مار تقلا وست بدور.. وأنا/ ايمان الدرع

قرب المدفأة، في شتاءٍ زارنا ذات سنةٍ، كنا نخال فيها، ندف الثلج أوراق زهر، وعواصف البرد معاطف دفء، جلستْ قبالتي الست بدور: سمراء، من قوم عيسى، ابنة داريا، بلدة عناقيد الذهب، تلك التي تحمل قلباً، يحشد النور فيه، كغابات مشتعلةٍ بالضياء. لم يكتب لها الزواج، حتى باتت في سنّ متأخرة..فصارت أمّاً للجميع..
مكانتها البارزة كقيادية في الاتحاد النسائي، ومجلس المحافظة، لم تنسِها ملامح بنت البلد، وجذورها الريفية، وتلقائيتها في التعامل، وأريحيتها، وصوتها النقيّ ، الذي يشير إلى الخطأ بصوت عالٍ، لا يعرف المحاباة، فكانت زياراتها العائلية لا تتوقف لنا، بعيداً عن زيف المكاتب، خاصة في الأعياد، والمناسبات، تهتم بتفاصيل حياتنا، حتى الصغيرة منها، وتحكي بحدّة، عن مفارقات حصلت في عملها، وكيف كشفت أقنعة الانتهازيين بكل جرأة.. 
فجأة أمسكت عن الكلام وسألتني باهتمام عن ابنتي ــ وهي تضع فنجان الزهورات، شرابها المفضل ـــ يوم كان أمر تأخّر حملها يقلقني، عقب زواجها بفترة، لثقلها خلتها دهراً ـــ طمنيني عنها هل تمّ حملها..؟؟!!! أطرقتُ بحزن: 
ـــ لم يردْ الله بعد يا أخت بدور
تفرّستْ في وجهي قليلاً ثم قالتْ : ـــ أريدك أن تأتي لي بها الآن..وعاجلاً...
ــــ ولكن لمَ !!!؟؟ ربما تكون مشغولة أو ..أو..
ــ اتصلي بها .. قولي لها أن تأتي، ولا تتدخّلي فيما لا يعنيكِ ـــــــــــ ضحكتُ : ـــ طيب
وبعد دردشة قصيرة مع ابنتي على الهاتف، كانت عندنا بسرعة البرق، بوجهها الطفولي، الصبوح، وبدون مقدمات، طلبتْ مني (ست بدور) قليلاً من الملح، أتيت لها به مستغربة، ثم أجلستْ ابنتي جوارها، فامتثلتْ مندهشة، ذرّت على مفرق شعرها بعض ملح، بأطراف أناملها، وراحتْ تقرأ تعاويذ بصوتٍ خافتٍ، وتبتهل، وتتثاءب بكثرة، حتى طفقت الدموع تنسرب على خديها، دون أن تحدّثنا حرفاً واحداً ، ثم نفضتْ الملح عن رأسها فوق ورقة، وألقتْ به على سطح المدفأة الملتهب حرارة، فاحترق الملح مصدراً دخاناً كثيفاً أول الأمر، ثم تلاشى رويداً حتى اختفى. فالتفتت إليّ قائلة: ـــ يا أخت إيمان : ابنتك عليها ثقل فظيع، بدليل تثاؤبي الشديد، إن شاء الله، سترتاح، وتغدو أفضل. 
وبعد أيام، رأيت في الحلم نوراً يسطع خلف جبلٍ عالٍ، فأمسكتُ بيد محدّثي ــ زوج ابنتي ـــ مشيرة: انظر..هنا دير القديسة مار تقلا ...ثم رأيت وجوها لنساء مستبشرات ..أفقت على إثر الحلم مرتاحة الخاطر..
وصادف أن زارتني (الست بدور) بعد اتصال سريع، تريد أن تحدّثني بأمرٍ هامٍ، بادرتني القول بحدّة، ونزق على عادتها، حين يؤرقها أمر ما: يا أخت إيمان اسمك مطروح لاستلام مهمة قيادية لها مكانتها في الاتحاد النسائي.ستتصل بك اليوم مساء عضو قيادة الفرع من أجل مناقشة الموضوع معك،.يجب أن توافقي..كفاك اعتذارات ..إحدى الاخوات الانتهازيات تضع عينها على المكان، ولو أنها محسوبة عليّ..ولكني لا أثق بها..فهي وصولية، تصعد على أكتاف غيرها، فحرام أن تخلي المكان لها...ـــــــ فهززت رأسي، وأصابعي نفياً:
ـــــ أبداً...لا تحاولي إقناعي، كم من مرة عُرِضت علي المهام القيادية، ورفضتها..إني لا أبدل عتبة مدرستي، بكل المناصب....إنها رسالة وليست منحة، وتفاخر......وأنت تعلمين، وكل من حولي يدرك ذلك.
فأصيبت بالخيبة، وبدأت تعاتبني بشدة..وتخلّصاً من الموقف... رحت أروي لها عن منام مارتقلا ...والنور الذي بدا لي...فبكتْ متمتمة: يا حبيبتي ..إنها / أم الندورة/ أتتك تطلب زيارتك، فوجب عليك تلبية دعوتها، إنها بشارة لابنتك فاصطحبيها حيث الدير، ولا تتأخري..
لم تمضِ إلا فترة قصيرة على هذا اللقاء، حتى وجدتني في رحلة إلى معلولا، عرجت على دكان أبي جورج، احتفى بي كعادته، كلما التقيته بفترات متباعدة، كان ربْعاً، كثيف الشارب، أنيقاً، يقهر أعوامه السبعين، بهمته العالية، أخذ يحدثني عن أخبار أولاده، وأحفاده، وهو يعدّ القهوة على سخّان كهربائيّ صغير، بينما رحت أتنقل ببصري، أستطلع محتويات الدكان الذي تتزاحم فيه القطع الفنية ، والمنحوتات الخشبية، من وحي طبيعة معلولا، وآثارها، وأيقوناتها، وصورها التذكارية... القهوة الساخنة، منحتني بعض دفء، في دكان بارد، يزداد صقيعاً، عند كل مرة يُفتح فيها الباب ، ويُغلق، كلما ابتاع أحد القادمين شيئاً، وغادر.
تشكرته على لطفه، وضيافته، وشريت بعض قطع خشبية محفورة بحرفية عالية، وودّعني برقيّ، و بدماثة عرف بها أهل معلولا.
فتوجهت وابنتي نحو دير مارتقلا ، نصعد معاً الدرج الحجري، الأثري الشاهق في علوّه، نقصد أعلى نقطة، كانت الريح تدفعنا بقوة، تصفر، تلاطم الصخور الجبلية بشدة، والبرد يلسع العظم، والغيوم الدكن تحجب الشمس، تنذر بسكائب مطر محتبسة ، تنتظر شارة البدء... الخشوع كان يهيمن على ملامح الراهبات، و همهمات من الزائرين هنا، وهناك كانت تسمع بالكاد، فللمكان حضوره، ووقاره، وقبل أن ندخل إلى الخلوة، حيث كانت تقيم القديسة بها..توقفنا هنيهة أمام حوض حجري، يجمع الماء فيه، نقطة، نقطة ..من شقّ سقفٍ صخريّ، مخضوضر، ندي .. قيل بأن مارتقلا كانت تشرب منه، كرامة إلهية لها .. لما هربت من اضطهاد الرومان لها، فانشقّ الجبل من أجلها، لتستقرّ في هذا الكهف الصخريّ، دون أن يتمكنوا من اللحاق بها...
تأملت المكان من علٍ، وأنا أشرب من الماء، وأمسح به وجهي، التقطتُ أنفاسي قليلاً، ثم دخلت، وابنتي إلى الخلوة، كانت مساحتها صغيرة، منعزلة عن العالم، وكأنها متصلة بالسماء، السلام يغمر الروح بسكينة عجيبة، استقبلتنا الراهبة ببشاشة، بصمت يحتفل بلا حروف، بإيماءة من عينيها السمْحتين، أوقدنا شمعتين، ونحن نسلّم على روح القديسة، جلسنا على الأرض هنيهة، وقبل أن نمضي، وضعت الراهبة في يد ابنتي قطعة قطن مغموسة بزيت الدير. للبركة، حسب نية حاملها..
مازلت أذكر هذه الرحلة الروحانية ببهجة بالغة، وأتفرّس في ملامح حفيدي، وأستحضر التماس الرجاء من السماء، بقدومه... مرة وأنا أزور دير مارتقلا.. وأخرى، وأنا في الأموي، ومرات حين طوافي حول الكعبة ...حيث وجدت نور الله في كل هذه الأماكن، ينسكب في قلبي. 
واليوم..كم أفتقد / ست بدور/ ؟؟؟!!! تلك التي أحبّتْ ابنتي، وأخلصتْ في دعائها لها، كابنتها التي لم ترزق بها، انقطعتْ أخبارها عني، هاتفها خارج التغطية، ولكني ما زلت أنتظرها قرب المدفأة، لنذرّ حفنة من الملح، ولنقتسم دمعة الحزن، ولنشعل معاً شمعة السلام، والأمل...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق