لا يستطيعُ أن يبعَ ضميره كالكثيرين الذين باعوا ضمائرَهم ،من عرب الداخل ،لأجل الوظيفة والمكسب المادي لأنَّ لهُ ضميرا حيًّا  ولا يستطيعُ أن  يبيع َ قلمهُ وفكرهُ ومواهبَهُ وإبداعاته وَيُوجِّهَ  فوَّهَة َ البندقيَّة  إلى شباب وأطفال الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة لأنهم فلسطينيُّون ولأنهُ هو كذلك فلسطيني وعربي مثلهم.      


مواطنُ الجمال في الديوان:                   

 لم أبحث كثيرا  كي أجدَ البيت او البيتين لأتحَسَّسَ مواطنَ  الجمال  فيما يكتبُ شاعرُنا، ذلك  لأنَّ  الديوان كما  ذكرتُ يعجُّ  بكلِّ  ما هو جميل  حتى لو جاءَ على  طريقةِ  الشعر العمودي الموزون المقفَّى . فلنسمع إليهِ  يُحَدِّثُنَا  عن شدوِ البلابل  وغناء الطيور قائلا: 

كتبت أغانيها الطيورُ على ثغورِ الياسمين " .  وفي مكان آخر يقول: "

(الحُبُّ عمَّدَني إلهً  في دروبِ  الموتِ حَمَّلني صليبَ الرَّبِّ فوقَ الجُلجُثَهْ .. فأنا نبيُّ البائسين).  

   وشاعرُنا عندما يتكلَّمُ  بلسان الذات إنَّما يعني كلَّ إنسان من المعوزين الفقراء والمشرَّدين والبائسين والأطفال المحزونين، وهو يعيدُ للزَّهر أريجَهُ وبهاءَهُ  ويهدي  الكثيرَ من إبداعِهِ للفلسطيني اللاجئ والمشرَّد  ومسلوب الأرض والمصلوب على صليب الكفاح الوطني . وفي هذا الشيء الكثير من الاعتزاز والروعة. إنَّهُ يحاولُ تجسيدَ الحلمَ الذي يُراودُ مخيَّلة آلاف اللاجئين  الفلسطينيَّين الذين يحلمون  بالوطن وبالعودةِ إلى الوطن المستقل وإلى العَلم الذي لا بُدَّ  أن  يُرَفرفَ  فوق  ربوع الوطن  الغالي مهما  استبدَّ  المحتلُّ  ومهما بطشَ وتمادى في القتل والهدم  والتَّشريدِ والتجويع.                                        

  إنَّهُ عندما يتغزَّلُ بمعشوقتهِ لا  ينسى ولو للحظةٍ أنَّهُ عربيٌّ  يعتزُّ بعروبتِهِ   ..عروبته المكافحة المناضلة لا الذليلة المتزلّفة. فلنسمع لمَا يقولهُ في قصيدة شقراء  مثلا:    


                                                      شقراءُ  يا   شمسَ  النَّهارْ )

يا وردةً  تاقتْ إلى  شَدْوِ الكَنارْ               

يا بسمةً  سحريَّةً  نامَتْ على شفةِ الصِّغارْ                                                       ...

وأنا  العروبةُ  صوتُهَا  ونشيدُها  المُلتاعُ  في  دنيا النضال                                     ..

شقراءُ  يا  قيثارتي الأحلى  ويا  لغةَ  الكنارْ                     ....  

الضَّادُ في شفتيكِ  تسطعُ بالضياءْ).         ...  

هذا التمسُّك باللغةِ  العربيَّة وبمفهوم النضال  يتردَّدُ  في معظم  قصائد الديوان .  لذلك  إلى جانب الجمال نجدُ الوطنيَّةَ  الصادقة والتمسُّكَ بالفكرةِ  الثوريَّة للهدايةِ كعمود الدخان الذي صاحبَ بني إسرائيل في تيههم بصحراء سيناء.                                

عشقُ  الذات من عشق الوطن:                       

 ينضَحُ  هذا الديوانُ بأبياتٍ وقصائد  فيها  الكثيرُ من عشق الذات لدرجةٍ أنَّ  جميعَ  العذارى  والغيد  الجميلات  يتحوَّلنَ  إلى  جواري  ازاء  شخص شاعرنا وهو لو أراد  بإيماءةٍ واحدة  لركضت ملايينُ الجميلات  تلهثُ خلفَهُ  إلا  واحدة  وهي  التي  حَطَّمَت غُرورَهُ عندما التقاها  فتحوَّلَ  إلى  مُتقشِّفٌ وطلَّقَ كلَّ  النساء وأصبحَ هو  وقلبهُ  وفكرهُ الشريدُ  ضحايا جمال العيون.                           


في  قصيدة  "رفقا بقلبي"  يقول:                                      

   جميعُ  النساء   اشتهتني   لأنِّي        جميلٌ    بهيٌّ     كربِّ     البرَايَا) 

   لقد  كنتُ  رمزَ  جنونِ  الغرُورِ        وما   زلتُ  مَعبود   كلَّ  الصَّبايا 

   وَراءَ   لوائي   تسيرُ  العذارى          وَيخطونَ  حيثُ   ترُوحُ   خطايا  

  غروري    تحطَّمَ    يومَ    لقاكِ         وكم  كنتُ   أختالُ   دونَ   هدايَهْ 

   .("  فإنِّي   وقلبي    وفكري    الشَّريدُ           ضَحايا  جمالِ    العُيونِ   ضَحايَا  

           :وفي مكان آخر صفحة 135  يقولُ 

                                     أنا  دونجوانُ  العصر لكنِّي سئمتُ منَ النساءْ) 

وتركتُ قي دنيا الهوى  مليون معجبةٍ ومعجبةٍ حَيارى باكياتْ").                              

 فلماذا تركهنَّ باكيات ؟ ! .. وهو يُجيبُ  عن هذا السؤال بسرعة قائلا: 

("إنِّي وَهبتُ جميعَ طاقاتي وفكري .. قد وهبتُ جميعَ أزهاري وأحلامي  وعُمري  للوَطنْ       

                          .("سيظلّ  يخفقُ حُبُّهُ  في القلبِ حتى أن يُعانقني الكفنْ  // 

         :وقد يصلُ بهِ حبُّ الذات إلى الادِّعاء  بأنَّهُ عنقاءُ الزَّمان وإلهُ العنفوان 

 (أنا  عنقاء الزَّمانِ             

          وَإلهُ     العُنفوانِ 

                                        فاشهَديني يا  بلادي في سُهوبِ الرَّفض رائِدْ

    إنَّ  شعري في مدار الشَّمسِ يخطُو                   

           فوقَ هُدْبِ النَّجمِ  صاعِدْ 

لم أزل رمزَ التَّصَدِّي والتَّحَدِّي )... إلخ.              .    ..

   هذا العشقُ للذات سرعان ما يتحوّلُ  إلى عشق  للوطن والكفاح  وللشعب ..  فهو قد  كرَّسَ  نفسَهُ لخدمةِ شعبِهِ كما يقولُ في (  صفحة 98  ):                  


                                                                أنا  للشَّعبِ  وللشَّبِ أنا)

 لهُ حُبِّي وعطائي  وغنائي  وبكائي                                       

          لهُ  شعري .. 

          هُوَ   شمسي  وَظِلالي

         هُوَ  إيماضةُ  فكري  

أثَرُ المسيحيَّة  في شعرِهِ:                      

 إنَّ شاعرَنا  قد  درسَ الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد  وأصدرَ كتابا  سَمَّاهُ  : " دراسات في اللاهوت والفلسفة  وعلم النفس "  ركَّزَ فيهِ على ستَّة أنبياء من العهد القديم هم : إبراهيم الخليل ، يوسف بن يعقوب ، موسى كليم الله  ، إيليَّا ، أليشع  وأيوب البار .. ثمّ  انتقلَ إلى دراسة الملائكة  ومعجزات السيد المسيح  وتعاليمه اقواله  إلى جانب فكرة الإيمان  والاستشفاء النفساني   وما إلى  ذلك ، فقد  تركت هذه الدراسات  إثرَها البالغ  في نفس  شاعرنا   وصبغت  أشعارَهُ  بصبغةٍ دينيَّةٍ فلسفيَّة ، حتى بات يتعاطف مع دعوة  السيد المسيح في الإيمان والخلاص كما  يبدو من مقدمتهِ لكتاب الدراسات هذا. 

 ولو عُدنا إلى ديوانهِ  " عاشق من الجليل" لوَجَدْنَاهُ  يحوي الكثير من العبارات والمصطلحات المسيحيَّة بشكل  بارز . فهو  يستعملُ كلمة صليب  في عدَّة مناسبات  وكلمة معموديَّة وتسامح ، ثمَّ عيد  رأس السنة الميلاديَّة ، وكلمة الأبديَّة  وترديد كلمة الرَّب بسطَ  جناحيهِ  أو  كان الرَّبّ على عرشِهِ  كما  وردَت على ألسنةِ الرُّسُل  في  الأناجيل .  ثمَّ أنه  يهدي كتابَهُ  لكلِّ من يرغبُ في معرفةِ كلمة الله ويبحثُ عن الخلاص العجيب .وإلى كلِّ من حَملُوا الصليبَ والآلام في سبيل الهدي والإيمان...طوبى لهم لأنَّ لهم الحياة  الأبديَّة  في ملكوت  الله  السرمدي .  كل هذه التعابير مأخوذة أساسًا من تعاليم المسيحيَّة ، ويبدو انَّ  شاعرنا من خلال دراستِهِ كان قد استوعبَها   فباتت جزءًا مكمِّلا  لمعلوماتِهِ الواسعةِ ومعينا لا ينضبُ من قاموس الشاعر  يعودُ إليهِ  بين الحين  والآخر  كمصدر هام للوحي والإلهام  والإبداع. 

أخيرًا: إنّ هذا الديوان على مستوى عال جدا ومن أحسن وأفضل الدواوين الشعرية التي صدرت محليًّا وعلى مستوى العالم العربي، يضمُّ  في صفحاتِهِ  مجموعة كبيرة من القصائد في مختلف المواضيع: الإنسانيَّة ، الاجتماعيَّة، السياسيَّة ، الوطنيَّة ، الغزليَّة والفلسفيَّة ، جدير بأن  يقتنيه  كلُّ عاشق  للشعر لأنهُ  يثري  مكتباتنا البيتيَّة والمدرسيَّة  والعامَّة  ويضيفُ  لبنة  هامَّة إلى أدبنا المحلِّي. والشاعر والكاتب والناقد القدير الدكتور حاتم جوعيه يُعدُّ الآن في طليعة الشعراء والُّنقَّاد المحليّين، وقد حقَّق شهرة وانتشارا واسعا ومذهلا : محليًّا وعربيًّا وعالميًّا رغم سياسة التعتيم التي مورسَت ضدَّه من قبل جهات مغرضة وحاقدة سلطويَّة أو عميلة ومأجورة.        

      إنَّنا إذ  نحيِّي شاعرَنا الكبير الدكتور حاتم جوعيه على هذا العطاء المُتدفّق والمُمَيَّز  وعلى  ثوريَّتِهِ  المُبدِعة  وفكرهِ  الفلسفي  العميق  لأنَّهُ شاعرُ الحُبّ  والجمال  والكفاح  في آنٍ واحد ، لنرجو أن يتحفنا في المستقبل بالشيء الكثير ممَّا عندهُ فتحيَّاتُنَا  القلبيَّة  لهُ.             


مدى وجاهة العودة في الفلسفة المعاصرة الى السفسطة/ د زهير الخويلدي



مقدمة

تشكل السفسطة، كمذهب فلسفي يعود إلى العصر اليوناني الكلاسيكي، محورًا أساسيًا في تاريخ الفكر الغربي. السوفسطائيون، مثل بروتاغوراس وغورجياس وأنتيفون، كانوا معلمين جوالين يركزون على فن الخطابة (الريطوريقا)، والنسبية في الحقيقة، والتعليم العملي للنجاح في الحياة العامة. إلا أن صورتهم التاريخية غالبًا ما تُشوه بفعل نقد أفلاطون وسقراط، الذين وصفوهم بالمحتالين الذين يبيعون الحكمة مقابل المال، ويستخدمون الجدل للخداع بدلاً من البحث عن الحقيقة المطلقة. في هذه الدراسة، سنستعرض وجاهة العودة إلى السفسطة في الفلسفة المعاصرة، أي ما إذا كانت هذه العودة مبررة فلسفيًا وأخلاقيًا في سياق التحديات الحديثة مثل ما بعد الحداثة، النسبوية الثقافية، والسياسة الرقمية. سنعتمد على تحليل تاريخي وفلسفي، مع الاستناد إلى أفكار مفكرين معاصرين، لنقيم الحجج المؤيدة والمعارضة، مستخلصين أن العودة إلى السفسطة ليست مجرد إحياء تاريخي، بل استجابة ضرورية لعالم يغلب فيه الخطاب على الحقيقة الموضوعية. فماهي القيمة التي تم منحها للسفسطة في المقاربات الفلسفية المعاصرة؟


الخلفية التاريخية للسفسطة ونقدها الأفلاطون

يبدأت السفسطة في القرن الخامس قبل الميلاد في أثينا، حيث كان السوفسطائيون يُعتبرون "حكماء" يدرسون فنون الإقناع والجدل. بروتاغوراس، على سبيل المثال، أعلن أن "الإنسان مقياس كل شيء"، مما يعني أن الحقيقة نسبية وتعتمد على الإدراك البشري والسياق الاجتماعي. أما غورجياس، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك في رسالته "عن اللاوجود"، محاججًا بأن الوجود غير موجود، وإن وُجد فهو غير قابل للمعرفة، وإن عُرف فهو غير قابل للتواصل. هذه الأفكار كانت تهدف إلى تعزيز الديمقراطية من خلال تدريب المواطنين على المناظرة والإقناع، لكنها أثارت غضب أفلاطون الذي رآها تهديدًا للفلسفة كبحث عن الحقيقة الأبدية.في حوارات أفلاطون مثل "غورغياس" و"السوفسطائي"، يُصور السوفسطائيون كمحتالين يستخدمون الريطوريقا للإغراء بدلاً من الوصول إلى العدل والحق. يقارن أفلاطون الريطوريقا بالطبخ أو التجميل، أي فنون سطحية تخدع الحواس دون فائدة حقيقية. هذا النقد شكل النظرة السائدة للسفسطة كـ"سوفسطائية" بمعنى الجدل الخادع، واستمر حتى القرن التاسع عشر حين بدأ إعادة تقييمها من قبل هيغل وجورج غروت، اللذين رأيا فيها دفعة للتعليم العالي والحراك الاجتماعي. في الفلسفة المعاصرة، يُعاد اكتشاف هذا التراث كأداة لنقد الأنطولوجيا التقليدية، كما يظهر في أعمال باربارا كاسين التي تتحدث عن "تأثير السوفسطائي" كعنصر هيكلي في الفلسفة.


العودة إلى السفسطة في الفلسفة المعاصرة: السياقات والمفكرون

في القرن العشرين والحادي والعشرين، شهدت الفلسفة عودة ملحوظة إلى الأفكار السوفسطائية، خاصة في سياق ما بعد الحداثة والبراغماتية. يُرى هذا في رفض الحقيقة المطلقة لصالح النسبية والخطاب. نيتشه، على سبيل المثال، أشاد بالسوفسطائيين كحاملي "طاقة فلسفية"، معتبرًا اللغة مفاوضة للمعنى بدلاً من كشف الحقيقة. هيدغر، رغم تأثره بالبريسقراطيين مثل بارمينيدس، يتردد صدى نسبيته في الأعمال اللاحقة، حيث يُنقد الأنطولوجيا ككشف للوجود. أما ريتشارد رورتي، البراغماتي، فيعيد صياغة السفسطة كنقد للفلسفة كعلم، مفضلاً الإقناع الاجتماعي على البحث عن أساسات مطلقة.

في النسوية، تستعيد باحثات مثل شارون كراولي وسوزان جارات السفسطة لتحدي المنطق الأبوي، مستخدمات "مديح هيلين" لغورغياس كأداة لقلب الروايات الذكورية. كذلك، يرتبط فوكو وليوتار ودريدا بالنسبية السوفسطائية، حيث يركزون على القوة والخطاب كبناة للواقع. في مقالة "العودة إلى السوفسطائيين"، يُبرز الكاتب كيف تساعد السفسطة في مواجهة الفوضى المعلوماتية الحديثة، من خلال تدريب على الجدل المضاد لكسر الغرف الصدى وفك الخرافات الثقافية.

 كما في "تراث السوفسطائيين القدماء والثقافة الحديثة"، يُظهر التأثير في الإنسانيات الحديثة، مثل التربية التفاعلية والعقد الاجتماعي، الذي يعود إلى أنتيفون ويظهر في حقوق الإنسان المعاصرة. في السياسة، تظهر "السفسطة الجديدة" في عصر ما بعد الحقيقة، كما في مقالة "السوفسطائي قد سجل الدخول"، حيث ترتبط الريطوريقا بالإعلام الاجتماعي والسياسة، محذرة من سوء الاستخدام الأخلاقي.

هذا الاتجاه يعكس تحولاً من الفلسفة كعلم إلى أداة عملية، كما يناقش ريتشارد شوت في "السوفسطة الحديثة"، مستلهماً هانا أرندت في ربطها بالتوتاليتارية.


حجج وجاهة العودة إلى السفسطة

تكمن وجاهة العودة في قدرتها على مواجهة تحديات العصر.

 أولاً، في عالم ما بعد الحداثة، حيث تُفقد الحقيقة موضوعيتها، توفر السفسطة أدوات لفهم الخطاب كبناء اجتماعي. كما يقول غورجياس، اللغة ليست مجرد نقل للحقيقة، بل قوة إقناعية تشكل الواقع، مما يساعد في نقد السلطة كما عند فوكو.

 ثانيًا، تعزز الديمقراطية من خلال التربية على المناظرة، كما في "الجدل المضاد" الذي يرفض اليقين الأحادي ويشجع على التسامح. في "إذا الأنطولوجيا، فالسياسة"، يُظهر أندرو غوفي كيف تنقد السفسطة الأنطولوجيا كعنف خطابي، مفضلة "اللوغولوجيا" كممارسة لغوية تؤسس السياسة كتوافق أدائي دون أساس متعالي.   هذا يتناسب مع هابرماس في التواصل التبادلي، ومع لكلاو وموف في الخصومة الديمقراطية.

ثالثًا، في التربية الحديثة، كما في "فلسفة التربية السوفسطائية الجديدة"، تُعزز السفسطة الضوء المعرفي والحكمة كضوء لا يريد الجميع رؤيته، محفزة على التنافس والتكيف.  كذلك، في "دعوة لإحياء السفسطة"، يُدافع عن استعادتها في الخطاب العام والأدبي لاستعادة فلسفة الحكمة.  هذه الحجج تجعل العودة وجيهة لأنها تحول الفلسفة من تأمل مجرد إلى أداة عملية في عصر الرقمنة والتعددية.


حجج ضد وجاهة العودة إلى السفسطة

مع ذلك، توجد حجج قوية ضد العودة، تركز على مخاطر الخداع والفقدان الأخلاقي. أفلاطون حذر من أن السفسطة تحول الفلسفة إلى تجارة، وفي العصر الحديث، ترتبط بـ"السفسطة الحديثة" كما في السياسيين والكتب الذاتية، حيث يُستخدم العقل للمصلحة الشخصية بدلاً من المعرفة.

 في "تسييس الحقيقة: السفسطة الجديدة"، يرى آر. سي. سبرول أنها تحول الحقيقة إلى إقناع سياسي، مما يفقد الأخلاق.

كذلك، في عصر ما بعد الحقيقة، كما عند دونالد ترامب، تُرى السفسطة كأداة لـ"الحقائق البديلة"، مما يهدد الديمقراطية بدلاً من تعزيزها.

 في مناقشات على منصات رقمية، يُنقد البعض السفسطة كتبرير للتناقضات، كما عند أرسطو الذي حد منها بمبدأ عدم التناقض.

 هذه الحجج ترى العودة غير وجيهة لأنها قد تؤدي إلى نيتشوية سلبية أو توتاليتارية، كما عند أرندت.


خاتمة:

في الختام، تبدو العودة إلى السفسطة في الفلسفة المعاصرة وجيهة إلى حد كبير، لأنها توفر أدوات لنقد اليقينيات الزائفة وتعزيز الديمقراطية في عالم متعدد. ومع ذلك، يجب أن تكون مدعومة بأخلاقيات لتجنب الخداع. كما يقول نيتشه، السوفسطائيون يحملون طاقة فلسفية، وفي عصرنا، يمكن أن تكون هذه العودة خطوة نحو فلسفة عملية تتجاوز الأنطولوجيا التقليدية نحو سياسة أدائية. إن التوازن بين الإقناع والحقيقة هو مفتاح الوجاهة، مما يجعل السفسطة ليست نهاية الفلسفة، بل بداية جديدة لها. فهل تمثل السفسطة المعاصرة انطلاقة ثانية للفلسفة على نحو مختلف؟


كاتب فلسفي

مبارك الآتي باسم الرب/ الدكتور فيليب سالم


ها نحن هنا ننتظرك. مسيحيين ومسلمين ننتظرك. وها هي الملائكة تهلل وتردد "مبارك الآتي باسم الرب". وتستقبلك الأرض وتقول لك إن أباك ولد في مكان لا يبعد كثيرا من هنا، وإن قدميه وطئتا ترابنا. أتذكر كيف حوّل الماء إلى خمر؟ كانت تلك أعجوبته الأولى، في قانا، الجنوب. ها أنت اليوم في لبنان. بلد القديسين. وكم أعلنتم من مدينتكم قديسين عاشوا في هذه الجبال. ألا تشمّ رائحة البخور المتصاعدة من كل مكان، وتسمع أصوات أجراس الكنائس التي يتردد صداها في الأودية والتلال؟ إياك أن تغادر قبل أن تطل على وادي قنوبين. في قعر هذا الوادي عاشت المسيحية مئات السنين. عاشت لتبقى رسالة المسيح. وهذا هو بلد الرسالة. كنيستك منحته هذا الشرف. وحده لبنان في هذا الشرق يحمل هذه الرسالة. هنا في هذه البقعة الصغيرة من الأرض تعانق المسيحية الإسلام. في هذا الشرق وحده تعانق حضارة الغرب حضارة الشرق. في هذه البقعة الصغيرة من الأرض تعيش حضارات العالم كلها. فهذه بيروت تحتضن الجامعة الأميركية، كما تحتضن جامعة القديس يوسف اليسوعية، والجامعة العربية، والجامعة اللبنانية. فالرسالة لا تنحصر بالتعددية الدينية والحوار بين الأديان والطوائف، بل تتجاوزها إلى التعددية الحضارية والحوار بين الحضارات. خمسون سنة من الحروب لم تتمكن من قتل الرسالة.

لا نخالك أيها الراعي الصالح تجهل أن القضية اللبنانية لا تنحصر بحدود هذا الوطن الصغير، بل تذهب إلى ما هو أبعد بكثير. إنها تطال مسألة الحرية في الشرق، وماهية الإنسان الذي يعيش فيه. فالحرية هي البوابة إلى الحضارة. دونها لا تكون الحضارة. وأنت تعرف جيدا أن الحرية في لبنان مهددة بالاغتيال، وذلك بسبب حضارة غريبة عنا. حضارة ضد حضارتنا. حضارة لا تؤمن بالحرية ولا بالتعددية الحضارية والدينية. كن متأكدا، إن ماتت الحرية في لبنان فسيسدل الستار على الحرية في الشرق العربي كله.

‏أيها القادم باسم الرب، امسح الدموع عن وجوه أهلنا، وقل لهم إن لبنان باق، لبنان لن يموت. نخالك جئت لدعم الوجود المسيحي الفاعل في الشرق. وكيف نجرؤ أن نحدثك في ذلك وأنت رأس الكنيسة في العالم، وتعرف كيف تتلاشى المسيحية يوما بعد يوم في أرض هي أرض المسيح؟ إن المسيحية تهاجر من هنا. تهاجر إلى الغرب. إلى الحرية. وأرجو أن تسمح لنا يا أبا الكنيسة بأن نبوح بما نخافه، وهو أن انهيار لبنان لا يشكل مأساة كبرى لبلدنا فقط، بل يشكل أيضا انهياراً للمسيحية في الشرق كله. فجميع المسيحيين في الشرق يعتبرون لبنان بلدهم الثاني، ويعتقدون أن وجوده ضمان لوجودهم. لذا ننحني أمامك ونطلب منك إحياء الدور وتفعيل الحضور المسيحي في لبنان. ويكون ذلك بدعم لبنان الوطن. لبنان الرسالة. وكم نودّ أن تقول للمسيحيين عندما تجتمع برؤساء طوائفهم إن خيارهم الوحيد القابل للحياة هو أن يعملوا مع إخوانهم المسلمين على بناء ميثاق جديد. وإن قوتهم تكون في انصهارهم مع المسلمين انصهارا حقيقيا لا رياء فيه. نحن لا نريد "تكاذبا" جديدا بين المسيحيين والمسلمين، ولا "تعايشا" يثبّت الفِرقة بينهما. نريد انصهارا مسيحيا إسلاميا في المواطنة. هذه المواطنة التي يجب أن تكون دين لبنان الجديد.

ونرجو أن تطلب من جميع اللبنانيين الارتقاء إلى التوبة. التوبة عن جميع الأخطاء والخطايا التي ارتكبوها وأدّت إلى تدمير بلدهم. مسيحيون ومسلمون، شاركوا في جريمة اغتيال لبنان. خطايا كثيرة لكن أهمها عدم الولاء للبنان الوطن. وعندما تزور مرفأ بيروت ماذا ستقول للموتى والمصابين؟ وماذا ستقول لأهل السياسة الذين ستصافحهم؟ أستسأل عن العدالة المغيّبة والقضاء المجمّد؟ نرجو أن تذكّرهم بأنّ هذه المدينة هي بيروت. بيروت التي كانت "أم الشرائع". 

كان في ودّي أن تزور الجنوب. قرى متناثرة هنا وهناك، على الجبال والهضاب، وبيوت من حجر متوّجة بقرميد أحمر. هذه القرى دمرت وقتل الكثير من أهلها، ومن بقي حيا هُجّر وعرف الذل. لم تكن هذه المأساة التاريخية مسؤولية إسرائيل وحدها، بل كانت أيضا مسؤولية هؤلاء الذين خطفوا الدولة في لبنان واتخذوا القرارات الخاطئة. هؤلاء الذين فرضوا على لبنان حربا لم يختَرْها. قل لهم إن صافحت أحداً منهم بتواضع المسيح ومحبته، إنهم أخطأوا بحق وطنهم وإن الوقت قد حان ليعودوا إلى بيتهم، لبنان.

وعندما تعود إلى روما، تحدث عما رأيت وعما سمعت. شعب متمرد على الصعاب. وطن يقتلونه كل يوم لكنه يرفض أن يموت. وطن يتنقل من زنزانة إلى زنزانة. قد لا يمتلك هذا الوطن الصغير شيئا يقدمه لكم، فليس عنده المال والنفط والغاز والقوة العسكرية، لكنه على صغره وفقره يمتلك أعظم ما صنعه الإنسان. يمتلك الحضارة.

تقول الأسطورة إنه عندما وقف موسى على رأس الجبل ونظر إلى الشمال، رأى جمالاً لم تشهده عينه من قبل، فسأل الله لمن هذه الأرض؟ فأجابه "هذه الأرض هي أرضي. هذا لبنان. لقد صنعته يداي". لذا، وأنت رأس الكنيسة، نطلب منك أن تضع لبنان في قلب الكنيسة لكي تحميه من كل شر وضرر. ونرجو منك أيضا عندما تركع وتصلّي أن تطلب من أبيك الرب الإله ألا يحوّل طرفه عنا.

بين الحقيقة والخيال.. خاطرة/ الدكتورة بهيّة أحمد الطشم



تحملنا حنايا الحياة من مكان الى آخر....

نضمّ أمنياتنا ابّان سيرورة الزمان بين أشفار عُمرنا.....

ونستذكر صدى الحنين في شغف أحبائنا...

نذرف دموع الشوق من عيون قلوبنا ,

ونهمس في أُذن القدر أسرار ارادتنا....

......................................

نتحدّى ظُلمات اليأس,ونسبر غور الحُب النادر في زمن سِيادة المكيافيللية,

لنحدّق ملياً في خيوط الشّمس , ونقطف أريج الندى من حقول أحلامنا.....

تتأرجح الأفكار بين الحقيقة والخيال,ولكنّ صخب السّكون للنفس المتأمّلة يقطن في مرتع الحكمة ,,ويغنّي أنشودة الأزهار على مسرح الجراح....


*المكيافيللية:نسبةً الى ميكيافيللي صاحب مقولة :"الغاية تبرّر الوسيلة."


الاستشراق الرقمي: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية شرقاً جديداً؟/ الدكتور حسن العاصي



باحث أكاديمي في الأنثروبولوجيا


في هذا العصرٍ الذي تتداخل فيه الحدود بين الواقع والافتراض، وتتشابك فيه خيوط المعرفة مع خوارزميات المنصّات الرقمية، يبرز مفهوم الاستشراق الرقمي بوصفه امتداداً جديداً لخطابٍ قديم أعاد تشكيل نفسه داخل بيئة إعلامية أكثر تأثيراً وانتشاراً. فبينما كان الاستشراق التقليدي يعتمد على الرحّالة والمستشرقين والكتّاب والفنانين لتكوين صورة “عن الشرق”، فإن النسخة الرقمية منه اليوم تُصنع عبر شبكات الأخبار العالمية، ومنصّات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث، وخوارزميات التصفية التي تحدد ما يُرى وما يُخفى، وما يُضخّم وما يُهمّش. وهكذا، لم يعد الشرق يُعاد إنتاجه عبر نصوص أدبية أو لوحات فنية فقط، بل عبر تدفقات هائلة من الصور والفيديوهات والعناوين العاجلة التي تُبنى وفق منطق السرعة والانتشار والتأثير.

لقد أصبحت وسائل الإعلام الغربية لاعباً مركزياً في تشكيل المخيال الجمعي العالمي حول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وآسيا وشمال إفريقيا. فهي لا تنقل الأحداث فحسب، بل تصنع إطاراً تفسيرياً يحدد معنى الحدث، ويعيد ترتيب عناصره، ويُسقط عليه منظومة من القيم والتصورات المسبقة. وفي هذا السياق، يتحول الشرق إلى “شرق رقمي” جديد: شرقٍ مُفلتر، مُجزّأ، مُختزل في ثنائيات جاهزة مثل العنف/الاستقرار، الحداثة/التخلّف، الديمقراطية/الاستبداد، والحرية/التهديد. شرقٌ لا يُرى كما هو، بل كما تسمح به عدسات الكاميرات الغربية وخوارزميات المنصّات التي تُعيد تدوير الصور النمطية القديمة في قالبٍ معاصر.

إن الاستشراق الرقمي لا يقتصر على التغطيات الإخبارية، بل يمتد إلى صناعة الترفيه، وتحليلات الخبراء، وصور “الشرق” في السينما والمسلسلات، وحتى في نتائج البحث على الإنترنت. فحين يبحث المستخدم الغربي عن “العرب” أو “المسلمين” أو “الشرق الأوسط”، فإن ما يظهر أمامه ليس مجرد معلومات محايدة، بل منتج معرفي تشكّله شركات التكنولوجيا الكبرى وفق معايير تجارية وسياسية وثقافية. وهكذا، تتكرّس صورة الشرق كفضاء للأزمات، والحروب، والغرابة الثقافية، في حين تُهمّش جوانب الحياة اليومية، والإبداع، والتنوع، والتاريخ الاجتماعي الحقيقي لشعوبه.

إن هذا المقال يسعى إلى تفكيك آليات هذا الاستشراق الرقمي، وطرح سؤال جوهري: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية شرقاً جديداً؟ وما الذي يجعل الصورة الرقمية للشرق أكثر حضوراً وتأثيراً من الواقع نفسه؟ وهل نحن أمام إعادة إنتاج لخطاب استشراقي قديم، أم أمام شكل جديد من الهيمنة الرمزية التي تُمارس عبر البيانات والصور والخوارزميات؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست مجرد تمرين نظري، بل ضرورة لفهم كيف يُعاد تشكيل وعينا بالعالم في زمن الإعلام الرقمي، وكيف يمكن للشرق أن يستعيد حقه في تمثيل ذاته بعيداً عن عدسات الآخر.


خلفية نظرية عن الاستشراق


يُعدّ مفهوم الاستشراق واحداً من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل في حقل الدراسات الثقافية والإنسانية، لأنه لا يقتصر على كونه مجالاً معرفياً يهتم بدراسة الشرق، بل يتجاوز ذلك ليصبح منظومة فكرية وخطابية أسهمت في تشكيل علاقة غير متكافئة بين الغرب والشرق. تاريخياً، ظهر الاستشراق في البداية كتسمية علمية لمجموعة من الدراسات التي اهتمت باللغات الشرقية، والأديان، والتاريخ، والعادات، والجغرافيا، إلا أن القراءات النقدية الحديثة، وعلى رأسها قراءة إدوارد سعيد، كشفت أن هذا الحقل المعرفي لم يكن بريئاً أو محايداً، بل كان متشابكاً مع مشاريع القوة والهيمنة والاستعمار.

في القرون الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين، برز المستشرقون كخبراء في “شؤون الشرق”، يُجيدون لغاته، ويُدرّسون نصوصه الدينية والأدبية، ويُنتجون دراسات عن تاريخه ومجتمعاته. ظاهرياً، يبدو هذا جهداً علمياً يهدف إلى الفهم والمعرفة، لكن المشكلة الأساسية تكمن في زاوية النظر؛ فقد كانت عملية دراسة الشرق تتم عادةً من مسافة، ومن موقع تفوّق حضاري مزعوم، يُفترض فيه أن الغرب هو معيار التقدم والعقلانية والمدنية، بينما يُنظر إلى الشرق كموضوع للدراسة، وكـ“آخر” مختلف وغريب، يحتاج دائماً إلى تفسير وترجمة وتأطير.

هذا الموقع غير المتكافئ بين “الدارس” الغربي و“الموضوع” الشرقي جعل المعرفة المنتجة عن الشرق محمّلة، في كثير من الأحيان، بأحكام مسبقة، وصور نمطية، وتعميمات واسعة، مثل اعتبار الشرق عالماً ساكناً، غير تاريخي، تقليدياً، منغلقاً، عاطفياً وغير عقلاني. وهكذا، لم يكن الاستشراق مجرد مشروع معرفي، بل كان طريقة معينة لرؤية الشرق، طريقة تصنع شرقاً متخيلاً، يختلف كثيراً عن واقع المجتمعات الشرقية المعقد والمتنوع.


قراءة إدوارد سعيد: الاستشراق كخطاب


التحوّل الجذري في فهم الاستشراق جاء مع كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد (1978)، الذي نقل النقاش من مستوى “ما يقوله الاستشراق عن الشرق” إلى مستوى أعمق: كيف يُنتج الخطاب الاستشراقي الشرقَ ذاته ككيان متخيّل؟ استند سعيد إلى أعمال ميشيل فوكو حول الخطاب والسلطة، ليطرح فكرة أن الاستشراق ليس مجرد مجموعة من الكتب والأعمال الفنية، بل هو خطاب متكامل يربط بين المعرفة والقوة.

في هذا المنظور، يصبح الاستشراق شبكة من النصوص، والصور، والتمثيلات، والمؤسسات الأكاديمية، والسياسات، التي تعمل معاً على إنتاج “شرق” محدد الملامح: شرقٍ غامض، جنسي، استبدادي، متخلّف، يحتاج دائماً إلى توجيه أو إنقاذ أو إدارة من قبل الغرب. هذه الصورة ليست مجرد سوء فهم أو معلومات ناقصة، بل هي بنية متماسكة تخدم دوراً سياسياً واضحاً: تبرير السيطرة الاستعمارية، والتدخل السياسي، وفرض نماذج جاهزة للتقدم والتحضر.

بهذا المعنى، يصبح الاستشراق خطاباً يعمل على مستويين في الوقت نفسه.  أولاً: على مستوى المعرفة: يقدم نفسه كعلم موضوعي محايد. ثانياً: وعلى مستوى السلطة: يخدم مشاريع الهيمنة الغربية، عبر تكريس صورة دونية عن الشرق ورفعة عن الغرب.


"الشرق" كاختراع رمزي


من أهم أفكار الاستشراق النقدي أن الشرق، كما يقدمه الخطاب الغربي، ليس “الشرق الحقيقي” بتعقيداته، بل هو شرق مُتخيَّل تم بناؤه عبر عقود من الكتابة، والرسم، والبحث، والسياسة. هذا الشرق المتخيّل يعمل كمرآة عكسية يرى الغرب فيها ذاته؛ فهو يجعل الغرب يبدو عقلانياً، حراً، متقدماً، في مقابل شرق يُقدَّم كمقابل نقيض: عاطفي، مقموع، متخلّف. وبذلك، لا يكون الاستشراق مجرد حديث عن الآخر، بل هو أيضاً طريقة لبناء صورة الذات الغربية عبر مقارنة مستمرة مع “الآخر الشرقي”.

هذا الاختراع الرمزي للشرق يختزل التنوع الهائل للثقافات واللغات والتجارب التاريخية في قالب واحد، ويحوّل مجتمعات كاملة إلى نمط واحد مسطَّح. فالعرب، والفرس، والهنود، والأتراك، والمسلمون، والآسيويون – بكل ما بينهم من اختلافات – يتم دمجهم في صورة واحدة اسمها “الشرق”، كأنهم كتلة متجانسة لها صفات مشتركة ثابتة لا تتغير.

جزء أساسي من قوة الاستشراق أنه تشكّل بالتوازي مع صعود الحداثة الأوروبية وتوسع الإمبراطوريات الاستعمارية. فكلما توسع النفوذ الغربي في الشرق، ازدادت الحاجة إلى معرفة هذه المجتمعات من أجل إدارتها والسيطرة عليها. هنا تبرز فكرة مركزية: المعرفة ليست منفصلة عن السلطة. فالدراسات التفصيلية عن جغرافيا الشرق، وتركيب مجتمعاته، ونُظمه القبلية أو الدينية، لم تكن مجرد فضول علمي، بل كانت أيضاً أدوات عملية لتسهيل السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية.

وهكذا، يمكن القول إن الاستشراق كان جزءاً من البنية التحتية الفكرية للمشروع الاستعماري؛ فبينما كانت الجيوش والأساطيل تتقدم على الأرض، كانت الكتب والأبحاث تُمهّد الطريق، وتمنح هذه السيطرة غطاءً معرفياً وأخلاقياً، عبر تصوير الشرق كمجال يحتاج إلى “تمدين” و“تحديث” و“تحرير” من تخلفه الذاتي المزعوم.


من الاستشراق الكلاسيكي إلى الاستشراق المعاصر


مع نهاية الحقبة الاستعمارية بشكلها المباشر، لم يختفِ الاستشراق، بل غيّر أشكاله. فلم يعد المستشرق اليوم ذلك الباحث الكلاسيكي الذي يجلس في مكتبه يترجم نصوصاً عربية أو فارسية فقط، بل أصبح الاستشراق حاضراً في وسائل الإعلام، والسينما، والأكاديميا، والخطاب السياسي، بل وفي المناهج التعليمية أيضاً. ومع كل أزمة أو حرب أو حدث مرتبط بالشرق، تُعاد تنشيط الصور القديمة، وتظهر مفردات استشراقية في ثوب جديد: “العالم الإسلامي”، “المناطق الخطرة”، “محور الشر”، “حزام التطرف”، وغيرها من التعابير التي تضع الشرق داخل إطار جاهز من الشك والريبة والتهديد.

هذا التحوّل من الاستشراق الكلاسيكي إلى ما يمكن تسميته بـ“الاستشراق المعاصر” يفتح الباب للحديث عن الاستشراق الرقمي بوصفه امتداداً جديداً لهذا التاريخ الطويل؛ فبدلاً من أن تُنتج الصورة في كتاب أو لوحة فقط، باتت تُصنع اليوم عبر الشاشات، والمنصات، والخوارزميات، وهو ما يجعل حضورها أكثر كثافة وانتشاراً وتأثيراً على وعي الجمهور العالمي.


أهمية هذه الخلفية لفهم الاستشراق الرقمي


إن فهم الاستشراق بهذا العمق النظري لا يُعدّ ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لفهم كيف تعمل وسائل الإعلام الغربية اليوم في إنتاج “شرق رقمي جديد”. فالصور النمطية التي تظهر في العناوين العاجلة، والتقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات، ليست معزولة عن هذا التاريخ، بل هي امتداد له داخل سياق تقني جديد. ما تغير هو الوسيط وسرعة الانتشار وكمية البيانات، لكن كثيراً من البُنى الذهنية التي حكمت نظرة الغرب إلى الشرق ما زالت حاضرة، وإن كانت تتخفى خلف لغة أكثر مهنية وموضوعية ظاهرياً.

من هنا، تصبح دراسة الاستشراق الرقمي محاولة لربط الماضي بالحاضر: رصد كيف انتقل خطاب قديم من الكتب والمستعمرات إلى الخوادم الرقمية ومنصات التواصل، وكيف ما زال الشرق يُعاد إنتاجه كصورة أكثر مما يُفهم كواقع. هذه الخلفية النظرية ليست سوى نقطة الانطلاق لقراءة أعمق لكيفية صناعة “شرق جديد” في زمن الإعلام الرقمي، وهو ما سيتناوله المقال في محاوره اللاحقة.


مفهوم الاستشراق الرقمي


يشير الاستشراق الرقمي إلى انتقال الخطاب الاستشراقي التقليدي—الذي كان يُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات الأكاديمية—إلى الفضاء الرقمي، حيث تتولى وسائل الإعلام الغربية، والمنصّات الاجتماعية، ومحركات البحث، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي مهمة إعادة تشكيل صورة الشرق في الوعي العالمي. فوفقاً لتحليلات حديثة، فإن الاستشراق لم يختفِ، بل “اتخذ شكلاً جديداً في عصر الإعلام الرقمي” عبر ما يُسمّى Digital Orientalism، حيث تستمر الصور النمطية القديمة في الظهور، ولكن عبر وسائط أكثر حداثة وانتشاراً.

في هذا السياق، يصبح الشرق منتجاً رقمياً يُعاد تشكيله من خلال آليات تقنية لا تبدو سياسية في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها تحيزات ثقافية ومعرفية. فخوارزميات المنصّات الكبرى—مثل فيسبوك، يوتيوب، إنستغرام، وتويتر—تعمل على تضخيم محتوى معين وإخفاء آخر، مما يؤدي إلى تكريس صورة محددة عن الشرق باعتباره فضاءً للأزمات، والصراعات، والغرابة الثقافية. وقد أشارت دراسات في مجال الإعلام إلى أن هذه التحيزات الرقمية ليست مجرد أخطاء تقنية، بل امتداد لبنية معرفية غربية ما زالت تنظر إلى الشرق من خلال ثنائية “الغرب/الآخر” التي تهيمن على كثير من التحليلات الإعلامية المعاصرة.

كما يبرز الاستشراق الرقمي في الرقابة على المحتوى، حيث تُظهر تقارير بحثية أن المحتوى العربي أو المتعلق بقضايا الشرق الأوسط يتعرض لحذف أو تقييد أكبر مقارنة بغيره، وهو ما وصفه باحثون بأنه “شكل جديد من الاستشراق في الفضاء الرقمي” نتيجة إخفاقات الحوكمة الرقمية وتحيزاتها البنيوية. هذا يعني أن الشرق لا يُعاد تمثيله فقط عبر الأخبار والصور، بل أيضاً عبر التحكم فيما يُسمح له بالظهور وما يُحجب، مما يجعل المنصّات الرقمية شريكاً في إنتاج “شرق افتراضي” يتوافق مع التصورات الغربية السائدة.

وبذلك، يمكن القول إن الاستشراق الرقمي هو عملية إعادة إنتاج للشرق كصورة أكثر منه كواقع، حيث تتداخل القوة التقنية مع القوة الرمزية لتشكيل وعي عالمي منحاز. إنه استشراق لا يُمارَس عبر المستشرق التقليدي، بل عبر الخوارزمية التي تختار ما نراه، والمنصة التي تحدد ما ينتشر، والإعلام الذي يصوغ سرديات جاهزة عن الشرق. وهذا ما يجعل الاستشراق الرقمي أكثر خطورة من سابقه: فهو غير مرئي، سريع، عالمي، ويعمل تحت غطاء “الحياد التقني” بينما يعيد إنتاج علاقات القوة القديمة في ثوب جديد.


آليات عمل الاستشراق الرقمي


تعمل آليات الاستشراق الرقمي ضمن منظومة معقدة تجمع بين الإعلام، التكنولوجيا، والخوارزميات، بحيث تُعاد صياغة صورة الشرق داخل الفضاء الرقمي بطريقة تبدو “حديثة” لكنها تحمل جذوراً عميقة في الخطاب الاستشراقي التقليدي. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الاستشراق في العصر الرقمي لا يُمارَس فقط عبر النصوص أو التحليلات، بل عبر بُنى تقنية تتحكم في تدفق المعلومات، وتعيد ترتيبها، وتضفي عليها معنى محدداً يخدم رؤية غربية للعالم.


1ـإعادة إنتاج الصور النمطية عبر الإعلام الرقمي


وسائل الإعلام الغربية الرقمية—من المواقع الإخبارية إلى المنصّات الاجتماعية—تستمر في تقديم الشرق ضمن إطار جاهز: الشرق كمنطقة صراعات، وكفضاء للغرابة الثقافية، وكتهديد سياسي أو أمني

هذه التمثيلات ليست عشوائية، بل جزء من ممارسات تأطير إعلامي تُظهر الشرق من خلال عدسة تبسيطية، وهو ما أشارت إليه تحليلات نقدية لخطاب الإعلام العالمي الذي يعيد تدوير الصور النمطية القديمة في سياق رقمي جديد.


2ـ الخوارزميات كأدوات لإعادة تشكيل الوعي


الخوارزميات التي تدير المنصّات الرقمية—مثل فيسبوك، يوتيوب، ومحركات البحث—تلعب دوراً مركزياً في تكريس الاستشراق الرقمي. فهي: تضخّم المحتوى الذي ينسجم مع السرديات الغربية. وتقلل ظهور المحتوى الذي يعرض الشرق بصورة مختلفة. وتفضّل المحتوى المثير أو الصادم، ما يعزز الصور السلبية.

وبذلك، تصبح الخوارزمية فاعلًا ثقافياً يعيد إنتاج الشرق وفق منطق تجاري وسياسي، وليس وفق الواقع. هذا ما تؤكده دراسات تناولت كيفية تشكّل “الشرق الرقمي” عبر آليات تقنية غير محايدة.


3ـ  الرقابة الرقمية والتحكم في المحتوى


تشير أبحاث حديثة إلى أن المحتوى المتعلق بالشرق الأوسط أو الصين أو المجتمعات الإسلامية يتعرض أحياناً لرقابة أو حذف أو تقييد أكبر من غيره، نتيجة تحيزات مضمّنة في سياسات المنصّات أو في آليات الإشراف على المحتوى. هذه الرقابة لا تُمارَس دائماً بشكل مباشر، بل قد تكون نتيجة: قواعد غير متوازنة. وأنظمة كشف تلقائي متحيزة. معايير “السلامة” التي تُطبّق بشكل غير متساوٍ.  وهكذا، لا يتم فقط إعادة إنتاج الشرق، بل أيضاً إعادة تشكيل ما يُسمح له بالظهور.


4ـ التأطير الخطابي في التحليلات الغربية


التحليلات الغربية للأحداث في الشرق—سواء في الإعلام أو مراكز الأبحاث—تستخدم أحياناً لغة تُعيد إنتاج ثنائية “الغرب المتقدم” مقابل “الشرق المتخلّف”. هذا التأطير يظهر من خلال التغطيات السياسية، والتحليلات الأمنية، ولنقاشات حول التكنولوجيا والرقمنة في الشرق.

وقد أشارت دراسات مقارنة إلى أن هذا التأطير يُعدّ شكلاً من أشكال “الاستشراق الأخلاقي” الذي يقيّم الشرق وفق معايير غربية مسبقة.


5ـ الانتقائية في عرض الأحداث


الاستشراق الرقمي يعمل أيضاً عبر انتقاء ما يُعرض من الشرق، ولتركيز على العنف وإهمال الحياة اليومية، وإبراز التطرف وإخفاء الإبداع، وتضخيم الأزمات وتجاهل النجاحات.

هذه الانتقائية تُنتج شرقاً “مفبركاً” يتوافق مع توقعات الجمهور الغربي، ويعزز سرديات الهيمنة الثقافية. إن الاستشراق الرقمي ليس مجرد خطاب إعلامي، بل بنية تقنية–معرفية تعمل عبر الخوارزميات، التأطير الإعلامي، الرقابة، والانتقائية. إنه استمرار للاستشراق التقليدي، لكن بوسائل أكثر قوة وانتشاراً وتأثيراً.


أمثلة تطبيقية على الاستشراق الرقمي


هذه الأمثلة تُظهر كيف تعمل الخوارزميات، الإعلام، والمنصّات الرقمية على تكريس صورة “شرق جديد” يتوافق مع التصورات الغربية، كما تشير دراسات حديثة تناولت الظاهرة في سياق الإعلام الرقمي.


1 تغطية الشرق الأوسط كمنطقة أزمات فقط


تشير تحليلات نقدية إلى أن الإعلام الرقمي الغربي يركّز بشكل مفرط على الحروب، الإرهاب، والصراعات عند الحديث عن الشرق الأوسط، بينما يُهمل الحياة اليومية، الثقافة، الإبداع، والعلوم. هذا النمط من التغطية يعيد إنتاج صورة الشرق كفضاء دائم للعنف، وهو مثال مباشر على الاستشراق الرقمي الذي يختزل المنطقة في “أزمة مستمرة”.


2 الصور النمطية عن المسلمين في المنصّات الرقمية


تُظهر دراسات أن المحتوى المتعلق بالمسلمين غالباً ما يُقدَّم في سياق التطرف أو الأمن، مما يعزز صورة “المسلم الخطر” أو “المسلم الغريب”. هذا النوع من التمثيل الرقمي يعكس استمرار الصور الاستشراقية القديمة في بيئة الإنترنت الحديثة.


3 التركيز على “غرابة” الثقافات الآسيوية


تشير تحليلات حول “الاستشراق الافتراضي” إلى أن المنصّات الرقمية الغربية تُبرز الثقافات الآسيوية—مثل الصين والهند—كعالم غريب، غامض، أو غير مفهوم، خصوصاً في سياق التكنولوجيا أو السياسة. هذا ما وصفته دراسات بأنه “جغرافيا جديدة للتمثيل” في العصر الرقمي.


4 التحيّز الخوارزمي في نتائج البحث


عند البحث عن كلمات مثل “Arab” أو “Muslim”، تظهر نتائج مرتبطة بالعنف أو الصراعات أكثر من نتائج تتعلق بالثقافة أو الحياة اليومية. هذا مثال على تحيّز خوارزمي يعيد إنتاج الصور النمطية دون تدخل بشري مباشر، لكنه يعكس بنية معرفية غربية.


5 الرقابة غير المتوازنة على المحتوى الشرقي


تشير تقارير بحثية إلى أن المحتوى المتعلق بقضايا الشرق الأوسط يتعرض أحياناً لحذف أو تقييد أكبر من غيره، نتيجة تحيزات في سياسات الإشراف على المحتوى. هذا النوع من الرقابة الرقمية يُعد شكلاً من “الاستشراق الرقمي” لأنه يتحكم فيما يُسمح للشرق أن يقوله أو يظهره.


6 الترفيه الرقمي وصناعة “الشرق المتخيل”


تُظهر أمثلة من السينما والمسلسلات الغربية التي تُعرض على المنصّات الرقمية أن الشرق يُقدَّم غالباً كفضاء مليء بالغرابة، السحر، أو العنف. هذه الصور تُعاد تدويرها رقمياً وتنتشر بسرعة عبر المنصّات، مما يعزز “شرقاً افتراضياً” بعيداً عن الواقع.


نحو تفكيك الاستشراق الرقمي وإعادة بناء السردية


يكشف تحليل الاستشراق الرقمي عن تحوّل عميق في الطريقة التي يُعاد بها تشكيل الشرق داخل الفضاء الإعلامي المعاصر. فبدلاً من الخطابات الكلاسيكية التي كانت تُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات الأكاديمية، أصبح الشرق اليوم يُصاغ من خلال منظومة تقنية واسعة تتداخل فيها الخوارزميات مع سياسات المنصّات وأساليب التغطية الإخبارية. هذا التحوّل لا يعني اختفاء الاستشراق، بل انتقاله إلى مستوى أكثر خفاءً وتأثيراً، حيث تتولى التكنولوجيا مهمة إعادة إنتاج التمثيلات القديمة في قالب جديد يبدو محايداً لكنه يحمل في داخله نفس البُنى المعرفية التي حكمت علاقة الغرب بالشرق عبر قرون.


إن خطورة هذا الشكل الجديد من الاستشراق تكمن في قدرته على الانتشار السريع، وفي تأثيره المباشر على تشكيل الوعي العالمي. فالصورة التي تُبنى رقمياً لا تبقى داخل حدود الإعلام، بل تتحول إلى مرجع ثقافي وسياسي يؤثر في السياسات العامة، وفي تصورات الشعوب، وفي العلاقات الدولية. ومع كل عملية بحث، أو مشاركة، أو توصية خوارزمية، تتكرّس صورة “شرق رقمي” يبتعد عن الواقع، ويقترب من الخيال الذي صاغته القوى المهيمنة.


ومع ذلك، فإن هذا الواقع لا يعني استسلام الشرق لتمثيلات الآخر. فالمشهد الرقمي نفسه يتيح إمكانات واسعة لإنتاج سرديات بديلة، ولإعادة تقديم الذات بعيداً عن الفلاتر الغربية. إن الوعي بآليات الاستشراق الرقمي هو الخطوة الأولى نحو تفكيكه، أما الخطوة التالية فهي بناء حضور رقمي قادر على تقديم الشرق كما هو: متنوعاً، معقداً، نابضاً بالحياة، وغير قابل للاختزال في صورة واحدة.


بهذا المعنى، يصبح فهم الاستشراق الرقمي ضرورة معرفية وأخلاقية في زمن تتشكل فيه الحقائق عبر الشاشات. فالمعركة لم تعد فقط حول من يملك القوة، بل حول من يملك القدرة على رواية القصة.