الدولة المدنية هي البديل/ شاكر فريد حسن

إننا امام ظاهرة خطيرة يجب أن لا تغيب لحظة عن اذهاننا وعيوننا ، وهي ظاهرة التعصب الطائفي والمذهبي البغيض ممثلة بالفكر التكفيري الوهابي الارهابي الذي يجتاح الأقطار العربية ويعصف بمجتمعاتنا العربية الاسلامية .
ولا شك أن هذا التعصب اهرق الكثير من الدماء ، بل هو الذي ادى الى تأجيج الصراعات الداخلية واشعال نار الحروب وزيادة الضغائن والاحقاد والكراهيات بين بني البشر .
وهذه الظاهرة الفتاكة هي جزء من مؤامرة استعمارية كبرى تستهدف ضرب وتفتيت النسيج الوطني بكل مكوناته ، وتمزيق شرقنا العربي وتفسيخه دينياً وقبلياً وطائفياً ومذهبياً .
وللاسف أن لهذا الفكر التدميري جذوراً في موروثنا الفكري ومخزوننا التاريخي وادبياتنا العربية الاسلامية ، وأن حضارتنا العربية الاسلامية كانت بفعل التنوع والتلاقح والتمازج بين الديانات والشعوب على مر العصور والأزمان .
والواقع أن الاسلام الحنيف الذي جاء به النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كان ثورة سياسية واجتماعية تحريرية ، وثورة على مفاهيم التعصب والتحجر والتزمت والكراهية . لكن ما نشهده من ممارسات باسم الاسلام من قبل حركات التأسلم السياسي كداعش وجبهة النصرة وغيرها من مسميات ، لا يمت بصلة للاسلام وانما يشوه الصورة المشرقة الحقيقية للاسلام الوسطي المتنور .
ًوباختصار شديد ، إن المخرج للوضع المأزوم والمتفجر في مجتمعاتنا العربية هو انشاء الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوى فيها الجميع ، وبناء مجتمع حر مبدع خلاق ، مجتمع سليم معافى ، لا تزمت ولا تعصب فيه .

رحيل عام 2015/ ليلى حجازى


أقف بصمت عند زاوية الغرفة
أطالعك بدقه وحذر وحرفه
أراقب تحركاتك ونظراتك
أتخيل لحظات وداعك
أعرف بكل تأكيد
أن لا لقاء جديد
ستذهب ولن تعود
وقلبي سيستمر
بالصعود
تتجاوزني عقوداً وعقود
ها أنت بدأت تجمع أمتعتك
ذكرياتك آهاتك
أفراحك وأحزانك
أقلامك وألوانك
تدسها في تلك الحقيبة
حقيبة الأيام
تلك الأيام التي تمتطي حصان الزمان
الهائج الهائم العائد للماضي
أعاتبك بصمت
لم تكن لحياتي زائراً عادياً
حولتني قوياً
كنتَ شاهداً
لولادة أشياء جميله
واشياء مملؤة بالاسى
كنتَ شاهداً
لولادة حب كبير
وسرعة نبضات قلبي
وشوقي
قرأت لحظات الوداع
سردتَ تفاصيل اللقاء
وطويتَ كتاباً بالحزن والعناء
كنتَ مؤرخاً لعمق جرحي
وربما بعض لحظات فرحي
كنتَ معلمي
علمتني الكثير الكثير
أن أكسر قيودَ الأسير
وأثابر على المسير
لنفسي أدوم أوفى نصير
أن لا أتسرع بالتقدير وتقرير المصير
وأنقل سلامي لتلك الأعوام
التي سبقتكَ لمحطة القطار هاأنت ترتدي معطفك
أنها اللحظات الأخيرة
تراقبني بعيونك وتواري النظرات
أنت تعرف أن لابد من موعد الوداع
فقطار الأيام مسرعٌ على الدوام
كأسرابٍ مهاجرةٍ من الحمام
تركت لي أوراقاً وآمالاً وبقايا ألآلام
وستأخذ معك الكثير من الذكريات
سأبدأ باستقبال ضيفٍ جديد
وأرتب المكان حالماً
سأتذكركَ دون وقتٍ وميعاد
وأنقش بروحي
حدث في العام قطار الأيام
عام2015

هل يمكن للكتب أن تغيّرَ العالم؟/ جــودت هوشيار

هل يمكن للكتب أن تغبّر العالم حقاً ؟ قد يبدو هذا التساؤل غريباً لمن يعشق قراءة الكتب ، ولا يتصور حياته من دونها . ولكن  ثمة من يقول ، أن الكتب لا تغيّر شيئاً ، وهؤلاء في العادة لا يقرأون الكتب أصلاً ، وربما يجهلون أن ثمة عشرات الكتب التي غيّرت حياة الأفراد والمجتمعات ومسار التأريخ ، ولعبت الدور الحاسم في التقدم الحضاري للبشرية .
لم نكن نولي هذا الموضوع اهتماما لو كان جل من يستهين بدور الكتب في الحياة هم الناس البسطاء ، ولكن ثمة بعض العظماء الذين اصيبوا بخيبة امل بعد الكوارث التي شهدتها البشرية في العصر الحديث .   قال الشاعر الأنجليزي و.هـ. اودن ( 1907 -1973) " ان الكتب لا تلعب أي دور في الحياة . بدليل أن كل كتاباتي عن هتلر لم تنقذ حياة انسان واحد.
ولكن اودن لم يأخذ في الأعتبار ان فكرة " العرق النقي " ظهرت عند هتلر تحت تأثير أعمال فريدريش نيتشة (1844-1900)).
لقد نشرت مئات الكتب القيمة والرائعة في منطقة الشرق الأوسط خلال المائة عام الماضية .ولكن عند النظر الى ما يحدث في منطقتنا هذه الأيام من وحشية وحروب من الصعب العثور على اي علامة تشير الى ان الكتب تغير المجتمع نحو الافضل .ربما ينبغي الانطلاق من ان الكتب تغير الناس ومن ثم المجتمع.
تأثير الكتب في حياة الأفراد :
ان تصورالانسان للعالم وتشكيل شخصيته يعتمدان على عوامل كثيرة وبضمنها الكتب التي قرأها  ، ولكن ثمة كتب تؤثر ليس فقط على تصور الأنسان للعالم ولكن يمكنها أن تغيرحياته أيضاً. كلمات المؤلفين العظماء يمكن أن تغير وجهة نظر الشخص حتى الى الأشياء البسيطة والمألوفة. والكتاب - مصدر لا ينضب للمعرفة و للأنطباعات الجديدة ، غير المتوقعة في بعض الأحيان.الكتب الجيدة تعمق ادراكنا وفهمنا للعالم الذي نعيش فيه وتصقل ذائقتنا الجمالية ، وترسخ القيم الأخلاقية في ذواتنا ، وتكون مصدر الهام لنا ولو لبعض الوقت .
الكاتب التركي اورهان باموك الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام 2006 يقول في مفتتح روايته ( حياة جديدة ) :" قرأت ذات مرة كتاباً غيّر حياتي "
الفيلسوف الألماني  أرتور شوبنهاور ( 1788 – 1860 ، تحدث عن الناس الضالين الى الأبد في الحياة بعد قراءة رواية " دون كيشوت " لسرفانتس .
وكما تقول الروائية الأنجليزية  ماري آن إيفانس المعروفة بجورج اليوت  (1819 – 1880 ) ان الكتاب هو الأقرب الى الحياة.
الكاتب الارجنتيني كارلوس دومينغيز ( ولد عام 1955 ) يستهل روايته الشهيرة " البيت الورقي " بالمقطع التالي : " في ربيع عام 1998، اشترت بلوما لينون في محل لبيع الكتب في سوهو نسخة عتيقة من مجموعة قصائد للشاعر إميلي ديكنسون، وعندما وصلت إلى السوناتا الثانية،عند اول نقطة عبور للمشاة  صدمتها سيارة أودت بحاتها " . الكتب تغيّر مصائر البشر حقاً .
إن التطلع الى التغيير نحو الأفضل ، هو الذي يدفعنا لقراءة الكتب ، واذا لم نكن نؤمن بالتغيير ، لما كنا خسرنا الوقت والجهد والمال في إقتناء الكتب وقراءتها أو كتابتها . .
الكتب الأكثر تأثيراً  في تأريخ البشرية :
 الكتب شكلت وعي الإنسانية حتى في تلك الأيام، عندما لم تكن ثمة  أشكال أخرى لحفظ حكمة الاجيال. الكتب عموما والكتب السماوية المقدسة خصوصاً ( القرآن ، والأنجيل ، والتوراة ، ) - التي تحفظ حكمة العصور ، وتشكل عاداتنا الأجتماعية وتنظم المعايير الأخلاقية للأفراد والمجتمعات - أصبحت منهجاً ومرشدأً للعمل ولتحريك الجماهير الغفيرة ، وهي من دون أدنى شك أهم الكتب التي غيرت حياة البشرية ولا يزال تأثيرها عظيماً في عالم اليوم
 1 - القرآن الكريم مرشد ومنهج لحياة للمسلمين في أنحاء المعمورة ، وأساس الحضارة الأسلامية
  2 - الكتاب المقدس هو أساس الحضارة الأوروبية، التي تشكلت في رحم المسيحية .وهذا الكتاب – أو مجموعة الكتب على نحو أصح - لا تزال مصدرا للإلهام وتفسير معنى الحياة لمئات الملايين من الناس . وقد ترجم الى حوالي 2000 لغة ، وهو الكتاب الأكثر انتشاراً في العالم .
أقدم نسخة من الكتاب المقدس كان بحوزة العائلة القيصرية الروسية ( آل رومانوف ) . وبعد ثورة اكتوبر تم بيع هذه النسخة في عام 1920 بنصف مليون دولار وكان هذا مبلغا خياليا – في ذلك الوقت -  ثمنا لكتاب مخطوط .
3 - العهد القديم الذي ما يزال تأثيره قوياً على اليهود في كافة أنحاء العالم . كما أن الكتب الدينية الأخرى التي نبعت منها الفلسفات البوذية والكونفوشوسية في الهند والصين واليابان و جنوب شرق آسيا حددت ثقافات شعوب تلك المناطق .
وإضافة الى الكتب الدينية ، ثمة كتب علمية واقتصادية  وسياسية وفلسفية أسهمت على نحو فاعل وحاسم في التقدم الحضاري للبشرية . وتقوم الصحف والمجلات الشهيرة في الدول الغربية بين حين وآخر  باعداد لوائح بأهم ( عشرة أو خمسين أو مائة ) كتاب في التأريخ البشري ، ومهما كان عدد الكتب التي تحويها كل لائحة ، فأنها تتضمن حتما الكتب الدينية الرئيسية الثلاث التي أشرنا اليها فيما تقدم .
أما بالنسبة للكتب غير الدينية فأن الكتب العشرة التالية هي القاسم المشترك بين معظم تلك اللوائح ،
1 – "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية "  اسحاق نيوتن  ( 1687) :
وضع هذا الكتاب الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية ولمعظم مبادئ الميكانيكا الكلاسيكية.
صاغ نيوتن قوانين الحركة وقانون الجذب العام التي سيطرت على رؤية العلماء للكون المادي للقرون الثلاثة التالية. كما أثبت أن حركة الأجسام على الأرض والأجسام السماوية يمكن وصفها وفق نفس مبادئ الحركة والجاذبية. وعن طريق اشتقاق قوانين كبلر من وصفه الرياضي للجاذبية، أزال نيوتن آخر الشكوك حول صلاحية نظرية مركزية الشمس كنموذج للكون .
 وبفضل هذا الكتاب ، غزا الأنسان الفضاء الكوني ووصل الى القمر ، وصنع الصواريخ التي تطلق الأقمار الصناعية الى الفضاء وتؤمن اليوم الأتصالات بين البشر . ولو لم يظهر هذا الكتاب في حينه لتغير حياة البشر ومسار التأريخ ، أو في الأقل ربما تأخر تحقيق هذه الأنجازات الى زمن غير معلوم .
2– " ميثاق الحرية العظيم " ، ممثلي الطبقة الحاكمة الأنجليزية ،  :1215
أصبح أساساً لوضع الدستور الأنجليزي ودساتير عدد من الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية والهند .
3–" براءة اختراع آلة الغزل" ، ريتشارد آركرايت ،  : :1769
كان هذا الاختراع حاسما في الثورة الصناعية الأولى ، ومهد لظهور مكائن أكثر تطورا لشتى الأغراض الصناعية و الحياتية  .
4– " بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم " آدم سميث ، 1776 :
الاقتصادي الإسكتلندي آدم سميث (1723 ـ 1790) هو الأب المؤسس الحقيقي للاقتصاد الكلاسيكي
نشر الكتاب في بداية فترة الثورة الصناعية ويعتبر أحد معالم تطور الفكر الاقتصادي . نادى سميث بالرأسمالية فرفض تدخل الحكومة في الاقتصاد ونادى بوجوب تركه لقوى العرض والطلب .
5– " دفاع عن حقوق النساء : القيود السياسية والأخلاقية " ماري ولستونكرافت ، 1792
يعتبر هذا الكتاب من أوائل الأطروحات في الفلسفة النسوية. ردت ولستونكرافت في هذا الكتاب على المنظرين والمفكرين السياسيين والاجتماعيين في القرن الثامن عشر والذين لم يكونوا يؤمنون بحق المرأة في التعليم. دافعت ماري عن حق النساء في التعليم بما يتناسب مع وضعهم في المجتمع، قائلة أن دور المرأة أساسي لا يمكن الاستغناء عنه للأمة لأنها ستثقف أبناءها وستكون رفيقة لزوجها تعينه على تحمل أعباء الحياة، بدلا من أن تكون مجرد زوجة. وبعكس النظرة السائدة في المجتمع آنذاك للمرأة بأنها مثل الحلي أو الممتلكات التي يتم تبادلها عن طريق الزواج، أصرّت ولستونكرافت على أن المرأة إنسان تستحق نفس الحقوق الأساسية التي يمتلكها الرجل.
6- أصل الأنواع لجارلز داروين ( 1859 ) :
ان الأهمية الكبرى لهذا الكتاب تكمن في الكشف عن العامل المحرك للتطور وهو ( الأنتقاء الطبيعي ) وتحديد أسباب حدوث التطور البيولوجي.
7-  رأس المال لكارل ماركس (1867) :
نشر ماركس الجزء الأول من الكتاب في عام 1867 ، وهو العمل الرئيسي له وفيه تحليل معمق لتطور الرأسمالية وحدودها التأريخية . أما الجزئين الثاني والثالث من " رأس المال " فقد نشرا بعد وفاته من قبل فردريك انجلس. وللأبانة عن مدى تأثير هذا الكتاب في صنع التأريخ الحديث يمكن الأشارة الى ظهور الحركات والأحزاب الشيوعية والأشتراكية في أنحاء العالم واندلاع ثورة اكتوبر 1917 البلشفية في روسيا والثورات الشيوعية في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية ، رغم الأختلاف الشديد في تطبيق المباديء التي نادى بها ماركس وتكييفها لظروف كل بلد أو الأستفادة الأنتقائية من الآراء الواردة فيه .
8– " بحث تجريبي في الكهرباء " لمايكل فارادي :
في ثلاثة مجلدات ، صدرت تباعاً في أعوام 1839 ، 1844 ، 1855 ،. ولا أعتقد انني بحاجة الى بيان أهمية هذا الأختراع في تطو الحضارة الأنسانية ، حتى بات استخدام الكهرباء  أحد المعايير الأساسية لمدى تقدم الأمم .
9– " عن الغاء تجارة الرق " ، ويليام ويلبرفورس ، 1789 :
هذا الكتاب للسياسي  وقائد الدعوة الى إلغاء تجارة الرق اللإنجليزية ، ويليام ويلبرفورس ،الذي  كان أحد الأعضاء المستقلين البارزين في البرلمان البريطاني ،  ولعب دوراً كبيراً في إقرار قانون تجارة الرق في عام  1807
10 – كتاب " كفاحي " لأدولف هتلر :
كتب هتلر الجزء الأول من الكتاب في سجن ( لاندسبرغ ) ، حيث كان يقضي حكماً بالسجن لمحاولة انقلاب . كان العديد من رفاق هتلر وبضمنهم غوبلز ، وروزنبرغ ، و وغوتفريد ، قد نشروا كتباً أو مقالات عن النازية ، مما أدى الى ظهور رغبة جامحة لدى هتلر في إثبات قدرته على الأسهام في الفلسفة السياسية رغم افتقاره الى التعليم . وقد ذاع أمر هذا الكتاب وفحواه ، حتى قبل نشره . أما الجزء الثاني من " كفاحي " فقد كتبه هتلر بين عامي 1925 – 1927 ، بعد تأسيس الحزب الأشتراكي – القومي .
وبعد  وصول الحزب الى السلطة أصبح " كفاحي " الكتاب المقدس أو دستور الحزب ولكل الحركات الفاشية في العالم وخاصة في ايطاليا في ظل حكم موسيليني الفاشستي  وفي اسبانيا في عهد فرانكو الفاشي .

دراسة ٌ لديوان ومضات وأعاصير للشاعر الأستاذ يوسف ناصر/ حاتم جوعيه

مقدمة  وتعريف:   
الشَّاعرُ  والأديبُ الأستاذ  يوسف  نعمان نعمان ناصر" من  سكان  قريةِ " كفر سميع" الجليلية ، يكتبُ  الشعرَ  والقصَّة َ والمقالات  والدراسات النقديَّة والادبيَّة  منذ أكثر من ثلاثين سنة، نشرَ بعضا من إنتاجهِ الشعري والأدبي  في الصحفِ والمجلات  المحليَّة .   حاصلٌ  على  شهادةِ الماجستير (  m.a ) في الأدب العربي  ويحضِّرُ  الآن  لأطروحةِ الدكتوراة ،عملَ في سلك التعليم فترة طويلة  مُدَرِّسًا  في المدرسةِ الثانويةِ  ومحاضرا  في  أكثر من كليَّةٍ... يحظى  بمكانةٍ  أدبيَّةٍ  واجتماعيَّةٍ  مرموقةٍ  في  الداخل  ويعتبرُ من الأساتذةِ الأوائل القديرين والضَّليعين في اللغةِ العربيَّة. والجديرُ  بالذكر انَّ إتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين ( في الضفة  والقطاع)- منطقة الحكم الذاتي - أصدرَ قبل أكثر من 15 سنة  كتابا بعنوان "إبداعات الحجر" يضمُّ  قصائد شعريَّة عديدة ومقالات وخواط أدبيَّة  كُتِبَتْ بمناسبةِ الأنتفاضة وقد  نشروا  قصيدتين  في  هذا الكتاب لشاعرين  محليِّين  فقط  من  الداخل عن  الإنتفاضةِ ،  والشاعران  هما: الأستاذ " يوسف  ناصر"  وأنا  " حاتم جوعيه " .  
  سأتناولُ في هذه المقالةِ ديوان "ومضات وأعاصير من خلال الإستعراض   والتحليل . 
مدخل :  ديوان  " ومضات وأعاصير " للأستاذ  يوسف  ناصر  صدرَ عن   مؤسسةِ الأسوار العكيَّة - بإدارة الأستاذ  يعقوب حجازي . الديوان  يقعُ  في (110) صفحات  من  الحجم  المتوسط  تحليه   بعضُ  الرسوماتِ  الجميلة والمعبرة في الداخل..ويستهلُّ الشاعرُ ديوانهُ بمقدمةٍ رائعةٍ  يشرحُ  ويوضحُ    فيها موقفهُ  من الشعر مُشِيرًا إلى العناصر والمُقوِّمَاتِ الأساسيَّة  التي  يجبُ أن  تتوفرُ  فيِهِ  ليكونَ عملا  إبداعيًّا  متكاملا   ويستحقّ  أن  يُسَمَّى  شعرا . والشاعرُ من أنصار ومؤيِّدي الشعر الموزون- سواء شعر التفعيلة أو الشعر الكلاسيكي ، ولكنهُ  يُحَبِّذ ُ  ويتمسَّكُ   أكثر  بالشعر  الكلاسيكي ( العمودي )  وبوحدةِ الوزن  والرويّ  . 
         إذا  تصفحنا هذا الديوان  نجدُ  جميعَ  قصائدِهِ  كلاسيكيَّة  (عموديَّة )    وتتناولُ  وتعالجُ هذه القصائدُ جميعَ المواضيع :السِّياسيَّة، الوطنيَّة  والقوميَّة  والإنسانيَّة، الإجتماعيَّة ، الغزليَّة، الوطنيَّة، والوصفية والوجدانيَّة .. إلخ .
  يمتازُ شعرُ الأستاذ  يوسف ناصر قبل  كلِّ  شيىء  بجزالةِ  اللغةِ  وجمالها  وبقوِّةِ  السَّبكِ   والعذوبة  في  العباراتِ  والمفرداتِ   وبالموسيقى  الساحرةِ  المؤثرة التي  تأسرُ الفؤاد َ وتسكرُ الأذن َ والوجدان . وهو  فنان  بكلِّ معنى الكلمة  في  كيفيَّةِ اختيار الكلماتِ الجميلةِ  ذات الإيقاع  والجرس  الموسيقي الساحر والمعنى المُشعّ  والمتماوج  الذي  يتركُ  صدَاهُ  في الفكر والوجدان  فيحرِّكُ  النفوسَ  وَيُحفزُ العقلَ  للتفكير والتأمُّل  وينيرُ البصيرة َ ويتركُ  في   نفسيَّةِ المستمع  ومشاعرهِ  ولواعجهِ  الذاتيَّة  مُتعة ً ولذة ً حسيَّة ً فنيَّة.ً..وهذا  هو الشِّعرُ الحقيقي  والأدب الحقيقي ، لأنَّ  الأدبَ  بحدِّ  ذاتهِ -  حسب  رأي معظم النقاد :هو الكلامُ  الجيِّدُ الذي يُحدِثُ في نفس القارىءِ  لذة ً فنيَّة ً سواءً كان هذا  الكلامُ  شعرا  أو  نثرا  .  إنَّ  التجديدَ  والحداثة َ والإبتكارَ  وَصُنعَ واختلاق العوالم الجديدة والصورالجديدة في إطار ومجال الشعر الكلاسيكي القديم ( التقليدي ) أصعبُ  بكثير من التجديد والإبداع في إطار وحيِّز الشعر الحديث (النثري الحرّ وحتى شعر التفعيلة ) .. وقد  يرى البعضُ أنَّ التجديدَ    والحداثة َ في الشعر الكلاسيكي أمرٌ  مستحيلٌ  وانَّهُ شعرٌ  متقوقعٌ  ورجعيٌّ  ومتأخرٌ  ومتخلف (( حسب رأي  النقاد والشعراء غير المتمكنين  من  اللغةِ العربيَّةِ وقواعدِها وصرفها  ونحوها  ولا  يعرفون الأوزانَ الشعريَّة إطلاقا   ولغتهم مكسَّرة ٌ وكتاباتهم مليئة ٌ بالأخطاءِ حتى الإملائيَّة)) . ولكنَّ  الشعراءَ  الموهوبين  الأفذاذ  وجهابذة  اللغةِ  الضليعين  والمتمرِّسين   فيها   كالأستاذ  "يوسف  ناصر "   فالإبداعُ  والتجديدُ  والتألُّق  في  الشعر الكلاسيكي  شيئا  سهلا وهيِّنا  وبسيطا جدا بالنسبة   له  ولهم   فبإمكان الأستاذ  يوسف  وبكلِّ سهولةٍ  كتابة  القصيدة  الشعريَّة  الكلاسيكيَّة   الطويلة  والعصماء  المترعة  بالإبداع   وبالتجديد  نظرا   لموهبتهِ   وطاقاتهِ   الشِّعريَّة  العظيمة  ولثقافتهِ   الواسعة  في  جميع  المجالات ، ويستطيعُ  أن يضعَ  كلَّ  عناصر والتجديد والتقنيات والتوظيفات الدلاليَّة والرموز  والإيحاءات والمفردات والمركبات الجديدة التي يفتشُ ويلهثُ نحوها النقادُ  والنويقديون ( خاصة الذين  يجهلون  أصول النقد  ومدارسه المُتشعِّبة  وغير متمكنين من اللغةِ العربيَّة)، في إطر وقوالب  الشعر العمودي  القديم  وبلغةٍ  قويَّة  جميلة  وعذبة  فصحى تخلبُ  وتسحرُ القلوبَ والعقولَ  والألبابَ  بدلا  من  سكبِ  ووضع عناصرالتجديد والفكرة  والموضوع  والتوظيفات  الدلاليَّة  في  إطار  وقالب غير  موزون  إطلاقا  ولا  يوجد  فيه  قافية، وفي  جمل عاديَّة  بسيطة   ليست  شعريَّة  لا تحرِّكُ  ساكنا  ولا تؤَثرُ في القرَّاء  والناس على مختلفِ ثقافتهم .  
  سأختارُ بعضَ  النماذج  من  قصائد الشاعر  في هذا الديوان  مع الدراسةِ والتحليل  وسأبدأ  بقصيدةٍ  بعنوان : ( " بلادي " -  صفحة 43 )  والقصيدة طويلة على وزن ( مجزوء الوافر ) القريب إلى وزن  " الهزج " ويستعملُ فيها عدَّة  قواف ، والقصيدة  تمتازُ  بموسيقاها السَّاحرةِ  وبعناصر التشبيه ، وخاصَّة  في وصف  طبيعةِ  البلادِ  والمروج  والسواقي  والينابيع  والجبال والصخور... إلخ .. وَيُشَدِّدُ  فيها على حُبِّ الأرض  والوطن  وعدم  الإفراط  بهما والتشَبُّث  بالوطن وعدم الرحيل عنهُ  مهما جارت الأيامُ ،  ويذكرُ  فيها  ويُعدِّدُ بعضَ المواقع والقرى والمدن الفلسطينيَّة، والقصيدة ُ غنائيّة ٌ توثيقيَّة ٌ  لقرى   ومدن  البلاد ،  ويُذكي   فيها   الشاعرُ  اللواعجَ  والمشاعرَ  القوميَّة  والوطنيَة... والقصيدة ُ ذات إيقاع  ساحر  كما  ذكرتُ  وتصلحُ جدًّا  للتلحين  وللغناءِ .. فيقولُ فيها :
  ( "   بلادي       مَرتعُ       الفجر ِ          رُبَاهَا       مُلتقى         الدَّهر ِ   
         سريرُ     الطلِّ        واديهَا            سَمَاهَا       مَسكنُ        الطير ِ 
         ثراها         قبرُ     أجدادي            عليهَا       ينقضي      عُمري
        على       أملودِهَا       طيرٌ             يُناغي        بسمة َ       الفجر ِ 
ويقولُ :" أخي  إيَّاكَ   أن    ترحَلْ            وَلو    أسْكِنتَ     في      قصر ِ 
          ولو   ضاقت   بكَ    الدُّنيا            وَضَجَّ     القلبُ   في    الصَّدر ِ 
ويقول: " بكفر سميع  "    أولادي             دَمُ         الشريانِ       أكبادِي 
         حكاياتُ     الصبا       فيها             ثرَاهَا       ضمَّ         أجدادِي
        ويومٌ      بينَ          أهليهَا             يُطفِّي       عِلّة  َ       الصَّادِي
ويقولُ :"معليا "   لستُ    أنسَاهَا             بعظمي       حبِّها         يسري 
         إذا    ما      متُّ     بثوهَا             حنينَ      القلبِ    من     قبري 
ويقولُ : ألا  زوروا  قرى الكرملْ            نسيم      الريح     لو     يحمِلْ 
        سلامُ     القلب       أشواقي            إليها         حينما           تسألْ 
ويقولُ :أخي، "سخنين" كن  فيهَا            تزدْ         في     شعبها     تيهَا 
         فبَلِّغْ       أهلهَا        عنِّي             بأنِّي          لستُ         ناسيهَا
ويقول : ألا  عَرِّجْ  على "إقرث"            أنينَ      القلب       كي    تنقثْ 
        لها    في    روحِنا    عهدٌ            وذاكَ    العهد    لا    تنكثْ ..إلخ.
    و " إقرث " هي قرية ٌ  فلسطينيَّة  في الجليل الأعلى  هُجِّرَ  سكانها   مع  قرية " كفر برعم" عام  1948  ووَعَدُوا سكانها  بالرجوع  إليها  في أوائل الخمسينات  بقرار من  محكمة العدل العليا ... وحتى الآن  لم  يرجعوا  وما  زالوا  يعيشون مشتّتين  وَمُوَزَّعِين  في  مختلف قرى  ومدن البلاد  .
   وننتقل إلى قصيدةٍ  أخرى  بعنوان : ("هذا سراج الشَّرق يحملهُ الرَّدَى  " - صفحة 25  - في رثاء الزعيم الراحل " جمال عبد الناصر " ) وهي على  وزن الكامل  فيقولُ فيها :
(" بَكتِ   الكنانة ُ    ناحتِ   الأطيارُ      قوموا  أندبُوا   قد  قامتِ  الأحجارُ 
   ماذا  دَهَى الدُّنيا ، سألتُ ، أجابني      نجمٌ      تُبَلِّلُ       وجنتيهِ      النارُ
   يبكي على  صدر  الضبابِ  رأيتهُ      فطففتُ   أبكي    والدُّموعُ    غزارُ   
   هذا سراجُ  الشِّرق  يحملهُ  الرًّدَى      فلتأتِ      تبكي   حظَّهَا    الأحرارُ 
   دقَّت  نواقيسُ  الكنائس  في  السَّمَا      لمَّا    أتت    في   نعيهِ     الأخبارُ  ويقول:( يا أيُّها النعشُ المليىءُ عروبة ً   ما  الموتُ  أقوى ..إنَّها الأعمارُ").
  والقصيدة ُ  رائعة ٌ جدًّا  وقويَّة ُ النبرةِ  ومتينة ُ  اللغةِ ( على بحر الكامل) . والشعرُ  الكلاسيكي  (العمودي) عادة ً  في  مواضيع  الرثاء ، وخاصَّة   إذا كان المرثي  شخصا  عظيما  يكونُ  مناسبا  جدًّا  وأفضلَ  بكثير من  الشعر الحديث ، لأنَّ  موضوعَ الرثاء يحتاجُ  إلى لغة  قويَّةٍ  ونبرةٍ عاليةٍ  وصخب وتعظيم   أيضا... ولنشر  جوٍّ   من  الحماس  لإذكاء   المشاعر   والضمائر    وتحريك النفوس...وهذا  فقط  يكونُ ويتحققُ  ويتجسَّدُ  في الشعر الكلاسيكي العمودي . وحسب رأيي  فأيَّة ُ قصيدةٍ حديثةٍ ( حُرَّة  أو تفعيليَّة)  ومهما كان كاتبُها  ومهما كان مستواها  الفكري  والتجديد والإبداع  فيها  لا تستطيعُ أن تعطي  إنسانا   وقائدا  عظيما   أثَّرَ  في   مجرى  التاريخ   العربي  الحديث  والعالمي كجمال عبد الناصر حقَّهُ ..وتصوِّر بالضبط مكانتهُ وموقعهُ  الرَّائد ، وتصوِّر جوَّ الحزن والصَّخب أثناء موته..وتصور مشاعرَ الناس والعرب قاطبة ً وقتها  وهياجَهم  كالقصيدةِ  العموديَّة  المنبريَّة  الرَّنانة العصماء .   والشاعرُ هنا يستعملُ عناصرَ الطبيعة : كالضباب والليل والنجوم ..وغيرها .. ويوظفها لإظهار عظم  وهول المصاب وتفاقم الحزن والأسى وكأنهُ  وقعَ جرمٌ من السماءِ  وقضى على معظم سكان  البسيطةِ .. وبالفعل  إنَّ الفاجعة َ لكبيرة ٌ والمصابُ جلل ٌ  فبموتِ جمال عبد الناصر فقدَ العربُ زعيما  قياديًّا أسطوريًّا  لم   ينجبِ  الشَّرقُ   والعربُ   حتى  الآن   قائدا  ملهما  فذا  مثلهُ    وبموتهِ رجعَ  العربُ عشرات  السنين إلى الوراء  في مجال الوحدةِ  والتقدُّم  والتطور وفي مجال قوَّتِهم وشموخِهم ككيان مُوَحَّد ومتماسك يخشاهُ  الغربُ ويعملُ  لهُ  ألفَ حساب  من خلال إتفاقهم  ولحمتهم  القوميَّة   .  
   ومن الأبياتِ الجميلة في هذهِ  القصيدة  حيث يقولُ :
( " يا  أيُّهَا  النعشُ  المليىءُ  كرامة ً    ما  الموتُ  أقوى .. إنَّهَا  الأعمارُ )
  وربَّما  يكون  الأستاذ  " يوسف ناصر " أوَّلَ  شاعر إستعملَ هذا  التشبيه  (  النعش المليىء عروبة )  فجمالُ عبد الناصر رمزٌ  كان  وسيبقى  للقوميَّةِ وللعروبة، وهو الذي أكملَ  وطوَّرَ مفاهيمَ  وفلسفة َ القوميَّة  العربيَّة الحديثة بحذافيرها وبمفاهيمها التقدميَّة وعملَ على تطبيقهاعلى أرض الواقع بمثابرةٍ  مستمرَّةٍ  دؤُوبةٍ ، فهوَ  يجسِدُ  العروبة َ الحقيقيَّة  الجريئة  ومرفوعة  الرأس المتحرِّرة  من  التبعيَّة  والإستعمار...العروبة  التي   ترفضُ   الذلَّ   والعار والإحتلال ولا تريدُهُ  وتقبلهُ  أيضا  لغيرها من الشعوب ..لا  تقبلُ أن  تكونَ  محتلَّة ً ولا تقبلُ أن تحتلَّ وتجتاحَ شعبا وأرضا أخرى..هكذا هو عبد الناصر   وفكرهُ ونهجهُ ..وهذا هو فكرُ وضميرُ كلِّ إنسان عربيٍّ  تقدُّميٍّ  قومي حرّ .   فذلك النعشُ  الذي  حملَ  جمال عبد الناصر حملَ حلمَ الملايين من  المحيط  إلى الخليج ... حملَ كلَّ أحلام  وتطلعات  ومطامح  ومستقبل العروبة الحرَّة  التقدُّميَّة ...ولكن الموتَ  لم  يهزم "جمال"  فالموت ليسَ قويًّا، بل الأعمار،  وهنا يُظهرُ الشَّاعرُ عنصرَ الإيمان  بالقضاء والقدر وبالخالق ، فكلُّ  إنسان إذا  انتهى  عمرُهُ  فسيموت  جسديًّا ، ولكنَّ  الفعلَ  الحسن  والعملَ الإيجابي  مفعولهُ  وصداهُ   سيبقى  خالدًا...  والإنسانُ  الذي  أعطى  الكثيرَ  لمجتمعهِ وللإنسانيَّةِ   فحتى لو ماتَ جسدًا سيبقى حيًّا خالدًا في ذاكرةِ  ووجدان  شعبهِ  والأجيال والبشريَّة، وسيكون حيًّا عند ربِّهِ وخالقهِ روحيًّا وسيكونُ مكانهُ في الملكوتِ السماوي  مع المؤمنين الأبرار  والقدَّيسين الأطهار  .
  ولننتقل إلى قصيدةٍ أخرى بعنوان:( "إستحواب في المحطَّة - صفحة 17 )   ويتحدَّثُ فيها الشَّاعرُ عن طريقةِ  استفزاز الشرطة  واستجوابها  للمسافرين  عند الحاجز الأمني في المحطَّةِ وكيف مَثلَ أمام  الشرطيَّة  أكثرَ  من  ساعة  دونما سبب .. وهذا الشيىء كان  موجودًا بشكل  دائم  أثناءَ الحكم العسكري البغيض في منطقة الخط  الأخضر- عرب ال 48 -  وموجودٌ  بشكل  يومي في الضفةِ والقطاع  .
  يقول الشاعرُ في القصيدة ( على  وزن مجزوء الكامل ) التي  يظهرُ  فيها نبرة َ الإعتزاز القومي  والإنتماء العروبي :
( "     قف     جانبا    هاتِ     الهويَّة َ   لستُ     أسمحُ     بالذهابْ
         مِن  أينَ  أنتَ  ؟  وبكشرةٍ...  شرَعَتْ  تُفتشُ   في  الثيابْ !!      
        شرطيَّة ٌ   وسط َ    المدينةِ       وجهُهَا       مثلُ      الغرابْ  
         قد     أوقفتني      ساعة ً       عُيِّّيتُ  من    طول   العذابْ 
ويذكرُ  قريتهُ  في القصيدة  فيقولُ :
     (" من    قريةٍ     فوقَ     الجبال ِ   وتحتَ   أعشاش  الغرابْ
         وحقولُها   مزروعة ٌ   بالفجرِ ...  في   حضنِ     الهضابْ
         وَطنٌ       لنيسان ...  على     زيتونِهَا      وكرُ     العقابْ 
        عربيَّة ٌ    تمشي   على   التاريخ ِ   لا      تخشى     الرِّقابْ... ) .
      إنَّها  لتشبيهاتُ وصورٌ شعريَّة ٌ رائعة ٌ فيذكِّرنا  بروائع شعراءِ المهجر  في وصف الطبيعةِ ولبنان الوطن الذي  يراهُ  الكثيرون صورة ً وقطعة  من الفردوس، وخاصَّة ً قصيدة إيليا أبو ماضي ( وطن النجوم ) . وهنا  شاعرنا  يرسمُ  بريشةِ  الفنان  الملهم  جمالَ  البلاد  وجمالَ  قريتِهِ والوداعة والسحر والبراءة  مع الشموخ والصمود والسُّموّ ( وكر العقاب) ، والشبابُ  المتجدِّد  الدائم  يرمزُ  لهُ  الشاعر هنا  بكلمةِ  " نيسان "... فقريتهُ  دائما  شابَّة ٌ  فتيَّة وهي  وطن لنيسان، بل هي الربيعُ  الدائم  وهي عربيَّة ٌ منذ الأزل  وستبقى عربيَّة ً مدى  التاريخ  وللأبد  ولن  تحني  الهامة ( الرقاب ) لمخلوق  مهما  كان ..وهكذا أهلها وسكانها وهكذا  شاعرنا :إنسانٌ عربيٌّ  حُرٌّ أصيلٌ رضعَ منذ  طفولتِهِ  حليبَ  الإباءِ  والكرامةِ  والعادات  العربيَّة  الأصيلة من: فخر  واعتزاز  وكرم أخلاقي  وشرفٍ  وقيم  مثل  كلِّ  عربيٍّ  حُرٍّ، ولا  قوَّة  في الدنيا تستطيعُ  أن  تُغيِّرَ  أفكارَهُ  ومشاعرَهُ الوطنيَّة الجيَّاشة  وهويَّتهُ القوميَّة ، فالشاعرُ في هذه القصيدةِ  يمزجُ  الهمَّ الوطني الخاص مع الجمال والسحر والبراءة  مع  فلسفة  الحياةِ  الشاملةِ  والبقاء لأجل  الحياةِ الكريمة  والجمال  والإبداع  والعطاء . 
     وأمَّا  قصيدته ( " الأرض ..الأرض "- صفحة 33 - 35 ) - على وزن  الكامل  فهي  قصيدة ٌ وطنيَّة ٌ مباشرة ٌ -  يطلبُ فيها الشاعرُ من أبناءِ  وطنِهِ ومن  كلِّ  فلسطيني في الداخل ألاَّ  يُفرِّط  بأراضيهِ  ويبيعَها ، فالأرضُ هي   العرضُ  وهي  رمزُ  وجودِنا  وبقائِنا ،  فيقولُ  فيها :
(حافظ ْ على أرض الجدودِ  ولا  تبعْ    يا  صاحبي  منها  قراطا   أو  شبرْ 
 إغرسْ  بها  قدميكَ  لا  تخرجْ  ولوْ    قسَتِ  الحياة ُ عليكَ  وامتدَّ  الخطرْ )
   وفي قصيدةٍ  أخرى  بعنوان : ( " في مكاتب  الترخيص " -  صفحة 4 )   يتحدَّثُ  عن شرعيَّةِ الأرض لسكانها الأصليِّين العرب الفلسطينيِّين ...وكيف  يُغَلِّبُونَ  وَيُتعِبُونَ الشَّخصَ الذي  يريدُ  أن  يبني  مسكنا (  بيتا ) على أرضهِ الموروثةِ  فبعدَ  جُهدٍ  جهيدٍ   يسمحونَ  لهُ  بالبناءِ  حتى  لو  كانت  مسَجَّلة ً في  الطابو  ومعهُ  كواشين  ومستندات، وهذه  المشكلة  يصطدمُ  بها  يوميًّا العديدُ  من (عرب الداخل) مع دائرةِ التنظيم والترخيص لأجل البناء.  فنحنُ أرضنا التي  نملكها  أبا عن  جدٍّ  وَمُسَجَّلة  قانونيًّا  يمنعوننا  أن  نبني عليها  بيوتنا  ومنازلنا ...  يقولُ الشَّاعرُ :
( "  كوشانُ   طابُو   في    يدي        والأرضُ   ملكي   عن  أبي  
      مفهومة ٌ       فيها      المساحة ُ      والقسيمة ُ            للغبي 
      قرَّرتُ     أبني     مَسكنا           أعطيهِ      بعدي    للصَّبي 
      فوقَ    " الجنينةِ "  من    ترابي    في    المكانِ      الأنسَبِ 
      لمَّا     ذهبتُ      أرُومُ       ترخيصًا        لأبلغَ        مأربي 
     بموظَّفٍ   رَبِّي     ابتلاني        مثل        شكل        العقربِ 
      لمَّا    رأى    اسمي   قد    تسَجَّلَ      في    الهويَّةِ     يَعْرُبي
     إذهَبْ  !!    تعالَ  !!   وَرُحْ    لهذا    أو     لذاكَ      المكتبِ  
      فقضيتُ      عامًا     كاملا        حتى       تحقَّقَ       مطلبي  " )  . 
    وأمَّا  قصيدتهُ  بعنوان: ( " إعتزاز" - صفحة 51) فهي قصيدةٌ  طريفة ٌ يتحدَّثُ الشاعرُ  فيها عن أولادهِ الصِّغار الذينَ  سَمَّاهُمْ على أسماءِ  الشعراء القدامى : غيَّاث ( الأخطل)، وجرير  وعروه...وكيف  كانوا يلعبونَ  سويَّة ً ويمرحونَ  فرحين في  سرير واحدٍ ... وتذكَّرَ ، بدورهِ، كيف أنَّ الخصومة َ  الشديدة  كانت مشتعلة ً في العهد الأموي وكانَ أوارها مؤَجَّجا  بين الأخطل ( غياث ) وبين  جرير ، فيقولُ في  القصيدة :
( "  اللهُ   كيفَ  الدَّهرُ   غيَّرَ   أهلهُ       يلهُو   جريرٌ  في  سرير  الأخطل ِ 
      أخوان ِ قسَّمتُ   الفؤادَ  عليهما       أعطيتُ    للثاني   نصيب   الأوَّل ِ   
      أصلحتُ  بينهُما   ببيتي  بعدَمَا   احتدَمَ  الهجاءُ  وجدَّ  ضربُ  الفيصل ِ
      راجعتُ أمجادَ  العروبةِ  فيهما       عبقُ  الأقاحي  في رحيق  السلسَل ِ
   يُظهرُ   الشاعرُ  هنا  حبَّهُ  للعروبةِ   وللتاريخ   والتراث   العربي  القديم فلذالك  سَمَّى أولادَهُ   كلًَّهم  على أسماءِ  الشعراء القدامى .
      ولهُ  قصيدة ٌ  في الديوان  بعنوان :   ( "  الطعنة النجلاء "  - صفحة  53 ) ، وهنالكَ  بعض الأبيات  فيها  ارتجلهم الشاعرُ ردًّا على  أحد  رجال  الدين الذي أرادَ أن  يتدخَّلَ  في شؤون الأرض، وقد  بلغَ  بهِ  أن أخذ َ  يُهَدِّدُ  - على  مسمع الشاعر - عائلته  ويتهكَّمُ  بالعربِ، خاصَّة  النصارى   وَيُنكِرُ عليهم  عروبَتهم  ويحط ُّ من  قدرهِم ، وكانت  هذه  القصيدة ُ ردًّا على  ذلك الشَّخص - على حدِّ  قول الشَّاعر :
( لا   تحسبنِّي   قد   سَكَتُّ ..  وإنَّمَا     قد   يسكتُ  الإعصارُ  بعدَ   ثوان ِ 
   لو  أنَّ  شمسًا  قد  زرعتَ  بأفقِنا     فالشَّمسُ  لن  تسعَى   بلا  استِئذان ِ
   لا     تكبرَنّ   لقد    جهلتَ    بأنَّنا   عربٌ    كرامٌ    من    بني   غسَّان ِ 
   عَرَبٌ  ضربنا  كلَّ ضربةِ  فيصل ٍ    قدَّت    عظامَ    الظالم ِ  الخَوَّان ِ).  
      ويشيرُ الشَّاعرُ هنا إلى أصلهِ العربيِّ العريق ..إلى  قبيلة " العزيزات " الغسَّانيَّة التي تنتمي إليها عائلة الشَّاعر، والغساسنة  كانوا ملوكَ الشَّام   قبلَ الفتح  الإسلامي  وآخر ملوكهم " جبلة بن  الأيهم " .   ولكنَّ  الشَّاعرَ  رغم اعتزازهِ القومي  وجرأتِهِ  وشجاعتهِ  وشجاعةِ  قومِهِ (  فهو  من قوم  كرام  متسامحين  درجوا  ونشؤُوا على  المَحبَّةِ  والوداعةِ   والسلام   والحِلم   فلا  يعتدونَ على أحدٍ   ويحبُّون الخيرَ  للجميع )...  وهذه  هي  طبيعة ُ  وخلفيَّة ُ  الإنسان العربي الأصيل ( الكرم  والشجاعة  والتسامح ) .   فيقولُ الشاعرُ :
(من  ثدي أمِّي  قد رضعتُ  تسَامُحًا    وعلى    المَحَبَّةِ     والدي    رَبَّاني ) 
      ولا  ننسى أنَّ  لبنانَ الجريحَ  والمكلومَ  كانَ  لهُ  دورٌ  كبيرٌ  في   شعر  الشاعر، فيقولُ في قصيدةٍ بعنوان ( " قد  خَدَّشَ الدمعُ المُحَيَّا " صفحة 59 ) - على بحر الكامل : 
( من  أينَ  أنتِ، ألستِ  من  لبنان ِ      لا     تكتُميني ،   بَدِّدِي     أحزاني   
  إن كنتِ أنتِ ومن هناكَ  فإنَّ  لي      قلبًا    يرقُّ      لِمحنةِ      الحَيْرَان ِ  
  أختاهُ   إنِّي  قد   رأيتُكِ  ها   هُنا      تبكينَ      زادَ     تفجُّعِي    وَحَناني 
  في    وجنتيكِ   مذابحٌ   وَمعَاركٌ      صُوَر   الجرائم ِ   تحملُ    العينان ِ 
  قد   خدَّشَ   الدَّمعُ  المُحَيَّا، ليتني      أشقى  مكانكِ   إن   شقيت   مكاني ) 
     والقصيدة ُ  طويلة ٌ جدًّا  وجميلة  ومؤَثرة ٌ كثيرا  فيتحدَّثُ  الشاعرُ  فيها عن مأساةِ لبنان وجرائم وويلات الحرب التي كانت آنذاك من خلال الحديث  والحوار  مع  هذه  الفتاة ... والقصيدة ُ زاخرة ٌ  وحافلة ٌ  بالصُّور  الشعريَّةِ   الساطعةِ والجديدةِ  والمُؤَثرة، وفيها  وصفٌ  شاملٌ  لأهوال الحرب ولأنهار  الدماءِ وللجثثِ المُكدَّسةِ ولتلال الجماجم وللقصفِ اليومي المكثف وللحرائق   والبيوتِ  المتهدَّمةِ... ويتحدَّثُ عن انتهاكِ الأعراض، وأنَّ العِرضَ لا  يُثمَّنُ    ولا  يُدانيهِ  شيىءٌ  من  النفائس  والأشياءِ  الغاليةِ والثمينة .. حتى انَّهُ  أغلى من الأرض والوطن ، فيقولُ الشَّاعرُ على لسان تلكَ الفتاة التي كانَ لهُ  معهَا  ذلكَ  الحوار :
( إنِّي  رأيتُ   هناكَ   جثة َ  والدِي      قالت   وَجاشَ  الدَّمعُ   في  الأجفان ِ 
  فمضيتُ   أبكيهِ .. وكنتُ  وحيدة ً      والخطبُ    يقرحُ   مقلتي   وجناني
  والكلبُ   ينبحُ    والعظامُ    بفكِّهِ       ركضوا    إليَّ    ومزَّقوا    فستاني 
  قبَّلتُ  أرجلهُمْ ..ضَرعتُ  بديهنم        لكنَّهُم     سقطوا    على     جثماني 
  لا  تقتلوا  شرفي ..اقتلوني  دونهُ       شرفي   أعَزُّ   عليَّ    من    لبناني)
       وإنَّها  لقصيدة ٌ مُؤَثرة ٌ جدًّا  ويُبدعُ  الشَّاعرُ  فيها ، وذلك  في  تصوير المشاهد الحزينةِ  والمأساويَّة  والمواقف  الدراميَّة  التي تقشعرُّ لها الأبدانُ .
   وسأنتقلُ إلى  قصيدة ٌ أخرى من الديوان  بعنوان : ( "حماسيَّة " - صفحة 81 )  يظهرُ الشاعرُ  فيها  حُبَّهُ  وعشقهُ  للغةِ العربيَّةِ والأدب  وأنهُ نهلَ من مَعِين اللغةِ  ومن  ينابيعها  العذبةِ  فيقول :
( هذا دمي، شعري،عصيرُ حُشَاشتِي    دمعُ   الجروح ِ  كتبت  بالشِّريان ِ 
إن  تشربوا  فالكأسُ  سكبُ  صبابتي     قطرُ  الفؤادِ،غرقتُ  في وجداني 
نهرُ  البلاغةِ   سالَ  نبعُهُ  من   فمي     والشِّعرُ   جَمَّعَ    نفسَهُ    بلساني) . 
  ولننتقل  إلى موضوع الغزل  فالشَّاعرُ  كتبَ الكثيرَ من القصائد الغزليَّة .. وفي هذا  الديوان  لهُ  عدَّة ُ  قصائد  في هذا  الموضوع  تظهرُ  فيه  مقدرتهُ الشعريَّة المتميِّزة في هذا الباب .  ويمتازُ  شعرُهُ  الغزلي  بالعاطفةِ  الجيَّاشةِ  الصَّادقة والشَّفافيَّة والبراءة وبعذوبة الألفاظ ورقتِهَا أحيانا،وبإختيار الكلماتِ  الجميلةِ المُمَوْسَقة، وبالصُّورالشعريَّةِ الخلابة. ويظهرُ الشاعر الهيامَ والوجدَ  بل  نراهُ  يزيدُ  من اللوعةِ  والتنهيد  وشدَّةِ   التَّتيُّم   والتَّولُّه   في العديدِ  من القصائد الغزليَّة، وأحيانا يمزجُ  بين الغزل والحبِّ  العذري الروحاني وبين الحُبِّ  الحِسِّي والجسدي... يقولُ في قصيدةٍ  بعنوان : ( " المَبسَمُ الفتَّاك " -  صفحة  91 )  :
( " أنا   شاعرٌ   فتكت   بهِ   عيناكِ      أهواكِ   يا   أختَ   المَهَا   أهواكِ
    يا  خفقَ  قلبي  حينما سقطتْ  بهِ      بسَماتُ    ذاكَ     المَبسم    الفتَّاكِ 
   عيناكِ   مذبحة ٌ   يعزُّ    نظيرُها       كم   من    ذبيح   ٍ ذبَّحَتْ   عيناكِ
   لم  يُبصِرِ العُشَّاقُ  كلَّ عُصورهِمْ      عينا    كعين ٍ     ضَمَّهَا    جفناكِ).
     في هذهِ القصيدةِ  العذبةِ  نتذكّر روائعَ القصائد الغزليَّة للشَّاعر المصري الكبير " إسماعيل صبري "، وخاصة ً في غزليَّاتهِ للكاتبةِ  والأديبةِ  الكبيرة " مي زياده " حيث  كان  يتمهَّلُ ويتريَّثُ  كثيرا أثناء كتابةِ القصيدة الغزليَّة  ويفكرُ مَليًّا  في  كيفيَّةِ  إختيار وانتقاءِ  الكلماتِ  والعباراتِ العذبةِ  والصُّور والمعاني الجميلةِ والمبتكرة  .. ويذكِّرنا أيضا  بروائع الشعراءِ  الكلاسيكيِّين الغنائيِّين  المُحدِثين  مثل : أحمد  شوقي   وحافظ إبراهيم   وخليل مطران...   وغيرهم  .  وفي مطلع  هذه  القصيدة   يستعملُ  الشاعرُ  " يوسف ناصر "  التكرار اللفظي  فيكرِّرُ  كلمة  "أهواكِ "  مرَّتين  فيضيفُ  للبيتِ  وللشطرةِ الشِّعريَّةِ جمالا لفظيًّا  وحسِّيًّا  لهُ  وقعُهُ  الجميل على الأذن  فيُحرِّكُ  مشاعرَ وحِسَّ القارىء  ولواعِجَهُ . وفي عبارةِ  وتشبيهِ (عيناكِ مذبحة ٌ )  قد  يكونُ  الأستاذ ُ يوسف ناصر  أوَّلَ  من  استعملَ هذا التشبيهَ .  
   وأمَّا  قصيدتهُ بعنوان : (  " ماكرة " -  صفحة  99 )  فيقولُ  فيها : 
(  وقفتْ     تبلُّ    ثياَبَهَا    بإزائي      وتودُّ   لو  ثوبٌ   أنا   في  الماءِ  
   وتبوحُ  عيناها    بسرِّ   فؤادِهَا       وَتُترجمُ     الأشياءَ      بالأشياءِ  ) .  
       والقصيدة ُ زاخرة ٌ أيضا  بالمعاني الجميلةِ  والصور الشعريَّةِ المكثفةِ والمُشعَّة ، وفي البيتِ الأوَّل جاءَ المعنى معكوسا، وعادة ً الشاعرُ أو الرَّجل  بالأحرى يتمنَّى  نفسَهُ  أن يكونَ في الموقع  الموجودة  فيهِ  هذه  الفتاةُ ، فإذا  كانت  تُمَشِّط ُ شعرَهَا يتمنى أن يكونَ مشطا بيدِهَا ، وإن كانت  تغسلُ  ثوبا  يتمنى أن  يكونَ  ثوبا  في  يديها   فتغسلهُ... وأمَّا  هنا ( فالعكس )  فالشَّاعرُ يتحدَّثُ  على  لسان  الفتاةِ   و يُترجمُ   وينقلُ أحاسيسَهَا  حيثُ  أنها  تتمنَّى ، بدورها ، وتودُّ أن  يكونَ هُوَ  ثوبا  في الماء  فتغسلهُ  بيديها... إلخ  .  
   ومن المطالع  والإفتتاحيَّاتِ  الجميلة  لقصائِدهِ  قصيدة غزليَّة  بعنوان :
( " شحرورة " - صفحة  101 )  ويعني بالشحرورةِ  فتاته، فيقولُ :
( مَن  ذا   يُغنِّي  في  سُفوح ِ الوادي     أهُتافُ    وُرق ٍ   أم   ترَنُّم   حَادِ
  كلاَّ .. غناءُ  مليحةٍ   في   زهوهَا      خرجَت  تطوفُ   بموكبِ  الأولادِ    
  وكأنَّهَا    لمَّا    سمعتُ     غناءَهَا      شحرورة ٌ نطقت  بحرفِ  الضادِ) . 
  .. وحتى في القصائد الغزليَّةِ  نجدُ  الحِسَّ  القومي  الجيَّاش وحبَّ  الشَّاعر لوطنهِ  ولعروبتهِ ... والتغنِّي  والإعتزاز بالإنتماء  القومي العربي  . 
وأخيرًا: نكتفي  بهذا القدر من إستعراض قصائد الديوان، ونتمنى للشاعر المبدع  الأستاذ " يوسف ناصر" المزيدَ من العطاء  والإبداع  والإصدارات الجديدة   في مجال الشعر والأدب  فهو  ركنٌ هامٌّ  من  أركان ثقافتنا  وأدبنا  المحلي  .   

                         (   بقلم :  حاتم  جوعيه  -  المغار  -  الجليل  )

موسى وعيسى ومحمد في شارع ديزنكوف/ سيد ماجد مجدلاوي

أضحى تقليدا يوميا ان يلتقي كل صباح ابرز شخصيات الجنة وأقربهم لقلب الخالق، ليحتسوا قهوة الصباح سوية ويتبادلوا انطباعاتهم عن واقع البشر في هذه الأيام.
في ذلك الصباح جلس موسى في شرفة منزله ينتظر زميليه عيسى ومحمد، وقد اعد القهوة ، وإبريق مليء بالماء المثلج مع قطع من الليمون.
بعد لحظات وصل عيسى ثم تبعه محمد.
مزج موسى ثلاثة فناجين من القهوة، وعرض عليهما الماء المثلج مع قطع الليمون، شارحا لهما انه استمع من إحدى الإذاعات التي تبث لأهل الأرض ان الليمون له خواص صحية هامة إذا شرب مع الماء المثلج. رد عيسى انه ليس قلقا على صحته لأن أباه لا يمكن ان يفرط بصحة ابنه الوحيد.
علق محمد ان عيسى ما زال يعيش في وهم قديم، لم يتخلص منه رغم ان المساواة بينهم في الجنة كاملة تماما. وان حب الله له لا يختلف عن حبه لعيسى ولا عن حبه لموسى، رغم تثاقل همة الأخير بسبب الجيل واضطراره لحمل ألواح العهد معه حتى يواصل تذكير شعبه بوصايا الله، لأنهم سريعو النسيان..وكثيرو التملص من وصايا الله.
قال عيسى لمحمد : اتفقنا ان لا نناقش هذا الموضوع مرة أخرى؟ لا أريد ان تعرض نفسك لحساب صعب عند أبي!!
 سارع موسى واضعا حدا للنقاش بينهما الذي مضى عليه مئات السنين. قال موسى: لا استطع ان أكون حكما بينكما ليبقى كل منكما على عقيدته، المهم يا أحبائي ان الله يشملنا بمحبته وثقته. ثم أضاف مغيرا الحديث:  انه راقب أمس ما يجري في ارض الميعاد وقد هاله ان يكتشف أن  الحياة التي كان يعرفها قبل اختيار الله له ليرشد شعبه، ويهبهم لوحات العهد، حيرته، فلا الملابس هي التي كانت أيامه، ولا عربات خيل او حمير للركوب، بل عربات لامعة بألوان مختلفة ومتنوعة لا تجرها الخيول، وأبنية مرتفعة لا يعرف كيف يصل سكانها للطبقات العليا.
قال عيسى: ألا تعرف يا ختيارنا ان هناك مصاعد تشتغل بقوة الجن التي يسمونها في الأرض بالكهرباء، قادرة على فعل عجائب تتفوق على عجائبي؟ ألا تعرف ان هذه الكهرباء قادرة على رفع من يشاء من الطبقات الأرضية السفلى إلى أعلى الطبقات في الأبنية، حتى تلك التي  تسمى ناطحات سحاب بلغة أهل الأرض؟
قال محمد: لو كانت هذه الطبقات في وقتي مع تلك التي تسمى كهرباء لوضعت كل نسائي في عمارة واحدة لتسهيل انتقالي من سرير إلى سرير.
قال موسى: هذا ما يشغل بالك؟ الكهرباء غيرت حياة البشر، حولت الليل الى نهار وأنت تفكر في أسرة نساءك؟ الم تكتف بما وفره لك الرحمن من نساء في خيامك هنا في ملكوته؟
ضحك عيسى وقال: أبي أخبرني ان صديقنا محمد قدم طلبا بمضاعفة عدد حور العين في خيامه.
رد محمد بعصبية: أنا لست عيسى لأعيش حتى بدون امرأة واحدة.
قال عيسى: كسبت آلاف النساء إلى ديني وهذا أهم لي من التفكير كل يومي بالمضاجعة.. وقد أمرني أبي بأن أُلزم شعبي بامرأة واحدة...
قاطعه موسى: كفى .. لا تنسوا أننا مسئولون عن أتباعنا حتى اليوم. تعالوا ننظر في أمورهم لنرى ما نستطيع ان نمدهم به من أسباب القوة.
قال عيسى: رسائلهم تصلني ، لقد التزمت ان استجيب لهم إذا قرعوا بابي. إني أمد يد الرحمة للمعذبين والفقراء والمظلومين.
قال محمد: ماذا تنفع الرحمة مع سكاكين داعش التي تعاقب المغضوب عليهم والضالين من الذين لم يقروا بأني خاتم الأنبياء ؟
قال موسى، مقاطعا عيسى الذي كان يتحضر للرد: سنعود مرة أخرى إلى نقاش عقيم. هل تعلمون انه لو بعثنا اليوم لطردنا أهل الأرض او ربما نصلب مثل صديقنا عيسى؟ .. او يحجزوا علينا بمستشفيات الأمراض العقلية؟
قال المسيح: الحياة اختلفت، وبات من الصعب ان يقبل الكثيرين من أتباعنا أفكارنا، لأنها حسب مفاهيمهم قديمة وأسطورية؟
قال محمد: لذلك الخناجر تخدم الإيمان ... من يخرج عن ديني يجب سحله.
قال موسى: بئس تفكيرك يا صديقي، الله طالبنا ان نبشر برحمته.
قال محمد : لكن الرحمة تحتاج إلى إيمان، من يترك الإيمان يجب فصله عن أمتي حتى لا يفسد الآخرين.
قال عيسى: هذا ليس إيمانا  بل ضحك على اللحى.. من لا يقبل رسالتي بقناعته لا أريده من أمتي.
قال محمد: لا يمكن نشر الدين الا بحد السيف. البشر يهابون القوة والويل لنا إذا تراخينا.
قال موسى: يا إخوتي في الجنة، نحن نتحاور عن زمن مضى، ليتنا نبعث اليوم في رسالة لهذا الزمن الجديد، ترى هل سنستقبل بحب ونكسب أتباعا أم نرجم بالحجارة ونفر عائدين إلى السماء؟
قال عيسى: زمن الإرسال قد ولى، بشر اليوم يريدون حقائق ملموسة، إذا أُرسلنا اليوم سنخرب ما أنجزنا.. صار صعبا ان نقنع حملة الشهادات العليا بكلام منمق ، وحديث الوعود التي لا نملك أي طريقة لجعلها مؤكدة وليس مجرد وعود تنثر مثلما ينثر السياسيون الوعود الانتخابية اليوم.
قال محمد: يمكن جعلها مؤكدة حين يعرف الضالين والمغضوب عليهم والمرتدين ما ينتظرهم من قطع الأعناق .. طرقكم يا أصحابي متخلفة.
قال موسى: لدي فكرة ان نتنكر وننزل للأرض نفحص عن كثب ما يجري هناك، ما رأيكم؟
قال عيسى: يمكن ان أقنع أبي بمنحنا إذنا للننزل إلى الأرض ونرى ما يجري عن كثب؟
قال محمد بعصبية: تصر انه والدك..؟
قاطعه موسى: اتركونا من هذا النقاش.. لن يبدل من واقعنا شيئا، أنت قادر يا عيسى ان تأخذ قرارا لأنك كما تدعي أنت احد الثلاثة أقانيم الأب والابن والروح القدس ؟
قال عيسى: هذا صحيح لكن احترام الوالد واجب.. انتظروني.
بعد لحظات قليلة عاد وقد غير ملابسه إلى ملابس حديثة، واضعا نظارات شمسية، ويحمل كيسين.وقال :غيرا ملابسكما ، تلقيت إذنا من أبي.
فتح محمد فمه ليقول شيئا لكن موسى سارع إلى جره من يده: تعال تغير ملابسنا.. كفانا خلافا اليوم.
بعد ان التقى الثلاثة بملابسهم الجديدة تساءل موسى عن الوسيلة التي سينزلون بها الى الأرض؟ ضحك المسيح وقال : هذه مهمتي، ثوان وتلامس أقدامنا الأرض، لكننا لم نختار بعد الموقع المحدد؟
سارع موسى يقول: لنبدأ أولا في دولة شعبي..هو شعب المسيح أيضا الذي ترك دينه وأقام دينا جديدا.
قال محمد:  يعني مرتد ... هل تعرف عقاب المرتد في ديني؟
قاطع موسى: هل سنبدأ خلافا جديدا؟ سننزلنا إلى الأرض لنرى أحوال..
قبل ان ينهي جملته، وجد الثلاثة أنفسهم وسط شارع عريض  مليء بالبشر.
سال موسى: أين أنزلتنا؟
قال المسيح: هذه هي ارض الميعاد، وهذا أهم شارع في دولة شعبك، يسمونه شارع ديزنكوف، ويقع في أهم مدن شعبك واسمها تل أبيب.
قال محمد لافتا أنظارهما: لم أشاهد مثل هذا الجمال النسائي، انظرا للفتيات شبه العاريات، بلا غطاء للرأس .. بلا غطاء يخفي عوراتهن..
قال المسيح بعد ان تأمل نساء شارع ديزنكوف: لو أرسلني أبي في هذا العصر لسمحت لأتباعي بالزواج من عشرة نساء.. وليس من أربعة فقط!!
ضحك محمد: صرت تنافسني الآن.. انا حللت أربعة وما ملكت الأيمان.. لكني في مثل هذا الوضع وهذا الإغراء لسمحت ب ..عدد بلا نهاية!!
قاطعه موسى: لم ننزل لنتحدث عن شهواتنا!!
مرت بمحاذاتهم شقراء، تتوهج مثل الماس، لا يغطي فخذاها الرائعتان إلا قطعة قماش تظهر أكثر مما تخفي.. مما يجعل المخفي مثيرا أكثر في إغرائه. غمزتهم بعينيها وضحكتها التي تبرز أسنانا كاللؤلؤ.
أصيب محمد بالصمت ولم يجد كلمات ليعبر عما أصابه من سحر لم يتعود عليه في صحراء العرب.
أوقف المسيح الشقراء وفتح معها حديثا شيقا كما يبدو من حركاته وضحكاتها، تابعا موسى ومحمد الشقراء وعيسى دون أن ينبسا ببنت شفة. الجمال النسائي الذي يغص به شارع ديزنكوف أخرسهما. بعد لحظات تحرر لسان محمد وقال: لماذا  أرسلني الله لشعب في الصحراء، الم يكن أفضل لديني لو بعثني في هذا الزمن ولمثل أولئك البشر؟
نظر عيسى لزميليه وطلب إذنا من الشقراء. اقترب منهما وقال إنها تشتغل بالمهنة القديمة، هل تريدان ان نشتري خدماتها ؟
قال محمد متحمسا: وهل يحتاج هذا الشيء إلى سؤال؟.. هيا لم اعد أطيق الصبر.
قال موسى: على شرط ان أكون الأول، فأنا أول المرسلين وأولويتي يجب ان يحافظ عليها!!
قال عيسى: أنا أحق بالأولوية، فانا الذي أقنعتها ان تقبل بكما..
أصر محمد: بل أنا لأني أكثركم خبرة مع النساء.
اقترح عيسى: لنوقف الخلاف.. ما رأيكم ان نضرب حجري زهر ومن يحصل على أعلى رقمين يكون هو الأول ويتبعه الثاني حسب نتائجه ؟
قالا موسى ومحمد بصوت واحد: يبدو انه الحل الأفضل.. لكن من أين لنا حجري زهر؟
رفع عيسى يده ، ثم انزلها وفتح كفة يده وإذا بها حجري زهر.
علق محمد: أنت أبو العجائب..
قال عيسى : تفضل يا موسى وجرب حظك أولا.. فأنت كبيرنا.
قذف موسى حجري الزهر فإذا به يحصل على خمسة وأربعة.
اخذ محمد الحجرين، وغرق في توسلات لله ان لا يجعله من الخاسرين، وقذف حجري الزهر، فإذا به يحصل على ستة وستة، فضحك جزلا..
قال عيسى: دوري الآن..
قال محمد: المنافسة الآن بينك وبين موسى.. أنا سأبدأ معها.
قال عيسى تمهل، لم ننهي المنافسة بعد... وسنذهب إلى مكان معزول وليس أمام الناس في الشارع!!
أطبق عيسى على حجري الزهر بكفة يده، نظر إلى السماء وقال : ساعدني يا أبي.
قذف حجري الزهر فإذا به يحصل على رقمي سبعة وسبعة.
نظر موسى ومحمد غير مصدقان انه يمكن ان يكون في حجري الزهر أرقام تزيد عن الستة. وقالا بصوت واحد وباحتجاج: ما هذا ؟ الآن وقت نكاح وليس وقت عجائب!!

majdalawisaid@gmail.com

شارع عربي .. لمشاريع أجنبية/ صبحي غندور

خمس سنواتٍ مرّت على بدء حراكٍ شعبي عربي كانت باكورته في تونس، ثمّ امتدّ إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين ودولٍ عربية أخرى، ممّا أطلِق عليه لاحقاً اسم "الربيع العربي"، بينما نتائجه حتّى الآن هي مزيدٌ من سوء الأوضاع العربية، ووصولها إلى مخاطر التقسيم والتدويل والحروب الأهلية.
وقد كان من الإجحاف وصف العام 2011 بأنّه عام "الثورات العربية". فالثورة تعني تغييراً جذرياً في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست عملية تغيير أشخاص وحكومات فحسب. الثورة تعني أيضاً توفّر قيادة واضحة ورؤية فكرية - سياسية ناضجة لمرحلة ما بعد إسقاط النظام، الأمر الذي لم يتوفّر حتّى الآن في أيِّ بلدٍ عربي شهد أو يشهد حراكاً شعبياً من أجل التغيير.
أيضاً، تعبير "الثورة العربية" يوحي وكأنّ ما حدث في المنطقة العربية هو ثورةٌ واحدة موحّدة في الأساليب والقيادات والأهداف والظروف، وعلى أرضٍ واحدة وفي كيانٍ واحد، وهذا كلّه غير صحيح. فالمنطقة العربية هي أمَّة واحدة، لكنّها تقوم على 22 دولة وكيان وأنظمة حكم مختلفة. فوحدة "الشارع العربي"، من الناحتين السياسية والعملية، هي غير متوفّرة بسبب هذا الواقع الانقسامي السائد لقرنٍ من الزمن تقريباً، وبالتالي فإنّ "المشترك" كان حدوث انتفاضاتٍ شعبية عربية، لكن بقوى مختلفة وبظروف متباينة وبأساليب متناقضة أحياناً. فما حدث من أسلوب تغيير سلمي في تونس ومصر لم يتكرّر في ليبيا أو سوريا، ولا كانت أيضاً مواقف المؤسسات العسكرية متشابهة أو متجانسة في البلدان التي شهدت هذه الانتفاضات الشعبية، كما أنّ التدخّل الإقليمي والدولي لم يكن حاصلاً في الحالتين التونسية والمصرية، بينما كان هذا التدخّل سافراً في الحالات العربية الأخرى.
وكان واضحاً، وما يزال، غياب المعيار العربي الواحد لتقييم هذه الانتفاضات الشعبية. فقد كان معيار البعض هو العامل السياسي المحلّي فقط، والذي يرتبط بالمسألة الديمقراطية ومحاربة الفساد والاستبداد، بينما كان المعيار لدى البعض الآخر هو مدى قدرة هذه الانتفاضات الشعبية على البقاء متحرّرة من التدخّل الأجنبي والمشاريع الدولية لمستقبل المنطقة، وعلى تأثير هذه الانتفاضات سلباً أو إيجاباً على نهج مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ففي مصر مثلاً، انعقدت الآمال الشعبية العربية على أن يكون ما حدث فيها من تغيير داخلي مقدّمة لعودة دور مصر العربي، ولتحرّرها من قيود المعاهدات مع إسرائيل ونهج التبعية الذي ساد منذ توقيع معاهدات "كامب ديفيد"، بينما كانت الحالة معاكسة في تقييم إثر ما حدث في سوريا، ومن انعكاساته على نهج المقاومة في فلسطين ولبنان، خاصّةّ أنّ الجبهتين السورية واللبنانية لم توقّعا "اتفاقيات سلام" مع إسرائيل ولم توافقا على مسألة التطبيع العربي مع إسرائيل.  
أيضاً، اختلفت المعايير العربية ممّا حدث حتّى الآن في المنطقة، تبعاً للمواقع العقَدية الفكرية والسياسية، كما هي أيضاً في المعايير الدينية والمذهبية والإثنية عند من يعتبرونها مرجعيتهم لتحديد مواقفهم من أيّ شأنٍ أو أمر، حيث دعم أو رفض التغيير في أيّ مكان ينطلق عندهم من هذه المعايير ومن المصالح الفئوية.
لكن هذه المتغيّرات في السنوات الخمس الماضية حدثت وتحدث في مناخ تزداد فيه الطروحات الانقسامية في المجتمعات العربية، وتتزامن هذه الطروحات في الفترة الأخيرة مع ممارسات عُنفية طائفية ومذهبية مختلفة، وهي تتناقض مع طبيعة الواقع الذي سبّب الانتفاضات الشعبية؛ حيث كانت المشكلة بين حاكمٍ ظالم وحكوماتٍ فاسدة من جهة، وبين مواطنين ومحكومين مظلومين، ينتمون لكلّ الطوائف والمذاهب والعقائد، من جهةٍ أخرى.
ولعلّ ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ لا عن خطايا حكومات وأنظمة فقط، بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويّتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، وبعدم الممانعة في الارتباط بقوًى ومشاريع أجنبية.
إنّ ما جرى في السودان مع مطلع العام 2011 لا ينفصل عمّا جرى في شمال العراق بعد احتلاله في العام 2003، ولا عن محاولة فصل جنوب اليمن عن شماله، ولا عن تصاعد العنف ضدّ المسيحيين العرب، ولا عن إثارة الغرائز الانقسامية بين المذاهب الإسلامية. بل إنّ كلّ ذلك يؤكّد جدّية المشروع الإسرائيلي/الأجنبي الساعي لتفتيت ما هو أصلاً مقسّمٌ عربياً، ولإقامة دويلات دينية وإثنية "فيدرالية" ترث "النظام العربي المريض" كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس/البريطاني وبيكو/الفرنسي) مطلع القرن الماضي "الدولة العثمانية التركية المريضة".
جسد الأمة العربية يحتاج الآن بشدّة لإعادة الحيوية النابضة في قلبه المصري، في ظلّ أوضاع عربية كانت تسير في العقود الأربعة الماضية من سيء إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل باحتلال بعضها، كما حدث أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في لبنان وفلسطين، وغير ذلك على الأبواب الإفريقية والآسيوية للأمّة العربية التي بدأت أوطانها الكبرى بالتصدّع واحدةً تِلوَ الأخرى.
أيضاً، فإنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى جيلٍ عربي جديد، يتّصف ويستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، جيل يرفض استخدام العنف المسلّح لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي في أوطانه العربية، جيل شبابي يجمع ولا يفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية...
فالمسألة هي ليست في رفع شعارات الديمقراطية وإسقاط الاستبداد فقط، بل هي في كيفيّة الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد، وبضمان أنّ طريق الديمقراطية لن يمرّ في تجزئة الكيانات، إن لم نقل في إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً!.
هنا مخاطر غياب دور الفكر السليم في عملية التغيير التي قادها الجيل العربي الجديد، ومساوئ عدم الوضوح في ماهيّة "الأفكار" أو طبيعة "القيادات" التي وقفت خلف الحراك الذي قام به الشباب العربي في أكثر من وطن عربي. إذ لا يجوز أن يرضى هؤلاء الشباب الذين ضحّوا بأنفسهم أن تكون تضحياتهم هي لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية من تغييراتٍ كانت تحدث من خلال الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلّحة ثمّ تتحوّل إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع.
إنّ وجود حكوماتٍ فاسدة واستبدادٍ سياسي وبطالةٍ واسعة وفقرٍ اجتماعي وغيابٍ لأدنى حقوق المواطنة المتساوية وللحرّيات العامة وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، كلّها كانت عناوين لانتفاضاتٍ شعبية تُعبّر عن عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على امتداد الأرض العربية. لكن ماذا بعد حصول أي انتفاضة، وعلى أساس أيّ برنامجٍ للتغيير؟ وهل تغيير نظام الحكم سيؤدّي حتماً إلى إصلاح المجتمع؟ فالعلاقة بين المسألتين هي طبعاً جدلية، لكن من المحتّم أنّ إصلاح المجتمع هو السبيل الأفضل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم فيها.
وحينما تعطي الحركات السياسية العربية الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناء أطر حزبية فئوية ثمّ صراعات سياسية يومية مع "الآخر" في المجتمع، ثمّ صراعات لاحقة داخلية على السلطة والمناصب.. بينما أولوية إصلاح المجتمع تعني بناءً سليماً للدعوة والدعاة، ووجوب حسن الأسلوب والتعامل مع "الآخر" في الوطن، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري، البعيد عن الفئوية والانتماءات الضيقة والمصالح الخاصة.
لقد كانت الفاتحة في العام 2011 انتفاضات بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكن الخاتمة تتجّه نحو تفتيت الأوطان وتدويلها. إنه الآن "زمنٌ إسرائيلي"، حيث العربي فيه يقتل أخاه العربي... وإسرائيل تتفرّج!!. هو "زمنٌ إسرائيليٌّ" حينما يسقط عشرات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء ضحيّة صراعاتٍ عربية داخلية، بعضها بأشكال طائفية ومذهبية ممّا يخدم مشروع "الدويلات"... وهو "زمنٌ إسرائيلي" حينما لا يجوز الحديث عن المشاريع الإسرائيلية والأجنبية من أجل تقسيم الأوطان العربية، بحجّة أنّ هذا الحديث يخدم أنظمةً حاكمة!.
ثورتا تونس ومصر اتّسمتا قبل خمسة أعوام بالأسلوب السلمي وبالطابع الوطني التوحيدي وبغياب مخاطر التقسيم والتدويل، وبالأمل في تغيير سياسي يصبّ في صالح الوطن والعروبة ونهج المقاومة، لا في صالح الأجانب وإسرائيل ونهج الشرذمة.
أمّا الانتفاضات الشعبية العربية الأخرى، فقد انحرفت عن مصالح أوطانها وأهدافها. وهاهي المنطقة الآن ساحة تنافس وصراع مصالح بين قوى إقليمية ودولية، بينما يغيب تماماً أيُّ "مشروع" وطني واحد أو "مشروع" عربي مشترك، وفي ظلِّ حضور "مشاريع" غير العرب!.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Sobhi@alhewar.com

ابن زيدون بين موقفٍ ضيّعهُ وشعرٍ أبدعهُ، ابن الرومي والبحتري استطراداً/ كريم مرزة الأسدي

الحلقة السدسة

يسألني سائل  كيف غلب ظنّك أن الولّادة قد مسكت ابن زيدون بالجرم المشهود مع جاريتها عتبى المعبود ؟ الحق لا الولّادة خبّرتني ولا عتبتها ، ولا هو سرّني  بما سرّه !! ولكن هو الشعر يشعرنا بأحاسيس السرّ الخفي ، وشعاع الخلّ الوفي ، تأمل بفطنة قول الولّادة الساخطة :
وتركت غصناً مثمراً بجمالـه *** وجنحت للغصن الذي لم يثمرٍ
ولقد علمت بأنني بدر السما ****لكن ذهبت لشقوتي بالمشتري
    إذن الرجل ذهب بالمشتري ، وهذا المشتري لم يثمر!! لماذا لم يثمر ؟ هل كان خوفاً ، أم لأمر خافٍ ؟ لا أدري ، ولكن الأميرة كانت شقية بهذا العمل الجافي ، وبقت على شقائها لآخر عمرها ، ولم تتزوج ، وقد عمرت طويلاً ، وليس هذا فقط ، بل هي  ضربت جاريتها في حينها ، وعلل الأمر هو بالتمويه قائلاً ، إنما ضربَتْها لتضربه !! اقرأ أبياته :
وما ضربت عتبى لذنب أتت به *** ولكن ما ولاّدة تشتهي ضـربـي
فقامت تجر الذيل عاثرة بــه ***** وتمسح طل الدمع بالعنم الرطب
وبعد يوم كتبت له الأبيات الأولى لتفضحه ، ثم توالت عليه النكبات ، وضيق عليه خصومه السبل  ، وخطفوا حبيبته الولّادة منه  ، وساهمت هي نفسها بالوقيعة به انتقاماً ، وأراد هو إبراز عضلاته ، وتبيان مواهبه وعبقريته وثقافته الواسعة ، فكتب رسالته الهزلية البليغة والرفيعة والثمينة والخالدة باسم الولادة وأرسلها إلى الوزير ابن عبدوس خصمه السياسي اللدود ، وسارق حبيبته الأميرة الأديبة ، هذه الرسالة  جعلته هدفاً للإيقاع به ، فدست عليه الدسائس عند الأمير الحاكم أبي الحزم أبن جهور رئيس الدولة الجهورية حتى وقع فريسة السجون كما ذكرنا في الحلقة السابق ، ولكن نريد أن نصل إلى ما وصفه المسكين ابن زيدون لخصمه العبدوس من الأوصاف  - في نقاط معينة - تليق به هو ، ولوضعيته المزرية بعد إقالته من الوزارة ، وفقدانه جوهرته المنارة ، هاك هذه الفقرات وتأمل ، وهو يخاطب خصمه  :  " بل رضيت من الغنيمة بالأياب ،وتمنت الرجوع بخفي حنين ، لأني قلت :
* لقد هان من بالت عليه الثعالب *
وأنشدت : 
على انها الايام قد صرن كلها*** عجائب ، حتى ليس فيها عجائب "
ثم ينتقل إلى أوصاف قاسية يلبس بها خصمه تدل على مدى تأزمه النفسي القاتل :
" ولم تكن كاذبةً فيما أثنت به عليك ، فالمعيدي تسمع به خير من ان تراه هجين القذال ،  ارعن السبال، طويل العنق والعلاوةِ، مُفرط الحمق والغباوة، جافي الطبع ،سيئ الأجابة والسمع ،  بغيض الهيئة ، سخيف الذهاب والجيئة ،  ظاهر الوسواس ،  منتن الانفاس ، كثير المعايب ، مشهورالمثالب، كلامكَ تمتمة ، وحديثُك غمغمة ،  وبينك فهفهة ، وضحكك قهقهة ،  ومشيُك هرولة ، وغناك مسألة ، ودينُك زندقة ، وعلمُك مخرقة "
ثم يعترف بجهله لخصمه  ، فكيف نقبل برسالته الهزلية !! بل ينوّه بشكلٍ لا واعٍ أنّ علاقته بولادة كانت غير متكافئة على نحو ما ، وكأنما يفرغ شحنات الألم النفسي المتراكم في عقله الباطن ، ويسكبها على خصمه العبدوس !!:  
" كيف رأيت لؤمك لكرمي كِفاء، وَضِعَتُكَ لشرفي وفاء ، وإني جهلت إن الاشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطيرإنما تقع على آلافها ،  وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان ،  و شعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان ، وقلت : الخبيث والطيب لا يستويان ، وتمثلت :
ايها المنكح الثريا سهيلاً *** عمرك الله كيف يلتقيان"
غادرت الولّادة  حياته ، وغادرت دنياها دون زوج يذكر ،   ولم تلتقيا من بعد ، والله غالب على أمره ... وما لنا إلا أن نتعاطف مع ابن خلدون وولّادته ،  وإن نحلل ما بين السطور لتفهم الأمور ،  وخدمة الجمهور !! 
ونحن نغالب أمرنا للوصول إلى النونية الخالدة بعد المرور مرةً ثانية وثالثة على بعض أشعاره  ، لعلكم تتذكرون !! فالرجل كان شاعراً متمكناً ، مقتدراً ، يجول ويصول في كل فنون الشعر و ضروبه وأبوابه وأغراضه، مجدداً تارةً، ومبتكراً للصور الجميلة  الحسية والتخيلية ثانيةً ، وبكل أحواله مرهف الحس ، صادق العبارة ، وإليك من وجدانياته المجددة هذه الأبيات الأخوانيه الرقيقة  لصديقه الوفي  أبي القاسم :  
يا أبا القاسم الذي كان ردائي*** وظهيري من الزمان وذخري
هل لخالي زماننا من رجوعٍ *** أم لمــــاضي زماننا من مكرِّ؟
أين أيامنا ؟ وأين ليــــــالٍ **** كرياضٍ لبسن أفــــــــاق زهر؟
قالوا عن ابن زيدون ، إنّه بحتري المغرب ،  لمطولاته في الرثاء والمديح ، وزخرفة دلامه  بالبديع ، وصوره الرائعة كطلق الربيع ، وإن كان البحتري مدح من مدح ، ورثى من رثى من خلفاء عصره ووزراثهم وقوادهم كالمتوكل والفتح بن خاقان والمنتصر نفاقاً  والمستعين ...، كذلك فعل ابن زيدون في مغربه ، فمدح   أبا الحزم بن جهور ، وابنه أبا الوليد ، ومن ثم المعتضد وابنه المعتمد ، ورثى من بعد أبا الحزم والمعتضد وغيرهما من رجالات عصره ، وما بجديد في المدح والرثاء إلا الأسلوب  ، فالأسلوب هو الإنسان نفسه ، وما عدا ذاك فالشجاعة والكرم والجود والتسامح والخلق والتقوى .....معان مطروقة ، المهم من قصائد ابن زيدون هذه القصيدة الفريدة التي يهجو بها أبا الحزم بن جهور مؤسس الدولة الجهورية ، والشاعر من أركانها ، وباني ملكها ، ولكن عندما خلعه الأمير من كرسي الوزراة الأولى ، و أودعه السجن ، قال هذه القصيدة :
قل للوزير ، وقد قطعت بمدحه *** زمني فكان السجن منه ثوابي

لا تخش في حقي بما أمضيـتـه ****من ذاك في ، ولا توق عتابي

لم تخط في أمري الصواب موفقاً **** هـــــذاجزاء الشاعر الكذاّبِ

هذا هجاء مقذع بما فيه من ألم نفسي ، وعقاب للذات الشاعرة ، وقد سبق ابن الرومي ( ت 283 هـ) ابن زيدوننا بهذا المعنى، يقول ابن الرومي:
إذا ما مدحتُ المرءَ يوماً ولم يثبْ *** مديحي ، وحقّ الشعر في الحكمِ واجبُ
كفاني هجائيهِ قيـــــــامي بمدحهِ ****خطيباً ، وقول النـــــــاس لي أنت كاذبُ
 لنستطرد قليلاً مع ابن رومي ، لتغيير الأجواء ، وربط الأشياء ، كان الرجل الرومي  عديم الحيلة ، فقير الحال ، موسوس البال ، قال بيتيه من باب الترهيب ، ومن يرهبه ؟ !! هذه غاية حيلته ، يرى للشاعر حقاً على المجتمع ، والمجتمع في شغل شاغل عن أمثاله من العباقرة الذين لا يملكون شدة النفوذ بالدهاء والتملق والرياء ، على حين كان معاصره البحتري ( ت 284 هـ)  الانتهازي الجبار قد وصل إلى كرسي الخلافة ، وأصبح نديم وجليس المتوكل ووزيره الفتح ابن خاقان ، وقد  ذكرنا فيما سلف من مقالات ، إن ابن الرومي قد تجرأ في لحظات سخط على هجاء السيد البحتري بقصيدة بائية مطولة ( 86 بيتاً ) ، منها :
البُحْتُريُّ ذَنُوبُ الوجهِ نعرفُـــــــهُ ****  وما رأينا ذَنُوبَ الوجه ذا أدبِ
 أَنَّى يقولُ من الأقوال أَثْقَبَهَـــــــا**** من راح يحملُ وجهاً سابغَ الذَنَبِ
 أوْلى بِمَنْ عظمتْ في الناس لحيتُهُ * من نِحلة الشعر أن يُدْعَى أبا العجبِ
وحسبُه من حِباءِ القوم أن يهبــــــوا *****له قفــــاهُ إذا ما مَرَّ بالعُصَبِ
ما كنت أحسِبُ مكسوَّاً كَلحيتــــــه ***** يُعفَى من القَفْدِ أو يُدْعى بلا لقبِ
الله الله يا ابن الرومي ، كم أنت مسكين في حياتك البائسة  !! هذا الكلام لا يصل إلى باب بيتكم ، و لا إلى  باب جيرانكم الأحدب ، ولما سمع البحتري هذه الملحمة الهجائية الرومية بحقه ، كل ما فعله بعث إلى ابن الرومي تخت طعام وملابس ، وبه كيس دراهم ، ووضع بداخل التخت ورقة ، تحمل بيتين من الشعر ، تقول :
شاعرٌ لا أهابهُ *** نبحتني كلابهُ
إنّ من لا أحبّهُ ****لعزيزٌ جوابهُ
خلاص ، حكم الأقوياء على الضعفاء !! المتبرجز الارستقراطي الانتهازي المادي - أوصاف أعني بها ما أقول!!-   نديم الخلفاء والوزراء والقادة العظام ، يقولها لشاعر موسوس ضعيف ، يسخر به من يسخر ، يعيش بين خباز] فيصف  بلوحة تصويرية مركبة خالدة ، أو بين بائع الزلابية ليصنع شبابكيه الذهبية ، أو بين ضرّاط وأحدب ، وطنطلٍ وملتحٍ وبخيل ، رغم معرفته لنفسه وقدره وما يستحق من تبجيل وتعظيم ، ولكن هكذا قضت الدنيا بين أبنائها!!
نرجع إلى ابن زيدوننا وحاله غير هذا الحال ، وحال هذا الرجل يعيش في بلاد الأندلس ، وحدائقها الغناء ، وسحرها الحلال ، بين الطرب والغناء ، والجمال والنساء ، الوزير الأول حيث القصور والخدم والحشم ، والولائم والدلع والدلال ... جنات تجري من تحتها الأنهار ، والراح والكوثر وسهر الأسحار ، وإذا بين ليلة وضحاها يخلع من منصبه ، ويعزل عن مرتعه ، ويزج بين جدران سجن موحش رهيب ، لايعرف فيه ليله من نهاره ، دعنا نستمع إليه بين الندم والحرمان ، والتوسل ، والتهكم ، والحكم ،      
ألَمْ يَأْنِ أنْ يَبْكي الغَمامُ على مِثْلي **** ويَطْلُب ثأري البَرْقُ مُنْصَلِتَ النَّصْلِ

وهَلاَّ أقامَتْ أنْجُمَ اللَّيلِ مأْتَمـــــا *****لِتَنْدُبَ فــــي الآفاقِ ما ضاعَ مِنْ تَتْلي

ولَوْ أنْصَفَتْني وهي أشــــــكالُ همّتي ***** لألْقَتْ بأيدي الذُّلِّ لَمّــا رَأتْ ذُلّي

ولافْتَرَقَتْ سَبْعُ الثُّريّا وغاضَــــــها ******بمطلَعِها ما فرَّق الدَّهْرُ من شَمْلي

وابن زيدون هنا يهيب بالطبيعة، ناطقة وصامتة، حية وجامدة، أن تشاركه في نكبته، وتَهتّم بمصيره، فتقيم النجوم المآتم، وتسلّم نفسها للهوان مثله، ويستبدّ به الخيال فيطلب من نجوم الثريا السبع أن تتفرق بعد ائتلاف، وتنقص بعد تمام، وكأنّ ابن زيدون في هذه الأبيات جزء من الطبيعة، ممتزج بِها، متجاوب المشاعر معها.
ماذا أقول لك يا ابن زيدون ، وأنا تعبت ، وكللت ، رحمة بي وبالقارئ الكريم ، إليك ما قاله متنبي المشرق ( ت 354 هـ)  من قبلك !!
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا **** وحسب المنايا أن يكنَّ آمانيا
ولو أنك حظيت بالعفو من بعد ، وتوزّرت عند المعتضد وابنه المعتمد ، ولكن نحن نتكلم عن ذات اللحظة ، والدنيا دولٌ وصور !!!  

مُحاكاة رجل أسْطوري/ سيمون عيلوطي


كَمَشْت الليل..
وْهوّ في حالِة نَثِر
مِزْرَق وِجّو
مْفارِقو بَدْر الشّعِر
والريّح تِجلِد بالشّجَر
تُنْشُر دَمار
وِالجّو عاصِف
عَ اليمين وْعَ اليسار
وِبْلاد فوق بْلاد
تِغرق في البَحِر..!
***
هاجَت رُعود
وْماجَت سْدود وْزَحَف
عا لوزْنا سِرْب الجّراد
وْشو قّطّف
أقمارْنا...
وْمُهْجِة تَفاعيل الوّطا (1)
غير السّما وِالشّوك
ما إلْنا غَطا
وِبْحور بِتْنادي الضّحايا
للسّفَر..!!
****
مِنْ دون دَعْساتَك إنِت
فَلّت دُروب
تِسأل عن شْوَيّة
مَحبّه فِ القُلوب،
جاوبْها طير البَرْق
ليش مْلبّكِه؟؟
كل الطّرُق مسدودِه
مَدْري مْشَرْبَكِه؟!!
للخَلْف يجري صار
تيّار النّهِر..!!
****
بْقيت وحدَك تحلم
بْيوم الحصاد
وِتْغنّي "جفرا"(2) وِالرّبِع
كانو بْعاد..
عن عُرسَك اللي يِحْمِلُه
بُكرَه وْيِجي...
عَ بْعيد يِرْهِج
في الليالي المِثْلِجِه
وِطْيور زرقا شارْدِه
بْزَخّ المَطَر..!!
****
عَدّيت ضُلوعَك في العَتِم
كان الضّباب
مْلَفّع حْروف الحَبَق..
وِالوَعْدِ غاب
عا مَدى الكِلْمِه النّدِيّه
شو اخْتفى،..
يَ خْسارِة الوَهْج السّحِر
ليش انطفى؟؟!
حاوَلْت ترسم هالِة
طْلوع القمر!!
****
بِتْحايِل النّجمات تَيْطُلّو بَقا
وِيْغازِلو وَجْنات حِلْم الزّنبقه
من وين جايِب طاقِة
حْدود الصّبِر؟
عِشْق الوَفا
يِغْزِل معانيك بْشِعِر
مِثْل الهَوا...
مِثْل الأريج بْيِنْتـِشِر،..
معقول علينا يْطُل
بكره هَالفَجِر..؟؟!!
------------------
1) الوَطا: الأرض
2) جفرا: أغنية شعبيّة

الكتابة والذات العليا/ فراس حج محمد

ماذا أقصد هنا بالذات العليا؟ إنها بداية ليست الأنا العليا عند (فرويد) والذي أطلق عليها (Super-ego)، وإن اشتبهت بها قليلا، إنها ليست الذات التي تنظر إلى الحدث بتجريد وتصفه وصفا عاما متشابها، ولم تكن ذات الكاتب الخاصّة حاضرة في الكتابة، ولا يعني ذلك أيضاً أن الكاتب يكتب ذاته وأوجاعه الخاصة بطريقة فجّة، وإنما أن ينغرس الكاتب بذاته الكليّة وهو يكتب، بحيث يقول كل من يقرأ إنك أنت هنا، ولست هنا أيضاً، وكأنك وحدك استحوذت على الكليات التجريدية فبدت بفكرتك مجبولة بروحك، وصار المألوف جديدا، كأننا نسمعك وحدك، ولم نسمعه من غيرك.
هنا يكمن اختلافك، صديقي الكاتب، وهذا مدار الدهشة في كل جديد يُكْتَب، فلا تُعِدْ عليّ قولا قاله السابقون فاستدعته الذاكرة، وطغى على ما تفوهت به، بل عليك أن تتجاوزهم جميعاً فكرةً أو أسلوباً، ولو تحايلاً مجازياً، وإن لم تسطع فعل ذلك، فاحذف ولا تبال، ولا تعترف به مولودا يستحق التسمية في سطور الكتب.
فكرة أخرى لازمة وضرورية. عليك ألا تتوقف عن الكتابة أبدا، بل اكتب كلما أقلقتك الهواجس، وحركت يراعك الأفكار، فإنك لا تدري أي فكرة ستقع بين يديك وحيا كاملا سحرياً عبقريا، فاقتنص وصِدْ واكتبْ، وتأمل ما كتبت جيدا، ووازن وقارن، وأعمل عقلك الواعي وكن دكتاتورا في بتر الأعضاء المشوهة ولا يغرنك حسنها الخادع، فإنها تستدرجك لما هو أسوأ، وتقودك إلى حلقات السخرية والاستهزاء والتندر، فكن قيّم نفسك قبل القراء تكن أديبا بارعا وجميلا مدهشا، ولا تقبل بخوادج الأفكار البلهاء ناقصةِ العقل ومعتقلةِ القلب ومكسورةِ الجناح، فإنها ستجعلك لصيق أرض البور في واد غير ذي زرع عند عملك المدنس!
هنا ستتحرر الكتابة من الذات العليا المشوهة وتصبح أكثر دلالة وواقعية وجمالا وتأثيرا، وعندئذ سيكون العمل الجديد عملا يستحق القراءة والإشادة والاحتفاء والاحتفال وتتراكص على ضفاف أنهره العذبة كل الطيور ويتزاحم على مائه كل قارئ مختلف وحقيقيّ؛ لأنه سيجد ما يجعله مقيما ساجدا راكعا بين يدي النصّ، يرتل آياته حتى لو لم يكن متفقا مع الفكرة، ولكنه سيكون منتشيا مأخوذا بسحر غامض يتغلغل داخل النفس ويروي عطشها للجمال والحب ومداعباً الأمل، ومهدهداً الألم، لينام مطمئنا يغيّر أحزانه وأحلامه السوداء العقيمة المدلهمة، يبحث عن مسرب للعيش في دهاليز الضباب الكثيف!

فقر الفكر/ الدكتور ماهر حبيب

إسلام البحيرى دخل السجن وقد يخرج منه غدا وقد يظل سجينا حتى تنقضى السنة مدة الحكم عليه ولكن الرسالة وصلت وزى زعيم عصابة أوبريت على بابا قال اللى حا يكسل منكم حا أطير رقبته لكن مع التطوير أصبحت المقولة اللى حا يفكر فيكم حا أطير رقبته أو مع الرحمة حا أسجنه سنة مع الشغل بدون تفكير.
من هو المخبول الذى يضحى بحريته من أجل إنارة عقول الآخرين إذا كان الآخرون سعداء بظلام عقولهم و قانعين بما يتم تلقينه لهم من أفكار لا ولن تتغير فمن الحماقة أن تشهر سيف الفكر فى وجه سيف الظلم والظلام والإظلام فتلك مبارزة غير متكافئة وبخاصة اذا كان سيف الظلام مدججا بترسانة من القوانين البالية التى ترتعد خوفا من أن تمتد لها يد التطوير فتمحوها بعد أن خربت المجتمع واظلمته وارجعته لقرونا من الزمان.
ولكن العتاب الأكبر ليس على القاضى الذى يقبل قضايا الحسبة ولا على رافع القضية ولكن العتب الأكبر أن يخرج رئيس الجمهورية مخاطبا علماء الأزهر بالتطوير وثورة دينية عاجلة ويصفق الحاضرون بحرارة ثم يتم حبس إسلام البحيرى فى نفس الاسبوع فى تحد فاضح للدولة بإفتراض أن الدولة جادة فى تطوير ذلك الخطاب والأيام القادمة ستكشف من سينتصر؟ فقر الفكر على الدولة ام ان البحيرى سيكون الشمعة التى ستضيئ النفق المظلم

الجـحـش وبعـران الـوالي/ مايكل سـيـﭙـي

من تراث جـريـــدة عـمّـا كـلدايا / سـدني ـ 2001

كان لأحـد الولاة بعـرانً في بادية نائية ، أوكـلَ أمرها إلى راعي ليَهـتم بها ، مرَّ زمان حـتى طالت قامتها وحـسُن مظهـرها .... وحـين تسَطـّحَ قـليلا سنامها من كـثرة سـمنها صار يـبخـل عـليها جَـمالها ، وعـنـدها قـرر أن يـنغّـص عـليها إنـتعاشها ورفاهـيتها ، فأوصى بتسيـيرها مربـوطة في قافـلة تـنـقـل الأمتعة وتـدرّ عـليه ربحا . 
ظن الـوالي ــ الغـبي ــ أن البعـران لا تعـرف طرق الـقـوافـل في الصحـراء ، فـبعـث إليها جحشاً ( قـصير الـذيل ، طويل الأذنين ، أنكـرَ الصوتين ) يتـقـدّم القافـلة ، يمشي فـتـتبعه في طريق يعـرفها ، حـيث يعـتاش منها !.
كانت البعـران تـُحَـمَّـل أكـثر من طاقـتها ، تـُساق أياماً وليال لمسافات بعـيدة بلا ماء ولا عـلـف لها ، وهي تطيع دون تـذمّـر منها ، تمشي بصمت والتعـب لا يُـضنيها ، فـذاقـتْ الأمرَّين ثـقـلاً وجـوعاً وعـطشاً ولا تـفـتـح فاها .
ولما قـرب أجَـل ــ الوالي العـزيـز ــ تـذكــّـرَ أعـماله الظالمة وخاف من الآخـرة وعـواقـبها ، تحـرّكـتْ أحاسيس ــ الرحـمة ــ عـنـده فإستغـفـر ربه ، وطلب الغـفـران من أبناء جـلدته عـسى أن يرث ملكـوته ، وأخـيرا دعى بعـرانه التي فـنيتْ عـمرها في خـدمته ، وقال لها :
(( أقـرّ وأعـترف بأنني قـسيتُ عـليكم حملا وحـرمتكم مأكلاّ وإرتـواءاً ، في البارحة إستغـفـرتُ ربي لأني ظـلمتـكم ، واليوم جـئـتُ لأعـتـرف بآثامي أمامكم راجـياً صفحَـكم ، فهلاّ أحـظى بعَـفـوِكم لتمسَح عـني ذنـوبي بغـفـرانكم ، والله خـيراً يجازيكم )) ؟
سـكـتـتْ الـبعـران الـقـديـرة .. وبعـد بُـرهة قـصيرة إلتـفـتـتْ إليه مرفـوعة الرأس كأولاد الأميرة وقالـتْ : 
يا مولانا ! كـنا نـنسى التعـب والإرهاق كـلما طرح الحمل عـن ظهـرنا أرضاً ... ويغـيب الجـوع والعـطش عـن بالـنا كـلما شبعـنا شـوكاً وإرتـوَينا ماءاً ... فهـذه كـلها معـفـية عـنـك مجاناً ...
ولكـنـنا لن نغـفـر لك حـيـن بعـثـتَ هـذا ــ الجُحَـيـش ــ يتـقـدّمنا لـيقـودنا ويحـدو بنا نحـن البعـران  .
الحـلـقة العاشرة : (( البطرك لـويس ساكـو في هـولـنـدا إمتـداد لسنهادس روما )) إنـتـظروها ....

خدنى هكذا وكذلك أنا سأفعل/ ايمان حجازى

بمناسبة لحظة إلتقاء عامين ِ فى هذا التوقيت من كل عام تزداد الانفعالات وتشتعل درجة حرارة الرومانسية وتفيض القلوب بالعطاء والمنح والعهود والوعود ِ فتفتح طريقا أمام الآخر يشجعه على سرعة الحضور مع وعد بالتغير لأجلك ِ مع وعد بالوجود دائما فى حضرتك ِ مع وعد بالتفانى فى إسعادك ِ مع وعد بالدعم والتأييد ....
وكلها أضغاث أحلام ...آه لو عرف كل واعد بما ينتظره من تواكل الطرف الآخر لما فكر لثانية أو فيمتوثانية فى إهدار هذه الوعود ..
آه لو علم كل موعود بما يحاك له من شرك فى حاله الزج به فى عش الزوجية المفروش له الطريق بكل هاتيك الوعود لفر هاربا دون الإلتفات..
علينا جميعا أن نخضع للواقع وأن نلتزم به ونفيه قدره من الاحترام والتقدير ِ فلا يليق أبدا أن نحيى عمرا طويلا بكل خصالنا والتى منها الجميل ومنها غير ذلك ِوقد عشنا عمرنا نحب بل ونعشق أنفسنا ولم نحاول قط أن نتخلى لأجلنا نحن عن هذه الخصال التى تعكر جمال الصورة .
فهل يعقل أن نأخذ خطوة عنتريه لحل عبقرى وننسف فى لحظة كل عيوبنا لأجل الآخر ِ أي من كان هو !!!
الأفضل مع بداية مرحلة إنسانية عاطفية إجتماعية جديدة أن نكون أكثر تصارحا مع النفس فلا نكلفها فوق ما تطيق ِ ومع الآخر فلا نعد بما لا نستطيعه.
فى الارتباط عادة ما يحدث إنجذاب للآخر كما نراه ِ وكما هو عليه ِ وبعد قليل من المعرفة ِ وعند إتخاذ خطوة مؤكدة نحو الارتباط ِ يكون المطروح من الآخر صورة مرضي عنها .
ولذلك فى اعتقادى أننا بمميزاتنا وعيوبنا نحب الاخر على عيوبه ومميزاته ِ وكذلك هو بمميزاته وعيوبه يحبنا على عيوبنا ومميزاتنا ِ وهذا ما يضمن لسفينة حبنا الإبحار المميز لتبقي بنا سالمة حتى وسط الأمواج العالية ِ وما أكثرها فى حياتنا اليومية .
ألا هل بلغت اللهم فإشهد ......

شاباك في الشِّباك/ جواد بولس

شهدت الساحة الإسرائيلية في الأسابيع الماضية واحدة من أبرز المعارك الشرسة المكشوفة، والتي سيكون لنهايتها، برأيي، تأثير مصيري على وجه نظام الحكم في إسرائيل. فالهجوم السافر والشرس الذي جاهرت به قوى اليمين على جهاز المخابرات العام وانفلات بعض فئات المستعمرين ووصفهم غير المسبوق، للوحدة الخاصة بمتابعة المواطنين اليهود في الشاباك، بأنها وحدة إرهابية، يدلل بشكل لا يقبل التشكيك أو التأويل، أن تلك القوى اليمينية، ماضية في حملاتها ألتي بدأتها قبل سنوات في مسعى منها لفتح أكثر ما يمكن من المواقع واحتلال ما يمكن احتلاله من الوظائف التنفيذية في خطة تستهدف الى الاستطيان في جميع منظومات الحكم وعلى مستوى السلطات الأربع في الدوله : الكنيست، والحكومه - جميع وزاراتها وما يتفرع عنها، لا سيما الوزارات الأمنية والقضائية والمالية- والجهاز القضائي، المدني والعسكري، والصحافة .
من المؤسف أن تدور رحى هذه المعركة وقيادات الجماهير العربية مُعرضة عن تداعياتها، مما يتركنا في مشهد يوعز بواحد من احتمالين : بعض العرب يعتقدون، خفية أو جهارة، أن هذه الحرب هي واحدة من حروب اليهود التي يجب أن لا تعنينا، فنحن،عرب هذه البلاد، سنكون، حتمًا،الرابحين، من نهايتها، ولذلك دعوهم "كالبطيخ يكسر بعضه". إنهم واهمون وخاطئون.
 أمّا الفئة الثانية، فمن الواضح أنها لم تجر تقييمًا صحيحًا لمعاني تلك التداعيات وتأثيرها الممكن علينا واسقاطاتها المحتملة في المستقبل على مصالح الجماهير العربية في إسرائيل، أو حتى على كيفية بقاء هذه الجماهير في دولة قد يتمم  فيها ذاك اليمين غزواته وآخرها كما يبدو لنا في هذه الأيام، على معاقل جهاز الشاباك، وهو مكلل بالظفر والنصر وتحت أقدامه حكم ومواطنين !
 قد يكون هذا الاعراض بتأثير علاقة تاريخية، بين جهاز الشاباك والجماهير العربية، وتجربة طويلة حفرت على جباه الكثيرين بحبر من دم وحروف من ملح وعرق. فهنالك حالة من الارتداع الأوتوماتيكي، المبرر إلى حد بعيد، لعدم الخوض في هذه المسألة وعدم اخضاعها إلى تساؤل فيما اذا استجدّت دواع ومعطيات، توجب، برسم مصلحة الجماهير ومن أجل سلامتها، وضعها تحت مجهر التقييم، وفحص امكانيات تغييرها، على الرغم من نبض الذاكرة الدامية والمتخثرة. 
وقبل أن أطور هذه الفكرة أوكد أننا لن نختلف حول كيف يجب أن نعرف علاقتنا بجهاز الأمن العام الإسرائيلي، خاصة إذا مسحنا تاريخ تلك العلاقة، على المستويين الجمعي والفردي، فلن نجد إلا جهازًا تصرف منذ إقامة الدولة وفقًا لفرضية عمل موجّهة أساسية وخطيرة، أفادت وتفيد، باختصار: أن الجماهير العربية في إسرائيل تشكل خطرًا استرتيجيًا على مستقبل دولة إسرائيل. ومن هنا كانت الطريق الى الملاحقة والقمع والقهر والاضطهاد قصيرة.
فمن يتابع  بشكل عام مفاصل هذه العلاقة، يتبدى له ان المفاهيم التي سادت منذ البدايات، ما زالت قائمةً بتفاصيلها وحذافيرها تمامًا كما كانت في سنوات الخمسين والستين وما تبع .أي أن الفرضية  المؤسسة في عمل جهاز الشاباك، ما زالت هي الفرضية المهيمنة والمتحكمة ، وقد يعزز البعض موقفه، بما صرحه يوفال ديسكن، مهددًا العرب  حينما كان رئيسًا للجهاز في العام ٢٠٠٧.
ربما هذه هي الحقيقة الوحيدة، مع أنني استشعر أن واقعًا جديدًا بات يخيم  في فضاء الدولة، ومن الصعب، في مقالة اسبوعية، تغطية ما طرأ من تغييرات داخل المجتمع الإسرائيلي في عقد من الزمن، ومن العسير احصاء ما جرى من تحولات داخل المجتمع العربي في إسرائيل وقواه الاجتماعية والسياسية، لكننا نشاهد ما يجري في معظم الدول العربية وبعضها أصبح أشلاء تأكل أشلاء، ونشاهد كذلك من يقترب من مقاود السلطة الإسرائيلية، ولتقييم نتائج هذه التطورات، لسنا بحاجة إلى فقهاء في السياسة ولا إلى قادة نبغاء في أصول الحكم، فنحن، كبشر بسطاء، بكفينا ما نسمعه من طرطقة الأواني المهشمة وخبطات بساطير جيوش هولاكو الجديد الزاحفة من جبال يهودا والسامرة، برماح من كراهية وشر، والمدججة بما أوصى به "يوشع" ويسيرون غزاةً  في الدجى وعهدهم بناء مجد مملكة خلقتها الأساطير الغابرة، أمام أعين عالم عاهر ونظام دولي فاسد.
على هذه الخلفية والواقع، التقيت مؤخرًا في لقاء " للعصف الفكري" الذي بادر إليه أحد مراكز البحث العلمي وعشرات الأكاديميين اليهود والعرب وبعض الشخصيات الاعتبارية. عبر كل المشاركين عن آرائهم وأستعرضوا تشخيصاتهم حول مخاطر الوضع السياسي الحالي في إسرائيل، خاصة بعد قرار الحكومة الإسرائيلية باخراج الحركة الاسلامية الشمالية إلى خارج القانون، وبعضهم وضع توقعاته إزاء ما كان همّ الجلسة وسؤالها المركزي: إلى أين تتجه الدولة؟ وما يتوجب فعله في هذا الواقع المقلق؟
كانت، بطبيعة الحال، معظم الخلاصات قاتمة، فالحضور أجمع أننا نواجه في إسرائيل نظامًا يزداد تغوّلًا من يوم إلى يوم، الغلبة فيه لمجموعات يمينية فاشية تقود بامعان وقح وبمنهجية مستنيبة حملات انقضاضها على جميع مرافق الحكم في الدولة، غير مكترثة حتى لو كانت النهاية تودي الى تلك الهوة السحيقة المحفورة في بطن التاريخ  تذكارًا لأقوام انتشت على روائح ما تسفكه من دم وسكرت من  بخائر أطفال تفحمت أجسادها على مذابح العربدة والبطش.
أجاد المتحدثون، كل في مجاله، بتوصيف ما يحيطنا من مخاطر وآفات، بيد أن معظمهم عدموا الحيلة والوسيلة في توصيف الدواء والعلاجات. بل كان واضحًا أن هناك حالة من الاحباط أو حتى العجز في حين أكد البعض اننا نقترب إلى نفاد فسحات الأمل .
من بين المتحدثين لفتت نظر الموجودين مداخلة أحد الاكاديميين الاعلاميين المتخصصين في مجال علاقة الدولة بمواطنيها العرب. حين استعرض موقفًا يفيد، معززًا بالمعطيات، أن جهاز المخابرات العام الاسرائيلي أصبح، بشكل قد يستدعي الاستهجان، أو ربما القلق! أحد الصمامات الأخيرة الذي يمنع استكمال انهيار منظومة الحكم وسقوطها النهائي بشكل سيمس حقوق المواطنين العرب وهوامش تواجدهم في الدولة، وأوضح أن معارضة الشاباك، للأسباب التي أوردها قادته، لاخراج الحركة الاسلامية ليس المؤشر الوحيد لما استعرضه، لكنه أصر أن من يقوم بالتحقيق والتعمق بما يجري من أحداث وتحولات خطيرة سيجد أن الشاباك، حاول ويحاول منع وقوع عدة ضربات نوى اليمين تنفيذها، خاصة بعد أن نجحت قواه المتطرفة من اختراق معظم المواقع السيادية والإدارية والتنفيذية، أو حققت اقترابًا منها، ولذلك تقوم اليوم طلائعهم بهجومها الشرس على الشاباك وهي مدعومة بالعديد من السياسين في محاولة لاخافة قادته أو تدجينهم وردعهم، قبل دك معاقلهم واسقاطها. 
قد يكون ما قاله هذا المشارك صائبًا وقد لا يكون، وقد يكون الشاباك الذي كان هو الشاباك الذي سيكون، لكنني أنظر وأرى حولنا النار تلتهم كل ما ومن يعترض طريقها ونحن العرب كنا وسنكون أول من سيحترق، لكننا نشهد أيضًا أن هنالك من يحاول أن يشعل النار في حضن المؤسسة الأولى الموكلة لها مهمة حماية أمن الدولة الداخلي ، هذه الدولة  التي تسعى تلك الجهات اليهودية المتطرفة،بشكل لم يعد مخفيًا، الى تحطيمها، كي تقيم مكانها مملكة اليهود الكبرى، كما جاء في بيان اضطرت قيادة الشاباك إلى نشره في معرض دفاعها عن مواقفها وصد هجمات اليمين عليها، بعد اعتقال بعض من متهمي جريمة دوما .
انها مرحلة تستوجب منا نحن العرب التوقف واعادة النظر في كثير من المسلمات والمحرمات، فلا يعقل أن تهب هذه العواصف النارية بيننا ولا يلتفت أحد إليها، وجل ما تحظى به كان مجرد نتف من أخبار خجولة وافتتاحية متواضعة في جريدة الاتحاد الحيفاوية رددت من خلالها  موقفًا تقليديًا وأكدت فيه " لا للتعذيب ، لا للاستيطان"، وهو موقف وإن كان سليمًا، إلا أنه يبقى بمثابة تسطيحًا سهلًا لقضية معقدة .
 قد نكون بحاجة إلى وجبة من الجرأة والمبادرة أو إلى قليل من الصحوة، لتقوم قيادتنا وبعض النخب المعنية بفحص وتقييم ما يجري بيننا و"بينهم"  وما طرأ على علاقتنا مع الدولة، والتحقق بشكل مسؤول ومباشر، من هل فعلًا ما كان هو ماسيكون، وهل مثلًا ، ما زال المواطنون العرب هم هاجس الشاباك الأول والوحيد وعدو الدولة الاخطر والأكيد؟ حتى وإن كنا مقتنعين بأن الجواب على ذلك هو نعم، فلا يعقل أن نظل نقطع نهارتنا بالتمني ونتوسد ذراع الهم في الأماسي.. إنها مجرد فكرة ..