لا يزال مجتمعنا الجزائري يهتم بالمأثورات الشعبية من حكاية وشعر وغناء ومعتقدات وأقوال تعارفها الناس جيلا بعد جيل عبر مرور الزمن، وقد تبلورت ملامحها أيضا في الأدب الجزائري ونذكر على سبيل المثال رواية "لونجة والغول" للأديبة الجزائرية زهور ونيسي.
إن التغيرات التي عرفها عصرنا في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عموما، يتطلب من الفرد إعادة بناء ذاته وهذا لا يكون إجمالا إلا من خلال إعادة بناء تراثه لأنه يعتبر في حد ذاته كيان الأمة وهويتها وربما هو ما دفع المبدعة ونيسي للوقوف أمام حكاية شعبية لا تخلو من الخرافة لفتاة ساحرة الجمال تدعى لونجة بنت الغول.
هذا يدفعنا لنتذكر جملة تتكرر في مجتمعنا الجزائري كثيرا: "واش حاسبة روحك لونجة بنت الغول؟" وهذا كله كناية عن الجمال الذي يفتن كل من يراه منذ الوهلة الأولى، وهذا ما سنشهده في نهاية النص الروائي للمبدعة زهور ونيسي حينما يخاطب "كمال" قبر "مليكة" قائلا: "أتدرين من هي لونجة بنت الغول؟ تلك التي تحكي عنها جداتنا تلك الفتاة الجميلة التي لا يمكن ان يصل إليها أحد لأنها تسكن قصرا عظيما عالية أبراجه تناطح السحاب هو قصر الغول..." (ص 142).
من سيقف أمام رواية "لونجة والغول" سيتساءل بدوره عن قصدية هذا العنوان وقد يظن القارئ في بداية الأمر أنه بصدد قراءة حكاية شعبية لكن حينما سيباشر عملية القراءة سيعود حتما إلى رمزية العنوان الذي له دلالته الضمنية في الخطاب الروائي، وسيكتشف حتما أن الكاتبة اختارت بعناية عنوان روايتها وذلك لكي لا تفصح بشكل مباشر عن مكنونات النص بل يظل عقدة منسوجة بإحكام وعلى القراء حلها بتأن وروية.
حاولت الرواية الإشارة إلى مضمونها من منطلق عنوان غريب ومحير لكن بعد القراءة المتأنية نستنتج أن "لونجة" ترمز للجزائر من خلال ملامح شخصية "مليكة" و "الغول" هي المستعمرة الفرنسية التي اغتصبت حرية الجزائري ونهبت خيرات بلاده.
شخصية "مليكة" لا تعكس تماما رمزية اسمها فهي تفتقد الأمان كما افتقتده الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية، كما تفتقد بدورها الحرية التي لا تزال حلما للعديد من الأوطان العربية كقضية الفلسطيني الذي ما يزال يناشد الضمير العربي لإرساء معالم السلام ومواجهة العدو الصهيوني إلى يومنا هذا.
تتخبط شخصية البطلة "مليكة" في متاهة الحب أين تقع في شباك حب يعزف منذ البداية على أوتار ممزقة لابن الجيران "سليم" لكنه لم يبادلها نفس المشاعر فترتبط بأول رجل يطلب يدها وهذا ما جعل الحظ يفتح أبوابه للشاب "أحمد" حيث تقول عنه الساردة: "...أليس اسم محمد أو أحمد واحدا، يعني الحمد والشكر، ويرمز إلى سيد الخلق..." (ص 87)، على خلاف حبها للفتى "سليم" الذي وجدته يعيش أزمة مراهقة حتى أنه لا يفكر في مستقبله أبدا كما نقرأ ما يلي: "...ماذا ستجني من حياتها مع شاب مثل سليم؟ ليس له عمل قار بعد ولا يزال يأخذ مصروفه من والده..." (ص 50).
لم تحرم "مليكة" من جمال لونجة بنت الغول كما تقول الحكاية الشعبية لكنها كانت تعاني كبقية أهل الجزائر من الفقر الذي يعتبره الكثيرون عدوا للإنسان في عصرنا بل صار الفقير نكرة في عيون الكثير من الأغنياء، لكن الإسلام جاء محطما لتلك الحواجز بين الفقراء والأغنياء في العبادات والمعاملات، بل الفقر بعينه امتحان للعبد الفقير كما هو العطاء والرخاء للغني لقوله تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" (سورة الأنبياء، الآية 35).
ملامح الفقر تعيدنا إلى أسرة مليكة وبالأخص والدتها "الزهرة" تلك الأم القنوعة التي لا تتذمر على الإطلاق، حنونة ومطيعة لزوجها كذلك رغم أنها عاشت حياة صعبة منذ نعومة أظافرها حيث تقول عنها الروائية ونيسي: "كانت ومنذ صغرها البعيد، تعيش اليتم المبكر، والوحدة النفسية، عالة على عم له من الأطفال تسعة..." (ص 11).
يبدو والد البطلة "سي محمد" متقلب الأحوال على عكس والدتها "الزهرة" حتى أنه لا يشعر بالرضا إلا في بعض الحالات وكأنه يستسلم لقدره دون أدنى سعي منه حيث نقرأ مايلي: "...لم يكن من الرجال الذين يسهل التفاهم معهم دائما، إنه لا يبدو راضيا إلا في الحالات القليلة، وطبعه الانفعالي كثيرا ما أدى به إلى القنوط والتشاؤم والشعور بالغبن الدائم والظلم..." (ص 13).
تظهر شخصية "رشيد" أخ البطلة مليكة التي تتخذ خطا عكسيا للحالة الاجتماعية التي تعيشها الأسرة حيث يرفض واقعه كأبيه على عكس أخته التي تصرخ من ألم الفقر بين فينة وأخرى لكنها ترضخ في نهاية المطاف لقدرها كأمها حيث تقول الساردة: "...كان من الأفضل ألا نضع الغنى بجانب الفقر، ولكن كيف تتميز الأشياء أليس بأضدادها؟ لا بأس، أليس من العدل أن يتداول الناس على الفقر والغنى؟..." (ص 9). لكن كل ذلك لم يمنع "رشيد" من الالتحاق بصفوف المجاهدين لينتهي به الأمر ليصبح واحدا من شهداء الجزائر.
إذا ما نظرنا إلى التراث اليوم سنجده عملا قد تدخلت فيه الصياغة الجديدة إلى مستوى عال جدا، ولكي نصل إلى الجذور الأصلية لكل ما هو موروث عن الأجداد يمكننا أن نقوم بالكثير من المقارنات وأن نعتمد على الحدس والاستنتاج والافتراضات العلمية والتي تعتبر ضرورية دون أدنى شك للاقتراب إلى حد ما من الروح الأصلية، وفي هذا يتحدد الفرق الجوهري بين أن نعيش في التراث وأن نعيش بالتراث.
ومن منطلق رواية "لونجة والغول" نجد بنية التراث الشعبي حاضرة بقوة من خلال جملة من الأمثال الشعبية والأغاني وكذا المعتقدات المتعارف عليها بين الناس حيث نقرأ على لسان الساردة مايلي: "...إنهم جميعا يقصدون اتجاها واحدا (سيدي عبد الرحمن) مقبرته يقصدون بركته يوم النذر جميعهم يحسن عملية الانتظار، انتظار لقيمات يجود بها احدهم ممن نذروا للقطب الرباني، أن يجودوا على الفقراء حوله الساكنين على الارصفة تحت رعايته..." (ص 114).
مما تقدم نستطيع أن نقترب من فهم معتقد شعبي لا يزال شائعا بين الناس إلى يومنا هذا والذي يؤثر على الكثيرين من منطلق مدلوله النفسي، والذي يبدو غير منطقي أو غير معقول لدى أهل الشريعة حيث أنه يخالف تعاليم الإسلام الذي يرى أن زيارة الأولياء الصالحين وأخذ بركاتهم أو التمسح بقبورهم وطلب رعايتهم من دون الله كما ذكرت ذلك المبدعة زهور ونيسي لا يجوز شرعا.
ومن جملة الأغاني التي ذكرتها الروائية على لسان البطلة "مليكة" وغيرها من الشخصيات ما يلي: "...اغنم ساعة في الحياة يا من عينك بكاية، اللي مكتوبة تكون راهي الدنيا ساعة..." (ص 116). كل هذا جاء ليفسر نوعية موقف من التراث الشعبي الجزائري الأصيل بهدف فهم مغزاه الذي يتماشى وظروف الحياة الراهنة.
ومن بين الأمثال التي أشادت بها المبدعة ونيسي في روايتها نذكر على سبيل المثال ما يلي: "...المصيبة إذا عمت هانت..." (ص 104) وهو مثل مفاده التخفيف من هول المصيبة التي قد تصيب الإنسان في مجرى حياته.
لقد استطاعت الأديبة الجزائرية زهور ونيسي إعادة خلق حكاية لونجة بنت الغول ذات القيمة التراثية التي تحتاج إلى الكثير لفهم جوهر توظيفها من خلال رواية كاملة تستحق الكثير من التمحيص والتدقيق والتعمق لإدراك وفهم فكرة اتخاذها خيطا في عملية السرد بتقنية عالية، وكل ذلك بغية اختراق حواجز الزمن بين الماضي والحاضر من خلال صهرهما في بوتقة واحدة متوازنة تعكس صورة التراث والتاريخ الذي يتوارثهما جيل بعد جيل.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق