جزيرة جرداء/ عبد القادر كعبان

أول مرة أجدني مرتبكة لا أعرف ما أفعله في غيابه. سافر فجأة دون أن يعلمني. كل ما فعله أنه كتب رسالة قصيرة يقول فيها أنه مسافر. بات صمته يخنقني. حدسي ينذرني على أنه يفتقد مشاعر الأبوة. أخبرتني الدكتورة منذ سنة تقريبا أنني عاقر. لا شك أنه سافر في هدوء كطائر جارح يبحث عن فريسته. أتفهم شعوره وسط نيران الغيرة التي تتآكل قلبي العاشق. مرارة أخرى تعتصر فؤادي بعدما سمعته من كلمات الدكتورة:
- آسفة سيدتي.. لا يمكنك الإنجاب ولكن ثقي في الله..
وحده الأمل في الله جعلني أرضخ لواقعي المرير لكن حمدا لله على كل حال. في البداية تكتمت على الخبر محاولة لملمة نفسي المحطمة. بينما هو بات يحلم ببيت يملأه الأطفال بالضحك والبكاء في آن واحد. يائس سافر هذه المرة دون حتى أن يخبرني كعادته. حاولت إخباره مرة لكن قاطعنا رنين جرس الباب. كانت الزائرة أخته الوحيدة برفقة زوجها وتوأمها. بنت وولد يسرقان الحزن من جدران بيتنا في كل زيارة. تواريت عن الأنظار متحججة بتحضير القهوة. سمعت أخته ترفع صوتها من بعيد تقول:
- متى سأصبح عمة يا عزيزي. 
التقطت أنفاسي وأنا أضع صينية القهوة أمامها. ترددت كلماتها قبل أن تسألني عن زيارتي الأخيرة للدكتورة التي تعرفها شخصيا هي الأخرى. في عجلة أخبرتها أنها طلبت مني زيارتها في موعد قريب لمعرفة النتيجة النهائية. أدركت أن المواجهة في تلك اللحظات لن تكون الحل الأمثل خصوصا بحضور زوجها وطفليها. جلست بجواره ابنة أخته المدللة فانفرج ثغره بابتسامة ساحرة. تخوفت من مصيري حيال كذبة انقشعت فجأة عن وجهي لتخفي خلفها تلك الحقيقة المرة التي امتزجت بمرارة القهوة. لم أستطع البوح بما بات يمزق شراييني يوميا. شحوب وجهي يفضحني. عدت ووقفت أمام المرآة عارية على غير عادتي بعدما أوقفت مسجلة ذكرياتي البائسة. حدقت في ملامح وجهي الكئيبة برهة. سألت نفسي عن سبب تعاستي. سمعت صوتا داخليا يردد في مسامعي:
- هو يريد طفلا وأنت...
قاطعته:
- مجرد عاقر...
ارتفع ذلك الصوت قائلا:
- رحمة الله واسعة.. لا تنحني لليأس..
وجدته يسكب نارا فوق نيران غيرتي المشتعلة. أنفاسي اضطربت تتسارع بين جدران حجرتنا الصغيرة. تذكرت تلك النظرة على وجهه حين قررت مصارحته. نظرة غريق لم يجد من ينقذه من أمواج بحر غاضبة. مع مرور الأيام رضخ لسخرية القدر كما كان يقول متمتما:
- ما أصعب أن أجدني عاريا فوق جزيرة جرداء.. يا لسخرية القدر!
أحلامه الوردية تبخرت حينما شبهني بجزيرة جرداء تقاذفته أمواج الحياة إليها دون سابق إنذار. اليوم تركني وسافر ليبحث له عن أخرى. حاولت مقاومة الإحباط مرتدية أجمل فستان لدي. لعنت ضعف الأنثى في داخلي. قررت الخروج للتسوق. أسرعت الخطى وركبت تاكسي. توقفنا في وسط المدينة. فضلت المشي أمام الواجهات وسط الزحام. تلاقت عيني بوجوه جملة من الأطفال رفقة أوليائهم. تخليت ذلك المسافر (زوجي الحبيب) وكأنما هو من يمسك بطفلته مع من ذهب باحثا عنها في مكان بعيد. لحظة حلم اختلستها من حياتهما المستقبلية ليست من حقي، ولكن ابتسمت رغم الألم الذي يعتصر قلبي. دخلت كافتيريا لأرتشف فنجانا من القهوة الساخنة. وضعت قطعة من السكر في ذلك الفنجان، وسرحت أفكر في رسم الفرحة على وجهه. أيعقل! وجدتني أفكر في تزويجه مع الأخرى. قاطع تفكيري رنين المحمول ليكشف عن اتصاله المفاجئ. فتحته لأسمع صوته الهادئ يقول:
- آسف جدا حبيبتي.. كنت مضطرا للسفر فجأة لذلك تركت لك رسالة قصيرة..
قاطعته بنبرة صبر:
- ما سر ذلك يا ترى؟
انساب صوته إلى أذني مجيبا:
- مدير الشركة كلفني بلقاء جملة من رجال الأعمال من أجل احدى الصفقات المهمة...
فتحت له قلبي وأخبرته أن يبحث هناك عن أخرى، تفاجئ بما سمعه من كلمات وأجابني بضيق أنني حبيبته مهما كان، ولن يفكر في غيري بالرغم محبته للأطفال. تلاحقت أنفاسي وشعرت بالغرام يسحبني خلف دبدبات صوته العاشقة، وختم كلامه بحمد الله وشكره على كل شيء في فوضى هذه الحياة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق