بعد دراسة شبه مطولة أصبحت على درجة من اليقين أن مشكلة الإرهاب المسمى بالإسلامي، أو التطرف، أو الفكر التكفيري أو الجهادي، أو أيا ما كان اسمه في الحقيقة هو فكر متجدد و لا ينفك ينحسر حتى يظهر و في رأيي أننا لن نقضي عليه أبدا إذا ما بقينا نتعاطى معه بنفس الطريقة التي نعتمدها حتى اليوم.
دعونا نوضح، أولا علينا أن نعرف أن حقيقة الأمر تنطوي على فكر و قاعدة شعبية كبرت أو صغرت و إن كانت متجددة و تفيض بالموارد و ليس الأمر هو مجرد ظهور تنظيمات سواء داخلية أو مدعومة من الخارج و حسب، أو مجرد حمقى و مغيبين من بعض المتطرفين ممن يظهرون من فترة لأخرى، و إن كان ذلك صحيحا على المستويات الدنيا من تلك التنظيمات، ولكنه لا ينطبق على مستوياته العليا و القيادات خاصة للتنظيمات الأكثر كبرا و الأكثر تأثيرا، فلم أعد أرى القيادات العليا للتنظيمات الإرهابية الكبرى حمقى حقيقة، و إنما هم أناس يعلمون ما يفعلون و قد دربوا (إما من أنظمة إسلامية أخرى، أو غربية)، و انتقوا و منهم من خاض خبرات بحكم الحال كان الفضل الأعظم لثملها للحكام المسلمين القمعيين، و الحروب الغربية على العالم الإسلامي. كما أن من تلك التنظيمات من يتلقى الخطط مباشرة من بعض الدول الغربية أو الأنظمة الحاكمة لبعض دول العالم الإسلامي، أو كلاهما.
المشكلة و المعضلة التي تضمن تجدد الظاهرة، و هو ما يراهن عليه أفراد و قيادات تلك التنظيمات العليا هي تجدد تلك التنظيمات و استمراريتها بصورة عامة تحت أي اسم أو شعار متغير. إذا المشكلة هي في الواقع مشكلة أيديولوجية مبنية على قاعدة شعبية ما تتسع أو تضيق و لكنها تفرز الكوادر الكافية للتنظيمات و هذا الأمر هو مكمن الخطر. و بما أن المشكلة أيديولوجية و تستند على تلك القاعدة القائمة على أعمدة من تبريرات في حد ذاتها صحيحة إلى حد كبير، مما يجعل الأمر دربا من دروب المستحيل في أن يقضى على هذه التنظيمات قضاءا نهائيا.
دعونا نوضح أكثر، خلاصة الأمر أن لتلك التنظيمات أساليب مبررة في اجتذاب الكوادر، لكن للغرب و لحكامنا العرب و المسليمين دورا أكبر في صناعة تلك القاعدة التي تضمن لهم الإمدادات بالأنفس و المال و السلاح بطرق مباشرة أو غير مباشرة. الأيديولوجية مبنية على أساس توحيد الأمة، و إصلاح حالها، و صون كرامتها المهانة ( و هذا صحيح في الأساس بصورة عامة و لا أقول أن الأسلوب الذي اختاروه صحيحا) و هذا ما يحلم به المسلمون عامة، و هو ما يضايقهم و يؤرقهم سواء من تلك التنظيمات أو من التيارات الإسلامية المدنية، أو العلمانية، أو الناصرية، أو الإصلاحية أو غيرهم بغض النظر عن اختلاف المصطلحات و المسميات التي يتبناها كل طرف. المهم أن هذا هو الهدف الأسمى لكل من الشعوب المسلمة و حراكاتها السياسية و أطيافها، و بما أننا لن نختلف على هذا كثيرا إذا فلن نطيل هنا.
و إذا أضفنا عوامل أخرى تعقد الموضوع مثل استغلال هؤلاء للفقه و الدين و يجيدون التواصل مع من هو مستعد للتعامل معهم إما لحقده على ظروفه اللإجتماعية، أو لإحساسه بالمهانة، و الذل كمسلم سواء في بلده أو في خارجها، و نعلم أن الغالبية الكاسحة من حكومات و أنظمة الحكم في العالم الإسلامي إن لم يكن كلها، هي أنظمة لم تختارها الشعوب بنزاهة و شفافية، و لا تمثلهم، و هي أنظمة حقا لا تستطيع أن تصون كرامتها و لا كرامة شعوبها و لا كرامة دينها، و لا تنتهك إلا حقوق شعوبها، و تستنزف ثرواتهم لفسادها، أو جهلها، أو فشلها، أو لكل تلك الأسباب، بينما هي أنظمة مدجنة هزيلة أمام الغرب، و منها من هو عميل و وكيل، و منها من باع شعبه ليبقى على كرسي الحكم، و منها العاجز، و منها الضعيف و منها أصنافا و ألوانا.
كل هذا صحيح و متفق عليه. لكن ما هو الحال لو داعبوا مثل هؤلاء الأفراد الفقراء، و المحبطين، واليائسين، و المهانين، و منهم الناقمين و منهم الحاقدين لأسباب جوهرية حقيقة ،باسم الدين، و الشهادة و الجنة، و تحرير القدس المنتهك المدنس، من أجل الهدف الأسمى و هو الشهادة أو إعلاء كلمة الإسلام و أمة الإسلام مع مغالطات فقهية أو فقه موازي، مع إضافة تبرير تكميلي آخر- و هو حقيقي- مفاده أن الحكام المسلمين كافة فشلوا أمام كل هذه التحديات لعقود طويلة و أن سياساتهم المدجنة المهادنة لم تحل الأزمات و إنما سببت المزيد منا، سببت المزيد من التأخر و التنازل، أما عن شجاعة الأنظمة في دول الإسلام، و أياديهم البيضاء على رفعة الدين و نصرة المكروبين في الشام و فلسطين و ليبيا، و أفريقيا و الهند، فحدث و لا حرج، و نعلم كما قلت أن الكثيرين ممن ينضمون إلى تلك التنظيمات هم من تلك الطبقات المطحونة، أو المهمشة، و الأقل حظا في تحصيل العلم، بالإضافة إلى انهيار القطاع الثقافي و الحضاري في العالم الإسلامي و دور الأنظمة الحاكمة - أو تقصير بعضها - في انهياره و تجريفه، أما باقي من ينضم إلى تلك التنظيمات فهم ممن أحبطوا لدرجة أنهم أصبحوا يؤمنون بأنه لم يعد هناك أمل في رفع حالة المهانة إلا بالجهاد (من وجهة نظرهم) حتى و إن كانوا أعلى تعليما، و من الطبقات الوسطى الأكثر تعلما و ثقافة. إذا جوهر الأمر هو فكري في بعد كبير منه. لكن هذا ينبهنا إلى حقيقة أن للحكام المسلمين دور كبير و محوري مع الغرب في صناعتهم، و صناعة مبرراتهم التي تستند أيديولوجياتهم عليها، و صناعة القاعدة الشعبية لهم.
الأدوار:
الأدوار المباشرة، و الكل يعلمها جليا و هي تتمثل على سبيل المثال لا الحصر، في الدعم المادي، و اللوجستي لتلك التنظيمات من أنظمة حكم الدول المسلمة الأخرى نظرا لحالة التشرذم السياسي و الأيديولوجي التي تعيشها الأمة، و تضارب الرؤى و المصالح، و ذلك لأن الأنظمة لا تمثل سوى نفسها و لا تهتم مجرد الإهتمام في أن تعمل على الأهداف العليا و الأحلام الكبرى لأمتها نظرا لضيق أفقهم، أو عدم كفاءتهم، أو حبهم للذات أو غيره. هناك عامل مباشر آخر و هو الحروب و حالات الغزو التي شنها الغرب على دول العالم الإسلامي من غزو أفغانستان إلى العراق، إلى التدخل في سوريا و دول الربيع العربي، و تدريب كوادرهم و إمدادهم بالمعلومات و السلاح، و فتح الحدود لهم و تسهيل حركة تدفق المنضمين الجدد لأماكن تواجدهم.
أما عن الأدوار الغير مباشرة، فهي أولا كل ما سبب حالة من الفراغ السياسي و الأمني في تلك الدول الحاضنة للإرهاب خاصة بعد تدمير الغرب لأنظمتها و مؤسساتها التي كانت مكروهة من شعوبها مما خلق ما تسميه التنظيمات الجهادية حالة "التوحش" التي تسمح لهم بالتواجد و تدريب الكوادر و ما إلى غيره دون ملاحقات تذكر، و بما أن كلا من الغرب و دول العالم الإسلامي ترعاهم، و طالما هناك أجيال من المسلمين المطحونين يتمتعون بأعلى نسب الفقر و البطالة و القمع بسبب السياسات الغربية و سياسات الأنظمة الإسلامية نفسها إذا فالطريق أصبح ممهدا. ثانيا، الفشل الإستراتيجي لأنظمة العالم الإسلامي كافة على كافة المجالات التنموية، و السياسية، و البشرية و مجال الحريات و تجريف الحياة السياسية و الفكرية و الدينية للدول الإسلامية و إضعاف المؤسسات الدينية، ناهينا عن سياسات الغرب المزدوجة المعايير المتجسدة في الدعم الظالم لإسرائيل، و فشل الأنظمة الإسلامية في فرض السلام العادل على إسارئيل، و دعم الغرب نفسه للأنظمة الحاكمة لكثير من دول العالم الإسلامي و في نفس الوقت دعم و /أو غض الطرف عن أعداء تلك الأنظمة الداخلية و الخارجية، فمثلا نجد أن الغرب دعم نظام مبارك إلا أنه تواصل و دعم جماعة الإخوان، بل و كثيرا منهم منح حق اللجوء السياسي في دول الغرب، و نذكر أيضا لقاءاتهم الغير رسمية مع أعضاء الكونجرس الأمريكي و ما إلى آخره. هو نفس الحال في مع باكستان و التنظيمات الإسلامية فيها و الهند كعدوها الخارجي الأكبر، و سوريا التي تدعم فيها الولايات المتحدة داعش و الجيش السوري الحر لقتال داعش في نفس الوقت، و كذا كان الحال مع نظام الرئيس الراحل صدام حسين الذي دعم من الغرب ثم تخلص منه الغرب، و هكذا مع إيران و غض الطرف عن ممارساتها و دول الخليج العربي.
إلا أن كل ما سبق ذكره، نابع من فشل الأنظمة العربية و الإسلامية سياسيا و استراتيجيا في الأساس، فهم بالرغم من أن العديد منهم أضحى يعي ما أتكلم عنه إلا أنهم أعجز من أن يحيدوا المصالح الذاتية و حب البقاء و يتناولوا الأمور بصورة أكثر جدية، ناهينا عن انخراطهم في صراعات مع بعضهم البعض و ضد شعوبهم، و في الصراعات الإقليمية المصممة خصيصا لهم، مع موادعة الغرب و الدوران في فلكه، و بما لا يتيح لهم تطوير رؤية و استراتيجية جرئية و ذكية تحميهم و تحمي شعوبهم و تفشل المخططات السابق ذكرا داخليا و خارجيا، و في نهاية المطاف لا يستخدم سلاحهم الغربي إلا في وجه شعوبهم، أو في وجه بعضهم البعض، و لا تزاد بلادهم سوى فقرا، و عجزا و تأخرا بما يوسع قاعدة الإرهاب الشعبية و فرص الإرهاب و الفكر المتطرف المبرر في اجتذاب كوادر جديدة سيدعمها الغرب و الدول الإسلامية الأخرى.
في نهاية المطاف، و مما سبق اختصارا، سنجد أن الحلول الجذرية لا تكمن في تجديد الخطاب الديني، أو إطلاق مشاريع جديدة خاصة من تلك المشاريع التي لا يشعر بنتيجتها أي أحد، أو التي تخدم فئات قليلة من ذوي المصالح، أو من تلك التي تفشل، أو من تلك التي لا وجود لها إلا على شاشات التلفاز و لا تفتأ حتى تغلق، و نحن طبعا جهابذة في إطلاق مثل تلك المشاريع من هذه الأنواع و لنا باع طويل و خبرات جبارة على هذا الصعيد، يمكن أن تستفيد منها الدول التي تسعى للتفوق في الفشل.
نعم لا أنكر أن تجديد الخطاب الديني و مد أذرع التنمية هي عوامل هامة و لكنها لا تتعدى كونها أدوات لمجابهة هذا التطرف المتجدد، و هي نابعة من أسلوب التفكير الأمني الساعي إما للتصفية المباشرة للتنظيمات أو نشر حالة من الخوف أو الإرهاب المضاد المقنن، و تدجين البقية الباقية من الشعوب لأن تصفية الأفكار لا تتم بالسلاح و الأساليب الأمنية، و لكن يتخيلون أنها نكون بالإعلام الموجه الفاشل و أبواقه ممن لا يثق فيهم أحد و الذين أثبتت التجربة فشلهم مرارا و تكرارا في مجرد جذب انتباه الجماهير عن حالة الثورات و الغضب الشعبي التي خاضوها في العالم العربي، و كذا لن يؤتي الخطاب الديني بالنتائج المرجوة في تدجين الأمة إن لم تتحرر الأمم الإسلامية و تملك قرارها و حلمها و تملك من يمثلها - و ليس أن يملكها من يمثلها - كي تنهدم تلك القاعدة الفكرية و الشعبية للأفكار المتطرفة من تلقاء نفسها، و التي لن تنهدم إذا ما بقينا نتعاطى مع فرعيات الموضوع لا جوهره، و أزيد بأنه إذا ما أرادت الأنظمة الإسلامية البقاء و الأمان فعليها أن تتغير أو تغير من سياساتها بما يجعل الغالبية الكاسحة من شعوبها تلتف حولها و تكون صمام الأمان لها، و لن يتم ذلك طالما أنها لا تمثل طموحات شعوبها، السياسية و الدينية و الإجتماعية و الإقتصادية، و طالما ظهرت عاجزة ضعيفة في وجه التحديات الجيواستراتيجية و الجيوسياسية العظمى، و طالما أن هناك إسرائيل تدنس و تنتهك مقدسات الأمة، و عرضها و دمائها بينما تحارب الأنظمة الإسلامية بعضها بعضا، و طالما أنها متشرذمة و فاشلة و لا تقمع إلا شعوبها، و لا تزداد إلا فسادا على حساب شعوبها المطحونة، لكن من يسمع!
أنا على يقين من أنهم لن يقضوا على ظاهرة التفكير المتطرف و هذا ما أثبتته الأيام، و لكن نظرا لأن حكامنا أساتذة في المقايضات السياسية على حساب الشعوب قد ينحسر الإرهاب لفترات و هذا ما سيصوره إعلامهم الفاشل و أبواقهم على أنه انتصارا و سحقا للإرهاب، و لكنه لن يبرح إلا أن يتجدد بصور أعنف من ذي قبل، و سيؤلوا جميعا إلى سوء المآل إما من شعوبهم كما حدث و رأينا و إما من الغرب نفسه كما رأينا من قبل، و لن يعاني سوى الشعوب و لن يستفيد إلا الغرب و الإرهابيين و إن كانت مكاسبهم – أعني المتطرفين - ستكون جزئية و محدوة و مؤقتة إلا أنهم سينجحون بالكامل في تأكيد و ترسيخ أيديولوجياتهم المبررة و توسيع قواعدهم الشعبية أكثر و أكثر على مستوى أكثر اتساعا و شمولية يمتد على امتداد أفريقيا و روسيا و الدول العربية و أسيا، و هذا ما حدث و يحدث حقيقة بل و طال أوروبا التي تتخلص من متطرفيها بغض النظر عن هجرتهم إلى دولة الإسلام في العراق و الشام المعروفة بداعش، و ستظل تلك النتظيمات تتوسع فكريا و ماديا خاصة بعد أن تنهار الأنظمة الحاكمة في دول العالم الإسلامي عاجلا أم آجلا نظاما تلو الآخر إما بثوارات، أو من قبل الغرب ذاته، الذي هدم من الدول الإسلامية و أنظمتها الهشة الكثير حتى الآن، و في كلا الحالتين سيُخلق حالات من الفراغ و الفوضى أو "التوحش" مناسبة لمزيد من الإرهاب ليتولد تلقائيا لأن بذوره موجودة و إن كانت كامنة في بعض البلدان الإسلامية أو قد بدأت تثمر في البعض الآخر من الدول، ثم سيرعاه و يتبناه الغرب مع بعض حكام الدول الإسلامية الأخرى، لينتقل الإرهاب - و الذي انتقل بالفعل- بفضل كل العوامل التي ناقشناها إلى مراحل أبعد بكير مما كان عليه حتى في التسعينيات من القرن الماضي، و حسبنا أنهم أسسوا دولة أو وجدوا مراتعا أكثر أمنا و أكثر تركيزا و مركزية لهم على حساب دكتاتوريات إسلامية و عربية بناها و رعاها الغرب و هدمتها الشعوب أو الغرب ذاته.
أخيرا أعلم جيدا أن أبواق الأنظمة تستطيع أن تدلس و تجاهر و تصور العجز و الظلم و القمع ، على أنهم نصرا و فخرا و حنكة، لكن هل يستطيع الأئمة أن يقفوا على المنابر و هم يجددون الخطاب الديني و يدلسوا عندما يجدوا أنفسهم أمام معضلة الإجابة على أسئلة حساسة و تمس القاعدة الفكرية و التبريرية التي يرتكز عليها الفكر المتطرف؟ أم سيقولون أن السياسة نقرة و الدين نقرة تاركين الساحة للتبريرات الفكرية للمتطرفين؟! أم سيجتزؤن الحقائق؟ أم سيقفوا في وجه السلاطين الجائرة على امتداد عالمنا الإسلامي؟ أم سيخسروا ما بقي من دورهم إلى الأبد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق